المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : علم التفسير



أهــل الحـديث
19-07-2014, 06:50 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

علم التفسير:


هذه المادة من أشرف العلوم الشرعية، وأهمها وأوسعها لتناولها لمختلف مجالات العلم فيدخل فيها العقائد، والعبادات، والمعاملات، وعلوم المقاصد، وعلوم الوسائل، وتدخل فيها اللغات ـ كذلك ـ وتدخل فيها بالعموم علوم الرواية، وعلوم الدراية، فعلوم الرواية ما يتعلق باختلاف القراءات وما ورد من الآثار في التفسير، وأسباب النزول، وعلوم الدراية عن أوجه الاستنباط من كتاب الله ـ تعالى ـ وما يتضمنه من الغرائب والعجائب التي لا حصر لها ولا نهاية، فهو مائدة الله في الأرض، لا يشبع منه العلماء ولا تنتهي عجائبه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، والذي يريد أن يعد درسا في التفسير له حينئذ حالتان، الحالة الأولى : أن يريد درسا علميا معناه يطبعه طابع النقل، وهذا لابد أن يرجع إلى كثير من المراجع في التفسير، ويفضل حينئذ التنويع في مشارب المراجع التي يرجع إليها، لأن للتفسير مدارس متنوعة من أشهرها:

مدرسة الأثر: وهي المدرسة التي تعتني بما ورد عن السلف في تفسير آيات كتاب الله، فيجمع ذلك، سواء كان أحاديث مرفوعة أو آثارا موقوفة على الصحابة أو على التابعين أو من دونهم، فيجمع ذلك، سواء تعلق باستنباط حكم أو بتفسير كلمة أو ذكر وجه استنباط أو نحو ذلك، ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذه المدرسة كتاب أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وهو سيد هذه المدرسة ومقدمها، وكتابه من الكتب النافعة في شتى أوجه التفسير، فإذا ذكر آية من كتاب الله أو مقطعا من مقاطعه يقول: القول في تأويل قول الله تعالى كذا، ثم يبدأ بما جاء في المقطع الذي أورده من اختلاف القراءات وما يترتب على ذلك من اختلاف في الفهم، ثم يبدأ بتفسير المفردات وشواهدها اللغوية وأقوال أهل اللغة فيها، ثم بعد ذلك يختم بما يستنبط منها، ويعتني بالعقائد والفقه ويذكر أقوال أهل العلم وأدلتهم ويناقش ويختار هو رأيا في كل مسألة، إلا أن ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ لا يمكن الاعتماد عليه في كل ذلك لأقدميته، وقد سبق أن هذا القرآن ليس منزلا لعصر واحد من العصور، ولا يمكن أن يحصر فهمه على طبقة من الطبقات أو وقت من الأوقات، بل هو منزل لهذه الأمة بكاملها، ولا بد أن يدخر فيه لكل عصر ما لا يعطاه العصر الآخر، ولهذا فلا يستغنى عن تفسير في كل عصر من العصور، ما من عصر من العصور تعيشه هذه الأمة إلا احتاجت فيه إلى أن يكتب فيه تفسير مختص بذلك الوقت، ملب لاحتياجات الناس ومتتبع لما تجدد من مقاصد وأمور في العصر الذي هم فيه، وعموما فتفسير ابن جرير ـ كذلك ـ كتب في وقت لم تكن القراءات فيه مشتهرة، ولهذا ربما حكم على قراءة بالشذوذ وهي متواترة، وهذا من الملحوظات الواردة على ابن جرير ـ رحمه الله ـ فلم تكن القراءات في زمانه قد دونت وانتشرت، فلذلك يحكم على بعضها بالشذوذ مع تواترها، وأيضا فهو مجتهد مطلق، لا يتبع قواعد مذهب من المذاهب المشهورة، ولهذا ربما أتى بقول شاذ يخالف فيه جمهور أهل السنة، كقوله في تفسير قول الله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) حين أتى بالقراءتين، قراءة \"وأرجلِكم\" ـ بالكسرـ وقراءة \"وأرجلَكم\" ـ بالنصب ـ قال: الصواب أن القراءتين كالآيتين، فأنا أقول: بالخيار إن شئت فاغسلهما وإن شئت فامسحهما، فخير في الرجلين بين الغسل والمسح، وهذا قول شاذ مخالف لما عليه أهل السنة، فلهذا لا يمكن الاعتماد عليه وحده.

ومن الكتب كذلك التي تعتني بالآثار وهي داخلة في كتب هذه المدرسة، تفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وهو معاصر لابن جرير الطبري، فقد توفي ابن جرير الطبري سنة ثلاثمائة وعشر، وتوفي عبد الرحمن بن أبي حاتم سنة ثلاثمائة وسبع وعشرين، ومثل ذلك تفسير الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وهو من هذه الطبقة وفي هذا العصر وقد توفي سنة ثلاثمائة وثلاث، وكذلك تفاسير أهل الحديث المروية في كتبهم، فكتاب التفسير في كتب الحديث كلها في هذه الطبقة، ومن الذين يعتنون بالآثار من بعد هذه الطبقة، الإمام ابن كثير فقد جمع كثيرا من الآثار في كتابه، وينقلها عن الكتب المعتمدة، ويذكر في بعض الأحيان أسانيد تلك الكتب، ويحكم في بعضها كذلك على الآثار تصحيحا وتضعيفا، ولكنه ربما نقل بعض الإسرائيليات المشوشة مثل: أن الشجرة كانت تأكل منها الملائكة، ونحو هذا، فلا يخلو تفسيره من بعض هذه الملحوظات القليلة، ومع ذلك فقد وضع عليه القبول وتداوله الناس بالرواية.

وكذلك تفسير الإمام البغوي رحمه الله، فهو أيضا من هذه المدرسة التي تعتني بالآثار، وقد جاء الجلال السيوطي رحمه الله، وجمع نتاج هذه المدرسة بكامله في كتابه الذي سماه، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، فجمع ما يرويه هؤلاء، وسلك في ذلك طريقة المحدثين، فإن اختلفت أسانيد هؤلاء لم يبال بذلك ٍبل يجمع النسبة إليهم فيقول أخرج ابن منده وابن جرير والبغوي، وفلان وفلان كذا ويأتي بلفظ أحدهم، فيختار أتم الألفاظ وأكملها، كما يفعل من قبله البيهقي وغيره من أئمة أهل الحديث، ولهذا قال العراقي في ألفيته :

والأصل يعني البيهقي ومن عزا** وليت إذ زاد الحميدي ميزا

فإنما يقصدون بذلك إخراج الأصل، أنهم أخرجوا أصل الحديث لا أخرجوا هذا اللفظ بذاته، ومع هذا فلا يخلو كتاب من كثير من الأحاديث والآثار الواهية والضعيفة بل وكثير من الموضوعات، لأن صاحبه لم يشترط فيه الصحة وإنما اشترط فيه الجمع، وقد وفى بجمعه، فقد جمع فأوعى وأتى على عدد كبير من تفاسير السلف المعتنين بالآثار، فجمع ما فيها في هذا الكتاب، وجاء بعده الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ فلخص كلام السيوطي في فتح القدير وزاد عليه بعض مختاراته من تفسير القرطبي أيضا في المدرسة الأخرى وهي مدرسة الرأي التي سنتعرض لها، ولذلك سماه \"فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من علم التفسير\" أو بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.

أما المدرسة الثانية المشهورة فهي مدرسة الرأي: والمقصود بالرأي ألا يعتمد المفسر في تفسير آيات كتاب الله تعالى على مجرد النقل عمن سبقه، بل يعمل هو علمه وذهنه في الاستنباط من النص وذكر معانيه اللغوية، وما يمكن أن يستنبط من الأحكام من جمع هذا النص بغيره من النصوص، وهذه المدرسة هي التي انتشرت وكثر المؤلفون فيها، ومن مشاهير الكتب المؤلفة فيها كتاب ابن عطية المسمى بالمحرر الوجيز، وتفسير القرطبي أبي عبد الله المسمى بالجامع لأحكام القرآن، وقد تميز القرطبي بعنايته بنقل المذاهب الفقهية وذكر أدلتها والمقارنة بينها، والعناية بالأحاديث والشواهد اللغوية بتخريجها وذكر من هي له، ولهذا كان ديوانا من دواوين العلم المهمة، ومرجعا من مراجع الإفتاء في كل العصور التي جاءت بعده، ومن كتب تفسير الرأي المهمة تفسير ابن الجوزي الذي سماه زاد المسير، وهو ينقل فيه بعض الآثار القليلة، ولكن كثيرا مما يعتمد عليه في التفسير معلوماته هو ورأيه ولذلك هو مصنف في مدرسة الرأي، وهو ملخص جيد، لخصه لولده يريد أن يغنيه به عن شراء عدد كبير من كتب التفسير، لكنه مع ذلك قد لا يشفي غليلا في كثير من المسائل التي يتعرض لها لاختصاره.

ومن هذه التفاسير ـ كذلك ـ تفسير الإمام الماوردي المسمى بالنكت والعيون، وهو مختصر ملخص، إلا أن طريقة الماوردي ـ رحمه الله ـ هي طريقة منهجية، فهو متقن لتنظيم المعلومات وترتيبها، ولذلك فمن أراد بحثا في المسائل الفقهية فلينظر إلى تقسيمات الماوردي ٍفإنها ستعينه على تصور المسألة وتتبع شعبها وما يتعلق بها، ٍومع هذا فهو مختصر كذلك لا يطيل النفس في بعض المواقع التي يحتاج الإنسان فيها إلى التوسع.

ومنها كذلك كتاب البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، وهو كتاب حافل بما يتعلق بلغة القرآن، سواء كان ذلك متعلقا بالنحو أو بالصرف أو بالبلاغة أو بغريب اللغة، فعنايته بلغة القرآن بارزة جدا، وكذلك بتوجيه القراءات وإعرابها، ولكنه لا يتوسع كثيرا في الأحكام وأسباب النزول ونحو ذلك.

وكذلك من الكتب المهمة في هذا الباب تفسير الإمام الفخر الرازي المسمى بالتفسير الكبير أو بمفاتيح الغيب، وقد أطال فيه النفس كثيرا، حتى إنه جعل تفسير الفاتحة في جزء كامل، الفاتحة وحدها في جزء كامل، وهذا التفسير قد ملأه بالعلوم العقلية، بالمنطق والفلسفة والجدل وغير ذلك، فهو مدرسة مخصوصة فيما يتعلق بفهم القرآن واستيعابه على الطريقة العقلية، ولكن مشكلته أنه في كثير من الأحيان يورد كثيرا من المصطلحات غير المشهورة فلا يعرفها إلا المتخصصون في تلك العلوم العقلية، وكذلك يلام بأنه يورد في بعض الأحيان شبها فيرد عليها ردا أضعف منها، يقرر الشبهة ويوضحها ثم يرد عليها ردا أضعف منها، ولذلك يحتاج القارئ فيه إلى مهارة بعلم الكلام والمنطق، وعلم الفلسفة، وإلى إتقان لرد الشبهات كذلك، والغريب أن المؤلف ـ رحمه الله ـ استمر على هذه الطريقة حتى بلغ أواخر سورة الأنبياء، فتوفي ـ رحمه الله ـ عند تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلاقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) فهذا المقطع هو آخر مقطع فسره من القرآن وتوفي، فانتدب أحد تلامذته لإكمال الكتاب فأكمله على طريقة المؤلف، ولا يستطيع الباهر أن يفصل بين كلام الفخر الرازي وكلام تلميذه لمهارته بأسلوب الشيخ وإتقانه له.

وكذلك من الكتب المهمة في هذه المدرسة كتاب الزمخشري، الذي سماه بالكشاف، ٍوقد سلك فيه أسلوبا رصينا قويا في تفهيم معاني القرآن ودلالاته، وأغرق في علم البلاغة وأوجه الإعجاز اللفظي، ولكنه مع ذلك يلمح فيه بإشارات خفية إلى مذهب المعتزلة، فيستر فيه مذهب المعتزلة في الأماكن التي تخفى وتدق، وقد اعتمد عليه عدد من المفسرين الذين جاءوا بعده، فمن الذين اعتمدوا اعتمادا كليا على الزمخشري البيضاوي وكذلك أبو السعود، فكلاهما اعتمد عليه وأخذ طريقته، ومن طريقته أنه يختم تفسير كل سورة بما ورد في فضلها، وقد اعتمد على حديث موضوع في فضائل السور فيأتي في آخر كل سورة بما يتعلق بها منه، وتبعه على ذلك البيضاوي وأبو السعود، وهذا خطأ فادح، لكن عذر هؤلاء أنهم لم يكونوا يعلمون أن هذا الحديث موضوع، وإنما رأوا عبارته فاستحسنوها واستهوتهم، فلذلك أوردوه في تفاسيرهم، وقد أثنى المؤلف على هذا الكتاب ثناء عطرا، فقد قال فيه :

إن التصانيف في الدنيا ذوو عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي

وقد أثنى عليه ـ هو ـ أمير مكة الذي ساكنه فيها، لهذا قال مجد الدين الفيروزابادي في القاموس: زمخشر كسفرجل بلدة بنواحي خوارزم، اجتاز بها أعرابي فسأل عن اسمها واسم كبيرها، فقيل زمخشر والرَدَاد، فقال: لا خير في شر ورد وتركها، منها جار الله محمود بن عمر وفيه يقول أمير مكة علي بن عيسى الحسني:

*جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ** تبوأها دارا فداء زمخشرا*

*وأحر بأن تزهى زمخشر بامرئ ** إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرا*

وكذلك الذين استفادوا منه واتبعوه ـ كالبيضاوي ـ الذي ألف كتابه فأتقن صنعته وترتيب المعلومات فيه على جودة سبك ودقة في العبارة، وذكر لكثير من النكت البديعة، ومن غرائب ما حصل له فيه أنه حين ألفه وهو بأرض الروم التي تسمى اليوم بتركيا، ذهب به يريد إهدائه إلى أحد الملوك، فنزل على رجل من الزهاد ـ من الصوفية ـ فبات عنده فسأله أين تقصد أيها الشيخ ؟ فقال: ألفت كتابا نادرا في التفسير أريد أن أهديه لهذا الملك لعله يعينني على أمور دنياي، فسكت الرجل، ثم بعد وقت سأله فقال: ما ذا قلت في تفسير قول الله تعالى: (وإياك نستعين)؟ ففهم البيضاوي إشارة الصوفي، فقطع رحلته ورجع إلى بيته فما وصل البيت حتى أتته معونة الملك، وكانت أضعاف ما كان يتوقعه، لكنه مع هذا يتأول كثيرا من آيات الصفات على مذهبه، وأيضا فإن اتباعه للزمخشري في التفسير أوقعه ـ كما ذكرنا ـ في جلب بعض الأحاديث الموضوعة، ومثل ذلك أبو السعود، إلا أنه قد أتقن جانب إعراب القرآن وبرز فيه، فإعراب مفردات القرآن وجمله من أحسن ما يميز تفسير أبي السعود على اختصاره وبراعته في الإبداع، ومثله أيضا تفسير الإمام النسفي، فهو تفسير ملخص مختصر، حاو لكثير من أوجه الاستنباط في القرآن، ومن قرأه فتحت أمامه أبواب فهم الآية حين يرى ألفاظها وما يتعلق بها مربوطا بآيات أخرى وبأوجه أخرى من أوجه الاستنباط، وقد وقع في الإشكال السابق في تأويل بعض آيات الصفات ونحو ذلك.

