المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المدونة الكبرى من عصر التدوين إلى عصر الطباعة



أهــل الحـديث
02-07-2014, 03:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


لا تخفى – على فقيهٍ أو مُتَفقِّه- مكانة المدونة الكبرى في الفقه المالكي، فهي أم الأمهات، وفيها أوثق الروايات، وقد عكف العلماء عليها قديماً وحديثاً؛ إسناداً وتهذيباً وتعليقاً واستنباطاً.
ومما قيدته -سابقاً- عن المدونة الكبرى وأهميتها ومكانتها، وعناية العلماء بها، بعنوان: (المدوَّنة الكبرى... من عصر التدوين إلى عصر الطباعة) أقتبسُ:
المدونة عَلَمٌ لكتابٍ، منقولٌ من اسم مفعول؛ دَوَّنتُ الكتبَ تدويناً؛ أي جمعتُها، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها مسائلُ مجموعةٌ (1).
وإذا أطلقت المدوَّنة على كتاب انصرفت إلى ما لخصه ورتبه واستدل له بالآثار والفتاوى الإمام سحنون عبد السلام بن سعيد التنوخي من مسائل الأسدية التي استند أسد بن الفرات في تقريرها بعد رجوعه من العراق إلى شيخه عبد الرحمن بن القاسم العُتَقي، عن الإمام مالك بن أنس - رحم الله جميعهم ورضي عنهم.
قال ابن أبي زيد رحمه الله: «الكتبُ المدونة من علم مالك وأصحابه وما أضيف إليها من الكتب المسماة بالمختلطة، هذه الكتب أشهر دواوينهم، وأعلى ما دُوِّن في الفقه من كتبهم، وأكثر ما جرى به على أسماع الناقلين لها من أئمتهم»(2).
***
ولتأليف المدوَّنة حكايةٌ يوردها السادة المالكية في كتب التراجم والطبقات، وغالباً ما يقدِّمها شُرَّاحُ المدوَّنة ومختصروها بين يدي مصنَّفاتهم، حتى ذاعت وشاعت مع اختلافٍ يسير فيها.
قال أبو الحسن الزرويلي رحمه الله(3): «... أقام ابنُ القاسم متغرباً عن بلده في رحلته إلى مالك عشرين سنةً، حتى مات مالك رحمه الله، ورحل - أيضاً - سحنون إلى ابن القاسم، فكان ممن قرأ عليه مسائل المدونة والمختلطة ودوَّنها... وكانت مؤلفةً على مذهب أهل العراق، فسَلَخَ أسدُ بنُ الفرات منها الأَسئلة، وقدم بها المدينة؛ ليسأل عنها مالكاً رحمه الله، ويردها على مذهبه، فألفاهُ قد مات، فأتى أشهب؛ ليسألَه عنها، فسمعه يقول: أخطأ مالك في مسألة كذا، وأخطأ في مسألة كذا، فتنقَّصَه بذلك وعابَه، ولم يرضَ قولَه فيها، وقال: ما أُشَبِّهُ هذا إلا كرجل بال إلى جانب بحرٍ، فقال: هذا بحرٌ آخر، فنزل على ابن القاسم، فأتاه فرغب إليه في ذلك، فأبى عليه، فلم يزل به حتى شرح الله صدره لما سأله، فجعل يسأله عنها مسألةً مسألةً، فما كان عنده فيه سماعٌ من مالك قال: سمعتُ مالكاً يقول كذا وكذا، وما لم يكن عنده عن مالك إلا بلاغٌ، قال: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً، وبلغني عن مالك أنه قال فيه كذا وكذا، وما لم يكن عنده فيه سماعٌ ولا بلاغٌ، قال: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً، والذي أراه فيها كذا وكذا، حتى أكملها، فرجع إلى بلده بها، فطلبها منه سحنون، فأبى عليه فيها، فتحيَّل عليه حتى صارت الكتب عنده، فانتسخها، ثم رحل بها إلى ابن القاسم، فقرأها عليه، فرجع منها عن مسائل، وكتب ابنُ القاسم إلى أسد ابن الفرات أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون، فأنِفَ أسدُ من ذلك وأباه، فبلغ ذلك ابنَ القاسم فدعا عليه ألا يبارَكَ له فيها - وكان مجاب الدعوة - فأجيبت دعوته، ولم يُشْتَغَل بكتابه، ومال الناس إلى قراءة المدونة، ونفع الله بها»(4).
