المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وظائف شهر ربيع الأول للإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي



أهــل الحـديث
16-06-2014, 12:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


ويشتمل على مجالس :

المجلس الأول في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :



خرج الإمام أحمد [ من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته و سوف أنبئكم بتأويل ذلك : دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و كذلك أمهات النبيين يرين ] و خرجه الحاكم و قال : صحيح الإسناد و قد روي معناه من حديث أبي أمامة الباهلي و من وجوه أخر مرسلة المقصود من هذا الحديث أن نبوة النبي صلى الله عليه و سلم كانت مذكورة معروفة من قبل أن يخلقه الله و يخرجه إلى دار الدنيا حيا و أن ذلك كان مكتوبا في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام و فسر أم الكتاب باللوح المحفوظ و بالذكر في قوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب } و عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سأل كعبا عن أم الكتاب ؟ فقال : علم الله ماهو خالق و ما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا و لا ريب أن علم الله عز و جل قديم أزلي لم يزل عالما بما يحدثه من مخلوقاته ثم إنه تعالى كتب ذلك في كتاب عنده قبل خلق السموات و الأرض كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } و في صحيح البخاري [ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كان الله و لا شيء قبله و كان عرشه على الماء و كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات و الأرض ] و في صحيح مسلم [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله كنب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة و كان عرشه على الماء ]



و من جملة ما كتبه في هذا الذكر و هو أم الكتاب : أن محمدا خاتم النبيين



و من حينئذ انتقلت المخلوقات من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة و هو نوع من أنواع الوجود الخارجي و لهذا قال سعيد بن راشد سألت عطاء : هل كان النبي صلى الله عليه و سلم نبيا قبل أن يخلق ؟ قال ؟ قال : إي و الله و قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام خرجه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة و عطاء ـ الظاهر أنه ـ الخرساني و هذا إشارة إلى ما ذكرنا من كتابة نبوته صلى الله عليه و سلم في أم الكتاب عند تقدير المقادير و قوله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث : [ إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته ] ليس المراد به و الله أعلم أنه حينئذ كتب في أم الكتاب ختمه للنبيين و إنما المراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبا في أم الكتاب في تلك الحال قبل نفخ الروح في آدم و هو أول ما خلق من النوع الإنساني و جاء في أحاديث أخر أنه في تلك الحال وجبت له النبوة و هذه مرتبة ثالثة و هي انتقاله من مرتبة العلم و الكتابة إلى مرتبة الوجود العيني الخارجي فإنه صلى الله عليه و سلم استخرج حينئذ من ظهر آدم و نبىء فصارت نبوته موجودة في الخارج بعد كونها كانت مكتوبة مقدرة في أم الكتاب ففي [ حديث ميسرة الفجر قال : قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] خرجه الإمام أحمد و الحاكم



قال الإمام أحمد في رواية مهنا : و بعضهم يرويه : متى كتبت نبيا ؟ من الكتابة فإن صحت هذه الرواية حملت مع حديث العرباض بن سارية على وجوب نبوته و ثبوتها و ظهورها في الخارج فإن الكتابة إنما تستعمل فيما هو واجب : إما شرعا كقوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } أو قدرا كقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } و [ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] خرجه الترمذي و حسنه و في نسخه صححه و خرجه الحاكم و روى ابن سعد من [ رواية جابر الجعفي عن الشعبي قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم : متى استنبئت ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد حيث أخذ مني الميثاق ] و هذه الرواية تدل على أنه صلى الله عليه و سلم حينئذ استخرج من ظهر آدم و نبىء و أخذ ميثاقه فيحتمل أن يكون ذلك دليلا على أن استخراج ذرية آدم من ظهره و أخذ الميثاق منهم كان قبل نفخ الروح في آدم و قد روي هذا عن سلمان الفارسي و غيره من السلف و يستدل له أيضا بظاهر قوله تعالى : { و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على ما فسره به مجاهد و غيره : أن المراد : إخراج ذرية آدم من ظهره قبل أمر الملائكة بالسجود له و لكن أكثر السلف على أن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه و على هذا يدل أكثر الأحاديث فتحمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه و سلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه فإن محمدا صلى الله عليه و سلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني و هو عينه و خلاصته و واسطة عقده فلا يبعد أن يكون أخرج من ظهر آدم عند خلقه قبل نفخ الروح فيه





ذكر فضل النبي صلى الله عليه و سلم من لدن آدم عليه السلام



و قد روي : أن آدم عليه الصلاة و السلام رأى اسم محمد صلى الله عليه و سلم مكتوبا على العرش و أن الله عز و جل قال لآدم : [ لولا محمد ما خلقتك ] و قد خرجه الحاكم في صحيحه فيكون حينئذ من حين صور آدم طينا استخرج منه محمد صلى الله عليه و سلم و نبىء و أخذ منه الميثاق ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى خرج في وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه و يشهد لذلك ما روي [ عن قتادة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنت أول النبيين في الخلق و آخرهم في البعث ] و في رواية : [ أول الناس في الخلق ] خرجه ابن سعد و غيره و خرجه الطبراني من رواية قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا و المرسل أشبه و في رواية عن قتادة مرسلة : ثم تلا : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم } فبدأ به قبل نوح الذي هو أول الرسل فمحمد صلى الله عليه و سلم أول الرسل خلقا و آخرهم بعثا فإنه استخرج من ظهر آدم لما صور و نبىء حينئذ و أخذ ميثاقه ثم أعيد إلى ظهره و لا يقال : فقد خلق آدم قبله لأن آدم حينئذ كان مواتا لا روح فيه و محمد صلى الله عليه و سلم كان حيا حين استخراج و نبىء و أخذ ميثاقه فهو أول النبيين خلقا و آخرهم بعثا فهو خاتم النبيين باعتبار أن زمانه تأخر عنهم فهو : المقفى و العاقب الذي جاء عقب الأنبياء و يقفوهم قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين } و في الصحيحين [ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : مثلي و مثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و أحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها و يعجبون منها و يقولون لولا موضع اللبنة ] زاد مسلم قال : [ فجئت فختمت الأنبياء ] و فيهما أيضا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم معناه و فيه : فجعل الناس يطوفون به و يقولون : هلا وضعت اللبنة ؟ فأنا اللبنة و أنا خاتم النبيين ]



و قد استدل الإمام أحمد بحديث العرباض بن سارية هذا على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل على التوحيد منذ نشأ و رد بذلك على من زعم غير ذلك بل قد يستدل بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه و سلم ولد نبيا فإن نبوته وجبت له من حين أخذ الميثاق منه حين استخرج من صلب آدم فكان نبيا من حينئذ لكن كانت مدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك و ذلك لا يمنع كونه نبيا قبل خروجه كمن يولى ولاية و يؤمر بالتصرف فيها في زمن مستقبل فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته و إن كان تصرفه يتأخر إلى حين مجيء الوقت قال حنبل : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد : من زعم أن النبي كان على دين قومه قبل أن يبعث ؟ قال : هذا قول سوء ينبغي لصاحب هذه المقالة أن يحذر كلامه و لا يجالس قلت له : إن جارنا الناقد أبا العباس يقول هذه المقالة ؟ قال : قاتله الله و أي شيء أبقى إذا زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على دين قومه و هم يعبدون الأصنام قال الله تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام : { و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } قلت له : و زعم أن خديجة كانت على ذلك حين تزوجها النبي صلى الله عليه و سلم في الجاهلية قال : أما خديجة فلا أقول شيئا قد كانت أول من آمن به من النساء ثم قال : ماذا يحدث الناس من الكلام ! ! هؤلاء أصحاب الكلام لم يفلح ـ سبحان الله ـ لهذا القول و احتج في ذلك بكلام لم أحفظه



ذكر رؤيا أمه صلى الله عليه و سلم حين ولادته

و ذكر أن أمه حين ولدت رأت نورا أضاء له قصور الشام أو ليس هذا عندما ولدت رأت هذا و قبل أن يبعث كان طاهرا مطهرا من الأوثان أوليس كان لا يأكل لما ذبح على النصب ثم قال : [ احذروا الكلام فإن أصحاب الكلام أمرهم لا يؤول إلى خير ] خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة و مراد الإمام أحمد الإستدلال بتقدم البشارة بنبوته من الأنبياء الذين قبله و بما شوهد عند ولادته من الآيات على أنه كان نبيا من قبل خروجه إلى الدنيا و ولادته و هذا هو الذي يدل عليه حديث العرباض بن سارية هذا فإنه صلى الله عليه و سلم ذكر فيه أن نبوته كانت حاصلة من حين آدم منجدلا في طينته و المراد بالمنجدل : الطريح الملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه و يقال للقتيل : إنه منجدل لذلك ثم استدل صلى الله عليه و سلم على سبق ذكره و التنويه باسمه و نبوته و شرف قدره لخروجه إلى الدنيا بثلاث دلائل