ومن الكتب المختصرة النافعة في هذا الباب تفسير ابن جزي المسمى بالتسهيل، وقد خلا من كثير من العيوب السابقة، فخلا من الإسرائيليات، وكذلك يندر فيه تأويل الصفات، وخلا ـ كذلك ـ من الأحاديث الموضوعة، وأتى بعبارة مختصرة دقيقة، ٍومؤلفه مشهور بدقة العبارة والاختصار، فهو مؤلف القوانين الفقهية في المذاهب الأربعة، ومؤلف التقريبة في أصول الفقهٍ، وكتبه مختصرة، جيدة السبك، وقد توفي شهيدا ـ رحمه الله ـ نسأل الله أن يتقبله في قتال الروم بالأندلس، ولذلك فكتابه من الكتب التي ينبغي أن تقرر في البدايات على صغار الطلبة، وللدروس المسجدية ٍونحو ذلك، وهو كتابه سهل يسهل تدبره والتذاكر فيه، ومعلوماته منضبطة، فإذا أراد الإنسان أن يتقيد بشرح كتاب واحد في التفسير ـ كما سنذكره في طرائق التفسير فبالإمكان أن يخصص هذا الكتاب لذلك.

وكذلك من الكتب المختصرة في هذا الباب تفسير الجلالين، الجلال المحلي والجلال السيوطي، ٍوهذا الكتاب بدأه الجلال المحلي ـ رحمه الله ـ فافتتحه بتفسير سورة الكهف حتى أكمل القرآن، وفسر سورة الفاتحة، ووافاه الأجل المحتوم عندما أكمل تفسير الفاتحة، وقد أتقن سبكه فيدرج الكلمات في أثناء مواقعها ليتبين لك بها الإعراب وأوجه القراءات ٍدون أن يفصلها عن القرآن، ولهذا كان بعض علمائنا يحفظه مع القرآن حفظا كما هو، يحفظ كلماته مع القرآن كما هي، له كلمات قليلة مختصرة، ٍوأسلوبه رصين جدا، ومن العجيب دقته في التعبير ونباهة صاحبه وذكاؤه في تقدير المضمرات وتقدير الأفعال التي ينصب بها ونحو ذلك، فيقدرها بدقة بالغة، وقد أكمله الجلال السيوطي ـ رحمه الله ـ فافتتح تفسيره من بداية سورة البقرة حتى وصل سورة الكهف، وقد وضع القبول على هذا الكتاب فانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكثرت الحواشي عليه، وأهما على الإطلاق حاشية الشيخ سليمان ٍالجمل الشافعي، المسماة بالفتوحات الإلهية، ٍوهذا الكتاب تميز بجمعه لما يتعلق بإعراب القرآن، فقد أتقنه إتقانا عجيبا، وقد رجع للذين سبقوه في الإعراب فحصر أقوالهم ونقحها، فجمع ما ذكره أبو حيان في تفسيره وما ذكره أبو السعود في تفسيره، وما ذكره كذلك السمين الحنفي في إعرابه للقرآن، وما ذكره العكبري في إملاء ما من به الرحمن من إعراب القرآن فجمع ـ هو ـ كل ما في هذه المراجع، ٍفكان مغنيا عن كتب إعراب القرآن.

كذلك من الكتب النافعة في هذا الباب: كتب المتأخرين ومن أهمها: كتاب روح المعاني للألو سي ـ رحمه الله ـ فقد سلك فيه طريقة بديعة ٍفي التفسير، فيذكر الآثار الواردة في التفسير، ثم يذكر أوجه الاستنباط على طريقة الرأي، ثم يورد بعد ذلك ما يسميه بالتفسير الإشاري،ٍ أي ما يمكن أن يفهم من الآية أو ترمز إليه بوجه من الوجوه، حتى لو كان ذلك بأعداد الحروف، أو نحو هذا، وكتابه سلس العبارة، سهل الفهم، إلا أن التفسير الإشاري فيه مزالق حين يجزم الإنسان بأن هذا من تفسير القرآن، أو من معنى الآية، أو نحو ذلك، ٍومثله كتاب شيخه روح البيان فهو كذلك جامع لكثير من هذه الأوجه.

فكذلك من الكتب النافعة في الرأي من كتب المتأخرين كتاب جمال الدين القاسمي، وقد حاول المؤلف كذلك التعبير فيه بلغة عصرية وأن يكون دقيقا في تنظيم معلوماته وترتيبهاٍ، وهو مشهور بذلك فكتبه مشهورة بدقة الاختيار والنقل، فكتابه قواعد التحديث هو أهم كتب المتأخرين في مصطلح الحديث بلا منازع، وإتقانه ـ كذلك ـ هو لتلخيص التفسير جيد إلا أنه قد وقع في بعض ما وقع فيه من سبقه من الأخطاء في تأويل بعض الآيات ونحو ذلك.

وكذلك من الكتب النافعة من كتب المتأخرين كتاب الإمام محمد الطاهر بن عاشور، فهو كتاب حافل، وبالأخص فيما يتعلق بإعجاز القرآن سواء كان ذلك من ناحية التشريع، أو من ناحية علم الاجتماع، أو من ناحية البلاغة والتركيب، والمؤلف ٍضليع في هذه الفنون كلها ٍفقد كان مفتي تونس في زمانه يلقب بشيخ الإسلام، وقد مهر في الحديث، وفي التفسير، وفي علوم اللغة، وفي علم الاجتماع والفلسفة، واطلع على ثقافات الأمم الأخرى، فلذلك كان كتابه من أهم هذه الكتب على الإطلاق، وكتابه اسمه التحرير والتنوير.

وكذلك من كتب المتأخرين المهمة في هذا الباب تفسير السعدي ـ رحمه الله ـ فقد لخص فيه ما ذكره القرطبي، بالإضافة إلى كثير من فوائد ابن القيم في كتبه الكثيرة، ٍوأتى بذلك على طريقة القرطبي، ٍفالقرطبي ـ رحمه الله ـ يقول: قول الله تعالى، ويأتي بآية ويقول فيه كذا وكذا مسألة، مثلا يقول: فيه مائة وسبع مسائل، أو سبعون مسألة، أو خمس وثلاثون مسألة، ويأتي بتلك المسائل مرتبة، وهذه الطريقة هي في الأصل لابن العربي وابن الفرس في كتابيهما أحكام القرآن، وسلكها القرطبي ثم تبعه عليها السعدي، ٍوعدد من المتأثرين بالقرطبي ـ رحمه الله ـ ٍوكتابه ملخص جيد ـ كذلك ـ إلا أن أسلوبه ليس أسلوبا معاصرا، بل الذي يقرأ فيه يستشعر أنه يقرأ في لغة عصور قد مضت من السالفين، لكنه مع هذا ملخص جيد خال من كثير من العيوب السابقة.

وكذلك منها كتاب أضواء البيان للشيخ محمد الأمين ـ رحمه الله ـ ولم يقصد به أن يكون تفسيرا متكاملا للقرآن، وإنما قصد به أن يلم بالآيات التي يفسر بعضها بعضا، فأصل الكتاب كله تفسير لآية واحدة من كتاب الله وهي قول الله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) ففكرة الكتاب كلها تفسير لهذه الآية وحدها، أراد أن يفسر هذه الآية فجنح إلى أن يذكر كل موضع من القرآن يفسر موضعا آخر أو له به تعلق، ولذلك لم يستوعب كل آيات القرآن، وما كان منها واضح الدلالة تجاوزه، وقد استطرد الشيخ في مواطن من الكتاب، ففي سورة الأعراف استطرد في علم أصول الفقه، وإثبات القياس، وما يتعلق بذلك، وفي تفسير سورة الحج استطرد في أحكام الحج وما يتعلق به، والترجيح بين المذاهب، حتى كان تفسير آيات الحج من كتابه منسكا واسعا، بل هو من أكبر المناسك التي عرفت في زماننا هذا، وأوسعها على الإطلاق، ٍوالشيخ كذلك متأثر بأسلوب القرطبي، وإن كان الشيخ يتعرض لكثير من المسائل العصرية، كالقوانين الوضعية والحكم بغير ما أنزل الله، وكالعلاقات مع الدول الكافرة، العلاقات الدبلوماسية، وكذا القوانين التي توقع عليها الدول الإسلامية ٍمن باب الإكراه، كقانون الأمم المتحدة وغير ذلك، وتعرض كذلك لكثير مما يعرض للمسلمين في زماننا هذا من الأوضاع الحرجة كانقسام الدول، فالأصل أن يكون خليفة المسلمين واحدا، وألا يكونوا دولا، الأصل أن يكونوا دولة واحدةٍ، ويترتب على ذلك أحكام، تعرض الشيخ لبعض هذه المسائل وأجاد فيها، وقد بحث في كثير من الأمور بحثا علميا دقيقا، ومع هذا فإن كثيرا من الناس قد لا يستفيدون من بحثه، لأن أسلوب الشيخ أسلوب علمي، والذي يريد أن يفهمه لا بد أن يكون متنوع المعلومات، فالشيخ يبحث في دقائق التفسيرجادأجاد ، وفي علم أصول الفقه، وفي علم الفقه، وفي علم الجدل، وفي غير ذلك من أنواع العلوم.

كذلك من الكتب النافعة في هذا ٍالباب: كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب ـ رحمه الله ـ وهذا الكتاب كذلك لم يرد مؤلفه أن يجعله تفسيرا كاملا للقرآن وإنما أراد أن يبين الوجهة الفكرية، والثقافة الإسلامية البارزة من خلال القرآن، لينشأ عليها الجيل وليتربى عليها، ولهذا فقد أبدع في المقدمات التي يضعها للسور، فكل سورة يضع لها مقدمة يذكر فيها الموضوع الذي ركزت عليه السورة، والمواضيع الجانبية التي تناولتها والعلاقة بين هذه المواضيع، يجعل السورة وحدة متكاملة بين يديك، ولهذا فإن كثيرا من أهل العلم قال: إذا أردت درسا في التفسير فابدأ من مقدمة الظلال، المقدمة التي يضعها في السورة، ثم راجع ما شئت من كتب التفسير بعد ذلك في تفسير الآيات ، ومع هذا فإن المؤلف ـ رحمه الله ـ قد ألف أكثره في السجن، ٍولما خرج راجعه إلى سورة الحديد، وقتل عند بلوغه في المراجعة قول الله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ).

وكذلك من الكتب النافعة في هذا الباب تفسير المنار للشيخ رشيد رضا ـ رحمة الله عليه ـ وهذا الكتاب يبدو فيه تنوع المعارف والاجتهادات لدى الرجل فقد ٍبدأه في البداية على طريقته الأولى التي كان عليها أيام كان مع شيخه محمد عبده ولذلك يظهر في الأجزاء الأولى من الكتاب عقلانية الرجل وفلسفته، بل إنه كثيرا ما يأول كثيرا من الأمور الغيبية ويحملها على أمور معنوية فقط، ثم رجع عن هذا المذهب بالكلية، واعتنى بدراسة الحديث وتخريجه والحكم عليه، وكان صاحب مدرسة بارزة في هذا الباب، تأثر بها عدد كبير من الناس كالشيخ أحمد شاكر ـ رحمة الله عليه ـ وكالإمام حسن البنا ـ رحمة الله عليه ـ فقد تأثر بمحمد رشيد رضا في هذه المدرسة، مدرسة الرجوع إلى الحديث، وهذه المدرسة هي التي اشتهرت فيما بعد بمدرسة التخريج، ٍوأثرت في الشام وفي مصر ثم انتشرت في البلدان الأخرى، والشيخ هو منشئ هذه المدرسة ـ رحمة الله عليه ـ وقد بلغ في التفسير قول الله تعالى في سورة يوسف: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) فكتب تفسير هذه الآية بعد صلاة العصر، وتوقف ومات في حادث سير ٍفي صبيحة اليوم الذي يليه ـ رحمة الله عليه ـ ومع هذا فهذا القدر الذي كتبه في التفسير فيه كثير من الأبحاث المعاصرة، والرد على شبهات المستشرقين والعلمانيين، والمدارس المختلفة، وفيه كذلك تعرض لكثير من النوازل والمستجدات التي حصلت في زمانه، فهو مرجع في هذا الباب، وعنايته بما يتجدد من الأمور واضحة، وأسلوبه كذلك أسلوب عصري سلس، فإذا راجع الإنسان كتب هذه المدرسة تبين بجلاء أن الفكرة التي تدور على ألسنة كثير من الناس بذم مدرسة الرأي، وتمجيد مدرسة الأثر في التفسير فكرة غير صحيحة، فليس المقصود بمدرسة الأثر أنها المدرسة التي لا تأتي بشيء من الرأي وإنما تأتي فقط بالأحاديث بل أكثر ما ينقله الذين ذكرناهم من مدرسة الأثر كله آراء عن بعض الصحابة وبعض التابعين، والمرفوع من ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيء يسير جدا لا يمثل إلا واحدا في المائة أو أقل، وما عدا ذلك كله آراء لكنها آراء مروية عن بعض الصحابة أو التابعين أو من دونهم، فإذن ما هي إلا رأي، لكنه رأي لؤلئك السلف السابقين، وكذلك مدرسة الرأي ليست كما يتصورها كثير من الناس أنها من الرأي المذموم، و القول على الله بغير علم، أو القول في كتابه بما يخالف ما قال به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يتوهمه كثير من الناس، بل المقصود أن المؤلف فيها لا ينطلق من قناعات من سبقه، بل ينطلق من قناعاته هو، فيؤلف على أساس فهمه وما توصل إليه وعلى أساس اختياره في التفسير.