ولعل من بركة عرض سحنون مسائل المدونة على ابن القاسم ودعاء ابن القاسم له، أنَّ عرض مسائلها أضحى سنة تتبع عند العلماء من بعده جيلاً بعد جيل، يتلقونها روايةً، ويعرضها اللاحق على السابق، والناسخ على الأصل المنسوخ منه، وهكذا.
قال أبو بكر ابن أبي جمرة الأندلسي (ت 559هـ) في كتابه «إكليل التقليد»: تكرر من الشيوخ عَرْضُ «المدونة» فأَنِسَتْ نفوسُهُم إليها بعد أن ألِفَت معانيها، واستَحْكَمَت عندهم صحَّةُ أصولِها وفروعِها، وما سَبَقَ إلى النَّفس أَلِفَتْهُ، وما ألِفَتْهُ عسُر عليها الانفصالُ منه والعُدُولُ عنه، هذا مُدرَكٌ بالعادة، صحيحٌ بالخبر، فاكتسبوا من العُكُوفِ وكثرَةِ الدرس لها، والتفقُّهِ فيها خصالاً محمودةً، مع الدراية في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام. اهـ»(5).
ثم إن سحنون رحمه الله لم يكتف بعرضها على ابن القاسم وتصحيحه لمسائلها، بل أمعن الفكر فيها، ومضى ينقحها ويصححها – وفعل ذلك في أكثرها - بعد رجوعه بها إلى القيروان.
قال عياض في «التنبيهات»: «... ثم إنَّ سَحنون بن سعيد نظر فيها نظراً آخر وبوبَّها، وطرح مسائل منها، وأضاف الشكل إلى شكله - على رتبة التصانيف والدواوين - واحتجَّ لمسائلها بالآثار من روايته من موطأ ابن وَهْب وغيره، فسميت تلك الكتب المدوَّنة(6)، وبقيت منها بقية لم ينظر فيها ذلك النظر إلى أن توفي، فبقيت على أصلها من تأليف أسَد فسمِّيَت بـالمختلطة؛ لاختلاط مسائلها، وليفرق بينها وبين ما دون منها، وهي كتبٌ معلومةٌ»(7).
***
قلتُ: هذا الكلام مؤدَّاه أن المختلطة هي الأسديَّة عينُها، ثم قُصِر المعنى المراد بها على الكتب التي لم ينقحها سحنون من كتب الأسدية بعد عرضها على ابن القاسم، وخصِّصَت بذلك.
وإعمالاً لقاعدة تقديم الخصوص على العموم نصير إلى القول:
إنَّ الأسديَّة هي أصل سماع أسد بن الفرات من ابن القاسم وما عرضَه عليه من الكتب المدوَّنة على مذهب الإمام مالك.
والمدوَّنة هي ما راجعه ونقَّحه سحنون من كتب الأسديَّة - بعد عرضها على ابن القاسم – ثم أعاد النظر فيها فزاد عليها، ونقص منها، وألحق بها من الأخبار والآثار ما شاء الله له أن يُلحِق.
والمختلطة هي كتُب الأسديَّة التي عرضها سحنون على ابن القاسم، وصحَّحها عليه، ولكنه لم ينظر فيها النظرة الأخيرة التي ذكرها عياض وغيره، وهي نظرة التمحيص والتحقيق التي أسفرت عن اعتماد النصِّ الذي تناقله ورواه عن سحنون الأئمةُ الأثباتُ المسنِدُون جيلاً بعد جيل.
ومما يفيده كلام القاضي عياض المتقدِّم أن الكتب التي ظلَّت على اختلاطها معلومةٌ له، وإن لم يسمِّها في كتبه.
وفي ترتيب المدارك(8)- له - أن أبا أيوب سليمان بن عبد الله بن المبارك - المعروف بأبي المشتري - هو من بوَّبَ الكتب المختلطة التي لم ينقِّحها سحنون في المدونة.
