المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (012)الإسلام وضرورات الحياة - المبحث الثالث: تحريم اعتداء الإنسان على نفسه



أهــل الحـديث
23-06-2014, 12:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


ومما يدل على أن حفظ النفس من أهم ضرورات الحياة، إن الإنسان ملك لخالقه، وليس ملكاً لنفسه، لذلك لا يجوز له أن يتصرف في نفسه إلا في حدود ما أذن له الخالق، فليس له أن يضر نفسه بحجة أنه لم يعتدِ على أحد؛ لأن اعتداءه على نفسه كاعتدائه على غيره عند الله تعالى.

وقد ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وعيد شديد لقاتل نفسه؛ لعدم إمكان استيفاء القصاص منه، واعتدائه على نفس معصومة.

روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً) [البخاري (7/32) ومسلم (1/103-104) وراجع شرح النووي على مسلم (2/118) وما بعدها.] ويحمل التخليد على طول الإقامة، أو أن قاتل نفسه استحل ذلك.

لذلك كان أكثر الانتحار في البلدان الكافرة، وهو قليل جدا -ولا يكاد يذكر- في بلدان المسلمين، حتى في هذا العصر الذي ابتعد فيه أكثر المسلمين عن دين الله والتمسك بشريعته، وما ذلك إلا بسبب ما بقي في نفوس المسلمين من خوف الله وعذابه، إلا أن قتل الظالمين منهم لإخوانهم قد يفوق قتل الكفار في بلدانهم لإخوانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المبحث الرابع: تناول المضطر ما يحرم عليه لإنقاذ حياته

والمحرمات تنقسم إلى قسمين:

قسم ليس ملكاً لأحد، كالميتة، والصيد الحرام، كصيد البر بالنسبة للمحرم، وصيد الحرم، وكذلك السباع المحرمة، وهى كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وكذلك الدم المسفوح. فللمضطر أن يتناول ما وجده منها لإنقاذ نفسه من الهلاك.

وقسم هو ملك لمن عُصم دمه وماله، كمالِ المؤمن والذمي، فللمضطر أيضاً تناول ما ينقذ نفسه من الهلاك ولو بالقوة، ومقاتلة مالكه عند الامتناع من بذله بالمعروف. وإذا لم يستطع التغلب على صاحب المال فمات جوعاً أو عطشاً فإن صاحب الطعام يضمن ذلك المضطر.

قال ابن حزم رحمه الله: "وكل ما حرم الله تعالى من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام، أو ميتة أو دم، أو لحم سبع، طائر أو ذي أربع، أو حشرة أو خمر، أو غير ذلك. فهو كله عند الضرورة حلال، حاشا لحوم بني آدم وما يَقتُل مَن تناوله، فلا يحل من ذلك شيء، لا بضرورة ولا بغيرها. فمن اضطر إلى شيء مما ذكرنا قبل ولم يجد مال مسلم أو ذمي فله أن يأكل حتى يشبع، ويتزود حتى يجد حلالاً فإذا وجده عاد الحلال من ذلك حراماً. كما كان عند ارتفاع الضرورة.

أما تحليله عند الضرورة فلقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُررتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْر عِلْمٍ إِنَّ ربَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(119)} [المحلى (7/426) والآية من سورة الأنعام:].

وقال ابن قدامة، رحمه الله: "ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه، فمنعه مع غناه عنه فهلك، ضمنه؛ لأن عمر رضي الله تعالى عنه قضى بذلك. ولأنه قتله بمنعه طعاماً يجب دفعه إليه، فضمنه، كما لو منعه طعامه فهلك بذلك، وإن رآه في مهلكة فلم ينجه لم يضمنه؛ لأنه لم يتسبب إلى قتله، بخلاف التي قبلها. وقال أبو الخطاب رحمه الله: "يلزمه ضمانه على قياس التي قبلها" [الكافي (3/71).].

والذي يظهر أن المسألتين سواء؛ لأن الأول قادر على إنقاذ النفس من الهلاك بماله، والثاني قادر على ذلك بجهده، والمعرض للهلاك مضطر إلى المال في الأولى، وإلى الجهد في الثانية.

فلا فرق بين من منعه ماله الذي هو في غنىً عنه، وبين من منعه جهده الذي لا يضيره بذله لإنقاذ نفس معصومة، وإن حصل له ضرر فهو يسير في جانب مصلحة إحياء نفس مؤمنة.

ومثل ذلك - بل أولى منه -ـ الطفل المنبوذ، فإنه يجب على من وجده أن ينجيه من الهلاك عند القدرة.



قال ابن قدامة، رحمه الله: "وهو - أي اللقيط - الطفل المنبوذ، والتقاطه فرض علي الكفاية؛ لأنه إنجاء آدمي من الهلاك، فوجب كتخليص الغريق، وهو محكوم بحريته. لما روى سنين أبو جميلة، قال: "وجدت ملقوطاً فأتيت به عمر، رضي الله تعالى عنه، فقال: اذهب فهو حر و لك ولاؤه، وعلينا نفقته [رواه سعيد في سننه.] ؛ ولأن الأصل في الآدميين الحرية، ويحكم بإسلامه في دار الإسلام" [الكافي (2/363).].

والذي يظهر أنه يجب على المضطر أن يتناول ما ينقذ به نفسه من الهلاك، وليس هو من باب الندب أو الإباحة فقط؛ لأن في عدم تناوله ما ينقذه من الهلاك مع القدرة عليه إلقاء للنفس إلى التهلكة، والله تعالى قد نهى عن ذلك: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ(95)}[البقرة].