ثلاث دلائل على سبق ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و التنويه باسمه و نبوته



الدليل الأول : دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام و أشار إلى ما قص الله في كتابه عن إبراهيم و إسماعيل لأنهما قالا عند بناء البيت الذي بمكة : { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } فاستجاب الله دعاءهما و بعث في أهل مكة منهم رسولا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء و قد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعثه لهذا النبي منهم على هذه الصفة التي دعا بها إبراهيم و إسماعيل قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } و قال سبحانه : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * و آخرين منهم لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم } و معلوم أنه لم يبعث من مكة رسول فيهم بهذه الصفة غير محمد صلى الله عليه و سلم و هو ولد إسماعيل كما أن أنبياء بني إسرائيل من ولد اسحاق و ذكر تعالى : أنه من على المؤمنين بهذه الرسالة فليس لله نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه و سلم يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم و قوله في الأميين و المراد بهم العرب : تنبيه لهم على قدر هذه النعمة و عظمها حيث كانوا أميين لا كتاب لهم و ليس عندهم شيء من آثار النبوات كما كان عند أهل الكتاب فمن الله عليهم بهذا الرسول و بهذا الكتاب حتى صاروا أفضل الأمم و أعلمهم و عرفوا ضلالة من ضل من الأمم قبلهم

و في كونه منهم فائدتان :

إحداهما : أن هذا الرسول كان أيضا أميا كأمته المبعوث إليهم لم يقرأ كتابا قط و لم يخطه بيمينه كما قال تعالى : { و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك } الآيات و لا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم شيئا بل لم يزل أميا بين أمة أمية لا يكتب و لا يقرأ حتى كمل الأربعين من عمره ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين و هذه الشريعة الباهرة و هذا الدين القيم الذي اعترف حذاق أهل الأرض و نظارهم أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه و في هذا برهان ظاهر على صدقه



و الفائدة الثانية : التنبيه على أن المبعوث منهم ـ و هم الأميون خصوصا أهل مكة ـ يعرفون نسبه و شرفه و صدقه و أمانته و عفته و أنه نشأ بينهم معروفا بذلك كله و أنه لم يكذب قط فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على الله عز و جل فهذا هو الباطل و لذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف و استدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة و الرسالة



و قوله تعالى : { يتلو عليهم آياته } يعني يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من آياته المتلوة و هو القرآن و هو أعظم الكتب السماوية و قد تضمن من العلوم و الحكم و المواعظ و القصص و الترغيب و الترهيب و ذكر أخبار من سبق و أخبار ما يأتي من البعث و النشور و الجنة و النار ما لم يشتمل عليه كتاب غيره حتى قال بعض العلماء لو أن هذا الكتاب وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض و لم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منزل من عند الله و أن البشر لا قدرة لهم على تأليف ذلك فكيف إذا جاء على يدي أصدق الخلق و أبرهم و أتقاهم و قال إنه كلام الله و تحدى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا فيه فكيف مع هذا شك و لهذا قال تعالى : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } و قال : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فلو لم يكن لمحمد صلى الله عليه و سلم من المعجزات الدالة على صدقه غير هذا الكتاب لكفاه فكيف و له من المعجزات الأرضية و السماوية مالا يحصى



و قوله : { و يزكيهم } : يعني إنه يزكي قلوبهم و يطهرها من أدناس الشرك و الفجور و الضلال فإن النفوس تزكوا إذا طهرت من ذلك كله و من زكت نفسه فقد أفلح كما قال تعالى : { قد أفلح من زكاها } و قال : { قد أفلح من تزكى } و قوله : { و يعلمهم الكتاب و الحكمة } : يعني بالكتاب : القرآن و المراد و يعلمهم تلاوة ألفاظه و يعني بالحكمة : فهم معاني القرآن و العمل بما فيه فالحكمة هي : فهم القرآن و العمل به فلا يكفي بتلاوة ألفاظ الكتاب حتى يعلم معناه و يعمل بمقتضاه فمن جمع له ذلك كله فقد أوتي الحكمة قال تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال الفضيل : العلماء كثير و الحكماء قليل و قال : الحكماء ورثة الأنبياء فالحكمة هي العلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح و هو نور يقذف في القلب يفهم بها معنى العلم المنزل من السماء و يحض على اتباعه و العمل به و من قال الحكمة : السنة فقوله الحق لأن السنة تفسر القرآن و تبين معانيه و تحض على اتباعه و العمل به فالحكيم هو العالم المستنبط لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل به و لأبي العتاهية :

وكيف تحب أن تدعى حكيما ... وأنت لكل ما تهوى ركوب

وتضحك دائبا ظهرا لبطن ... وتذكر ما عملت فلا تتوب



قوله تعالى : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إشارة إلى ما كان الناس عليه قبل إنزال هذا الكتاب من الضلال فإن الله نظر حينئذ إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب تمسكوا بدينهم الذي لم يبدل و لم يغير و كانوا قليلا جدا فأما عامة أهل الكتاب فكانوا قد بدلوا كتبهم و غيروها و حرفوها و أدخلوا في دينهم ما ليس منه فضلوا و أضلوا و أما غير أهل الكاتب فكانوا على ضلال بين فالأميون أهل شرك يعبدون الأوثان و المجوس يعبدون النيران و يقولون بإلهين اثنين و كذلك غيرهم من أهل الأرض منهم من كان يعبد النجوم و منهم من كان يعبد الشمس أو القمر فهدى الله المؤمنين بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم إلى ما جاء به من الهدى و الدين الحق و أظهر الله دينه حتى بلغ مشارق الأرض و مغاربها فظهرت فيها كلمة التوحيد و العمل بالعدل بعد أن كانت الأرض كلها ممتلئة من الشرك و الظلم فالأميون هم العرب و الآخرون الذي لم يلحقوا بهم هم أهل فارس و الروم فكانت أهل فارس مجوسا و الروم نصارى فهدى الله جميع هؤلاء برسالة محمد صلى الله عليه و سلم إلى التوحيد و قد رؤي الإمام بعد موته في المنام فسئل عن حاله فقال : لولا النبي لكنا مجوسا قال : فإن أهل العراق لولا رسالة محمد صلى الله عليه و سلم لكانوا مجوسا و أهل الشام و مصر و الروم لولا رسالة محمد صلى الله عليه و سلم لكانوا نصارى و أهل جزيرة العرب لولا رسالة محمد صلى الله عليه و سلم لكانوا مشركين عباد أوثان و لكن رحم الله عباده بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم فأنقذهم من الضلال كما قال تعالى : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } و لهذا قال تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم } فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل العظيم و قد عظمت عليه نعمة الله فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النعمة و سؤاله دوامها و الثبات عليها إلى الممات و الموت عليها فبذلك تتم النعمة



فإبراهيم عليه الصلاة و السلام هو إمام الحنفاء المأمور محمد صلى الله عليه و سلم و من قبله من الأنبياء و الاقتداء به و هو الذي جعله للناس إماما و قد دعا هو و ابنه إسماعيل بأن يبعث الله في أهل مكة رسولا منهم موصوفا بهذه الأوصاف فاستجاب الله لهما و جعل هذا النبي مبعوثا فيهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم كما دعيا بذلك و هو النبي الذي أظهر دين إبراهيم الحنيف بعد اضمحلاله و خفائه على أهل الأرض فلهذا كان أولى الناس بإبراهيم كما قال تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا } و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن لكل نبي وليا من المؤمنين و أنا ولي إبراهيم ] ثم تلا هذه الآية و كان صلى الله عليه و سلم أشبه ولد إبراهيم به صورة و معنى حتى إنه أشبهه في خلة الله تعالى فقال : [ إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ]