ولم أجد في تحديد تلك الأبواب التي بقيت على اختلاطها في المدونة إلا ما بلغني منقولاً عن طرَّةٍ وُجدت على نسخة خطيَّة لنكت عبد الحق الصقلي على المدوَّنة يحفظ أصلها في خزانة ابن يوسف بمراكش الحمراء، وفيها ما نصُّه: «تسمية المختلطة من كتب المدونة: الصيد، الذبائح، الحج ...، الأقضية، الشفعة، القسمة، الغصب، حريم البئر (أو الآبار)، الرهون، اللقطة، الضوال، الوديعة، العارية، الهبات، الجراحات، السرقة، المحاربين، الرجم، القذف، الديات».
ووقع في طرةٍ على اللوحة الحادية والعشرين في آخر كتاب الوضوء من نسخة المدونة التي يحفظ أصلها في خزانة جامع القرويين تحت رقم(40/574) نقلاً عن رقعة بخط أبي عمران الفاسي- صاحب التعاليق – وفيها تقسيم كتب المدونة إلى سبعة رُزَم هي على التوالي: " رُزْمَةُ الشرايع(9)، ورُزْمَةُ النكاح، ورُزْمَةُ العبيد، ورُزْمَةُ البيوع، ورُزْمَةُ الإجارة، ورُزْمَةُ الأقضية، ورُزْمَةُ الحدود".
وذكر في رُّزْمَتَين الأخيرتين الكتب التي ظلت على اختلاطها وهى: "الرهن، والغصب، والشفعة، والقسم، والهبات، والوديعة، والعارية، واللقطة، والآبق، وحريم الآبار، والقَطْع، والرجم، والحدود في القَذف، والأشربة، والجراح، والديات".
ووقفتُ في «التنبيهات» على قول القاضي رحمه الله: «والمسائل المختلطة من مسائل إقرار المديان إلى مسألة الصبي يدفع إليه سلاح؛ ثابتةٌ في كثير من النسخ، وكانت ثابتة في كتاب ابن عتاب، وكتب عليها: لم يقرأها سحنون، وقد قرأها ابن وضاح، وكانت ثابتة في كتاب ابن المرابط، وقرأناها على ابن عتاب»(10).
وفي هذا الكلام إشارة إلى أن المسائل المختلطة هي ما لم يقرأه سحنون بعد رجوعه بها مصححةً على ابن القاسم، وأنَّ مسائل المختلطة ظلَّت في المدوَّنة يقرؤها رواتها، وتقرأ عليهم قريباً من عصر تدوينها.
***
قلتُ: إن صحَّ أن يوصَف بالمحنة ما وقع عند تدوين المدوَّنة على يد أسد بن الفرات ابتداءً، ثم عرضها على ابن القاسم فتنقيح معظمها على يد سحنون ابن سعيد التنوخي انتهاءً، وما تخلَّل ذلك مما يكثر وقوعه بين الأقران، وما أعقبه من بقاء بعضها على اختلاطه من غير تنقيح، فلن تكون هذه الحال المحنة الوحيدة التي تعرَّضت لها المدوَّنة الكبرى، بل ثمَّة ما لحق بها بعد أن استقرَّ حالُها وتناقلها العلماء مسندةً إلى مصنِّفها، وهو ما كتب عنه بعض المعاصرين تحت عنوان «محنة المدوَّنة»(11).