المدرسة الثالثة هي : المدرسة التخصصية في تفسير كتاب الله، وهي التي تعتني بتفسير آيات مخصوصة كآيات الأحكام ـ مثلا ـ أو آيات السلوك أو نحو ذلك، وهذه المدرسة من مشاهير المؤلفين فيها البيهقي ـ رحمه الله تعالى ـ فقد جمع أحكام القرآن للشافعي، وهو كتاب مطبوع، جمع فيه الآيات التي نزع بها الشافعي واستدل بها وبين أوجه استدلاله بها، ثم بعده الإمام الجصاص الحنفي، فقد ألف كتابه أحكام القرآن، وأورد فيه كثيرا من المسائل الفقهية التي مرجعها الاستنباط من آيات الأحكام من كتاب الله، وكثيرا ما ينتصر للمذهب الحنفي عندما يبين مأخذه من القرآن، ومع ذلك فهو متحرر إلى حد كبير، بل إنه يخالف الحنفية في بعض المسائل مخالفة صريحة، وكذلك ابن الفرس المالكي الأندلسي، فقد ألف أحكام القرآن على هذه الطريقة، ولكن كتابه لم يطبع ـ حسب علمي ـ إلى الآن وهو موجود مخطوط، وكذلك ابن العربي أبو بكر القاضي، فقد ألف كتابه أحكام القرآن، وحاول فيه حصر الاستنباط، من كتاب الله دون التحيز لمذهب محدد، لكنه كان سليط اللسان، شديدا على خصومه، فكثيرا ما يتهكم بالأئمة، فيقول ـ مثلا ـ قال: الشافعي وهو عند أصحابه سحبان وائل، ويقول: قال مالك: \"ولم يبلغنا فيها شيء\"، قلت: فماذا ؟ فيتهكم بالأئمة، وذلك لسلاطة لسانه وقوة أسلوبه، وكثيرا ما يأتي بمسألة ينقل فيها كلام من سبقه من العلماء ثم يقول: بالله الذي لا إله إلا هو لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ومع ذلك فالرجل مؤتى له في تلخيص العلم، عندما بلغ تفسير قول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) قال: البيوع التي نهى عنها رسول ـ الله صلى الله عليه وسلم ـ ثمانية وخمسون بيعا وحصرها بالترتيب وهذه دقة نادرة، حيث يحصر كل الأحاديث الواردة في الباب ويلخصها لك في نصف صفحة، ومع ذلك فمن المؤسف أن الكتاب لم يطبع حتى الآن طبعة صحيحة، فالطبعات الموجودة المنتشرة لا تمثل شيئا من الكتاب، بل كثيرا ما يقول: قول الله تعالى (كذا) فيه خمس مسائل أصولية، وثلاث فقهية، وأربع مسائل عقدية، فإذا رجعت ـ أنت ـ إلى المسائل وجدت أربعا فقهية، وثلاثا أصولية، واثنتين عقديتين وهكذا، فلا تجد المسائل منضبطة مع العد الذي ذكره، وهذا يبين لك أنه حصل فيه سقط كثير، وحذف منه كثير من المباحث المهمة، وكان ابن العربي ـ رحمه الله ـ في المجال السياسي توفيقيا، يسعى للتوفيق بين طوائف الأمة المختلفة، ٍولهذا كان يرد التهم التي يوجهها المؤرخون في أيام دولة بني العباس إلى بني أمية، وكان يرى أن كثيرا منها لا يصح من ناحية الإسناد وهو كذلك منكر من ناحية العقل، ولهذا ألف كتابه العواصم من القواصم، بدأ فيه أولا بالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وكل التهم السياسية الموجهة إليهم، وكل ما يثار بينهم، إما أن ينفيه ويقول لا يصح هذا ويدرسه من ناحية الإسناد ويحكم عليه بالضعف أو الوضع، ٍوإما أن يثبته ثم يجد له مخرجا شرعيا، ووجها واضحا من أوجه الاجتهاد، ثم بعد ذلك عدل إلى خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس، فرأى أن التاريخ الإسلامي مشوه وأن كل دولة يكتب مؤرخوها على حسب هوى ملوكها، وعموما فكتابه هذا من الكتب التي لا يستغنى عنها في مجال تفسير آيات الأحكام.

ومن أهم الكتب المختصة في آيات الأحكام كتاب السيوطي، الإكليل في استنباطات التنزيل، وهو كتاب صغير الحجم كثير العلم غزير الفائدة، أوراقه قليلة، حيث جمع فيه ما يستنبط من هذه الآيات ـ التي هي آيات الأحكام ـ خمسمائة آية أورد ما يستنبط منها دون أن يرجح في ذلك مذهبا من المذاهب بأسلوب مختصر دقيق، ٍولهذا فإن بعض أهل العلم يمتحنون طلابهم في الاستنباط من هذا الكتاب، عندما يذكر ـ مثلا ـ الكثير من المسائل المستنبطة من الآية الواحدة، ٍيقال بين وجه الاستنباط في هذه المسألة وهكذا على طريقة الامتحان .

ومن هذه المدرسة المتخصصة : دقائق التفسير المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهي دقائق في بعض آيات القرآن، ٍولم تكن تفسيرا كاملا، ومثل ذلك الكتاب المنسوب إليه المطبوع تحت عنوان التفسير الكبير ٍلابن تيمية، ٍفليس هو تفسيرا مقصودا لكل القرآن وإنما هو دقائق استنباط الشيخ من الآيات، ومثل ذلك الكتاب المطبوع تحت عنوان التفسير القيم لابن القيم، إنما هو من باب كلامه في آيات مختلفة بأوجه الاستنباط العجيبة، فابن القيم ـ رحمه الله ـ كثيرا ما يستنبط من آية واحدة كثيرا من الفوائد، وظهر ذلك في كثير من كتبه ولهذا فكتابه مدارج السالكين مع أنه تلخيص لكتاب الهروي إلا أنه أدرجه قال: (مدارج السالكين بين مقامي إياك نعبد وإياك نستعين)، فجعله تفسيرا فقط لمنازل إياك نعبد وإياك نستعين.

فهذه المدارس الثلاث إذا كان الإنسان يريد أن يكون مفسرا لا بد أن يختار من كتبها ما يناسبه من المراجع فيرجع إليه في الموضوع الذي سيحضر فيه درسا وإذا استطاع الرجوع إلى هذه الكتب كلها فبها ونعمت، والكتب التي سميناها هي مختارات فقط ولا تمثل كتب التفسير كلها ولا اغلبها بل هي مختارات، وقد كان بعض أهل العلم إذا أراد أن يفسر رجع إلى ثلاثين مفسرا، فيجمع الأقوال في ذهنه، ومن رجع إليها استطاع أن يثبت المعلومات لديه، وأن يكون ما سيقدمه في الدرس بعض ما لديه فقط ـ كما بينا في القواعد السابقة ـ، وهذا النوع إذا أراد فيه الإنسان درسا متسلسلا ٍفإما أن يلتزم كتابا معينا يقرأ عليه ويشرحه بما قرأ في الكتب الأخرى، وينبغي له حينئذ أن يعلم أن القرآن لم تنته معانيه عند الحد الذي بلغه أهل التفسير به، بل لابد أن يبحث هو عن أوجه الاستنباط الجديدة، وعما يتعلق بواقعه، وأن يجتهد في ذلك، ولعلنا نذكر أمثلة ـ إن شاء الله تعالى ـ حيث نختار بعض الآيات مما كان هو مقررا ونتناولها من أوجه متعددة، نذكر منها ما يتصل بواقعنا وما نعيشه.

أما إذا كان الإنسان لا يتقيد بكتاب واحد بل يفسر من تلقاء نفسه فهذا مستوى عال راق يحتاج فيه الإنسان إلى صفاء ذهن وجودة حفظ، وإتقان لتسلسل المعلومات، ولذلك لا ينبغي أن يقدم عليه إلا من هو أهل لذلك، كما قال أبوا العلاء المعري :

*أرى العنقاء تكبر أن تصادا ** فعاند من تطيق له عنادا*

فالذي ينطلق في التفسير من خلفيته هو العلمية دون الارتباط بكتاب معين، لا بد أن يكون أعد لذلك العدة، هذا هو الوجه الأول فيما يتعلق بتحضير درس في التفسير.

الوجه الثاني ما يتعلق باختيار موضوعات من كتاب الله تعالى والاستنباط منها، وهذا الوجه ينبغي فيه جمع النظائر والعناية بها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا لمن درس علوم القرآن، فالدارس لعلوم القرآن يعرف النظائر في القرآن وأوجه التقابل فيها والتقارب، فإن أهل علوم القرآن لم يتركوا وجها مما يتعلق بالقرآن إلا وألفوا فيه وخدموه، فكل شيء في القرآن معدود حروف القرآن معدودة، نقاط القرآن معدودة، والمصحف ما فيه من النقاط معدود، مليون وخمسة وعشرون ألفا وثلاثون نقطة، هي ما في القرآن من النقاط، ومثل ذلك ما فيه من الفواصل، وما فيه مما يتعلق بالمواضيع المحددة ـ مثلا ـ ما يتعلق بالبعث بعد الموت، جاء فيه سبع مائة وسبعة وستون آية في القرآن، في إثبات البعث بعد الموت فقط، وهكذا فالذي يريد هذا النوع من التفسير عليه أن يرجع إلى كتب علوم القرآن حتى يعرف النظائر والأشباه، وإذا انطلق من هذه الخلفية استطاع حينئذ أن يحصل هذه المعلومات في ذهنه، وأن يستطيع تفسير بعض القرآن ببعض، وحينئذ لن يركز على معاني الألفاظ وأوجه القراءات ونحو ذلك كما يركز عليه المفسر في الطريقة الأولى وإنما يركز على المعاني التي يريد إبرازها، كالذي يريد إبراز معنى التضحية في سبيل الله ـ مثلا ـ في القرآن فيختار لذلك الآيات التي ورد فيها هذا مثل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )، وقوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتكم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )، وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين )، فيجمع المقدم للدرس هذه الآيات، ويستنبط منها ويجعل لها محورا تدور عليه مثل محور الترغيب ومحور الترهيب مثلا أو أنواع الحوافز التي أتى الله بها في كتابه للحفز على التضحية والبذل في سبيله، ٍثم محور آخر وهو أنواع البذل المطلوبة، البذل من البدن، البذل من الوقت، البذل من الجاه، البذل من المال، البذل من العلم، إلى آخره، ويستنبطها من مجموع هذه الآيات، وحينئذ لا يبالي بدلالات الألفاظ، ولا بأوجه القراءات، ولا بما يتعلق بذلك مما يعتني به المفسر في الطريقة الأولى، وهذه الطرية تشبه ما نسميه اليوم بالمحاضرات العامة، وإن كانت هي وجها من أوجه دروس التفسير، نعم هي تقريبا تسمى بالتفسير الموضوعي، أو تشبه التفسير الموضوعي إلا أن التفسير الموضوعي فيه مع ذلك تعرض للجوانب السابقة، فعموما سواء اخترت الطريقة الأولى أو الطريقة الثانية عليك أن تحاول الإبداع وألا تكون من المتحجرين الذين يتقيدون باجترار آراء من سبقهم، وأن تحاول أن تأتي بجديد، وأن تتعرض لنفحات الله فأنت تريد خدمة كتابه العظيم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ خص كثيرا من الذين خدموا كتابه بكثير من الفتوحات التي لم ينلها من قبلهم، فلتتعرض لذلك بإنابة وإخلاص وخشوع واحترام لما تقرأه وتفسره من كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلعل الله يفتح لك بما لم يفتح به على من سبقك، ولتتذكر أن الفهم في كتاب الله تعالى ـ كما ذكرنا من قبل ـ نعمة ينعم الله بها على من شاء من عباده، ولا تختص بإنسان ولا بزمان، لهذا قال أحد العلماء:

*وقسمة الحظوظ فيها يدخل ** فهم المسائل التي تنعقل*

*فيحرم الذكي من فهم الجلي ** إن لم يكن من حظه في الأزل*

القضية حظوظ مقسومة، ولهذا فاستنباط علي ـ رضي الله عنه لأقل مدة الحمل من الجمع بين قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) وقوله تعالى:(وفصاله في عامين) وجه دقيق جدا اختصه الله به، فإن قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) جعلت مدة الرضاع ومدة الحمل محصورة في ثلاثين شهرا، وقوله تعالى:(وفصاله في عامين) جعلت الرضاع في سنتين، فبقي من ثلاثين شهرا ستة أشهر هي أقل الحمل، ومثل ذلك استنباط مالك ـ رحمه الله ـ جواز إصباح الصائم جنبا من قول الله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) قال لم يترك الله وقتا للاغتسال ، قال فالآن باشروهن ولم يحد ذلك إلا بقوله: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلم يترك وقتا للاغتسال فدل هذا على جواز إصباح الإنسان جنبا، وهذا استيعاب عجيب وفهم دقيق في هذه الآيات.