والثاني بشارة عيسى به : و عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل و قد قال تعالى : { و إذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } و قد كان المسيح عليه الصلاة و السلام يحض على اتباعه و يقول : إنه يبعث السيف فلا يمنعنكم ذلك منه و روي عنه أنه قال : سوف أذهب أنا و يأتي الذي بعدي لا يتحمدكم بدعواه و لكن يسل السيف فتدخلونه طوعا و كرها و في المسند [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل أوحى إلى عيسى عليه السلام أني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا و شكروا و إن أصابهم ما يكرهون احتسبوا و صبروا و لا حلم و لا علم قال : يا رب كيف هذا و لا حلم و لا علم ؟ قال : أعطيهم من حلمي و علمي ] قال ابن اسحاق حدثني بعض أهل العلم : أن عيسى بن مريم عليه السلام قال : إن أحب الأمم إلى الله عز و جل لأمة أحمد قيل له : و ما فضلهم الذي تذكر ؟ قال : لم تذلل لا إله إلا الله على ألسن أمة من الأمم تذليلها على ألسنتهم



الثالث : مما دل على نبوته قبل ظهوره : رؤيا أمه التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و ذكر أن أمهات النبيين كذلك يرين و الرؤيا هنا إن أريد بها رؤيا المنام فقد روي أن آمنة بنت وهب رأت في أول حملها بالنبي صلى الله عليه و سلم أنها بشرت بأنه يخرج منها عند ولادتها نور يضيء له قصور الشام وروى الطبراني بإسناده [ عن أبي مريم الكندي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل : أي شيء كان أول من أمر نبوتك ؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم و تلا : { و منك و من نوح } الآية و بشرى المسيح عيسى بن مريم و رأت أم رسول الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين يديها سراج أضاءت لها من قصور الشام ثم قال : و وراء ذلك قريتين أو ثلاثا ] و إن أريد بها رؤية عين كما قال ابن عباس في قول الله عز و جل : { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } إنها رؤية عين أريها النبي صلى الله عليه و سلم ليلة أسري به فقد روى أن أمه رأت ذلك عند ولادة النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن اسحاق : كانت آمنة بنت وهب تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد و آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في القرآن محمد و ذكر ابن سعد عن الواقدي بأسانيد له متعددة : أن آمنة بنت وهب قالت : لقد علقت به تعني النبي صلى الله عليه و سلم فما وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق و المغرب ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها و رفع رأسه إلى السماء و في حديث بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه و خرج معه نور أضاءت له قصور الشام و أسواقها حتى رأت أعناق الإبل ببصرى رافعا رأسه إلى السماء و روى البيهقي بإسناده [ عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة ولدته قالت : فما شيء أنظر إليه إلا نور و إني أنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول ليقعن علي ]



وخرج الإمام أحمد [ من حديث عتبة بن عبد السلمي عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن أمه قالت : إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام ] و روى ابن اسحاق [ عن جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر عمن حدث عن سليمة أم النبي صلى الله عليه و سلم التي أرضعته أن آمنة بنت وهب حدثتها أنها قالت : إني حملت به فلم أر حملا قط كان أخف علي منه و لا أعظم بركة منه لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له أعناق الإبل ببصرى ] و خروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض و زال به ظلمة الشرك منها كما قال تعالى : { قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم } و قال تعالى : { فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } و في هذا المعنى يقول العباس في أبياته المشهورة السائرة :



و أنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء و في النـ ... ور و سبل الرشاد نخترق



وأما إضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته بأنها دار ملكه كما ذكر كعب أن في الكتب السابقة محمد رسول الله مولده بمكة و مهاجره يثرب و ملكه بالشام فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و إلى الشام ينتهي ملكه ولهذا أسري به صلى الله عليه و سلم إلى الشام إلى بيت المقدس كما هاجر إبراهيم عليه الصلاة و السلام من قبله إلى الشام قال بعض السلف : ما بعث الله نبيا إلا من الشام فإن لم يبعثه منها هاجر إليها و في آخر الزمان يستقر العلم و الإيمان بالشام فيكون نور النبوة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام



و خرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و أبي الدرداء و خرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو عمود ساطع عمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام ]



و في المسند و الترمذي و غيرهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم يعني الشام و بالشام ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان و هو المبشر بمحمد صلى الله عليه و سلم و يحكم به و لا يقبل من أحد غير دينه فيكسر الصليب و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يصلي خلف إمام المسلمين و يقول : إن هذه الأمة أئمة بعضهم لبعض ] إشارة إلى أنه متبع لدينهم غير ناسخ له و الشام هي في آخر الزمان أرض المحشر و المنشر فيحشر الناس إليهم قبل القيامة من أقطار الأرض فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم و هي أرض الشام طوعا كما تقدم أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم و قال صلى الله عليه و سلم : [ عليكم بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده ] خرجه الإمام أحمد و أبو داود و ابن حبان و الحاكم في صحيحهما و قال أبو أمامة : لا تقوم الساعة حتى ينتقل خيار أهل العراق إلى الشام و شرار أهل الشام إلى العراق و خرجه الإمام أحمد



و قد ثبت في الصحيحين [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز فتضيء لها أعناق الإبل ببصرى ] و قد خرجت هذه النار بالحجاز بقرب المدينة و رؤيت أعناق الإبل من ضوءها ببصرى في سنة أربع و خمسين و ستمائة و عقيبها جرت واقعة بغداد و قتل بها الخليفة و عامة من كان ببغداد و تكامل خراب أهل العراق على أيدي التتار و هاجر خيار أهلها إلى الشام من حينئذ فأما شرار الناس فتخرج نار في آخر الزمان تسوقهم إلى الشام قهرا حتى تجتمع الناس كلها بالشام قبل قيام الساعة



وفي سنن أبي داود [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ] و خرجه الحاكم و لفظه : [ خير منازل المسلمين يومئذ ]





ذكر فضل هذه الأمة

إخواني من كان من هذه الأمة فهو من خير الأمم عند الله عز و جل قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها و أكرمها عل الله عز و جل لما كان هذا الرسول النبي الأمي خير الخلق و أفضلهم كانت أمته خير أمة و أفضلها فما يحسن بمن كان من خير الأمم و انتسب إلى متابعة خير الخلق و خصوصا من كان يسكن خير منازل المسلمين في آخر الزمان إلا أن يكون متصفا بصفات الخير مجتنبا لصفات الشر و قبيح به أن يرضى لنفسه أن يكون من شر الناس مع انتسابه إلى خير الأمم و متابعة خير الرسل قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } فخير الناس من آمن و عمل صالحا و قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } ] و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير الناس من فقه في دين الله و وصل رحمه و أمر بالمعروف و نهى عن المنكر ] و في رواية : [ خير الناس أتقاهم للرب و أوصلهم للرحم و آمرهم بالمعروف و أنهاهم عن المنكر ] و قال : [ الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ] و قال : [ خير الناس من طال عمره و حسن عمله و شر الناس من طال عمره و ساء عمله ] و قال : [ خيركم من يرجى خيره و يؤمن شره و شركم من لا يرجى خيره و لا يؤمن شره ] و قال : [ ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا : بلى قال : الذين إذا رؤوا ذكر الله و قال : ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى قال : المشاؤن بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب ] و قال : [ شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه ] و قال : [ إن من شر الناس يوم القيامة منزلة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه و هؤلاء بوجه ] و قال : [ إن من شر الناس عند الله منزلة من يقرأ كتاب الله ثم لا يرعوي إلى ما فيه ] و قال : [ من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من أذهب آخرته بدنيا غيره ]



أعمال الأمة تعرض على نبيها في البرزخ فليستح عبد أن يعرض على نبيه من عمله ما نهاه عنه لما وقف صلى الله عليه و سلم عام حجة الوداع قال : [ إني فرطكم على الحوض و أني مكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي ] يشير إلى أنه صلى الله عليه و سلم يستحي من سيئات أمته إذا عرضت عليه و قال : [ ليؤخذن برجال من أمتي ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي ]



خير هذه الأمة أولها قرنا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] و قال : [ بعثت في خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كتبت من القرن الذي كنت منه ]



كما قد جاء مدح أصحابه في كتابه تعالى : { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } و { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } و خص الصديق من بينهم بالصحبة بقوله : { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } لما جلى الرسول صلى الله عليه و سلم عروس الإسلام و أبرزها للبصائر من خدرها أخرج أبو بكر رضي الله عنه ماله كله نثارا لهذا العروس فأخرج عمر النصف موافقة له فقام عثمان بوليمة العرس فجهز جيش العسرة فعلم علي رضي الله عنه أن الدنيا ضرة هذه العروس و أنهما لا يجتمعان فبت طلاقها ثلاثا



فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة و أسبغ علينا هذه النعمة و أعطانا ببركة نبينا هذه الفضائل الجمة فقال لنا : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } من أين في الأمم مثل أبي بكر الصديق أو عمر الذي ما سلك طريقا إلا هرب الشيطان من ذلك الطريق أو عثمان الصابر على مر الضيق أو عليا بحر العلم العميق أو حمزة و العباس أفيهم مثل طلحة و الزبير القرنين أو مثل سعد و سعيد هيهات من أين أو مثل ابن عوف و أبي عبيدة و من مثل الإثنين إن شبهتهم بهم فقد أبعدتم القياس من أين في زهاد الأمم مثل أويس أو في عبادهم مثل عامر بن عبد قيس أو في خائفهم مثل عمر بن عبد العزيز هيهات ليس ضوء الشمس كالمقايس أو في علمائهم مثل أبي حنيفة و مالك و الشافعي السديد المالك كيف تمدحه و هو أجل من ذلك ما أحسن بنيانه و الأساس أثم أعلى من الحسن البصري و أنبل أو ابن سيرين الذي بالورع تقبل أو سفيان الثوري الذي بالخوف و العلم تسربل أو مثل أحمد الذي بذل نفسه لله و سبل تالله ما في الأمم مثل ابن حنبل إرفع صوتك بهذا و لا بأس : { كنتم خير أمة أخرجت للناس }

لاح شيب الرأس مني فنصح ... بعد لهو وشباب و مرح

إخوتي توبوا إلى الله بنا ... قد لهونا و جهلنا ما صلح

نحن في دار نرى الموت بها ... لم يدع فيها لذي اللب فرح

يا بني آدم صونوا دينكم ... ينبغي للدين أن لا يطرح

و احمدوا الله الذي أكرمكم ... بنبي قام فيكم فنصح

بنبي فتح الله به ... كل خير نلتموه و منح

مرسل لو يوزن الناس به ... في التقى و البر خفوا و رجح

فرسول الله أولى بالعلى ... و رسول الله أولى بالمدح





المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا



خرج مسلم في صحيحه [ من حديث أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال : ذاك يوم ولدت فيه و أنزلت علي فيه النبوة ] أما ولادة النبي صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين فكالمجمع عليه بين العلماء و قد قاله ابن عباس و غيره و قد حكي عن بعضهم أنه ولد يوم الجمعة و هو قول ساقط مردود و روي عن أبي جعفر الباقر : أنه توقف في ذلك و قال : لا يعلم ذلك إلا الله و إنما قال هذا لأنه لم يبلغه في ذلك ما يعتمد عليه فوقف تورعا و أما الجمهور فبلغهم في ذلك ما قالوا بحسبه : و قد روي عن أبي جعفر أيضا موافقتهم و أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد يوم الإثنين موافقة لما قاله سائر العلماء و حديث أبي قتادة يدل على أنه صلى الله عليه و سلم ولد نهارا في يوم الإثنين و قد روي : أنه ولد عند طلوع الفجر منه و روى أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه و خرجه من طريقه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كان بمر الظهران راهب يدعى عيص من أهل الشام و كان يقول : يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب و يملك العجم هذا زمانه فكان لا يولد بمكة مولود إلا سأل عنه فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيص فناداه فأشرف عليه فقال له عيص : كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الإثنين و يبعث يوم الإثنين و يموت يوم الإثنين قال : إنه ولد لي مع الصبح مولود قال : فما سميته ؟ قال : محمدا قال : و الله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه فقد أتى عليهن منها أنه طلع نجمه البارحة و أنه ولد اليوم و أن اسمه محمد انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه



و قد روي ما يدل على إنه ولد ليلا و قد سبق في المجلس الذي قبله من الآثار ما يستدل به لذلك و في صحيح الحاكم [ عن عائشة قالت : كان بمكة يهودي يتجر فيها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا : لا نعلمه فقال : ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا : أخرجي إلينا ابنك فأخرجته و كشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه فلما أفاق قالوا : ويلك ما لك ؟ قال : ذهبت و الله النبوة من بني إسرائيل ] و هذا الحديث يدل على أنه ولد بخاتم النبوة بين كتفيه



و خاتم النبوة : من علامات نبوته التي كان يعرفه بها أهل الكتاب و يسألون عنها و يطلبون الوقوف عليها و قد روي : أن هرقل بعث إلى النبي بتبوك من ينظر له خاتم النبوة ثم يخبره عنه و قد روي [ من حديث أبي ذر و عتبة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن الملكين اللذين شقا صدره و ملآه حكمة هما اللذان ختماه بخاتم النبوة ] و هذا يخالف حديث عائشة هذا و قد روي أن هذا الخاتم رفع بعد موته من بين كتفيه و لكن إسناد هذا الخبر ضعيف



و قد روي في صفة ولادته آيات تستغرب فمنها : روي [ عن آمنة بنت وهب أنها قالت : وضعته فما وقع كما وقع الصبيان وقع واضعا يده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ] و روي أيضا : [ أنه قبض من التراب بيده لما وقع بالأرض ] فقال بعض القافة : إن صدق الفال ليغلبن أهل الأرض و روي : [ أنه وضع تحت جفنة فانفلقت عنه و وجدوه ينظر إلى السماء ]

و اختلفت الروايات هل ولد مختونا ؟ ! فروي : [ أنه ولد مختونا مسرورا ] يعني مقطوع السرة حتى قال الحاكم : تواترت الروايات بذلك و روي أن جده ختنه و توقف الإمام أحمد في ذلك قال المروذي : سئل أبو عبد الله هل ولد النبي صلى الله عليه و سلم مختونا ؟ قال : الله أعلم ثم قال : لا أدري قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا : قد روي : [ أنه صلى الله عليه و سلم ولد مختونا مسرورا ] و لم يجترىء أبو عبد الله على تصحيح هذا الحديث



و أما شهر ولادته فقد اختلف فيه : : فقيل : في شهر رمضان روي عن عبد الله بن عمرو بإسناد لا يصح و قيل : في رجب و لا يصح و قيل : في ربيع الأول و هو المشهور بين الناس حتى نقل ابن الجوزي و غيره عليه الإتفاق و لكنه قول جمهور العلماء ثم اختلفوا في أي يوم كان من الشهر : فمنهم من قال : هو غير معين و إنما ولد في يوم الإثنين من ربيع من غير تعين لعدد ذلك اليوم من الشهر و الجمهور على أنه يوم معين منه ثم اختلفوا فقيل : لليلتين خلتا منه و قيل : لثمان خلت منه و قيل : لعشر و قيل : لاثنتي عشرة و قيل : لسبع عشرة و قيل : لثماني عشرة و قيل لثمان بقين منه و قيل : إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية و المشهور الذي عليه الجمهور : أنه ولد يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول و هو قول ابن إسحاق و غيره



و أما عام ولادته فالأكثرون على أنه عام الفيل و ممن قال ذلك : قيس بن مخرمة و قبات بن أشيم و ابن عباس و روي عنه : أنه ولد يوم الفيل و قيل : إن هذه الرواية وهم إنما الصحيح عنه أنه قال : عام الفيل و من العلماء من حكى الإتفاق على ذلك و قال : كل قول يخالفه وهم و المشهور أنه صلى الله عليه و سلم ولد بعد الفيل بخمسين يوما و قيل : بعده بخمس و خمسين يوما و قيل : بشهر و قيل : بأربعين يوما و قد قيل : إنه ولد بعد الفيل بعشر سنين و قيل : بثلاث و عشرين سنة و قيل : بأربعين سنة و قيل : قبل الفيل بخمس عشرة سنة و هذه الأقوال وهم عند جمهور العلماء و منها لا يصح عمن حكي عنه قال إبراهيم بن المنذر الحزامي : الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل و قال خليفة بن خياط : هذا هو المجمع عليه و كانت قصة الفيل توطئة لنبوته و تقدمة لظهوره و بعثته و قد قص الله ذلك في كتابه فقال : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * و أرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول } فقوله : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } استفهام تقرير لمن سمع هذا الخطاب و هذا يدل على اشتهار ذلك بينهم و معرفتهم به و أنه مما لا يخفى علمه عن العرب خصوصا قريشا و أهل مكة و هذا أمر اشتهر بينهم و تعارفوه و قالوا فيه الأشعار السائرة و قد قالت عائشة : رأيت قائد الفيل و سائسه بمكة أعميين يستطعمان و في هذه القصة ما يدل على تعظيم مكة و احترامها و احترام بيت الله الذي فيها ولادة النبي صلى الله عليه و سلم عقب ذلك تدل على نبوته و رسالته فإنه صلى الله عليه و سلم بعث بتعظيم هذا البيت و حجه و الصلاة إليه فكان هذا البلد هو موطنه و مولده فاضطره قومه عند دعوتهم إلى الله تعالى إلى الخروج منه كرها بما نالوه به من الأذى ثم إن الله تعالى ظفره بهم و أدخله عليهم قهرا فملك البلد عنوة و ملك رقاب أهله ثم من عليهم و أطلقهم و عفا عنهم فكان في تسليط نبيه صلى الله عليه و سلم على هذا البلد و تمليكه إياه و لأمته من بعده ما دل على صحة نبوته فإن الله حبس عنه من يريد بالأذى و أهلكه ثم سلط عليه رسوله و أمته كما قال صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حبس عن مكة الفيل و سلط عليها رسوله و المؤمنين ] فإن الرسول صلى الله عليه و سلم و أمته إنما كان قصدهم تعظيم البيت و تكريمه و احترامه و لهذا أنكر النبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح على من قال : اليوم تستحل الكعبة و قال : [ اليوم تعظم الكعبة ] و قد كان أهل الجاهلية غيروا دين إبراهيم و إسماعيل بما ابتدعوه من الشرك و تغيير بعض مناسك الحج فسلط الله رسوله و أمته على مكة فطهروها من ذلك كله و ردوا الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف و هو الذي دعا لهم مع ابنه إسماعيل عند بناء البيت أن يبعث فيهم رسولا منهم عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة فبعث الله فيهم محمدا صلى الله عليه و سلم من ولد إسماعيل بهذه الصفة فطهر البيت و ما حوله من الشرك و رد الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف و التوحيد الذي لأجله بني البيت كما قال الله تعالى : { و إذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود }



وأما تسليط القرامطة على البيت بعد ذلك فإنما كان عقوبة بسبب ذنوب الناس و لم يصلوا إلى هدمه و نقضه و منع الناس عن حجه و زيارته كما كان يفعل أصحاب الفيل لو قدروا على هدمه و صرف الناس عن حجه و القرامطة أخذوا الحجر و الباب و قتلوا الحجاج و سلبوهم أموالهم و لم يتمكنوا من منع الناس من حجة بالكلية و لا قدروا على هدمه بالكلية كما كان أصحاب الفيل يقصدونه ثم أذلهم الله بعد ذلك و خذلهم و هتك أستارهم و كشف أسرارهم و البيت المعظم باق على حاله من التعظيم و الزيارة و الحج و الإعتمار و الصلاة إليه لم يبطل شيء من ذلك عنه بحمد الله و منه و غاية أمرهم أنهم أخافوا حج العراق حتى انقطعوا بعض السنين ثم عادوا و لم يزل الله يمتحن عباده المؤمنين بما يشاء من المحن و لكن دينه قائم محفوظ لا يزال تقوم به أمة من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله و هم على ذلك كما قال تعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون } و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن هذا البيت يحج و يعتمر بعد خروج يأجوج و مأجوج و لا يزال كذلك حتى تخربه الحبشة و يلقون حجارته في البحر و ذلك بعد أن يبعث الله ريحا طيبة تقبض أرواح المؤمنين كلهم فلا يبقى على الأرض مؤمن و يسرى بالقرآن من الصدور و المصاحف فلا يبقى في الأرض قرآن و لا إيمان و لا شيء من الخير فبعد ذلك تقوم الساعة و لا تقوم إلا على شرار الناس



وقوله صلى الله عليه و سلم : [ و يوم أنزلت علي فيه النبوة ] يعني أنه صلى الله عليه و سلم نبىء يوم الإثنين و في المسند عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين و استنبىء يوم الإثنين و خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الإثنين و دخل المدينة يوم الإثنين و توفي يوم الإثنين و رفع الحجر الأسود يوم الإثنين و ذكر ابن إسحاق : أن النبوة نزلت يوم الجمعة و حديث أبي قتادة يرد هذا و اختلفوا : في أي شهر كان ابتداء النبوة ؟ فقيل : في رمضان و قيل : في رجب و لا يصح و قيل في ربيع الأول و قيل : إنه نبىء يوم الإثنين لثمان من ربيع الأول



وأما الإسراء فقيل كان في رجب و ضعفه غير واحد و قيل : كان في ربيع الأول و هو قول إبراهيم الحربي و غيره و أما دخول المدينة و وفاته : فكانا في ربيع الأول بغير خلاف مع اختلاف في تعيين ذلك اليوم من أيام الشهر و في قول النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن صيام يوم الإثنين ؟ : [ ذاك يوم ولدت فيه و أنزلت علي فيه النبوة ] إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده فإن أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد صلى الله عليه و سلم لهم و بعثته و إرساله إليهم كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } فإن النعمة على الأمة : بإرساله أعظم من النعمة عليهم بإيجاد السماء و الأرض و الشمس و القمر و الرياح و الليل و النهار و إنزال المطر و إخراج النبات و غير ذلك فإن هذه النعم كلها قد عمت خلقا من بني آدم كفروا بالله و برسله و بلقائه فبدلوا نعمة الله كفرا فأما النعمة بإرسال محمد صلى الله عليه و سلم فإن بها تمت مصالح الدنيا و الآخرة و كمل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده و كان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم و آخرتهم فصيام يوم تجددت فيه هذه النعم من الله على عباده المؤمنين حسن جميل و هو من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر و نظير هذا صيام يوم عاشوراء حيث أنجى الله فيه نوحا من الغرق و نجى فيه موسى و قومه من فرعون و جنوده و أغرقهم في اليم فصامه نوح و موسى شكرا لله فصامه رسول الله صلى الله عليه و سلم متابعة لأنبياء الله و قال لليهود : [ نحن أحق بموسى منكم ] و صامه و أمر بصيامه



وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى صيام يوم الإثنين و يوم الخميس روي ذلك عنه [ من حديث عائشة و أبي هريرة و أسامة بن زيد و في حديث أسامة : أنه سأله عن ذلك ؟ فقال : إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي و أنا صائم ] و [ في حديث أبي هريرة أنه سئل عن ذلك ؟ فقال : إنه يغفر فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين يقول دعهما حتى يصطلحا ] و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة مرفوعا : تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين و الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله إلا رجل كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا ] و يروى [ من حديث أبي أمامة مرفوعا : ترفع الأعمال يوم الإثنين و الخميس فيغفر للمستغفرين و يترك أهل الحقد كما هو ] و في المسند [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن أعمال بني آدم تعرض علي كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم ] كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس و تبكي إليه و يقول : اليوم تعرض أعمالنا على الله عز و جل يا من يبهرج بعلمه على من تبهرج و الناقد بصير يا من يسوف بتطويل أمله إلى كم تسوف و العمر قصير



صروف الحتف مترعة الكؤوس ... تدور على الرعايا و الرؤوس

فلا تتبع هواك فكل شخص ... يصير إلى بلى و إلى دروس

و خف من هول يوم قمطرير ... تخوف شره ضنك عبوس

فمالك غير تقوى الله زاد ... و فعلك حين تقبر من أنيس

فحسنه ليعرض مستقيما ... ففي الإثنين يعرض و الخميس





المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم



في الصحيحين [ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال : إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر و قال : يا رسول الله فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فعجبنا و قال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء و بين ما عند الله و هو يقول : فديناك بآبائنا و أمهاتنا قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المخير و كان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من آمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو اتخذت من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه ] الموت مكتوب على كل حي الأنبياء و الرسل و غيرهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : { إنك ميت و إنهم ميتون } و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون } و قال : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الآيتين



خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض و نفخ فيه من روحه فكانت روحه في جسده و أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار عارية و قضى عليه و على ذريته أنه لا بد من أن يسترد أرواحهم من هذه الأجساد و يعيد أجسادهم إلى ما خلقت منه و هو التراب و وعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرة ثانية ثم يرد إليها الأرواح مرة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار البقاء قال الله تعالى : { قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون } و قال : { منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى } و قال : { و الله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا } و أرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزرع من الأرض و إحياء الأرض بعد موتها بالمطر و دليلا على إعادة الأرواح إلى أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم و ردها إليهم في يقظتهم كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } و في مسند البزار [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم لما ناموا عن الصلاة : إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها إذا شاء و يرسلها إذا شاء ]