والمحنة التي يعنون هي ما لحق بالمدونة خاصةً وبسائر كتب الفروع الفقهية عامة أيام حكم الموحِّدين للمغرب، حيث سعى الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي، المتوفى سنة 558هـ، إلى صرف الفقهاء عنها، والاستعاضة عنها وعن غيرها من الأمهات بكتاب جديد سُمِّيَ بـ «أعز ما يطلب»(12)، ولكنه لم يفلح فيما أراد، حتى خلفه ابنه أبو يعقوب يوسف، المتوفى سنة 580 هـ، فأمر بإحراق المُدَوَّنة وسائر كتب الفروع بدعوى عدول الناس عن الكتاب والسنة إلى ما فيها من روايات وأقوال الرجال، ولكن أمرَه لم ينفُذ إلا في عهد يعقوب المنصور، المتوفى سنة 594 هـ، فأحرقت المُدَوَّنة، وابتلي الفقهاء في ذلك أشد البلاء، وقد وصف الحال التي آلت إليها الأمور عبد الواحد المراكشي، فقال: «وفي أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد، كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد، وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها، لقد شَهِدتُ منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال وتوضع وتُطلَق فيها النار، وتَقدَّم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيءٍ منه، وتوعَّد يعقوب على ذلك بالعقوبة الشديدة»(13)، وتكررت عملية الإحراق في عهد ولده محمد الناصر، المتوفى سنة 610هـ، فأمر بإحراق ما لم تلتهمه النيران في عصر والده من نسخ المُدَوَّنة.
***
ولم يعد للمدونة مجدها السالف - كما ينبغي - إلا بعد أن أمر السلطان محمد بن عبد الله، المتوفى سنة 1203هـ باعتمادها إلى جانب والمصنفات المكملة والمقربة لها حصراً للتدريس في جامع القرويين؛ قاصداً بذلك إحياء المذهب والعودة به إلى أصوله المعتمدة وينابيعه الصافية.
هذا عن مدونة سحنون من عصر التأليف إلى عصر الاستقرار مروراً بمرحلة المحنة التي تعرضت لها في عهد الموحِّدِين.
***
ويحسُن أن أختم الحديث عن المدونة بكلمة موجزة عن طبعاتها في العصر الحالي فأقول مستعيناً بالله تعالى:
في سنة: 1323هـ - حين كانت الطباعة في المغرب الأقصى حجرية في الغالب - ظهرت في مصر الطبعة الأولى للمدونة الكبرى، فتلقاها العلماء بالقبول، وتواصوا بها؛ نظراً لقوة الأصل المخطوط الذي اعتمدت عليه، ولمكانة من جلب ذلك الأصل ووقف على طباعته، وفي ذلك يقول فقيه المالكيَّة في مصر إذ ذاك الشيخ سليم البشري رحمه الله:
«... اطلعنا على نسخة المدونة التي استحضرها من المغرب الأقصى، وطبع عليها بنفقته حضرة الحاج محمد أفندي الساسي المغربي التونسي، فإذا هي مظنة الصحة والضبط، جديرةٌ بالاعتماد عليها، والركون - في إجراء الطبع والتصحيح إليها - دون سواها؛ لقدم عهد كتابتها، وكثرة تداولها بأيدي علماء المالكية المتقدمين، ولما على هوامشها من التقارير والفوائد لبعض أكابر المالكية، كالقاضي عياض، وابن رشد، وغيرهما من الأئمة الأعلام المتقدمين، وهي مكتوبة في رَقِّ غزالٍ بخطٍ مغربي واضح، كتبها عبد الملك بن مسرة بن خلف اليحصبي في أجزاء كثيرة جداً، وتاريخ كتابتها سنة 476هـ»(14).
وقد أعيد نشر هذه الطبعة مراراً – بالتصوير – في دار صادر للطباعة والنشر، ولا تزال الأكثر تداولاً واعتماداً عند متفقهة زماننا.
وتقع هذه النسخة في ستة عشر جزءاً، أصدرتها مكتبة السعادة في ثمان مجلدات، ونشرتها دار صادر في ستة مجلدات بعد ضم بعض الأجزاء إلى بعضٍ في المجلد الواحد.
ثم تلتها طبعة المكتبة الخيرية بالقاهرة سنة 1324هـ في أربعة مجلدات بهوامشها كتاب «المقدمات الممهدات»، للقاضي أبي الوليد ابن رشد رحمه الله.
وقد أعادت دار الفكر نشر هذه الطبعة – بالتصوير – في بيروت سنة 1398هـ.
وفي نفس الحجم - أيضاً - نَشَرَت المدونةَ دارُ الكتب العلمية في بيروت، سنة 1415هـ في طبعةٍ قيل إنها محققة، ونسب تحقيقها إلى زكريا عميرات.