كذلك إذا أراد الإنسان أن يفسر عليه أن يراعي مستويات الحضور الذين يحضرون عنده، فلا ينبغي للذي يشتغل بالتفسير العام على الطريقة الأولى من الطريقتين اللتين ذكرنا أن يجعل ذلك درسا عاما يحضره عوام الناس وبلداؤهم وجهالهم لأنه بذلك سيفتنهم، فيسمعهم كثيرا مما يحدث لديهم شبهات لا يستطيعون ردها، إنما يحسن بالعوام الطريقة الثانية، التي هي طريقة محاضرة عامة يورد فيها الإنسان شواهد متعددة من القرآن على معنى من المعاني، أو قاعدة من القواعد الشرعية المسلمة، ويستنبط لذلك أوجها تطبيقية من واقعه الذي هو فيه يسهل على العوام إدراكها، أما ما يتعلق بجمع النصوص التي ظاهرها التعارض وكذلك الجمع بين أوجه القراءات ونحو ذلك فهذا من الدقائق التي لا يدركها العوام ولا ينبغي تحديثهم بها، وما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم، وقال علي ـ رضي الله عنه ـ حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.

هذا أهم شيء فيما يتعلق بتحضير درس في التفسير، وإذا أراد الإنسان تطبيق ذلك كأن يكلف بدرس منهجي لمجموعة محددة عليه لأن ينظر إلى مدى استيعابها وإلى مدى الوقت الذي يريد أن يقدم فيه الدرس، فإن كان الدرس مفتوح الوقت متسع الوقت فحينئذ بالإمكان أن يرجع إلى مراجع كثيرة وأن يكثر النقول والاستشهادات وأن يستطرد في المجالات العلمية المفيدة، وإذا كان الوقت محدودا غير قابل للتمديد فحينئذ عليه أن يقتصر على الأهم، وأن يستوعب هو ما يمكن أن يعرض من الأسئلة فإذا سئل عن شيء كان الجواب حاضرا في ذهنه لأنه قد توسع في الدراسة وقرأ أكثر مما كتب، وفي الترتيب على الذي يفسر الآية أن يبدأ أولا بضبط ألفاظها سواء كان ذلك على مقتضى قراءة واحدة أو قراءات، وبعد ذلك يبين دلالات مفرداتها، ثم يبين إعرابها، ثم يبين معناها جملة، ثم يبين بعد هذا ما يتعلق بها من الآثار، سواء كان ذلك في أسباب النزول أو مكان النزول المكي والمدني أو نحو ذلك، ثم يورد في الأخير ما يستنبط منها من الأحكام، وتنزيلها على واقع الناس الذي يعيشونه، وينبغي للذي يكتب في التفسير أو يقدم فيه درسا أن يتقيد بآداب التفسير، فكثير من المصطلحات يمكن أن تطلق في غير تفسير القرآن، فمثلا إذا أردت إعراب بيت من الشعر بالإمكان أن تقول: \"من\" هنا زائدة أو \"لا\" زائدة، أو نحو هذا وإذا أردت التفسير فينبغي أن تتحرز من مثل هذه الألفاظ الاصطلاحية التي فيها نقص أدب مع القرآن، ولهذا يقول المفسرون \"من\" صلة أو \"لا\" صلة، (لا أقسم بهذا البلد) يقولون \"لا\" صلة ثم استأنف بقوله: أقسم بهذا البلد، أو هي نفي لمحذوف وهكذا، ومثل ذلك تقدير المحذوف فعلى الإنسان أن لا يجزم بلفظ واحد في الجملة، إنما يبين المعنى كقول الله تعالى: (ق والقرآن المجيد) فأين المقسم عليه؟ المقسم عليه محذوف لا محالة لكن ما هو؟ يمكن أن تقول لتبعثن، أو هو إثبات البعث لأن كل ما جاء بعده يصب في هذا السياق والسورة جاءت لذلك، ولهذا قال بعده مباشرة: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ )، فهذا كله لإثبات البعث بعد الموت فعلم أن المحذوف هنا هو إثبات البعث، لكن لا ينبغي أن تجزم بلفظ واحد تقول المقسم عليه هو إثبات البعث عموما فيمكن أن يقدر ذلك بقوله: \" لتبعثن\" لأن هذا اللفظ جاء في آية أخرى \"لتبعثن ثم لتنبئن بما عملتم \".

كذلك على الإنسان الذي يكتب في هذا الزمان في تفسير القرآن أن ينظم ذلك بطريقة منهجية، وألا يستهويه كلام السابقين، فكثير من الناس إذا درس في مدرسة تأثر بأسلوب تلك المدرسة، وينبغي للإنسان ألا يكون إمعة حتى في اتباع أهل العلم في تعبيراتهم وفي ألفاظهم، بل عليه أن يكون ذا أسلوب يتميز هو به وأن يكون ذلك الأسلوب واضحا يفهمه الناس وألا يكون من المتقعرين فقد ذم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتقعرين المتفيهقين في الكلام، والله تعالى يقول لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (وما أنا من المتكلفين) يأمره بأن يقول ذلك عن نفسه، فقد ذم التكلف عموما، وعلى هذا فعلى الإنسان إذا كتب لأهل زمان أن يكتب بما يتناسب مع واقعه.
والمبادئ العشرة في علم التفسير: أولا حده أي تعريفه، وتعريف التفسير ينقسم إلى تعريفين إلى تعريف لقبي وإلى تعريف إضافي، فالتعريف الإضافي هو باعتبار أن التفسير كلمتان تفسير القرآن ، فالتفسير في اللغة مصدر فسر الشيء شققه وقطعه ومنه تفسير اللحم ، وهو مشتق من الفسر وهو الإبانة ، والقرآن في اللغة القراءة ويطلق كذلك على الجمع أيا كان ، فقرأ الشيء بمعنى جمعه ، ومنه قول عمرو ابن مضاض الجرهمي:

*صاح هل سمعت براع رد في الضرع ما قرى في الحلاب *

أي ما جمع فيه، والتفسير في الاصطلاح هو المعنى اللقبي ٍالذي سنذكره، والقرآن في الاصطلاح هو كلام الله المنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ للإعجاز بسورة منه المتعبد بتلاوته وبعضهم يضيف المروي تواترا، وهذا القيد لا حاجة إليه لتعريف القرآن لأنه في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن هذا القيد موجودا، فلا يمكن أن يقال عند نزوله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن قرآنا حتى تواتر بعد ذلك ، فهذا القيد إذن لا فائدة فيه لأن وقت نزول جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به هو قرآن ، ولم يتواتر إذ ذاك ، أما تعريف التفسير في الاصطلاح : فهو علم يبحث فيه عن معاني كتاب الله وما يتصل بها ، فقولنا \"علم\" هذا جنسه ، \"يبحث فيه\" أي أن هذا تعريف للفن ، وليس تعريفا لما في قلب الإنسان لأن ما في قلب الإنسان يقال له العلم بمعاني كتاب الله، لو أردت تعريف التفسير كعلم في صدر الإنسان تقول هو العلم بمعاني كتاب الله ، لكن إذا أردت فنا من فنون العلم تعرفه فإنك تقول \"هو علم يبحث فيه عن معاني كتاب الله \" والمعاني جمع معنى وهي تشمل معاني الأخبار ومعاني الإنشاءات ، فمعاني الأخبار مثل القصص عن الماضي وعن المستقبل ينقسم إلى قسمين قصص عن الماضي أيام الله وقصص الأنبياء السابقين وقصص عن المستقبل كأشراط الساعة ومشاهد القيامة ، والإنشاءات هي الأحكام وما يتعلق بذلك ويشمل هذا أسباب النزول وما لا بد منه للمفسر من القراءات وما يستنبط من الآيات مما ليس من معاني المفردات ، وكذلك ما يتعلق بالإعجاز ونحوه من إعراب الكلمات وتصريفها ، فهذا كله مما يتعلق بالتفسير ومن متماته التي لا بد منها، أما واضعه فالمقصود به أول من جعله علما مستقلا ، ولا يقصد به أول من فسر القرآن ، لأن أول من فسر القرآن الله سبحانه وتعالى فإن بعض القرآن يفسر بعضا ، ثم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد أمره الله ببيانه بعد أن بينه له ، لأن الله هو أول من فسر القرآن فقد قال لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) ففسره له ، ثم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المفسر لنا لقول الله تعالى : ( أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ثم بعد ذلك اشتهر عدد من المفسرين من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومشاهيرهم عشرة ـ هم الذين اشتهروا بالتفسير ـ الخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس الذي كان يلقب بترجمان القرآن وعبد الله بن مسعود الذي كان له درس أسبوعي في تفسير القرآن كل يوم خميس ، وعبد الله بن عمر الذي عاد إليه علم أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بن كعب الذي قال فيه النبي الله صلى الله عليه وسلم ـ \" أقرأكم أبي \" وزيد بن ثابت الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ \" أفرضكم زيد \" ففقد اشتغل بذلك ومعاذ بن جبل الذي قال فيه \" وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل \" وبعضهم يجعل مكان معاذ بن جبل لقدم موته ـ فقد توفي في أول خلافة عمر ـ يجعل مكانه عائشة فقد روي عنها شيء من التفسير .

وفي زمان التابعين اشتهر من المدارس التفسيرية ثلاث مدارس ، مدرسة أهل مكة وكان فيها تلامذة ابن عباس، وأشهرهم مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان، ثم مدرسة أهل المدينة ومن مشاهير المفسرين فيها زيد بن أسلم وأبو العالية ومحمد بن كعب القرظي، ثم مدرسة أهل العراق ومن مشاهير المفسرين فيها سعيد بن جبير وزر بن حبيش وعبيدة السلماني وعامر بن شراحيل الشعبي وقتادة بن دعامة السدوسي، أما في أتباع التابعين فقد كان التفسير إذ ذاك جزءا من الحديث ، فعند بداية جمع الحديث جعل التفسير بابا من أبواب الحديث ، ولهذا تجدون كتاب التفسير في صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن وكتاب التفسير ، في صحيح مسلم آخر كتاب فيه هو كتاب التفسير ، وكذلك في الكتب التي هي من جوامع الحديث فيها كتب للتفسير ، واختلف في أول من أفرد التفسير بالتأليف ، فقيل يزيد بن هارون ولم يصل إلينا تفسيره ، وقيل عبد الرزاق بن همام الصنعاني وتفسيره الموجود اليوم ـ فيما يبدوا ـ جزء من مصنفه لكنه أفرد عنه، وقد روي عن عدد من المحدثين أنهم أفردوا التفسير مستقلا ومنهم الإمام أحمد ، فقد روي أن تفسيره فيه أربعون ألف حديث ، وقد استغرب هذا كثير من المحدثين الذين ترجموا للإمام أحمد فقالوا كيف يكون هذا وقد قال أحمد ثلاثة لا أصل لها ، يقصد أن الأحاديث التي فيها قليلة ومنها التفسير .