والأصل في النهي التحريم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأي تهلكة يجب على المؤمن أن يبتعد عن إلقاء نفسه فيها إلا ما استثناه الله تعالى، كالجهاد [راجع في هذه المسألة ـ مسألة حكم المضطر ـ في كتاب شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن (1/169) وما بعدها.].

المبحث الخامس: التحقق من وجود شروط القتل فيمن يستحقه

فلا يجوز الإقدام على إزهاق النفس مع احتمال براءتها مما نسب إلى صاحبها احتمالاً مسوغاً للبراءة. وشاهد ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله رضي الله تعالى عنه، قال: بلغني أن عثمانرضي الله تعالى عنه أُتي بامرأة ولدت في ستة أشهر، فأمر برجمها، فقال له علي، رضي الله تعالى عنه: ما عليها رجم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثلاثُونَ شَهْراً(15)}[الأحقاف].

وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرضَاعَةَ(233)}[البقرة]. فالحمل قد يكون لستة أشهر، فلا رجم عليها، فأمر عثمان بردها، فوُجدت قد رُجمت [الموطأ (2/825)، وهو منقطع، لكن الاستنباط من حيث هو صحيح كما لا يخفى، راجع الحاشية رقم (2) من جامع الأصول (3/539).].

المبحث السادس: وجوب إقامة البينة في قتل النفس المحرمة

ومن حرص الشريعة على حفظ النفس ـ كغيرها من الضرورات ـ تحريمها قتل النفس المحرمة إلا بحق قامت عليه البينة، إما شهود عدل بالعدد الكافي في المعصية، وهو أربعة في قتل النفس رجماً، أو اثنان في غير ذلك.

قال ابن القيم، رحمه الله: "وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة، كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم. وجعل الحجة التي يأخذهم بها، إما منهم وهي الإقرار، أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال. وإما أن تكون الحجة خارجاً عنهم، وهى البينة، واشترط فيها العدالة، وعدم التُهمة، فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك، ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك، ولا أوفق منه للمصلحة" [أعلام الموقعين عن رب العالمين (2/119) وراجع المغني لابن قدامة (10/128) وما بعدها: كتابة شهادات.].

المبحث السابع: تأخير قتل من يُخشى من قتله الضرر على غيره

وهذا من أظهر الأدلة على حرص الإسلام على حفظ النفوس وحمايتها من الاعتداء عليها بالمباشرة أو التسبب.

فإذا كانت المرأة حاملاً ووجب عليها القصاص، كأن قَتَلت عمداً بغير حق، أو كان حملها من زنا بعد إحصان، وهى حرة، فانه لا يجوز إقامة الحد أو القصاص عليها، حتى تلد جنينها.

لا بل إن الأمر أعظم من ذلك، فانه إذا لم يوجد للطفل من يكفله غيرها فإنها تترك لحضانته حتى يُفطم ويوجد من يكفله، ثم يقام عليها الحد، خوفاً على الطفل الضعيف من الضرر الذي قد يؤدي إلى هلاكه.

قال ابن قدامة، رحمه الله: "ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحد رجماً أو غيره؛ لأنه لا يؤمن من تلف الولد.

وقد روي بريدة أن امرأة أتت النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: إني فجرت، فوالله إني لحبلى، فقال لها: (ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه) فجاءت به وقد فطمته، وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها فأمر بها فرجمت" [راجع صحيح مسلم (3/1321-1322) وسنن أبي داود (4/588) والمستدرك على الصحيحين (4/404).]. فإن كان الحد قتلاً فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل، وإن كان جلداً وكانت عقب الولادة قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد" [الكافي (3/236-237).].

المبحث الثامن: عدم قتل غير المكلف

فلا يقام قصاص ولا حد على صبي أو مجنون، لنقص عقل الأول، وزوال عقل الثاني.


قال ابن عباس، رضي الله عنهـما: "أتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناساً، فأمر بها أن ترجم، فمر بها علي بن أبى طالب، رضي الله تعالى عنه، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بنى فلان، زنت فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها.

ثم أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى، قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء، فأرسلها عمر، قال: فجعل يكبر" [أبو داود (4/558) قال المحشي على جامع الأصول (3/507): وهو حديث صحيح بطرقه.].

قال الحافظ بعد أن ذكر طرق الحديث: "وقد أخذ الفقهاء بمقتضى هذه الأحاديث، لكن ذكر بن حبان أن المراد برفع القلم ترك كتابة الشر عنهم دون الخير" [فتح الباري (12/121).].

ومثله حديث عائشة، رضي الله تعالى عنهـا: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر) [أبو داود (4/558) قال المنذري في مختصره (6/229): وأخرجه النسائي وابن ماجة.].

وقد يرد إشكال على قصة أمر عمر t برجم المجنونة، وبخاصة كونه كان يعلم هذا الحكم الذي نبهه عليه علي t وسأله إن كان يعلمه، فأجاب: "بلى".

وقد أجاب الخطابي، رحمه الله على ذلك، فقال: "لم يأمر عمر رضي الله تعالى عنه، برجم مجنونة مطبقٍ عليها الجنون، ولا يجوز أن يخفى هذا عليه، ولا على أحد ممن بحضرته. ولكن هذه امرأة كانت تجن مرة، وتفيق أخرى، فرأى عمر رضي الله تعالى عنه، أن لا يسقط عنها الحد لما يصيبها من الجنون، إذ كان الزنا منها حال الإفاقة.

ورأي علي رضي الله تعالى عنه، أن الجنون شبهة يدرأ بها الحد عمن يُبتلى به، والحدود تدرأ بالشبهات، فلعلها قد أصابت ما أصابت وهى في بقية من بلائها، فوافق اجتهاد عمر رضي الله تعالى عنه، اجتهاده في ذلك، فدرأ عنها الحد" [معالم السنن (6/230).].