ثم ظهرت طبعة المكتبة العصرية في صيدا بلبنان سنة 1419هـ، في تسعة مجلدات محققة تحقيقاً لم يعتقها من أخطاء النسخ والضبط، فلم تَرو غليلاً، ولم تشف عليلاً، وهي أقل طبعات المدوَّنة اعتماداً في مصادر التحقيق عند المشتغلين بكتب المذهب.
إلى أن ظهرت - في دولة الإمارات العربية المتحدة- طبعةُ المدونة الأشهر في اثني عشر مجلداً، سنة 1422هـ، بتحقيق ومراجعة وتقديم المستشار السيد علي بن عبد الرحمن الهاشم.
ولم تسلم هذه الطبعة من المآخذ التي أخذت على سابقاتها، وكم كنتُ متطلعاً إلى الوقوف عليها؛ لشيوع صيتها؛ وسعيتُ إلى ذلك سعياً حثيثاً حتى حصلت على نسخة منها في مطلع عام 1435هـ؛ فذهلتُ لهول ما وقفت عليه فيها من خللٍ منهجيٍّ في التحقيق، إذ ليس فيها شيءٌ مما بلغني؛ مستوجباً ثنائي السابق- بادي الرأيَ- عليها(15)، بل غاية ما عُمل بين دفتيها هو انتحالٌ لطبعة دار السعادة –الأقدم- للمدونة- بصفٍّ جديدٍ- وتعليقٌ لبعض الهوامش التي لا تكاد تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً؛ إذ تخلو تماماً من الفوارق بين النسخ الخطية – وهي أبرز معالم التحقيق العلمي بشكلٍ عام- كما تنعدم فيها الإشارة إلى الاختلاف بين روايات المدونة – وهي أبرز متطلبات تحقيق المدونة علميّاً بشكلٍ خاص- وأكثر ما في الهوامش - بالإضافة إلى تراجم بعض الأعلام وتخريج كثير من الأحاديث- إحالات إلى كتب المتأخرين، ومنها شروح مختصر خليل؛ كمواهب الجليل للحطاب، والشرح الكبير للخرشي، ومثله للدرديري، وحاشية الدسوقي عليه، والتاج والإكليل للموَّاق.
***
وإننا لنأخذ على عاتقنا -بعون الله وتوفيقه- إن طال بنا العمر، وعادت إلينا الصحة والعافية، أن نضع المدونة في قائمة أولوياتنا لخدمتها وإتاحتها لكل من يحتاجها.
***
ووفاءً بهذا الالتزام كان إخراجنا التنبيهات المستنبطة على كتب المدونة والمختلطة، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، المتوفى سنة 544هـ(16)، ومن بعده مصحف المذهب «الجامع لمسائل المدونة والمختلطة» لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي، المتوفى سنة 451هـ(17)، واختصار المدونة والمختلطة، للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المتوفى سنة 386هـ(18)، وتعليقة الوانوغي على تهذيب البراذعي للمدونة، وتكملة المشدالي على التعليقة.
وثَمَّة خطوات أخر نخطوها للوفاء بالتزامنا تجاه المدونة وما كتب عليها؛ فقد شارفنا على الانتهاء من تحقيق «التهذيب لمسائل المدونة والمختلطة», وهو بعناية وتأليف أبي سعيد خَلَف بن أبي القاسم البراذعي، وكذا «تهذيب الطالب وفائدة الراغب»، وهو من تأليف أبي محمد عبدالحق بن محمد بن هارون السهمي الصقلي، المتوفى سنة 466هـ ، وكذا «التقييد على تهذيب البراذعي»، وهو من تأليف أبي الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي الفاسي، الشهير بالصُّغَيّر، المتوفى سنة 719هـ.

__________________________________________________ _________________
(1) الأجوبة الناصريَّة، لابن ناصر الدرعي (مخطوط يحفظ أصله في خزانتنا: مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة
التراث)، اللوحة: 47/أ.
(2) اختصار المدونة والمختلطة، لابن أبي زيد القيرواني: 1/11.