ومن مشاهير القدماء الذين ألفوا في التفسير محمد بن يزيد بن ماجة القزويني صاحب السنن، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وتفسيره موجود، ثم محمد بن جرير الطبري أبو جعفر ، ثم عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، وهؤلاء متعاصرون تقريبا، فابن ماجه توفي سنة 276 هـ ، والنسائي توفي سنة 303 هـ ، ومحمد بن جرير الطبري توفي 310 هـ ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي توفي 327 هـ ، فهم تقريبا في فترة متقاربة ، ومن هذه الطبقة كذلك عبد بن حميد فقد ألف تفسيرا مستقلا وكذلك السدي، وقد اشتهر من الضعفاء الذين اشتغلوا بجمع تفاسير السلف أبو صالح والكلبي ، والناس يسمون سلسلتهما سلسة الكذب ، فكلاهما وضاع ، وأكثر تفسيرهما مروي عن ابن عباس، يروون كثيرا من التفاسير عن ابن عباس ، وقد جمعها محمد بن يعقوب الفيروزبادي في كتابه المقباس في تفسير ابن عباس ـ تنوير المقباس ـ ويسمى المقباس في الأصل، ومع ذلك فكثير مما فيها من الموضوعات والضعاف ، وعموما أشهر تفاسير هؤلاء وأنفعها تفسير ابن جرير الطبري ، ولذلك قال فيه ابن تيمية وغيره المفسرون عيال على محمد بن جرير.
المقدمة الثالثة من مقدمات علم التفسير هي موضوعه، وموضوع كل فن ما يبحث فيه أي في ذلك الفن عن عوارضه أي عوارض الموضوع الذاتية ، أي ما يعرض له من الأمور الراجعة إلى ذاته لا العوارض الخارجية التي تعرض عليه فموضوع علم الطب ـ مثلا ـ جسم الإنسان ، لأن هذا العلم يبحث فيه عن عوارض جسم الإنسان الذاتية التي تعرض له ، ولا يبحث فيه عن عوارض الإنسان الخارجية ـ مثلا ـ كالنسبة ، كونه ابن فلان أو كونه أبا لفلان ، فهذا لا يعني من الناحية الطبية ، اللهم إلا ما كان بالتعدي مثل عوامل الوراثة ونحو ذلك ، فمثل هذا علم التفسير موضوعه كلام الله تعالى لأنه يبحث في علم التفسير عن معاني هذا القرآن ودلالاته ، فمعانيه ما يتضمنه اللفظ بذاته منطوقا أو مفهوما ، ودلالاته ما لا يتضمنه اللفظ ولكنه يقتضيه بوجه ما سواء كان ذلك الوجه لزوما ذهنيا أو لزوما عقليا ، أو نحو ذلك ، فمن دلالاته مثلا ما فهمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قول الله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) وقوله تعالى : ( وفصاله في عامين ) ، ففهم من هذا أقل أمد الحمل ستة أشهر ، وليس هذا من تفسير كلام الله مباشرة ، ولا هو من معاني هذه الألفاظ ، لكنه من دلالاتها التي تلزم عليها عقلا ، لأن الله جعل الحمل والفصال في ثلاثين شهرا {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} ثم أفرد الفصال في عامين وعامان أربعة وعشرون شهرا ، فإذا اختزلت أربعة وعشرين من ثلاثين لم يبق غير ستة ، ومثل ذلك ما فهم الإمام مالك ـ رحمه الله ـ من قول الله تعالى : ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فهم من هذا جواز إصباح الصائم جنبا ، لأن الله أجاز مباشرتهن حتى يتبين الفجر ، وإذا كان كذلك فمعناه أنه لم يترك وقتا للغسل ، وإذا لم يبق وقت للغسل لزم عقلا أن يترتب على هذا إصباح الصائم جنبا ، فهذا النوع هو الذي يسميه الأصوليون \" دلالة الإشارة \" ومثله \" دلالة الاقتضاء \" عند الأصوليين وهي دلالة اللفظ على محذوف لا يستقيم الكلام إلا به سواء توقفت صحته عليه أو توقف صدقه عليه ، فالمحذوف الذي يتوقف عليه الصدق مثل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) فهذا يتوقف صدقه على محذوف لا يستقيم الكلام إلا به وهو \" إثم الخطئ والنسيان \" لأن الخطأ والنسيان لم يرفعا في الواقع ، أنت تنسى وتخطئ ، فالخطأ والنسيان موجودان في هذه الأمة فلا يستقيم إذن الكلام ولا يصدق إلا بذلك المحذوف معناه \" رفع لي عن أمتي إثم الخطئ والنسيان وما استكرهوا عليه \"، فالخطأ والنسيان والإكراه كلها موجودة في الأمة، والذي لا تستقيم صحة الكلام عقلا إلا به مثل قوله تعالى : ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) فإن خرق السفينة لا يخرجها عن أن تكون سفينة ، فالمقصود كل سفينة صالحة غصبا ، فخرقه للسفينة هل نقل عنها اسم السفينة ؟ ما نقل عنها اسم السفينة وهو أخبر عن أن الملك يأخذ كل سفينة ، فعلم أن المعنى \" كل سفينة صالحة \" غصبا وهذه السفينة غير صالحة فلن يأخذها الملك غصبا ، والذي تتوقف صحته عليه ذهنا أو عرفا مثل قول الله تعالى : ( فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان ) معناه \" فأرسلون فأرسلوه فقال: يوسف أيها الصديق ...\" والجملتان وهما \" فأرسلوه وجملة \" فقال \" محذوفتان لكنهما تفهمان من السياق ، ومثل ذلك قول الله تعالى في خطابه لموسى : ( أن اضرب بعصاك الحجر ) ونحوها \" فانبجست \" أو \" فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا \" فهنا \"اضرب بعصاك الحجر \" معناه فضرب \" فانفجرت أو فانبجست \" في الآيتين ، فإن الانبجاس والانفجار لم يتوقفا ولم يترتبا على الأمر ، وإنما ترتبا على الضرب المحذوف ، معناه فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، ومثل ذلك (وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) ، \" اضرب بعصاك البحر فانفلق \" هل انفلاق البحر توقف وترتب على مجرد الأمر أو ترتب على الضرب ؟ ما ترتب إلا على الضرب ، والضرب محذوف ، فأصل الكلام \" فضرب \" وهذا النوع من الدلالات هو الذي توسع فيه أصحاب التفسير الإشاري ، وربما توسع فيه أيضا المفسرون من الفقهاء ، فكثيرا ما يأخذون من بعض النصوص ما ليس من صريح معانيها ، ألا تنظرون إلى أخذ الشافعية والحنابلة من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ \" إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا \" أخذ الشافعية والحنابلة من هذا الحديث أن ما يدركه المسبوق من الصلاة هو أولها ، وأن ما يقضيه هو آخرها ، لكن هل هذا معنى الحديث ؟ لو كان هكذا لقال : \" فما أدركتم فأتموا \" وهو لم يقل \" وما أدركتم فأتموا \" إنما قال \" فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا \" لو كان ما يصليه المسبوق بعد سلام الإمام اتماما لما سبق بدلالة الحديث لقال : \" فما فاتكم فصلوا وما أدركتم فأتموا \" أو قال : \" فما أدركتم فأتموا فقط \" ، لأنك تتممه بما بعده ، فهذا النوع من الدلالات ليس من معاني النص لا من منطوقه ولا من مفهومه ، وإنما هو توسع في دلالته ، وقد توسع الفقهاء في هذا كثيرا ، وبالأخص فيما يتعلق بدلالات العموم ، والمخصصات المنفصلة وغير ذلك ، وكذلك توسع النحويون ـ المفسرون من أهل النحو، المشتغلون به كأبي حيان والسمين الحلبي وأبي السعود وسليمان الجمل وأبي البقاء العكبري وغير هؤلاء ـ في الدلالات النحوية ، وما يتعلق بها توسعا زائدا ، وسبب ذلك أن هذه المصطلحات التي هي مصطلحات العلوم ترسخت في أذهان الدارسين حتى ظنوا أنها مثل دلالات اللغة الأصلية قبل نزول القرآن ، والفرق شاسع بين الأمرين ، فالفرق بين الوجوب والندب والتحريم والكراهة في الاصطلاح والفرق بينها في اللغة متباين ، ولهذا فحملنا لنص من النصوص على هذه المصطلحات إنما هو تقييد للنص بما هو أخص من دلالته ، نعم لا شك أن هذه المصطلحات العلمية لا تنافي دلالات النصوص في الواقع ، لكن حملها عليها فيه تجوز ، ولهذا فإن المذاهب الأربعة متفقة على أن معنى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ \" غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم \" أن معنى ذلك الطلب \"أنه يطلب من كل محتلم \" وليس معناه الوجوب الاصطلاحي ، واختلفوا في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إجابته للرجل الذي سأله أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : \" نعم \" ما معنى ذلك ؟ هل يقتضي وجوب الوضوء من لحوم الإبل وأن أكلها ناقض للوضوء ، أو لا يقتضي ذلك ، وما معنى الوضوء هنا ؟ هل هو الوضوء اللغوي ؟ أو الوضوء الاصطلاحي ؟ هذا راجع إلى التوسع في دلالات النصوص الشرعية ، ولذلك تجدون الخلاف عند المفسرين في دلالات حروف الجر في مثل قوله ( فامسحوا برؤوسكم ) هل \" الباء \" للإلصاق أو للتبعيض ، ومثل ذلك قوله ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) أيضا هل الشطر بمعنى \" النصف \" أو بمعنى \" الجهة \" ونحو هذا من الأمور التي هي راجعة إلى الدلالات اللغوية، فهذا هو موضوع علم التفسير.

المقدمة الرابعة : نسبته إلى غيره من العلوم ، ونسبة علم التفسير إلى غيره من العلوم هي نسبة العموم والخصوص الوجهي لاشتراكه مع كل من العلوم الشرعية واللغوية في جانب مما يدرس فيه ، ولاختصاصه هو ببعض الجوانب التي لا تدرس في غيره من العلوم ، ولاختصاص تلك العلوم أيضا بجوانب لا تدرس في علم التفسير ، فمثلا شرح الحديث ، هذا يشترك مع التفسير في كثير من العلوم الموجودة في الحديث وفي القرآن ، لأن الحديث في أكثره بيان للقرآن ، لكن ينفرد شرح الحديث بكثير من الأمور التي ليست في القرآن ، وينفرد التفسير بكثير من الأمور التي ليست في شرح الحديث ، ومثل ذلك في علم النحو مثلا كثير من الأبحاث التي يدرسها النحويون في كتبهم المتخصصة موجودة لدى المفسرين ، ولكن كثيرا أيضا مما يعرج عليه النحويون لا يوجد له ذكر في كتب التفسير لأنه إما لغات ضعيفة أو تأويلات أو أمور شاذة ليست في القرآن أصلا مثل لغة \" أكلوني البراغيث \" ومثل الحروف الفرعية، ومثل نصب الفاعل ومثل جر المبتدأ بالباء الزائدة ونحو هذا، هذه مباحث يدرسها النحويون ولا يدرسها المفسرون إلا من توسع منهم وتطفل ـ مثلا ـ الذين يتكلمون عن جر الفاعل بالباء الزائدة وهو موجود في القرآن كثير فيه يتوسعون في بعض الأحيان فيذكرون مواضع زيادة الباء كأبي حيان أو الذين يفسرون البسملة والباء التي فيها يترددون في دلالتها هل هي للاستعانة أو للتسبب أو للاستعلاء أو للإلصاق ، أربعة معان ممكنة فيها يبحثون هنا في معاني الباء كلها توسعا ، كذلك ينفرد التفسير بكثير من الأمور التي لا دخل لأهل النحو فيها ولا يدرسونها أصلا فهي دلالات القرآن في الأحكام في التشريع في الأخلاق في التوحيد وغير ذلك فإذن كل علم من العلوم بينه وبين علم التفسير نسبة العموم والخصوص الوجهي ، وفائدة ذكر النسبة هي مقدمة من المقدمات أن يعرف الإنسان ارتباط هذا العلم بغيره حتى لو أراد دراسة علم التفسير ـ مثلا من بين العلوم ـ عليه أن يعلم أن كثيرا مما فيه مما يشكل عليه سيجده مشروحا مستوفى في العلوم الأخرى ، إذا وجدت في التفسير استشكالا فلم تجده في كتب المفسرين فاعلم أن ذلك لا ينفي وجوده بل ارجع إليه في مظانه من الكتب الأخرى ، ومن هنا ستكون الكتب كلها لديك تفسيرا ، فإن استشكلت دلالة لغوية سترجع إلى القاموس و اللسان وإن استشكلت وجها إعرابيا أو فهما من لفظ سترجع له إلى كتب النحو ، وإن استشكلت وجها صرفيا سترجع إلى كتب التصريف وهكذا ، ترجع إلى كتب الأصول في هذه الدلالات ، والذي يحقق مخطوطة في التفسير أو يؤلف تفسيرا لا بد أن يعلم أن مراجعه ليست محصورة على كتب التفسير بل سيحتاج إلى الرجوع إلى كتب هذه العلوم الأخرى وهي مما يعينه على فهم كلام المفسرين ويعينه كذلك على الازدياد في التفهم كما ذكرنا من قبل أنه مخاطب بالتعرض للنفحات الربانية لعل الله يفتح له مما لم يتعلمه غيره.

المقدمة الخامسة هي مستمد علم التفسير ، ومستمد علم التفسير مختلف باختلاف مدارسه ، فقديما مستمده علم الحديث وعلوم اللغة ، ثم أضيف إلى ذلك العلوم العقلية لدى المتأخرين ، ومستمده أي العلم الذي يستمد منه المفسرون ويجعلونه مادة لهذا العلم، فالعلوم كلها تتقارب فيما بينها، فالتفسير كان في الأصل بابا من أبواب الحديث ـ كما ذكرنا من قبل ـ ثم فصل عنه ، فمستمده الأول علم الحديث ، ثم بعد ذلك استمد ـ أيضا ـ من اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة ثم أضيف إلى هذا كتب التاريخ والأخبار والسير ، ثم أضيف إليه ـ أيضا ـ العلوم العقلية كالمنطق ، وعلم الكلام وعلم الفلسفة ، هذه العلوم العقلية هي تقريبا ترجع إلى أربعة علوم الفلسفة والمنطق والجدل وعلم الكلام ، وهذه العلوم الأربعة إنما جعلها بعض المفسرين مستمدا له لتخصصه فيها ، كالقاضي عبد الجبار ، فإن تفسيره مستمد من علم الجدل وعلم المنطق وعلم الفلسفة وعلم الكلام ومثله الإمام الرازي فتفسيره كذلك مستمد من هذه العلوم العقلية ، ولهذا ينتقدونه فيقولون فيه كل شيء إلا التفسير ، فيه كل علم من العلوم إلا التفسير.

أما القرآن لا يقال هو مستمد لعلم التفسير إلا لبعض التفاسير النادرة التي تفسر بعض القرآن ببعض مثل : أضواء البيان ونحو ذلك لكن المقصود بمستمد علم التفسير أي الذي يرجع إليه المفسر وهو يفسر آية أو يشرحها ، فإذا عددت القرآن من مستمده ستعد ـ أيضا ـ تفاسير السابقين من مستمده ، ونحن نقصد الجنس ، ولا نقصد تفسيرا بعينه.

وفائدة هذه المقدمة وهي المستمد كذلك التوفيق والرجوع إلى المنابع الأصلية والعناية بذلك ، ولهذا فإن ابن كثير ـ رحمه الله ـ رجع إلى المنابع والمراجع الأصلية في علم الحديث فأصل كتابه بالمستمد الأصلي.

المقدمة السادسة : \" فضله \" وفضل كل علم إنما هو بحسب فائدته وفائدة علم التفسير ستأتينا قريبا ، لكن لا شك أنه من أفضل العلوم وأحسنها ولهذا فإن عادة أهل العلم في الطلب ألا يدرسوا التفسير إلا بعد أن يتوسعوا في العلوم الأخرى فهو من علوم الغايات والنهايات ، والمبتدئون لا طمع لهم فيه عادة ، وإنما يختص بالذين درسوا وأصلوا أنفسهم تأصيلا لا بأس به في العلوم المختلفة ، وكذلك فإن عمومه للعقائد والأحكام والأخلاق وحسن الأدب مع الله سبحانه وتعالى والسلوك كل ذلك يقتضي فضله والزيادة في ترجيحه على غيره ، وهذه المقدمة فائدتها تحفيز الطلاب على الاشتغال به ، ومقدمة فضل كل علم إنما هي بتحفيز الهمم على الاشتغال به ، ولا شك أن الذين اشتغلوا بعلم التفسير من هذه الأمة قد برزوا ، وشهد لهم بالفضل وعرفوا بذلك ، وتوسعت مداركهم وأفادوا كثيرا ،ويكفي لفضله إذا عرفت من هم المفسرون في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم في زمان التابعين ثم في زمان أتباع التابعين ، فتجد الأئمة في كل عصر هم الذين يشار إليهم بالبنان في علم التفسير ، وبالأخص أنه إحدى وظائف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي وظفه الله فيها بقوله : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) فمن وظائف النبي صلى الله عليه وسلم ـ الاشتغال بتفسير القرآن .

