المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خُلق الحياء!!



أهــل الحـديث
12-06-2014, 06:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.


خُلق الحياء!!

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن من ينبغي على كل مسلم أيها الأفاضل أن يتصف بكل خلق كان يتحلى به الأنبياء ومن صار على هديهم واقتدى بهم من الأتقياء ومن ذلك خُلق "الحياء"،فعن أبي مسعود البدري –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ الناس من كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى، إذا لم تستح فَاصْنَعْ ما شِئْتَ ". رواه البخاري ( 5769)
يقول الخطابي –رحمه الله- :" الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء الأولين ،وأنه لم يرفع ولم ينسخ في جملة ما نسخ من شرائعهم ".غريب الحديث للخطابي (1/156)
ويقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :"هذا صورته صورة الأمر، ومعناه معنى الخبر المحض، أي:من كان لا يستحيي فإنه يصنع ما يشتهي ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى صورة الأمر لفائدة بديعة، وهي أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحسن وزاجر يزجره عن القبيح، ومن لم يكن من نفسه هذا الأمر لم تنفعه الأوامر، وهذا هو واعظ الله في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن،فمن لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه المواعظ .
فإذا فقد هذا الأمر الناهي بفقد الحياء فهو مطيع لا محالة لداعي الغي والشهوة طاعة لا انفكاك له منها، فنزل منزلة المأمور وكأنه يقول إذا لم تأتمر لأمر الحياء، فأنت مؤتمر لأمر الغي والسفه، وأنت مطيعه لا محالة وصانع ما شئت لا محالة، فأتى بصيغة الأمر تنبيها على هذا المعنى، ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض فقيل: (إذا لم تستح صنعت ما شئت) لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف فتأمله".بدائع الفوائد (1/112)
ولا منافاة أبدا بين الحياء وقوة القلب كما يظن بعض الناس!!!
فهذا رسول العزيز العلام عليه أفضل الصلاة والسلام كان أشجع الأنام،ومع ذلك كان من أشدهم اتصافا بهذا الخلق النبيل والأدب الجميل،فعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: " كان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً من الْعَذْرَاءِ في خِدْرِهَا،وكان إذا كَرِهَ شيئا عَرَفْنَاهُ في وَجْهِهِ".رواه البخاري (3369) ومسلم (2320) واللفظ له.
يقول الإمام النووي –رحمه الله- :"(العذراء) البكر لأن عذرتها باقية، وهي جلدة البكارة، والخِدر: ستر يجعل للبكر في جنب البيت، ومعنى عرفنا الكراهة في وجهه أي: لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته، وفيه فضيلة الحياء وهو من شعب الإيمان، وهو خير كله ولا يأتي إلا بخير ".الشرح على صحيح مسلم (15/ 78)
إن هذا الخلق كريم أيها الأحبة يَبعث على العمل بكل مليح يحبه الغفور الرحيم وترك كل قبيح يُبغضه السميع العليم، يقول الراغب الأصفهاني-رحمه الله-:"والحياء انقباض النفس عن القبائح". المفردات في غريب القرآن(ص 140)
ويقول الحافظ ابن الصلاح –رحمه الله-:"الحياء خُلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ".صيانة صحيح مسلم (ص 198)
لذا نجده أيها الأفاضل والإخوان يُقارن دائما الإيمان،فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الحَياءَ والإِيمانَ قرناء جميعاً ، فإِذا رُفعَ أحدُهما رُفعَ الآخرُ ". رواه الحاكم في المستدرك (1/73)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- في صحيح الجامع (2636)
يقول المناوي –رحمه الله- :" (الحياء والإيمان قرناء جميعا ) أي: جمعهما الله ولازم بينهما، فحيثما وجد أحدهما وجد الآخر، ( فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ): لتلازمهما كما تقرّر، وذلك لأن المكلف إذا لم يستحي من الله لا يحفظ الرأس وما وعى ولا البطن وما حوى،ولا يذكر الموت والبلى، بل ينهمك في المعاصي".التيسير بشرح الجامع الصغير(1/281)
وهو شعبة من شُعبه العظام، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ من الْإِيمَانِ ".رواه البخاري (9) ومسلم ( 35) واللفظ له.
يقول ابن بطال –رحمه الله- :" الحياء يبعث على طاعة الله، ويمنع من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان ". شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/61)
ويقول الإمام ابن رجب –رحمه الله-:"فإنه – أي الحياء- يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار".جامع العلوم والحكم (ص 200)
لهذا كان الحياء أيها الكرام من أرفع الأخلاق التي دعا إلى التحلي بها دين الإسلام، فعن أنس –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا،وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ ".رواه ابن ماجة ( 4181)، وحسنه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول المناوي –رحمه الله- :" (وخلق الإسلام الحياء ) أي: طبع هذا الدين وسجيته التي بها قوامه ونظامه الحياء، لأن الإسلام أشرف الأديان، والحياء أشرف الأخلاق، فأعطى الأشراف للأشرف وهذا غالبي ".التيسير بشرح الجامع الصغير (1/340)