(3) هو: أبي الحسن، علي بن محمد بن عبد الحق، الزرويلي، الفاسي، المعروف بالصُّغَيِّر- بضم الصاد، وفتح الغين، وكسر الياء المشددة- المتوفى سنة 719هـ، كان حسن الإقراء، وقوراً، إمَام وقته في فقه المدونة، وهو المستقل برياستها بعد شيخه الفقيه راشد، قيِّماً على التهذيب للبراذعي؛ حفظاً وتُفقُّهاً، يشارك في شيء من أصول الفقه، والفرائض، وفنون البلاغة، ارتحل إلى تازا، وولي القضاء بفاس، ودَرَّس بجامع الأصدع، وكان أحد الذين تدور عليهم الفتوى أيام حياته فيها.
أخذ عن: أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي الفاسي، المتوفى سنة 675هـ، و صهره أبي الحسن علي بن سليمان، المتوفى سنة 730هـ، وأبي عمران الجوْرائي، وإسحاق بن يحيى بن مطر الورياغلي الأعرج، المتوفى سنة 683هـ، وأبي زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي، المتوفى سنة 741هـ.
وعنه: علي بن عبد الرحمن بن تميم الطنجي، المتوفى سنة 734هـ، ومحمد بن على بن سليمان السطي، المتوفى سنة750هـ، وأبي فارس عبد العزيز بن محمد القروي، المتوفى سنة 750هـ (أشهر المقيدين عن الشيخ)، وأبي إسحاق إبراهيم بن أبي يحيى التسولي، المتوفى - نحو- سنة 751هـ.
من آثاره تقييدٌ قيدِّ على التهذيب (يصدر قريباً أن شاء الله –بتحقيقنا- في بضع عشر مجلداً)، وعلى رسالة ابن أبي زيد؛ قيدها عنه تلامذته، وأبرزوها تآليفَ، وجمع فتاواه تلميذه أبو سالم، المعروف بابن أبي يحيى التسولي في كتاب مفرد، بعنوان: "الدر النُّثَيِّر على أجوبة أبي الحسن الصُّغَيِّر".
قال عنه الشيخ عرفات:
أما أبو الحسَنِ فالصُّغَيِّرُ
ينمى إلى زرويلَ هوّ الأكبرُ

وقد يُكبَّرُ كما في الشجرهْ
وهُوَ ذو الأجوبةِ المُشتهرَهْ

عنه تقاييدُ على الكِتابِ
- كذا الرسالةُ - مِنَ الطلّابِ

وقد قَضى منْ بعدِ ما العلمَ نشَرْ
بثامنٍ في عام تسعةَ عشَرْ

انظر ترجمته: الإحاطة، للسان الدين الخطيب: 4/186، الديباج المذهب، لابن فرحون: 2/120، ودُرة الحِجَال، لابن القاضي، ص: 403، وسلوة الأنفاس، للكتاني: 3/180، ورشف الفضال، ص: 47، 48.
(4) تقييد أبي الحسن الزرويلي على تهذيب البراذعي للمدوَّنة (مخطوطٌ يُحفظ أصلُه تحت رقم 12356 في الخزانة الحسنية بالقصر الملكي في الرباط)، لوحة: [3/أ]، ورأيت هذا الكلام بطوله بتصرف يسير في الأجوبة الناصرية، لابن ناصر الدرعي (مخطوط يُحفَظ أصله في خزانة مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث).
(5) القصد الواجب في اصطلاح ابن الحاجب، للونشريسي (العدد الخامس من مجلة قطر الندى العلميَّة المحكمة)، ص: 28.
(6) قلت: لم يكن إصلاح سحنون لمسائل المدونة اجتهاداً رآه من تلقاء نفسه، بل كان روايته عن الشيوخ، وفي مقدمتهم ابن القاسم، وهذا مستفاد من قول سحنون الذي أورده عياض عنه، ونصه: «قال سحنون: يصلح كلام ابن القاسم بكلام ابن القاسم»، فليُعلَم. وانظره في التنبيهات المستنبطة، لعياض، ص: 2110.
(7) التنبيهات المستنبطة، للقاضي عياض: 1/4.