ولذلك ينبغي التعريج على علاقة السنة بالقرآن ، فالسنة علاقتها بالقرآن من أوجه ، الوجه الأول أنها تكون مفسرة له مثل تفسير النبي ـ صلى الله عليه وسلم للورود بالعبور في قول الله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) ففسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الورود بالعبور على الصراط وفسر المغضوب عليهم والضالين في قول الله تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) باليهود والنصارى فهذا النوع من السنة مفسر للقرآن.

النوع الثاني : ما هو مخصص لعمومه كقول الله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ) فقد خصص عموم الآية فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوله ، ففي فعله قطع يد السارق من الكوع ، مع أن اليد تشمل إلى المرفق وإلى المنكب ، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قطع إلا من الكوع فكان هذا تخصيصا للعموم ، وكذلك خصص لفظ السارق فلم يقطع عبيد حاطب حين سرقوا من ماله ، وورد عنه التقييد بأنه لا قطع في ثمر ولا كَثَرٍ ( والكَثَرُ جُمَارُ النخلة أو طلعها) ، ولا قطع فيما لم يبلغ ثمن المجن وكذلك في حريسة الجبل، قال من أكل بفيه غير متخذ خبنة فلا قطع عليه ، فكل هذه الأحاديث تدلنا على تخصيص إطلاق السارق ، كذلك ربما عممت السنة ما خص من القرآن وهذا الوجه الثالث ، تعميم السنة لما خص من القرآن أي زيادتها لمدلوله ، مثل إدخال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جحد الوديعة في السرقة فإن الله قال : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) والسارق والسارقة هو من أخذ المال خفية خلسة من حرزه ، وقد قطع الني صلى الله عليه وسلم ـ فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية ، وهي كانت تستعير الحلي فتجحده ، فهذا جحد للعارية والوديعة وليس سرقة بالمدلول اللغوي .

الوجه الرابع أن تكون مقيدة لمطلقه، تقيد السنة مطلق القرآن ، مثل حديث كعب ابن عجرة حين أتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعوده فرأى القمل يمشي على وجهه ، فقال ما كنت أظن أن المرض بلغ بك ما بلغ ، فأمره أن يحلق رأسه وأن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة نسيكة ، أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، فهذا تقييد لقول الله تعالى : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) فإن الله \" أطلق الفدية من صيام أو صدقة أو نسك \" وقيدها حديث كعب بن عجرة فجعل الصيام مقيدا بثلاثة أيام ، والإطعام والصدقة مقيدة بستة مساكين لكل مسكين مدان نصف صاع ، وقيد الهدي بشاة نسيكة ، وهذه الآية ـ أيضا ـ فيها دلالة إضمار كما سبق لقوله ( من كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ) معناه : فحلق ، لأنه لا تجب عليه الفدية إلا بعد الحلق قطعا ، لا يستقيم شرعا إلزامه بالفدية إلا بعد الحلق ، مجرد المرض لا يلزم الفدية، الوجه الآخر : هو أن تكون مطلقة لما قيده القرآن ، يأتي التقييد في القرآن فتطلقه السنة وذلك مثل قول الله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) فقد قيد الله سبحانه وتعالى جواز القصر من الصلاة بالخوف ، لقوله \" إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا \" وأطلق ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله ، \" قصرنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه \" وفي حديث يعلى بن أمية أنه سأل عمر بن الخطاب فقال : مالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال لقد عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : \" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته \" فهذا في الواقع إطلاق لما قيده القرآن ، وهذان النوعان لا يذكرهما أهل الأصول ، وما سمعتهما لكن دارا بخاطري الآن ، وهما تعميم السنة لما خصصه القرآن ، وإطلاقها لما قيده القرآن .

القسم الآخر : إضافتها حكما ليس في القرآن فالسنة قد تضيف حكما ليس في القرآن كقول النبي صلى الله عليه : ( كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ، وكل ذي مخلب من الطير فأكله حرام ) فهذا الحكم ليس موجودا القرآن فالقرآن خص التحريم بأربعة أصناف فقط : ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ) ، هذه أربعة أنواع هي التي جاء تحريمها من المطاعم كلها ، وأضاف إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع ، ومثل ذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ \" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب \" فإن الله لم يذكر مما حرم من الرضاع إلا الأمهات والأخوات في قوله : ( أمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) وأخواتكم من الرضاعة لم يذكر العمات من الرضاعة والخالات من الرضاعة ، وإنما زيد ذلك في حديث أبي هريرة هذا ، ومثل ذلك \" نهى ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها \" فالجمع إنما قصر في القرآن على الأختين \" وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف \" فأضاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ذلك بنفس العلة الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها.

النوع الآخر أن تكون السنة ناسخة للقرآن وذلك مثل قول الله تعالى :( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) فقد نسخت الوصية للوالدين بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ \" إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث \" هذه سنة ناسخة للقرآن ، ومثل ذلك قول الله تعالى : ( اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) فقد نسخ ذلك بحديث عبادة بن الصامت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: \" خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا ، فالثيب بالثيب جلد مائة والرجم ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام \" فهذا نسخ للقرآن بالسنة.

الوجه الآخر : عكس هذا وهو نسخ السنة بالقرآن ، ومثاله : حديث أبي سعيد الخدري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث سبعة عشر شهرا من مهاجره يصلي إلى جهة بيت المقدس ، فهذا نسخ بقول الله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) فهذا القرآن ناسخ للسنة هنا.

الوجه الآخر أن يكون معارضا لها ، معناه أن يقع التعارض بين القرآن والسنة ، والمقصود بذلك التعارض غير الحقيقي ، لأنه لا يمكن أن يقع التعارض الحقيقي ، بأن يأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخلاف ما أمر الله تعالى به إلا إذا كان ذلك على وجه النسخ ، فالتعارض غير الحقيقي معناه التعارض في الدلالات أن تفهم أنت من دلالة القرآن شيئا وتفهم من دلالة السنة ما يخالفه ، وهذا كثير والمرجع فيه إلى الجمع أولا ثم إلى الترجيح بعد ذلك تحاول الجمع أولا فإذا لم يمكن ذلك عدلت إلى الترجيح.

فإذن هذه هي أوجه علاقة السنة بالقرآن.

ثم بعد هذا نصل إلى المقدمة السابعة وهي حكم هذا العلم : أما حكم تعلم علم التفسير ، فينقسم إلى قسمين :

إلى حكم تعلمه وإلى حكم كتابته والتأليف فيه .

فحكم تعلمه الوجوب الكفائي فهو فرض كفاية على الأمة يجب عليهم أن يتعلوا معاني القرآن وأن يكون فيهم من يعرف ذلك وإذا لم يوجد في قرية من قرى المسلمين أو بلد من بلدانهم من يعرف معاني القرآن ولو ليلة واحدة أو يوما واحدا فقد أثموا جميعا ، فلا بد أن يكون في كل بلد من بلدان الإسلام من يعرف معاني القرآن ويجيب عما فيه من المعاني ، والحمد لله أصبح الأمر ميسورا بهذه الكتب التي حفظت علينا هذا فما هي إلا بمثابة أشخاص ، فكتب التفسير بمثابة علماء ، كما قال الحكيم :

*لنا جلساء ما يمل حديثهم ** ألباء مأمونون غيبا ومشهدا *

*يفيدوننا من علمهم علم من مضى ** وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا *

*فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ** ولا نتقي مهم لسانا ولا يدا *

*فإن قلت أحياء فلست بكاذب ** وإن قلت أموات فلست مفندا *

أما التأليف فيه فهو كذلك فرض عين على من تأهل له إذا كان سينشر جديدا مما ليس موجودا في كتب السابقين ، أو يسهل على الناس ما يتعلق بالسابقين فالتأليف فيه لا يعدوا أن يكون مثل التأليف في غيره وهو يرجع إلى سبعة مقاصد هي مقاصد التأليف عموما التي نظمها الهلالي في قوله :

*في سبعة حصروا مقاصد العقلا ** من التآليف فاحفظها تنل أملا *

*أبدع تمام بيان لاختصارك في ** جمع ورتب وأصلح يا أخي الخللا*

*أبدع تمام بيان لاختصارك في ** جمع ورتب وأصلح يا أخي الخللا*

فقوله \"أبدع\" هذا هو المقصد الأول من مقاصد التأليف أن يأتي الإنسان بجديد لم يسبق إليه، والجديد نسبي لأنه بالإمكان أن يكون قد تعرض له شخص في موضع من المواضع أو تكلم عليه في مكان ما ، لكن فتح أمامك أنت ذلك بابا واسعا ، أو أعطاك خيوطا يمكن أن تصل بها إلى غير هذا فالإبداع نسبي دائما ، ولهذا تجدون كثيرا من أهل العلم يقولون فيما من الله عليهم به من الفتوحات الربانية، يقولون ولم أسبق إلى مثل هذا ، يقول بن العربي ـ رحمه الله ـ عندما يورد مسألة من المسائل الفقهية النادرة أو الأصولية ، يقول: قلت وهذا علم ما شم المالكية رائحته، ولا تجاوز بلخ وخراسان لأنه من علوم المشارقة ما وصل إلى المغرب نهائيا ، هو أول من أوصله ، يقول ما شم أصحابنا رائحة هذه المسألة قبلي ، لم تتعد بلخ وخراسان ، أي أنها سبق إليها في مكان من الأماكن دون غيره ، ولذلك فإن صاحب القاموس عندما ألف قاموسه هو في الواقع فيه إبداع ، أنه أتى بالجديد من ناحية الترتيب والتأليف والتنسيق وغير ذلك ، وقال الفيروزابادي في مقدمته للقاموس : \" لولا ما يمكن أن ينتقد لتمثلت بقول أديب معرة النعمان أحمد بن سليمان :

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائل

فأعدل عن ذلك وأتمثل بقول حبيب بن أوس الطائي أبو تمام : \" كم ترك الأول للآخر \" هذا فيما يتعلق بالإبداع .

ثم بعد هذا \"تمام\" يشير بها إلى إتمام ما سبق، فكثير من المباحث يبدأها إنسان على حسب مستواه ووقته وتبقى محتاجة إلى التتميم ، فيأتي من بعده لا يريد إبداعا ولكن يريد التتميم ، والمفسرون الذين تمموا ذوو عدد ، فقد ذكرنا أن أحد تلامذة الرازي كمل تفسيره ، فقد بلغ الرازي في التفسير قول الله تعالى : (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) ومات عند تفسير هذا المقطع ،فكمل أحد تلامذته تفسيره على نفس أسلوبه ومنهجه وما شرطه في كتابه ، ومثل ذلك ذكرنا عن السيوطي ـ رحمه الله ـ تتميمه لتفسير الجلال المحلي، ويحكى هذا عن عدد من الذين أكملوا تفاسير السابقين ، لكن أبدع من أكمل الذي أكمل تفسير الرازي والسيوطي الذي أكمل تفسير الجلال المحلي ، فإكمالهما جاء على نفس شرط المؤلف ولو كان المؤلف حيا ما فعل إلا هذا ، كما قال أبو العلاء المودودي عندما عرض عليه سيد قطب ـ رحمه الله ـ بعض كتبه (خصائص التصور الإسلامي) قال هذا الكتاب لو لم يقع في يدي مطبوعا مكتوبا لقلت هو من إنتاج قلمي ، يوافق على كل ما فيه ، فأسلوبه أسلوبه وأفكاره أفكاره ، فجعله صورة لما في خاطره كأنه موافق لفكره ولكل ما فيه مضمونا وألفاظا وتعبيرا.

ثم بعد هذا الثالث ، التفسير والشرح المذكور في قوله \"بيان\" والذين اشتغلوا بتبيين أقوال من سلفهم هم المُحَشُون وهم كثر فمثلا على تفسير الزمخشري الكشاف حاشية الشيخ أحمد التي بين فيها ما وقع فيه من الأخطاء تبعا لمذهب المعتزلة ، ومثل ذلك الحواشي على تفسير البيضاوي ، ومثل ذلك حاشية سليمان الجمل على تفسير الجلالين السيوطي والمحلي ، ومثل ذلك حاشية الصاوي ـ أيضا ـ على تفسير الجلالين ، فكثير من كتب التفسير عليها حواش، هذه الحواشي إما أن تكون بيانا لبعض ما أجمل فيها أو ما استشكل أو ردا على بعض الأخطاء التي فيها وتقويما للكتاب .

بعد هذا الاختصار، ويشار إليه بقوله \"لاختصارك\" فكثير من المطولات تعيى دونها همم قاصري الهمم ، فيحتاج إلى تلخيصها واختصارها ، ومن أعمال المعاصرين في مجال الاختصار لكتب التفسير مختصرات الشيخ محمد علي الصابوني لكثير من كتب الماضين ، فقد اختصر تفسير الطبري وتفسير بن كثير وتفسير الألوسي وعددا ممن التفاسير ، لخصها في كتب مستقلة ثم جمع زبدتها في كتابه صفوة التفاسير، وكذلك سبقه الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ فقد ذكرنا أن تفسيره فتح القدير إنما هو تلخيص لكتاب السيوطي وكتاب القرطبي جمع بين التفسيرين باختصار، ومثله ما فعل صاحب النهر الماد من البحر فقد لخص الأمور المهمة من كتاب أبي حيان، بل إن بعض المفسرين يضع تفسيرا كبيرا ثم يختصره بتفسير دونه فمنهم من له تفسير كبير وتفسير صغير، لا يوجد تفسيران مطبوعان لأحد حسب علمي إلا السيوطي فله تفسير كبير هو الدر المنثور وله تفسير صغير هو التحبير، والواحدي (النيسابوري) كذلك له التفسير الكبير والصغير.