وللمكانة الرفيعة أيها الأحبة التي يحتلها هذا الخلق الكريم كان من الصفات الحميدة والخصال الجليلة التي يحبها العزيز الحكيم،فعن يعلى بن أمية–رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ عز وجل حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فإذا اغْتَسَلَ أحدكم فَلْيَسْتَتِرْ".رواه أبو داود في سننه(4012)،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
حتى إن من أسماء الله سبحانه الجليلة اسم"الحييّ"،فعن سلمان الفارسي –رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يستحي من عَبْدِهِ إذا رَفَعَ يَدَيْهِ إليه أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ". رواه أبو داود ( 1488)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" وأما حياء الرب تعالى من عبده : فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال ".مدارج السالكين (2/261)
ومن صفاته جل وعلا الكريمة صفة "الحياء"،يقول الشيخ خليل الهراس –رحمه الله-:" وحياؤه تعالى وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير و انكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يُذم، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته ، وكمال جوده وكرمه، وعظيم عفوه وحلمه.
فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه و أضعفه لديه ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه ، يستحي من هتك ستره، وفضيحته، فيستره بما يهيؤه له من أسباب الستر ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر". شرح النونية (2/80)
وإن من أسباب محبة الرحمن لهذه الصفة الحميدة أيها الأحبة والإخوان أنها تدعو إلى كل خير وإحسان، فعن عمران بن حصين-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلا بِخَيْرٍ".رواه البخاري(5766) ومسلم(37)
يقول ابن بطال –رحمه الله- :"معناه: أن من استحيا من الناس أن يروه يأتي الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه،ومن استحيا من ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه ؛ لأن كل ذي فطرة صحيحة يعلم أن الله تعالى النافع له والضار والرزاق والمحي والمميت ، فإذا علم ذلك فينبغي له أن يستحى منه عز وجل ".شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 9 /298)
ويقول ابن الجوزي –رحمه الله- :" لأن المستحيي منقبض عن كثير من القول والفعل،والوقاحة توجب الانبساط فيقع الشر من ذلك ".كشف المشكل (1/477)
فهو أيها الأفاضل لا يكون في شيء إلا زانه، وما نُزع منه إلا شانه،فعن أنس-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما كان الْفُحْشُ في شَيْءٍ إلا شَانَهُ،وما كان الْحَيَاءُ في شَيْءٍ إلا زَانَهُ".رواه الترمذي (1974)،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- .
يقول الطيبي –رحمه الله- :" فيه مبالغة، أي: لو قدر أن يكون الفحش أو الحياء في جماد لشانه أو زانه، فكيف بالإنسان ? وأشار بهذين إلى أن الأخلاق الرذِلة مفتاح كل شر بل هي الشر كله، والأخلاق الحسنة السنية مفتاح كل خير بل هي الخير كله".فيض القدير (5/461)
وهو من أسباب انشراح الصدر وحياة القلب، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" والحياء من الحياة ، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم ". مدارج السالكين (2/259)
فينبغي علينا جميعا أيها الأفاضل أن نبذل الأسباب التي تعيننا على تحقيق هذا الخلق الرفيع، الذي من تحلى به اتصف بكل أنواع الخير و ابتعد عن كل سبل الشر بإذن العزيز المقتدر،لأنه من أرفع الآداب وأفضل الأخلاق.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :"خُلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصَّة الإنسانيَّة، فمَن لا حياء فيه، فليس معه من الإنسانيَّة إلا اللَّحم والدَّم وصورتهما الظاهرة، كما أنَّه ليس معه مِن الخير شيء".مفتاح دار السعادة ( 1/277)
ولنحذر أشد الحذر من التفريط فيه،لأن تضييعه سبب في فشو المعاصي والمنكرات، فما تُركت الواجبات! وتجرأ الكثير على فعل المحرمات! و انتشر التبرج!وقلة الحشمة! وتسلط الأقوياء على الضعفاء! وقلَّ احترام الصغار للكبار إلا بسبب ضياع هذا الأدب القويم والخلق الكريم.
ولنجتب كذلك مجاوزة الحد فيه، فينقلب من حياء ممدوح إلى مذموم! يمنع العبد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و التعلم، وقول الحق ومن الكثير من الخيرات.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت:إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت : إما إلى قحِة –أي وقاحة- وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة، بحيث يطمع في نفسه عدوه ويفوته كثير من مصالحه ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء، وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس ".مدارج السالكين (2/309)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا وإياكم محاسن الأخلاق ومن ذلك خُلق الحياء،وأن يصرف عنا مساوئها ومن ذلك الوقاحة والجرأة في غير الحق، وكل أنواع الشرور، فهو سبحانه ولي ذلك والعزيز الغفور.


وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


أبو عبد الله حمزة النايلي