(8) انظر: ترتيب المدارك، لعياض: 6/146.
(9) الشرايع يراد بها – هنا- العبادات.
(10) التنبيهات المستنبطة، للقاضي عياض: 2/448.
(11) انظر: محنة المدونة الكبرى وتفريط مالكية العصر فيها: (مقال في نشرة المجلس العلمي بتازة).
(12) هو: كتاب أعز ما يطلب، لأبي عبد الله، محمد بن عبد الله بن تومرت البربري، المصمودي، المدعي أنه علوي حسَني نسباً، وأنه الإمام المعصوم المهدي، ألف كتاب «أعز ما يطلب» في العقيدة فوافق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيُّع ويقول بعصمة الإمام علي على رأي الإمامية من الشيعة. انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي: 19/548.
(13) المعجب في تلخيص أخبار المغرب، للمراكشي: 1/278.
(14) قلت: لا يخفى على متابع أن عامَّة المشتغلين بطباعة الكتب ونشرها في ذلك العصر كانوا أهل حضور للذهن، ودقة في الضبط، فضلاً عن كون أكثرهم من العلماء المحققين، والنظَّار المتقنين الذين اتخذوا نشر الكتاب رسالةً لا تجارة؛ ولذلك تباع نفائس المطبوعات القديمة في يومنا هذا بأثمان تضاهي أثمان المخطوطات، وقد تزيد عليها، فسبحان من جعل للسبق فضيلة تخصُّ المتقدِّمين، وتستعصِي على أكثر المتأخرين، والله يختص برحمته من يشاء.
(15) تكرر هذا الثناء مني على طبعة الإمارات سابقاً، ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لَمَا تعجلتُ- وأنا اليوم أرجع عنه، وأستغفر الله منه، وأعتذر للقراء عن تعجلي قبل تثبتي فيه- في المقدمات التحقيقية لعدد من إصدرات مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، التي وقفتُ علي تحقيقها ونشرها؛ ومنها: تنبيهات عياض المستنبطة على كتب المدونة والمختلطة، واختصار ابن أبي زيد لمسائلهما، وتعليقة الوانوغي على تهذيب البراذعي.
ولعل خير ما أتقدم به بين يدَي إلتماس معذرة القراء لهفوتي هذه أنني عقدت العزم الأكيد على إخراج المدونة الكبرى بتحقيق جديد شرعتُ – مؤخراً- في الاستعداد له بجمع مخطوطاتها؛ مشترطاً أن لا يتخطى تاريخ نَسْخ أيٍّ منها عتبة القرن السابع الهجري- إلا ما اضطررتُ إليه- وعسى الله أن يهيئ لي أسباب نجاح هذا المشروع لأتوج به ما شرَّفني به من خدمة مذهب إمام دار الهجرة.
(16) كتابٌ نفيسٌ من أجلِّ ما وضع على المدونة، نقتبس – بتصرُّف يسير- من وصف مصنِّفِه أبي الفضل إيَّاه بأنه مجموعٌ يشتمل على إجابة من سأله شرحَ كلماتٍ مشكلةٍ وألفاظٍ مغلَّطةٍ، مما اشتملت عليه الكتب المدونة والمختلطة ... و ضَبط حروفٍ مشكِلةٍ على من لم يعتن بعلم العربية والغريب، وأسماء رجالٍ مهملةٍ لا يعلم تقييدها إلا من تَهَمَّمَ بعلم الرجال والحديث.
وأضاف القاضي أبو الفضل إلى الغرض المطلوب بيانَ معاني الألفاظ الفقهية الواقعة في هذه الكتب، ونَثَرَ -أثناء ذلك- نكتاً من كلام المشايخ والحذاق وتعليقاتهم، إلى ما استَثَارَهُ من أسرار الكتاب واستنبطَه إلى تنبيهاتهم، وأكثرها مما لم يقع في الشروحات له ذكر؛ لتتم الفائدة لباغيها، وتكمل المنفعة لدارسها وراويها، على ما قاله في خطبته: 1/5 و6.
وقد شرفنا الله بالسبق إلى إخراجه - بعد جهد جهيدٍ بُذلَ في تحقيقه- أسفرَ عن نشره في خمس مجلدات أصدرها مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث سنة 1433هـ/ 2011م.
(17) كان يقال: إن جامع ابن يونس عبارةٌ عن شرح للمدونة؛ بمعناها الذي يصدق عليها اصطلاحاً – عند المتقدمين- وهي السحنونية، والذي يطلق مجازاً على تهذيب البراذعي– عند المتأخرين- لمسائلها، ولكن تبين لنا بعد أن قطعنا شوطاً في تحقيق "الجامع" و "اختصار المدونة والمختلطة" لابن أبي زيد أنه إذا أطلق لفظ " المدونة" فيه؛ فإنما يريد اختصار ابن أبي زيد لها، لا غير، وهذا خلاف المعروف عند - من قبله- حيث يقصدون بها مدونة سحنون، وعند – من بعده – حيث يقصدون بها التهذيب.
ولعله أومأ إلى ما استنبطته – بعد قرون من تأليفه- في قوله: "انتهى إليَّ ما رغب فيه جماعة من طلبة العلم ببلدنا في اختصار كتب المدَوَّنة والمختلطة، وتأليفها على التوالي، وبسط ألفاظها .... فسارعت إلى ذلك رجاء النفع به، والمثوبة عليه إن شاء الله تعالى، وأدخلت فيه مقدمات أبواب كتاب الشَّيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله وزياداته، إلا اليسير منها".
و"الجامع" من أهم كتب المذهب، وأكثرها اعتماداً فيه، ولذلك عُرف عند أهله بمصحف المذهب؛ لصحة مسائله، وصاحبه، ونظم هذا المعنى النّابغَة الغَلاوي:
واعتَمَدوا الجامعَ لابن يونسِ
وكان يُدْعَى مُصْحَفاً لَكِنْ نُسِيْ

وقد شرفنا الله بالسبق إلى إخراجه فصدر بتحقيقنا - قسم العبادات منه - في ثلاث مجلدات، عن مركزُ نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث، سنة 1433هـ/2011م، ثم صدر – كاملاً- في ستة عشر مجلداً بتحقيق شاركنا فيه الدكتور حافظ بن عبد الرحمن خير، عن كلية الإمام مالك للشريعة والقانون بدبي، سنة 1435هـ/2014م.
(18) هو أشهر وأنفع اختصارات المدونة السحنونية، صدَّره ابن أبي زيد بخطبة في فضل العلم والعلماء؛ ذكر فيها بعض أصول مذهب مالك وفضَائله، ونقتبس –بتصرُّف يسير- مما قاله فيها معرفاً باختصاره: اختصرتُها كتاباً كتاباً، وباباً باباً، واختصرتُ من غيرها كتابَ الفرائض، وكتاب الجامع- إذ ليسا في المدونة- وقد بذلتُ الجهد في تقليل الكثير، وتقريب البعيد؛ باختصار اللفظ في طلب المعنى بمبلغ العلم والطاقة، وجمع ما افترق من المعاني المشكلة، وحذف السؤال وإسناد ما ذكرتُ من الآثار، وكثيرٍ من الحجاج والتكرار، وربما قدَّمتُ أو أخرت، وجعلتُ مساق اللفظ لعبد الرحمن بن القاسم- وإن كان كله قول مالك- إلا ما بين أنه خالفه فيه، أو اختارَه من أحد قوليه، وأجريتُ ذكر مالك وغيره من أصحابه فيما لا غنى به عن ذلك فيه مما هو في المدونة.
وقد شرفنا الله بالسبق إلى إخراجه، بعد رحلة مضنية- في جمع مخطوطاته- وجهدٍ دؤوبٍ – في تحقيقه- وأصدره بتحقيقنا مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث سنة 1434هـ/ 2013م.
وقد تبينا بعد طبعه أن في خزانة مخطوطاتنا الخاصة نسخة أصلية لجزء منه فيها كتب كنا أحوج ما نكون إلى مقابلة ما طبع على نصوصها، فعسى أن نوفق لاستدراك ما فاتنا في قابل الطبعات.