\"في جمع\" هذا الجمع بين ما تفرق في كتب أو علوم شتى ، وهو مقصد من مقاصد العقلاء في التأليف ، والذين جمعوا من المفسرين ذوو عدد كالخازن وغيره من الذين جمعوا فقط، فالسيوطي مثلا في الدر المنثور ما ظهرت له شخصية لأنه يجمع فقط ولا يحكم، فالجمع إذن مقصد مهم لذاته لأنه يغنيك عن الرجوع إلى عدد كبير من المراجع، بل بعضها مفقود وبعضها لا تصل إليه إلا بشق الأنفس ، ولهذا قال بن الجوزي في مقدمة كتابه إنه ألفه لولده ليغنيه عن شراء الكتب الطائلة الأثمان ، وعن إفساد وقته كذلك في دراسة ما لا يسمن ولا يغني من جوع ، فلخص له جملة ذلك في تفسيره.

كذلك قوله \"ورتب\" ترتيب ما تفرق مقصد مهم ـ كذلك ـ من مقاصد العقلاء في التفسير لأن كثيرا من العلوم تنتشر عباراتها فيشق استحضارها واستذكارها في الذهن لانتشار العبارات ، فلو وضعت في نقاط مرقمة أو مرتبة لكان ذلك أسهل لحفظها وأيسر لها.

أخيرا الإصلاح وهو قوله : \"وأصلح يا أخي الخللا\" إصلاح خلل وقع فيه السابقون ، وهذا ما ذكر عدد من المفسرين أنه قصده كالقرطبي ذكر أنه قصد التخلص من الإسرائيليات ، وإن كان قد نقل قليلا منها، لكن يمكن أن يكون هذا الشرط تجدد في ذهنه، وأن تكون المواضع التي ساق فيها بعض الاسرائيليات ألفها قبل أن يحضر في ذهنه هذا الشرط ، لأن كثيرا من المفسرين لا يبدءون التأليف من بداية القرآن ، كما يعرض أن يفسروا من مكان معين ثم يكملون ، وقد تتجدد بعد هذا بعض المقاصد منها مثلا نظم المنثور ، ومنها قنص الشوارد جمع الشوارد النادرة ، وكذلك الضبط والشكل لتصحيح الألفاظ فهذه من مقاصد العقلاء في التأليف أيضا وما ذكرها بن هلال وقد ذكرها شيخي محمد عالي ـ رحمه الله ـ في قصيدته التي يقرظ بها شرح تلميذه محمد بن أبي مدين لألفية العراقي في المصطلح ، يقول في هذه القصيدة :

*يحد ذوو التأليف مقصوده حدا **بسبعة أقسام يعدونها عدا*

وإني أرى الشيخ الإمام محمدا**يزيد كثيرا لن يطيقوا له جحدا*

*كضبط لما عروا وإيضاح مشكل**ونظم لمنثور وتقييد ما ندا *

فيبديه درا في الطروس منظما**وينظمه عقدا ويحكمه عقدا *

*وذلك أن الشيخ أطولهم يدا **وأرواهم أذنا وأوراهم زندا *

*وأسعدهم سعدا وأوعاهم حجا**وأرحبهم باعا وأسماهم جدا*

*وأمرعهم غيثا من الغوث نيله** فلا يلهك السعدان عنه ولا صدا*

*فلا زال محسودا بنصر مؤيدا** ولا زال لسن الناس تحمده حمدا*

إذن هذه هي المقاصد التي يقصدونها في التأليف ، بالنسبة لمحمد بن أبي مدين ـ رحمة الله عليه ـ هو محمد بن أبي مدين بن الشيخ أحمد بن سليمان الديماني، يرجع نسبه إلى أبي بكر الصديق من جهة أبيه ، ومن جهة أمه فأمه فاطمة ابنة الشيخ باب بن الشيخ سيديا مجدد العلم في قطر شنقيط ، وقد اعتني به من صغره فتربى تربية من نوع خاص، ودرس كثيرا من العلوم ومهر فيها وبالأخص في علم العلل والرجال ومتون الحديث وكان ذا حافظة قوية، واشتهر بذلك من بين أقرانه، وبحدته وشدته في المناظرة حتى كان الناس يلقبونه بابن تيمية وانتشر هذا اللقب عنه، وهو من علماء أهل الحديث بمعنى السلفيين في البلاد، في بلاد شنقيط، وقد توفي ـ رحمه الله ـ عن اثنتين وثمانين سنة، عام 1397هـ تقريبا، وقد درس مختلف العلوم على كثير من الجلة العلماء الكبار، ومنهم شيخي محمد عال ولد عبد الودود، وجده هو الشيخ باب بن الشيخ سيديا، وأبوه أبو مدين الغوث بن الشيخ أحمدو، وعدد من العلماء، ترك كثيرا من المؤلفات لم يطبع منها إلا كتب يسيرة منها : كتاب الصوارم والأسنة في الذب عن حوزة السنة، وطبعته فيها بعض الأخطاء، لكنه مفيد جدا، وكذلك كتاب آخر في أحكام الرضاع وما ينشر الحرمة منه وما لا ينشرها وهو ـ رحمه الله ـ كان يميل إلى الاجتهاد المطلق، لم يكن مقلدا لمذهب من المذاهب على حال أهل الحديث، ولذلك كثيرا ما يخالف بعض علماء قطره ويقع بينهم ردود وكتابات في هذا الشأن ، ومن أهم مؤلفاته شرحه على ألفية العراقي في المصطلح ، فقد جمع فيه كل ما وصلت إليه يده من كلام أهل المصطلح ، ويثبت كلام المؤلفين من كتبهم ينقله باللفظ ، فلذلك يعتبر شرحه من أحسن شروح الألفية وأوسعها، وهو غير مطبوع لكنه مصور في مجلدين ، وله كتب أخرى مثل أرجوزة له في التقيد بالسنة وعدم التقليد ، وأرجوزة كذلك طويلة في أخلاق العلماء وطلاب العلم ، له مؤلفات كثيرة ، ويرثيه الشيخ محمد سالم ـ حفظه الله ـ عند موته بقصيدة يقول فيها :

*إن وجدي بخاتم الحفاظ **ضاق عنه مجامع الألفاظ*

*لست أنسى مواقف الجد منه ** حين يدعو الإسلام أهل الحفاظ*

*ينصر الحق في حشود عظام ** كخطيب مفوه في عكاظ*

*يؤثر اللين ما استقام له الليــــن فإن حال مال للإغلاظ*

*ذو وفاء وذو إباء وذو **علم وذو فطنة وذو استيقاظ*

*وسخاء بالمال والعلم والجاه ** وصفح عن زلة الإحفاظ *

*وشطاط إذا يقوم خطيبا ** يتحدى طوامح الألحاظ*

*ووقار وحكمة واحتقــــار لغرور المستكبر الجواظ*

*نال من باب جده وأبي** مدين حظا أناف فوق الأحاظي*

*ومن الخال جد أبناءه الغــــر الميامين سر الاستحفاظ*

*شحذوا منه في مكافحة البـــدعة عضبا على الرقاب الغلاظ *

إلى آخر القصيدة، ومراثيه كثيرة، وقد مات من غير مرض، ومن غير ضعف أيضا، بل كان في قوته وشدته ، ما أعرف محفوظاته بالضبط لكنني أذكره وأنا صغير يحدث في المجالس الطويلة ، يجلس ويحدث من حفظه بالمتون والأسانيد مثلا ساعات متوالية دون تلكأ ودون تغيير ، وقد اشتغل بالحديث واشتهر به حتى قال فيه الشيخ محمد سالم في أبيات يقول فيها ، في ذكر آبائه وأجداده :

*ففاقوا في القديم معاصريهم **وفقت رجال عصرك في الحديث*

وقد ذكر عدد من المفسرين عند قول الله تعالى : (وما يعلم تأويله إلا الله) خلافا في التفسير هل المقصود بذلك ما يرجع إليه ما في القرآن من الغيبيات ، مثلا إذا جاء خبر بأن شيئا سيقع فهيئة وقوعه وزمان ذلك ومكانه ، هذا هو تأويله ولا يعلمه إلا الله ، أو أن معنى (وما يعلم تأويله إلا الله) أي صرف المتشابه منه عن ظاهره لأن متشابه القرآن يزول التشابه عنه بالتدريج ، فيحال علم ذلك إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقد كنت قديما في أيام الصبا حصل لدي التباس في مفهوم التأويل والتفسير ، عند أول الاشتغال بدراسة علم التفسير فخاطبت الشيخ ببيتين في السؤال عن هذا ، قلت فيهما :

*أريد فرقا دقيقا بين أَوَلَهُ **وبين فسره بالشرح للجمل*

*وهل سواء هما في قول خالقنا**تأويله وكما هو ظاهر الجَمَل*

أي ظاهر ما نقله الجمل في حاشيته، فقال الشيخ :

الأول كالعود في معنى وفي زنة ** والفعل كالفعل في وزن وفي عمل*

*وعد بالضعف والتأويل مصدره ** أي رد لفظ لمعنى فيه محتمل *

*والفسر كشف المغطى والإبانة كالتفسير فافهم فجل الفهم في المقل *

*وقد يراد بذا هذا فيحسبه ** من ليس يعرف ردفا فاغن عن جدل*

أبيات هكذا ، ما أحفظها لطول العهد بها ، لكن فيها بيان للفرق بين التأويل والتفسير على هذا الوجه.

أما المقدمة التاسعة فهي عن فائدته ، وفائدة علم التفسير هي فائدة العلم كله ، لأن العلم فائدته الحقيقية هي العمل ، فليس العلم مقصودا لذاته إنما يقصد للعمل به ، ولهذا جاء في الأثر إن العلم ينادي بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ، شيخي ـ رحمه الله ـ يقول :

*العلم من دون العبادة هبا**لا يستقر فحر أن يذهبا*

*والعلم في التمثيل مثل الشجره**أما العبادة فمثل الثمره*

*ففضله من جهة وفضلها** من جهة ثمرة وأصلها*

ففائدة العلم العمل ، وهو مرتب عليه ولذلك قال البخاري ـ رحمه الله ـ في الصحيح : \"باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) ، فعلم التفسير فائدته العمل المقتضي للإيمان والعمل بآيات الأحكام، فيحكم الإنسان محكم القرآن ، ويؤمن بمتشابهه ، ويستمد منه أسلوب حياته كلها ، فإنما يستمد ذلك من القرآن فهو دستور المسلمين وهو أحدث الكتب بالله عهدا كما قال ابن عباس ، ولذلك هو مائدة الله في الأرض ، لا يشبع منه العلماء ، ولا تفنى عجائبه ، وهو حبل الله المتين من تمسك به عصم ومن تركه من جبار قصم الله ظهره ، وفيه خبرنا وخبر من قبلنا ، وخبر ما يأتي بعدنا ، والناس محتاجون إلى التنوير في مثل هذا ، ولا يمكن أن يعرف هذا إلا من خلال التفسير ، فهذه إذن فائدة التفسير وأهميته، وقد قال المقري ـ رحمه الله ـ :

*وكل علم للمزية اكتسب**فالفضل من معلومه له انتسب*

فإنما يأتي من فائدته ومعلومه، بهذا يعلم أهمية علم التفسير، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أن قوما يأتون يقرءون القرآن يحفظون حروفه ويضيعون حدوده ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم أو لا يتجاوز نحورهم ، فهؤلاء حفظوا الحروف وضيعوا الحدود ، وقد بين كذلك أن زمانه هو ، أن الناس في زمانه ، في زمان كثير علماؤه ، قليل قراؤه، كثير من يسأل، قليل من يجيب، وسيأتي على الناس زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه العلماء، فكل هذا يدلنا على أهمية التدبر في كتاب الله، وبالأخص أن التفسير لا يمكن أن يمتثل الإنسان ما أمره الله به من تدبر القرآن إلا بواسطته، فالله تعالى يقول: (ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)، ويقول: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، فقد حض على التدبر فيه ولا يمكن أن يتم هذا إلا من خلال التفسير، فهذه إذن فائدة هذا العلم.