استعدي للموت يا نفس واسعي ... للنجاة فالحازم المستعد

قد تيقنت أنه ليس للحي ... خلود ولا من الموت بد

إنما أنت مستعيرة ما سـ ... وف تردين والعواري ترد

* * *

فما أهل الحياة لنا بأهل ... ولا دار الحياة لنا بدار

وما أموالنا و الأهل فيها ... ولا أولادنا إلا عواري

وأنفسنا إلى أجل قريب ... سيأخذها المعير من المعار



مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح و الجسد جميعا فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد و ألفته و اشتدت إلفتها له و امتزاجها به و دخولها فيه حتى صارا كالشيء الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد و ألم عظيم و لم يذق ابن آدم حياته ألما مثله و إلى ذلك الإشارة بقول الله عز و جل : { كل نفس ذائقة الموت } قال الربيع بن خثيم أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله و يتزايد الألم بمعرفة المحتضر فإن جسده إذا فارقته الروح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوام و يبليه التراب حتى يعود ترابا و إن الروح المارقة له لا تدري أين مستقرها هل هو في الجنة أو في النار فإن كان عاصيا مصرا على المعصية إلى الموت فربما غلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار فتتضاعف بذلك حسرته و ألمه و ربما كشفت له مع ذلك عن مقعده من النار فرآه أو يبشر بذلك فيجتمع له مع كرب الموت و ألمه العظيم معرفته بسوء مصيره و هذا المراد بقول الله عز و جل : { و التفت الساق بالساق } على ما فسر به كثير من السلف فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت فلا يسأل عن سوء حاله و قد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا قال الله تعالى : { و جاءت سكرة الموت بالحق }:



ألا الموت كأس أي كأس ... و أنت لكائسه لا بد حاسي

إلى كم و الممات إلى قريب ... تذكر بالممات و أنت ناسي



وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بكثرة ذكر الموت فقال : [ أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ] و في حديث مرسل أنه صلى الله عليه و سلم مر بمجلس قد استعلاه الضحك فقال [ شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات الموت ] و في الإكثار من ذكر الموت فوائد منها : أنه يحث على الإستعداد له قبل نزوله و يقصر الأمل و يرضى بالقليل من الرزق و يزهد في الدنيا و يرغب في الآخرة و يهون مصائب الدنيا و يمنع من الأشر و البطر و التوسع في لذات الدنيا و[ في حديث أبي ذر المرفوع الذي خرجه ابن حبان في صحيحه و غيره : أن صحف موسى كانت عبرا كلها ] عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبت لمن رأى الدنيا و سرعة تقبلها كيف يطمئن إليها و قد رزي أن الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب مكتوب فيه هذا أيضا قال الحسن : إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا عيشا لا موت فيه و قال : فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب بها فرحا و قال غيره : ذهب الموت بلذاذة كل عيش و سرور كل نعيم ثم بكى و قال : واها لدار لا موت فيها



اذكر الموت هادم اللذات ... و تهيأ لمصرع سوف يأتي غيره

يا غافل القلب عن ذكر المنيات ... عما قليل ستلقى بين أموات

فاذكر محلك من قبل الحلول به ... و تب إلى الله من لهو و لذات

إن الحمام له وقت إلى أجل ... فاذكر مصائب أيام و ساعات

لا تطمئن إلى الدنيا و زينتها ... قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي



قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت و الوقوف بين يدي الله عز و جل

كيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله

وكيف يلذ العيش من كان موقنا ... بأن إله الخلق لا بد سائله



قال أبو الدرداء : كفى بالموت واعظا و كفى بالدهر مفرقا اليوم في الدور و غدا في القبور



اذكر الموت و داوم ذكره ... إن في الموت لذي اللب عبر

وكفى بالموت فاعلم واعظا ... لمن الموت عليه قد قدر



غفلة الإنسان عن الموت مع أنه لا بد له منه من العجب و الموجب له طول الأمل



كلنا في غفلة و المـ ... وت يغدو و يروح

لبنى الدنيا من المـ ... وت غبوق و صبوح

سيصير المرء يوما ... جسدا ما فيه روح

بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح

نح على نفسك يا مسكـ ... ين إن كنت تنوح

لتموتن و لو عمـ ... رت ما عمر نوح



لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة و المشقة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخير و لذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن كما [ في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله عز و جل : و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لا بد له منه ] كما رواه البخاري قال ابن أبي المليكة : [ لما قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز و جل له : كيف وجدت الموت ؟ قال : يا رب كأن نفسي تنزع بالبلى فقال : هذا و قد هونا عليك الموت ] و قال أبو إسحاق : قيل لموسى عليه السلام : كيف وجدت طعم الموت قال : وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب قال : هذا و قد هونا عليك الموت و يروى أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما و كان يقول للحواريين : ادعوا الله أن يخفف عني الموت فلقد خفت الموت خوفا أوقفني مخافة الموت على الموت كيف يطمع في البقاء و ما من الأنبياء إلا من مات أم كيف يؤمن هجوم المنايا و لم يسلم الأصفياء و الأحباء هيهات هيهات



قد مات كل نبي ... و مات كل بنيه

ومات كل شريف ... و عاقل و سيفه

لا يوحشنك طريق ... كل الخلائق فيه



أول ما أعلم النبي صلى الله عليه و سلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } و قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل كان يعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم متى يموت ؟ قال : نعم قيل : و من أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته هذه السورة : { إذا جاء نصر الله و الفتح } يعني فتح مكة { و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ذلك علامة موته و قد كان نعى نفسه إلى فاطمة عليها السلام فإن المراد من هذه السورة : أنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد و دخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد و الإستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة و التبليغ و ما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة و روي في حديث : [ إنه تعبد حتى صار كالشن البالي ] [ و كان يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة فعرضه ذلك العام مرتين ] [ و كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فيه ذلك العام عشرين ] [ و أكثر من الذكر و الإستغفار ] قالت أم سلمة : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر أمره لا يقوم و لا يقعد و لا يذهب و لا يجيء إلا قال سبحان الله و بحمده فذكرت ذلك له فقال : إني أمرت بذلك ] و تلا هذه السورة و قالت عائشة رضي الله عنها : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكثر أن يقول قبل موته : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فقلت له : إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم ؟ قال : إن ربي أخبرني أنني سأرى علما في أمتي و إني إذا رأيته أن أسبح بحمده و أستغفره و قد رأيته ثم تلا هذه السورة ] إذا كان سيد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى فكيف يكون حال المذنب المسيء المتلوث بالذنوب المحتاج إلى التطهير من لم ينذره باقتراب أجله و حي أنذره الشيب و سلب أقرانه بالموت



كفى مؤذنا باقتراب الأجل ... شباب تولى و شيب نزل

وموت الأقران و هل بعده ... بقاء يؤمله من عقل

إذا ارتحلت قرناء الفتى ... على حكم ريب المنون ارتحل



قال وهب بن الورد : إم لله ملكا ينادي في السماء كل يوم و ليلة أبناء الخمسين : زرع دنا حصاده أبناء الستين : هلموا إلى الحساب أبناء السبعين : ماذا قدمتم و ماذا أخرتم أبناء الثمانين : لا عذر لكم و عن وهب قال : ينادي مناد : أبناء الستين : عدوا أنفسكم في الموتى و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أعذر صلى الله عليه و سلم إلى من بلغه ستين من عمره ] و في حديث آخر : [ إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين و هو العمر الذي قال الله فيه : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } ] و في الترمذي عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين و أقلهم من يجوز ذلك ] و في حديث آخر : [ معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ] و في حديث آخر : [ إن لكل شيء حصادا و حصاد أمتي ما بين الستين إلى السبعين ] و في هذا المعترك قبض النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان الثوري : من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه و سلم فليتخذ لنفسه كفنا



وإن أمر قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ولقريب



قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة قال له : أنت من ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون فقال فضيل : من علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف و أنه مسؤول فليعد للمسألة جوابا فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة قال : ماهي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى و ما بقى



خذ في جد فقد تولى العمر ... كم ذا التفريط قد تدانى الأمر

أقبل فعسى يقبل منك العذر ... كم تبنى كم تنقض كم ذا الغدر



وما زال صلى الله عليه و سلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس : [ خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ] و طفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى خما في طريقه بين مكة و المدينة فخطبهم و قال : [ أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ثم حض على التمسك بكتاب الله و وصى بأهل بيته ] ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خير بين لقاء الله و بين زهرة الدنيا و البقاء فيها ما شاء الله فاختار لقاء الله و خطب الناس و أشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح



وكان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر و كان مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور و قيل : أربعة عشر يوما و قيل : اثنا عشر يوما و قيل : عشرة أيام و هو غريب و كانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء مرض ففي المسند و صحيح ابن حبان [ عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه و هو معصوب الرأس فقام على المنبر فقال : إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار الآخرة قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر فقال : بأبي و أمي بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة ]



وفي المسند [ عن أبي مويهبة : أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع و قال : ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم قال : يا أبا موهبة إني قد أعطيت خزائن الدنيا و الخلد ثم الجنة فخيرت بين ذلك و بين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي و الجنة ثم انصرف فابتدأه وجعه الذي قبضه الله فيه ] لما قويت معرفة الرسول صلى الله عليه و سلم بربه ازداد حبه له و شوقه إلى لقائه فلما خير بين البقاء في الدنيا و بين لقاء ربه اختار لقاءه على خزائن الدنيا و البقاء فيها سئل الشبلي هل يقنع المحب بشيء من حبيبه دون مشاهدته فأنشد :



والله لو أنك توجتني ... بتاج كسرى ملك المشرق

ولو بأموال الورى جدت لي ... أموال من باد و من قد بقي

وقلت لي : لا نلتقي ساعة ... اخترت يا مولاي أن نلتقي



لما عرض الرسول صلى الله عليه و سلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء و لم يصرح خفي المعنى على كثير ممن سمع و لم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به ثاني اثنين إذ هما في الغار و كان أعلم الأمة بمقاصد الرسول صلى الله عليه و سلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى و قال : بل نفديك بأموالنا و أنفسنا و أولادنا فسكن الرسول صلى الله عليه و سلم جزعه و أخذ في مدحه و الثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله و لا يقع عليه اختلاف في خلافته فقال : [ إن من أمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر ] و في رواية أخرى أنه قال : [ ما لأحد عندنا يد إلا و قد كافأناه ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها و ما نفعني مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر ] خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن إخوة الإسلام ] لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم خليل الله لم يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح و لا يصلح هذا لبشر كما قيل :



قد تخللت مسلك الروح مني ... و بذا سمي الخليل خليلا



و لهذا المعنى قيل : إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده و لم يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه فيها أحد



أروح و قد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا

فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراك



ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ]

وفي رواية : [ سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر ] و في هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد و الإستطراق فيه بخلاف غيره و ذلك من مصالح المسلمين المصلين في المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في ذلك فغضب و قال : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] فولاه إمامة الصلاة دون غيره و أبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة و سد استطراق غيره و في ذلك إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره و لهذا قالت الصحابة عند بيعة أبي بكر :

رضيه رسول الله صلى الله عليه و سلم لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا و لما قال أبو بكر : قد أقلتكم بيعتي قال علي : لا نقيلك و نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن ذا يؤخرك لما انطوى بساط النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبق على وجه الأرض أكمل من درجة الصديقية و أبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول و القيام مقامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عزم على أن يكتب لأبي بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره و قال : [ يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و ربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم متوهم أن نصه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له و الولايات كلها لا يقصد بها مصلحة المولى بل مصلحة المسلمين عامة



وكان أول ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه و سلم من مرضه وجع رأسه و لهذا خطب وقد عصب رأسه بعصابة دسماء و كان صداع الرأس و الشقيقة يعتريه كثيرا في حياته و يتألم منه أياما و صداع الرأس من علامات أهل الإيمان و أهل الجنة و قد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه وصف أهل النار فقال : هم الذين لا يألمون رؤوسهم ] و دخل عليه أعرابي فقال له : [ يا أعرابي هل أخذك هذا الصداع ؟ فقال : و ما الصداع ؟ قال : عروق تضرب على الإنسان في رأسه فقال : ما وجدت هذا فلما ولى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه و سلم : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا ] خرجه الإمام أحمد و النسائي و قال كعب : أجد في التوراة لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا و في المسند [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم الذي بدأ فيه فقلت : وارأساه فقال : وددت أن ذلك كان وأنا حي فهيأتك و دفنتك فقلت : غيراء كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك فقال : أنا وارأساه ادعو لي أباك و أخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يقول قائل و يتمنى متمن و يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر ] و خرجه البخاري بمعناه و لفظه : [ أن عائشة رضي الله عنها قالت : وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك لو كان و أنا حي فأستغفر و أدعو لك قالت عائشة : واثكلاه و الله إني لأظنك تحب موتي و لو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : بل أنا وارأساه ] و ذكر بقية الحديث و في المسند أيضا [ عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مر ببابي كثيرا ما يلقي الكلمة ينفع الله بها فمر ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا قلت : يا جارية ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي فمر بي و قال : يا عائشة ما شأنك ؟ فقلت : أشتكي رأسي فقال : أنا وارأساه فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء به محمولا في كساء فدخل علي فبعث إلى النساء و قال : إني اشتكيت أني لا أستطيع أن أدور بينكن فأذن لي فلأكن عند عائشة ] و فيه أيضا عنها قالت : [ رجع إلي النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم من جنازة بالبقيع و أنا أجد صداعا في رأسي و أنا أقول وارأساه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و كفنتك ثم صليت عليك و دفنتك فقلت : لكأني بك و الله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه ]



[فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس و الظاهر أنه كان مع حمى فإن الحمى اشتدت به في مرضه فكان يجلس في مخضب و يصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك و كان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ؟ فقال : إنا كذلك يشدد علينا البلاء و يضاعف لنا الأجر و قال : إني أوعك كما يوعك رجلان منكم و من شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق و حصل له ذلك غير مرة فأغمي عليه مرة و ظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه فلما أفاق أنكر ذلك و أمر أن يلد من ولده و قال : إن الله لم يكن ليسلطها علي يعني ذات الجنب و لكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر يعني : أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية فأكل منها يومئذ فكان ذلك يثور عليه أحيانا فقال في مرض موته : ما زالت أكلة خيبر تعاودني فيها أوان انقطاع أبهري و كان ابن مسعود و غيره يقولون : إنه مات شهيدا من السم و قالت عائشة : ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان عنده في مرضه سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه و قال : ما ظن محمد بربه لو لقي الله و عنده هذه ثم تصدق بها كلها فكيف يكون حال من لقي الله و عنده دماء المسلمين و أموالهم المحرمة و ما ظنه بربه ]



و لم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد فيه فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النساء فقالت قطري لنا في مصباحنا من عكة السمن فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمسى في جديد الموت و كان عند عائشة إزار غليظ مما صنع باليمن و كساء من الملبدة فكانت تقسم بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض فيهما و دخلت عليه فاطمة عليها السلام في مرضه فسارها رسول الله بشيء فبكت ثم سارها فضحكت فسئلت عن ذلك ؟ فقالت : لا أفشي سر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما توفي سئلت ؟ فقالت : أخبرني أنه يموت في مرضه فبكيت ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به و أني سيدة نساء العالمين فضحكت فلما احتضر صلى الله عليه و سلم اشتد به الأمر [ فقالت عائشة : ما أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت : و كان عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول : اللهم أعني على سكرات الموت قالت : و جعل يقول : لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ] و في حديث مرسل أنه قال : [ اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب و القصب و الأنامل اللهم فأعني على الموت و هونه علي ] و لما ثقل النبي صلى الله عليه و سلم جعل يتغشاه الكرب قالت فاطمة عليها السلام : واكرب أبتاه فقال لها : [ لا كرب على أبيك بعد اليوم ] و في حديث خرجه ابن ماجه : أنه صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : [ إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحد الموافاة يوم القيامة ]



ولم يقبض صلى الله عليه و سلم حتى خير مرة أخرى بين الدنيا و الآخرة قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير ] فلما نزل به و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال : [ اللهم الرفيق الأعلى ] فقلت : الآن لا يختارنا و علمت أنه الحديث الذي كان يحدثناه وهو صحيح فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها و في رواية أنه قال : [ اللهم اغفر لي و ارحمني و ألحقني بالرفيق الأعلى ] و في رواية [ أنه أصابه بحة شديدة فسمعته يقول : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا } قالت : فظننت أنه خير ]