أما المقدمة العاشرة والأخيرة فهي مسائله وأصل ذلك التبويب ، أي تبويبه ، والعادة أن هذه المقدمة إنما يحتاج إليها في العلوم التي لا تتقيد بشرح متن ، فالعلوم التي تتقيد بشرح متن معين تبويبها هو تبويب ذلك المتن الذي تتعلق به ، فمثلا لو بحثت عن المسائل في النحو تقول أولا التمييز بين الكلمات من الاسم الفعل والحرف ، ثم بعد ذلك الإعراب ، ثم أوجه الإعراب وعلاماته ، ثم بعد ذلك تركيب الجمل التفريق بين المعرفة والنكرة ، أنواع المعارف ، ثم تركيب الجمل ، ثم ما يعرض لها من النسخ ثم بعد ذلك الجملة الفعلية ، الفاعل والنائب عن الفاعل ، الاشتغال التنازع ، ثم بعد ذلك الفضلات الثمانية ، ثم بعد ذلك المجرورات ، تبدأ بالمجرور بالحرف ، ثم المجرور بالإضافة ، ثم إعمال المصدر ، ثم إعمال اسم المصدر ، ثم إعمال الأوصاف ، وأنواع الأوصاف ، ثم بعد هذا التكميل للتعجب بما يشبهه وهو نعم وبئس ، ثم بعد هذا التوابع ، ثم بعد ذلك مكمل الفضلات وهو المنادى وما يلتحق به ، ثم بعد ذلك ما يتعلق بإعراب الفعل، والجوازم والنواصب، وأدوات الشرط غير الجازمة، ثم بعد هذا ما يكمل الكلام من الحكاية والعدد ونصبه للتمييز أو جره له ، ثم بعد هذا المباحث الصرفية التي تبدأ بما ينصرف وما لا ينصرف ، ثم الجموع ، جموع التكسير ثم النسب والوقف والإمالة ، والتصريف والإدغام، ومخارج الحروف، فهذه هي مسائل النحو التي تدرس فيه ، وهذه تختلف الكتب في التقديم والتأخير بينها لكن هذا الذي ذكرناه الآن هو فلسفة النحو التي سار عليها جمهور المؤلفين من النحويين مثلا بعد ابن مالك ، في عصر ابن مالك ومن دونه ، أما في التفسير فلا يمكن أن نضع هذا ، لا يمكن أن نضع له هذا التقسيم ، لكن نقول إن المعاني التي عليها مدار القرآن أساسا هي :

أركان التشريع ، أولا : العقائد وما يتعلق بالتوحيد ، ثانيا : التشريع وما يتعلق بالأحكام ، ثالثا : الأخلاق ، رابعا : القصص والوعظ ، خامسا : أشراط الساعة ومشاهد القيامة وما يتعلق بذلك، سادسا : ما ينظم حياة الناس من العلوم التي هي محل للاكتشافات الجديدة ونحو هذا، وهذا منه ما يتعلق بالطبائع، ومنه ما يتعلق باللغات ، ومنه ما يتعلق بالأحياء، وغير ذلك مما يشمله القرآن، فهذه الستة متناسبة مع عد الآي، فآي القرآن ستة آلاف وزيادة قليلة مختلف فيها، لكن ستة آلاف هي الأصل، والزيادة قد أشرنا إليها من قبل عند اختلاف العد فيها، فكل ألف تناسب معنى من هذه المعاني الست التي ذكرناها ، ويمكن أن نرتب المسائل ترتيبا آخر فنقول إن علم التفسير ينقسم إلى مقدمات وأصل ، فالمقدمات هي ما يضعه المفسر بين يدي اشتغاله بالعلم ، وهي تنقسم إلى قسمين مقدمة كتاب ومقدمة علم ، فمقدمة الكتاب التي يذكر فيها المؤلف شروطه في الكتاب ومنهجه فيه وسبب تأليفه له ، ومقدمة العلم هي ما يتعلق بمصطلحات التفسير عموما ، مثل أن يتكلم عن الحروف السبعة والخلاف فيها ، يتكلم في ما يتعلق بترجمة القرآن ، يتكلم في القول في القرآن بالرأي ، في تفسير القرآن بالأثر ، ونحو هذا فهذه هي المقدمات، ثم بعد ذلك الأصل، والأصل هو تفسير كل سورة من القرآن على حدة وكل سورة من القرآن ينبغي أن يبدأ تفسيرها بالربط بينها وبين سابقتها ببيان وجه المناسبة في الترتيب ، ثم ببيان هل هي مكية أو مدنية وتاريخ نزولها ، ثم يعد ذلك ببيان تناسب آياتها ومقاطعها ، وإذا استطاع الإنسان أن يبرز محور السورة والمعنى الأهم فيها مثل ما فعل سيد قطب ـ رحمه الله ـ فهذا مهم أيضا ، ومن السور ما يكون طويلا يتناول محاور كثيرة كسورة البقرة وسورة النساء مثلا وسورة المائدة فهذه لها محاور كثيرة تشريعية وأخلاقية وردود ومجادلات لطوائف مختلفة ، فيبين الإنسان هذه المحاور ويذكر الارتباط والمناسبة بين المقاطع ، ويذكر كذلك سبب النزول إن كان للسورة سبب نزول واحد فليذكره في المقدمة ، وإن كان لكل مقطع منها سبب نزول مستقل يبين ذلك عند ذلك المقطع بخصوصه فيجعل كل مقطع بمثابة سورة كاملة ، وفي الأخير بعد أن يصل إلى النص لا بد أن يتكلم عن الألفاظ وطرق قراءتها ، وأن يبين الأوجه المتواترة في القراءة ، ثم بعد ذلك ينسب هذه القراءات إلى القراء الذين اشتهرت قراءتهم لها، ويبين أوجه الاختلاف بينها هل هو مؤثر في المعنى أو غير مؤثر ، وهل بعضها مفسر لبعض ، ثم أوجه الإعراب في الآية كلها ، وهذا ينبغي التركيز فيه على الكلمات التي تختلف الدلالة باختلاف أوجه الإعراب فيها ، أما ما يتعلق برفع الفاعل ونصب المفعول هذه أمور معهودة معروفة لدى الناس لا ينبغي للمفسر أن تأخذ جزءا كبيرا من وقته واهتمامه ، لكن ما يتعلق بالجار والمجرور ومتعلقه المحذوف ونحوه فهذا من الأمور التي يركز عليها في التفسير لأن بها فهم النص ، ثم بعد هذا التحليل البنيوي للألفاظ يأخذ قطعة مثلا آية أو آيات ـ مقطع ـ فيحلله تحليلا بنيويا فمع كل كلمة يذكر ما يناسبها من ذلك التحليل ، كل جملة يبين متعلقات الفعل أين المبتدأ الخبر ما يتعلق بتركيبهما ، لما ذا اختير هذا اللفظ بالخصوص لهذا الموضع ، ما هي الألفاظ التي كانت محتملة لأن توضع في هذا المكان واختيرت هذه الألفاظ عنها ، وجه الإعجاز في ذلك ، وجه البلاغة فيه ، والتركيز على الجانب البلاغي والإعجاز التشريعي أمر مهم جدا ، وكذلك التركيز على الجوانب العلمية إن كان الإنسان أهلا لهذا كثل ما يتعلق بالعظمة ـ عظمة الله ـ من خلال عظمة الكون وعظمة إتقان الصنعة ، وما تشير إليه الآيات الكثيرة في هذا الباب ، ثم بعد هذا ما يستنبط من المقطع، وليجعل ذلك آخرا، وينبغي أن لا يمزجه بتفسير الكلمات والتحليل البنيوي لها بل يتوصل إليه في النهاية، والاستنباطات ينبغي أن يدرج فيها ما يؤخذ منها من الفقه والأصول والدلالات المختلفة فيجعلها في الآخر ، وينبغي له ألا يميل مع المذهب الفقهي لأن ذلك يقتضي منه تعصبا ويقتضي منه أن يحصر معنى الآية فيما ذكر ، ولهذا فإن السيوطي ـ رحمه الله ـ كان موفقا في كتابه الإكليل في استنباطات التنزيل حين لم ينسب مذهبا من المذاهب إلى القائل به ، يأتي بالآية يقول قول الله كذا فيه كذا وفيه كذا وفيه كذا ، أي أخذ منه كذا وكذا ، سواء كان ذلك الأخذ صحيحا أو ضعيفا أنا لا يعنيني هذا ، أنا أبين لك وجه الاستنباط كيف استنبط العلماء من هذه الآية وما استنبطوا منها ، ولذلك بالإمكان أن أتكلم في نفس الآية في موضع استنبط منه العلماء حكما وفي الموضع الذي يليه استنبطوا حكما مخالفا للسابق ، وحينئذ أبحث عن أوجه الجمع أو أجه التفريق ، ثم بعد هذا الأحسن للمفسر أن يضع في نهاية كل مقطع ما يؤدي إلى الربط الذهني سواء كان بأسئلة محددة عما سبق تبين مدى استيعاب الناس له يضعها في آخر كل مقطع ، أو بالتخلص للوصول للموضوع الذي يليه ، وهذا الذي سار عليه جمهور المفسرين ، يأتون في آخر الكلام بما يربطه بالموضوع الذي يليه ، وأهل البلاغة يقسمون السورة في الأصل إلى ثلاثة أقسام ، القسم الأول المقدمة ، والقسم الأوسط الصلب ، والقسم الآخر الخاتمة ، يقول السيوطي ـ رحمه الله ـ في عقود الجمان

*ويطلب التأنيق في ابتداء **وفي تخلص وفي انتهاء *

* وسور القرآن في ابتدائها**وفي خلوصها وفي انتهائها*

*واردة أكمل وجه وأجل ** وكيف لا وهو كلام الله جل *

*ومن لها أمعن بالتأمل ** بان له كل خفي وجلي *

وقد ختم هو كتابه بهذه الخاتمة الجميلة.

بهذا نكون قد أتينا على المقدمات العشر في علم التفسير ، ونصل هنا إلى أمر مهم وهو أن الدارس لعلم التفسير غير المفسر ، فالمفسر هو الذي شغلنا وأخذ جمهور وقتنا ، أما الدارس فهو الطالب ، والطالب لا بد أن يعرف قدره وأن يجلس دونه ، رحم الله امرءا عرف قدره وجلس دونه ، ومن هنا فعليه ألا يتجاوز طوره وألا يتعداه ، فكيف يتم ذلك؟ إنما يتم بالانتخاب والاختيار، أن يختار المناسب له وهذا الاختيار في العادة لا يكون إلى الطالب وإنما يكون لشيخه ، الشيخ الذي يدرس التفسير في المسجد لا بد أن يختار لأهل المسجد الكتاب الذي يعرف أنه مناسب لمستواهم ولوقتهم، ولا يجبرهم على كتاب ليس على مستواهم أصلا ويوقعهم في إشكالات وحرج كبير ، ومن هنا فالعادة أن طلاب العلم على ثلاثة مستويات ، فالمستوى الأول المبتدئون وهؤلاء ينبغي أن يأخذوا من التفاسير ما سهل وخف مثل تفسير الجلالين وتفسير السعدي وتفسير ابن جزي وتفسير النسفي ، فهذه التفاسير المختصرة السهلة وهي متكاملة فيما بينها، فمثلا المقدمات أحسن شيء في مقدمات التفسير ما لخصه ابن جزي في مقدمة تفسيره ، وهذا يغنيهم عن الخوض في المقدمات الطويلة مثل ما ذكره ابن جرير الطبري والقرطبي في تفسيريهما ، فالمقدمات التي ذكرها ابن جزي هي فوق العشرة ، ينبغي لكل مشتغل بعلم التفسير أن يثبتها في دماغه لأنها تعينه كثيرا على هذا العلم ، ومثل ذلك مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ، مقدمة في أصول التفسير ، هذه ذكر فيها بعض القواعد المهمة في التفسير يفهم بها الإنسان كثيرا من الأمور مثل قوله : إن تفسير السلف ليس تفسيرا لكامل المعنى وإنما هو تفسير جزئي ، وهذه قاعدة ركز عليها شيخ الإسلام في هذه المقدمة ، وأتى عليها بكثير من الأدلة ، قال إن تفسير السلف هو بمثابة من قال لك ما الخبز ؟ فأخذت خبزة فرفعتها وقلت هذا الخبز ، فليس معناه أنك تزعم أن ما في الدنيا من الخبز محصور فيما في يدك ، بل المعنى أنك تريد أن تفهمه ، وقد فهم هو الخبز بمجرد رؤيته ، مثل الذي لا يعرف لغة العرب فسألك ما التمر فأخذت تمرة فرفعتها ، قلت هذا التمر يفهم بهذا التمر وليس معناه أنك أنت تقصد انحصار التمر فيما رفعت ، ولذلك فقول عائشة ـ رضي الله عنهاـ في تفسير قول الله تعالى :(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) هو المؤذن ، هذا تفسير جزئي ولا تقصد به أن هذا معنى الآية مطلقا ، معناه من هؤلاء المؤذنون فهم يدعون إلى الله ويقولون أحسن القول ، وهو دعا إلى الله حين قال حي على الصلاة حي على الفلاح، وعمل صالحا حين كبر : الله أكبر الله أكبر ، وقال إنني من المسلمين حين قال : أشهد ألا إله إلا الله أشهد أن محمد رسول الله ، فالمؤذن فعلا دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، لكن لا يقتضي هذا انحصار معنى الآية في مثل هذا المثال.

المستوى الثاني هو المستوى المتوسط ، فبعد أن يقرأ الإنسان هذه الكتب المختصرة الملخصة لا بد أن يتجاوز هذا الحد ويصل إلى الحد الأوسط ، وهذا يحسن فيه تفسير الشوكاني فتح القدير وإذا جمع الإنسان معه تفسير ابن كثير ، ونحو ذلك فهذا مفيد له ولو ضم إلى ذلك أيضا تفسير البيضاوي أو أبي السعود فإن ذلك مما ينفعه كثيرا ، وهذه المرتبة يقصد بها الزيادة في الاستيعاب وفهم توجهات المفسرين ومدارسهم المختلفة ، وكذلك تحفيز الهمم للازدياد من العلم .

المرحلة الأخيرة وهي التي يكون الإنسان فيها مستعدا للتأليف في التفسير ، هذه يركز فيها الإنسان على تفسير الطبري وتفسير القرطبي ، وتفسير ابن عطية ، وتفسير أبي حيان ، فهذه الكتب الجامعة الكبرى ، وهذا المستوى الأعلى للتفسير ، وإذا كان الإنسان يريد أن يهذب لسانه وأقواله فليختر مع هذه بعض كتب المتأخرين لأسلوبهم السهل ، مثل كتاب الشيخ محمد طاهر ابن عاشور التحليل والتنوير ، فأسلوبه أسلوب عصري رصين ، وهو ميسر مسهل ، وإذا أراد كذلك أن يجعل نفسه مستوعبا للجانب الفكري في القرآن فلا غنى به عن كتاب في ظلال القرآن ليسد قطب ـ رحمه الله ـ والذي يريد أن يجعل مقدمات للسور ـ كما ذكرنا أنه ينبغي أن يكون من شأن المفسر دائما ـ لا بد أن يرجع لهذا الكتاب.

فإذن هذه هي المستويات الثلاثة المعتادة في التفسير.