و هذه الروايات مخرجة في صحيح البخاري و غيره و قد روي ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير : ففي المسند [ عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما من نبي إلا يقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه أو يلحق ] فكنت قد حفطت ذلك منه فإني لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حتى مالت عنقه فقلت : قد قضى قالت : فعرفت الذي قال : فنظرت إليه حتى ارتفع و نظر فقالت : إذا و الله لا يختارنا فقال : مع الرفيق الأعلى في الجنة { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين } إلى آخر الآية و في صحيح ابن حبان عنها قالت : [ أغمي على رسول الله صلى الله عليه و سلم و رأسه في حجري فجعلت أمسحه و أدعو له بالشفاء فلما أفاق قال : لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل و إسرافيل ] و فيه و في المسند عنها : [ أنها كانت ترقيه في مرضه الذي مات فيه فقال : ارفعي يدك فإنها كانت تنفعني في المدة ] قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقاء الله و بكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة حتى أن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له وفي المسند [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليهون علي الموت إني رأيت بياض كف عائشة في الجنة ] وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا انه قال صلى الله عليه و سلم : [ لقد أريتها في الجنة ليهون بذلك علي موتي كأني أرى كفيها ] يعني عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب عائشة رضي الله عنها حبا شديدا حتى لا يكاد يصبر عناه فمثلت له بين يديه في الجنة ليهون عليه موته فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة و قد سأله رجل : أي النساء أحب إليك ؟ فقال : [ عائشة فقال له فمن الرجال ؟ قال : أبوها ] و لهذا قال لها في ابتداء مرضه لما قالت : وارأساه : وددت أن ذلك كان و أنا حي فأصلي عليك و أدفنك فعظم ذلك عليها و ظنت أنه يحب فراقها و إنما كان يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما و قد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه و سلم سواكا و طيبته بريقها ثم دفعته إليه فاستن به أحسن استنان ثم ذهب يتناوله فضعفت يده عنه فسقط من يده فكانت عائشة تقول : جمع الله بي ريقي وريقه في أخر يوم من الدنيا و أول يوم من الآخرة و الحديث مخرج في الصحيحين





نزول جبريل في الثلاثة أيام الأخيرة لوفاة الرسول



و في حديث خرجه العقيلي أنه صلى الله عليه و سلم قال لها في مرضه : [ ائتيني بسواك رطب امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك لكي يوهن به عند الموت قال جعفر بن محمد عن أبيه لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا أحمد إن الله قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك و خاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول لك : كيف تجدك ؟ فقال : أجدني يا جبريل مغموما و أجدني يا جبريل مكروبا ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك و لم يستأذن على آدمي كان قبلك و لا يستأذن على آدمي بعدك قال : ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال : يا رسول الله يا أحمد إن الله أرسلني إليك و أمرني أن أطيعك في كل ما تأمر إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها و إن أمرتني أن أتركها تركتها ؟ قال : و تفعل ذلك يا ملك الموت قال : بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به فقال جبريل : يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك قال : فامض يا ملك الموت لما أمرت به فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله هذا آخر موطيء من الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا و جاءت التعزية يسمعون الصوت و الحس و لا يرون الشخص : السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله وبركاته : { كل نفس ذائقة الموت و إنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة و خلفا من كل هالك و دركا من كل فائت فبالله فاتقوا و إياه فارجوا إنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ]



وكانت وفاته صلى الله عليه و سلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم و الناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر فهم المسلمون أن يفتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه و سلم حين نظروا إلى وجهه كأنه ورقة مصحف و ظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر و توفى صلى الله عليه و سلم من ذلك اليوم و ظن المسلمون أنه صلى الله عليه و سلم قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الإثنين مفيقا فخرج أبو بكر إلى منزله بالسنح خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و قيل توفي حين زاغت الشمس و الأول أصح و أنه توفي حين اشتد الضحى من يوم الإثنين في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة حين هاجر إليها



واختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل : كان أوله و قيل : ثانية و قيل ثاني عشرة و قيل : ثالث عشرة و قيل : خامس عشرة و المشهور بين الناس : إنه كان ثاني عشر ربيع الأول و قد رد ذلك السهيلي و غيره بأن وقفة حجة الوداع في السنة العاشرة كانت الجمعة كان أول ذي الحجة فيها الخميس و متى كان كذلك لم يصح أن يكون يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول سواء حسبت الشهور الثلاثة أعني : ذا الحجة و محرما و صفرا كلها كاملة أو ناقصة أو بعضها كاملة و بعضها ناقصة و لكن أجيب عن هذا بجواب حسن و هو أن ابن اسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول و هذا ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام و لكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى يومها فيكون اليوم تبعا لليلة و كل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا عشر ليال فمرادهم بأيامها و من هنا يتبين صحة قول الجمهور في أن عدة الوفاة أربعة أشهر و عشر ليال بأيامها و أن اليوم العاشر من جملة تمام العدة خلافا للأوزاعي و كذلك قال الجمهور في أشهر الحج : إنها شوال و ذو القعدة وعشر من ذي الحجة و أن يوم النحر داخل فيها لهذا المعنى خلافا للشافعي وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه و سلم كان : ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا بليلة الأحد و يومها و هو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول و الله أعلم



واختلفوا في وقت دفنه فقيل : دفن من ساعته و فيه بعد و قيل : من ليلة الثلاثاء و قيل : ليلة الأربعاء و لما توفي صلى الله عليه و سلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخربط و منهم من أقعد فلم يطق القيام و منهم من اعتقل لسانه فلم ينطق الكلام و منهم من أنكر موته بالكلية و قال : إنما بعث إليه كما بعث إلى موسى و كان من هؤلاء عمر و بلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعا حتى دخل بيت عائشة و رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجى فكشف عن وجهه الثوب و أكب عليه و قبل جبهته مرارا و هو يبكي و هو يقول : وانبياه واخليلاه واصفياه و قال : إنالله و إنا إليه راجعون مات و الله رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : و الله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتب الله عليك فقدمتها ثم دخل المسجد و عمر يكلم الناس و هم مجتمعون عليه فتكلم أبو بكر و تشهد و حمد الله فأقبل الناس إليه و تركوا عمر فقال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت و تلا : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الآية فاستيقن الناس كلهم بموته و كأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها و قالت فاطمة عليها السلام : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه من ربه ما أدناه و عاشت بعده ستة أشهر فما ضحكت في تلك المدة و حق لها ذلك



على مثل ليلى يقتل المرء نفسه و إن كان من ليلى على الهجر طاويا



كل المصائب تهون عند هذه المصيبة في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه و سلم قال في مرضه : [ يا أيها الناس إن أحد من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ] قال أبو الجوزاء : كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه و يقول : يا عبد الله اتق الله فإن في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة



اصبر لكل مصيبة و تجلد ... و اعلم بأن المرء غير مخلد

واصبر كما صبر الكرام فإنها نوب تنوب اليوم تكشف في غد

وإذا أتتك مصيبة تشجى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد



و لبعضهم :



تذكرت لما فوق الدهر بيننا فعزيت نفسي بالنبي محمد

وقلت لها إن المنايا سبيلنا فمن لم يمت في يومه مات في الغد



كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه و سلم فكيف بقلوب المؤمنين لما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حن إليه و صاح كما يصيح الصبي فنزل إليه فاعتنقه فجعل يهدي كما يهدي الصبي الذي يسكن عند بكائه فقال : لو لم أعتنقه لحن إلي يوم القيامة كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى و قال : هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه و وري أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم قبل دفنه فإذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء و النحيب فلما دفن ترك بلال الأذان ما أمر عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب



لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكاد من وجده يميد

قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد



لما دفن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي دفن فيه أظلم منها كل شيء و ما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم التراب و إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا



ليبك رسول الله من كان باكيافلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا

جزى الله عنا كل خير محمدافقد كان مهديا وقد كان هاديا

وكان رسول الله روحا ورحمة ونورا وبرهانا من الله باديا

وكان رسول الله بالخير آمرا وكان عن الفحشاء والسوء ناهيا

وكان رسول الله بالقسط قائما وكان لما استرعاه مولاه راعيا

وكان رسول الله يدعو إلى الهدى قلبي رسول الله لبيه داعيا

أينسى أبر الناس بالناس كلهم وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا

أينسى رسول الله أكرم من مشى وآثاره بالمسجدين كما هيا

تكدر من بدع النبي محمد عليه السلام كل مل كان صافيا

وكنا إلى الدنيا الدنية بعده وكشفت الأطماع منا مساويا

وكم من منار كان أوضحه لنا ومن علم أمسى وأصبح عافيا

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا

وخير خصال المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا