المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (03)الإسلام وضرورات الحياة - المبحث الأول: كثرة النصوص الموجبة لحفظ هذه الضرورات



أهــل الحـديث
11-06-2014, 06:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم








إن الذي يتأمل كثيراً من نصوص الكتاب والسنة يجد فيها العناية الكاملة بحفظ هذه الضرورات. وأنبه على أن أدلة حفظ الضرورات ليست مفردات نصوص من القرآن والسنة، بل جملة القرآن والسنة وجميع أبواب الشريعة ومراجعها، والمقصود من ضرب الأمثلة المفردة من القرآن والسنة، هو إيضاح عنايتهما بالنص على كل ضرورة منها وتكرر ذلك فيهما.



أمثلة من القرآن للعناية بحفظ هذه الضرورات:



من ذلك قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرمَ ربُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألا تُشْركُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ولا تَقْربُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَر مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) ولا تَقْربُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُربَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)} [الأنعام].



في هذه الآيات الكريمات تظهر العناية بحفظ هذه الضرورات جلية واضحة:



فقد جاء في حفظ الدين نهيه سبحانه عن الشرك به، وهو يشمل جميع أنواع الشرك: الشرك به في ربوبيته، والشرك به في ألوهيته، والشرك به في أسمائه وصفاته، والشرك به في اعتقاد حاكميتهن ولا يكون الإنسان سالماً من الشرك به إلا إذا حقق توحيده في كل نوع منها.



وهو معنى قوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً(36)}[النساء].

وأمثالها من الآيات.



وجاء في حفظ النفس قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}..وقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ}.



ودِلالة هذه من وجهين:



الوجه الأول: النهي عن قتل النفس التي حرم الله بغير حق.



الوجه الثاني: ما يفهم من شرع قتل النفس بالحق.



فإن في قتل النفس بالحق: حفظاً للنفس في باب القصاص.



وحفظاً للدين في باب الردة.



وحفظاً للنسل في باب في إقامة حد الزنا.



وجاء حفظ النسل في قوله تعالى: {ولا تَقْربُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَر مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}.



ومن أعظم الفواحش الزنا الذي وصفه الله تعالى في آية أخرى بأنه فاحشة، كما قال تعالى: {ولا تَقْربُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا(32}[الإسراء].



ويمكن إدخال حفظ العرض في حفظ النسل؛ لأن حفظ النسل - في الإسلام - إنما يحصل بالزواج الشرعي، وفي الزواج الشرعي حفظ للعرض، وإذا اعتدي على النسل لزم منه الاعتداء على العرض وكذلك النسب.



وجاء حفظ المال في قوله تعالى: {ولا تَقْربُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.. وقوله تعالى: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}..



وأما حفظ العقل فإنه يؤخذ من مجموع التكليف بحفظ الضرورات الأخرى؛ لأن الذي يفسد عقله لا يمكن أن يقوم بحفظ تلك الضرورات، كما أمر الله سبحانه.



ولعل في قوله تعالى في ختام الآية الأولى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما يدل على ذلك.



ويجب التنبيه هنا إلى أن العناية بحفظ هذه الضرورات وما يكملها في الإسلام يعتبر ديناً وعبادة لله تعالى، وليست مجرد تشريع قانوني دعت إليه الضرورة في حد ذاتها.! كما هو الحال في النظم البشرية ويدل على ذلك من قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} في ختام الآية الأولى، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} في ختام الآية الثانية، لأن التذكر لا يحصل إلا لمن عنده عقل.

وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في ختام الآية الثالثة.



وكذلك من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.

قال ابن عباس رضي الله عنهـما في هذه الآيات: "هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، لم ينسخهن بشيء، وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار" [تفسير الإمام البغوي المسمى بمعالم التنزيل (2/142) نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان.].



وكلام ابن عباس هذا يدل على أن هذه الضرورات، كانت مراعاة في جميع الأديان وعند جميع الأمم، وأن حفظها شامل لجميع بني آدم أفراداً وجماعات، كل فيما يقدر عليه، فحفظ هذه الضرورات وصية من الله لعباده يثابون على القيام به ويعاقبون على التفريط فيه.



ومن ذلك قول الله تعالى: {وَقَضَى ربُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَريمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَةِ وَقُلْ ربِّ ارحَمْهُمَا كَمَا ربَّيَانِي صَغِيراً (24) ربُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَءَاتِ ذَا الْقُربَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّر تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِربِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رحْمَةٍ مِنْ ربِّكَ تَرجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُوراً (29) إِنَّ ربَّكَ يَبْسُطُ الرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًاً كَبِيراً (31) ولا تَقْربُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فلا يُسْرفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) ولا تَقْربُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (35) ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا(ا36)} [الإسراء].



ويظهر من هذه الآيات ـ أيضاً ـ العناية بالضرورات المذكورة.



فقد جاء ما يدل على حفظ الدين في مطلعها، في قوله تعالى: {وَقَضَى ربُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاه}. وفي آخر آية منها بشمولها الدال أنه لا يجوز اتباع شيء بدون علم،{ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.. وهو يشمل الاعتقاد والقول والعمل، فلا يجوز أن يتبع إلا ما كان عن علم أنه حق، وذلك لا يكون إلا ما جاء به الإسلام.



وجاء حفظ المال في قوله تعالى: {وَءَاتِ ذَا الْقُربَى حَقَّهُ} إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}. حيث أمر بإيصال حقوق من ذكر من القرابة والمساكين وابن السبيل إليهم. ونهى عن التبذير والبخل. وكذلك في قوله تعالى: {ولا تَقْربُوا مَالَ الْيَتِيمِ } إلى قوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}..



وقد نهى تعالى عن التصرف في مال اليتيم بغير ما هو في مصلحته، حتى يصبح راشداً قادراً على التصرف الحسن في ماله، وأمر بالعدل في المعاملة بإيفاء الكيل والوزن.



وجاء حفظ النفس في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}.. وقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ}..



وجاء حفظ النسل والنسب والعرض في قوله تعالى: {ولا تَقْربُوا الزِّنَا}.. ويدخل حفظ العرض أيضاً في قوله تعالى: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } بل هي أشمل من ذلك كما قدمنا.



وهكذا لو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدناها قد ملئت بالعناية بحفظ هذه الضرورات غاية العناية في ترغيبها وترهيبها، وأمرها ونهيها، ووعدها ووعيدها، وحلالها وحرامها، وكل أحكامها. ولعل في هذه الآيات المذكورة ما يكفي ليقاس عليها غيرها مما شابهها.



أمثلة من السنة للعناية بحفظ هذه الضرورات:



وأما الأحاديث النبوية التي عنيت بهذه الضرورات بأساليب متعددة، فإنها في غاية الكثرة، ويكفي ذكر بعضها - كذلك - ليقاس عليه ما سواه.



فقد بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام، أن الاعتداء على هذه الضرورات أو بعضها سبب للهلاك والدمار، كما في حديث أبى هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (اجتنبوا السبع الموبقات).



قيل: يا رسول الله وما هن؟



قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) [البخاري (3/195) ومسلم (1/92).].



في هذا الحديث أن الاعتداء على الدين وعدم حفظه مهلكة، وذلك مأخوذ من قوله عليه الصلاة والسلام: (الشرك بالله، والسحر)..



وكذلك قوله: (والتولي يوم الزحف)؛ لأن في التولي عن قتال العدو ومصابرته تضييعاً للدين. وكذلك الاعتداء على النفس من المهلكات.. كما هو واضح من قوله: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق).

والاعتداء على العرض مهلكة وقد بينه بقوله عليه الصلاة و: (وقذف المحصنات).



ويدخل فيه من باب أولى الاعتداء على النسل والنسب.



والاعتداء على المال وقد ظهر من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (وأكل مال اليتيم، وأكل الربا). وهما مثالان لظلم الأقوياء للضعفاء؛ لأن اليتيم ضعيف لصغر سنه وضعف عقله وعدم قدرته على حسن التصرف في ماله، ووصيه والقائم عليه قوي قادر على حسن التصرف في ماله أو الإساءة فيه.



ولأن آخذ الربا لا يكون إلا صاحبَ مال قادراً على قرض مبلغ معين زائد عن حاجته، للمحتاج الذي اضطر للاقتراض للإنفاق على نفسه وعياله. وقد سمى عليه الصلاة والسلام، الاعتداء على هذه الأمور موبقاً أي مهلكاً، ولا يكون مهلكاً إلا إذا كان حفظ الأمر المعتدى عليه ضرورة من ضرورات الحياة.



وقد جعل صلى الله تعالى عيتا الاعتداء على هذه الأمور أعظم الذنوب. كما في حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى ليع وسلم: "أي الذنب أعظم عند الله؟" قال:(أن تجعل لله نداً وهو خلقك). قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك) [البخاري (7/75) ومسلم (1/90).]. وهو دليل على أن حفظ هذه الأمور، من الضرورات التي لا تستقيم الحياة بدونها.



ولشدة عناية الرسول عليه الصلاة والسلام، بحفظ هذه الضرورات، مبايعته أصحابه على حفظها، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، في مجلسٍ فقال: (تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا، ولا تزنوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك في الدنيا، فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه). قال: "فبايعناه على ذلك" [البخاري (1/10) ومسلم (3/1333).].



فقد بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام، أصحابه على حفظ هذه الضرورات، وهى: حفظ الدين كما في قوله: (أن لا تشركوا به شيئاً). وحفظ النفس في قوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق). وحفظ النسل والنسب والعرض في قوله: (ولا تزنوا).. وقوله: (ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم).. وحفظ المال، في قوله: (ولا تسرقوا).



ومما يدل على عنايته عليه الصلاة والسلام، بهذه الضرورات إهداره دم من اعتدى عليها، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) [البخاري (8/38) ومسلم (3/1302).].



وقد احتج عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، على الثائرين عليه، بأنه لم يعتدِ على هذه الضرورات التي يستحق من اعتدى عليها إهدار دمه، كما قال أبو أمامة سهل بن حنيف، رضي الله تعالى عنه: "إن عثمان بن عفان أشرف يوم الدار، فقال: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق، فيقتل به).. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلونني؟" [الترمذي (4/460-461) وقال: وفي الباب عن ابن مسعود وعائشة وابن عباس. وهذا حديث حسن، وقال المحشي على جامع الأصول (10/215) وإسناده صحيح.].



وقد بيَّن رسول الله عليه الصلاة والسلام، لأصحابه حرمة هذه الضرورات ووجوب حفظها، في أعظم مشهد وأكبر مجمع اجتمع به فيه أصحابه قبل وفاته بزمن يسير، في حجة الوداع، كما روى ذلك ابن عمر، رضي الله تعالى عنهـما، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، في حجة الوداع: (ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة؟) قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: (ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟) قالوا: ألا بلدنا هذان قال: (ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟) قالوا: ألا يومنا هذا.



قال: (فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا.. في بلدكم هذا.. في شهركم هذا.. ألا هل بلغت؟) ـ ثلاثاً ـ كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. قال: (ويحكم - أو ويلكم - لا ترجعن بعدى كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض) [البخاري (8/15) ومسلم (3/1305) وما بعدها من حديث أبي بكرة وكذا (1/81-82) من حديث جرير وابن عمر مختصراً.].



وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله) [مسلم (4/1986).]..



ولقد حض الرسول عليه الصلاة والسلام، المؤمنين على حفظ هذه الضرورات ولو قتلهم الْمُهدِرون لها؛ لأن فقد المسلم نفسه دفاعاً عن هذه الضرورات، أخف ضرراً من إهدارها الذي يجعل الأمة كلها تفقد أمنها وضرورات حياتها، وبَشَّر من قُتل دونها بالشهادة، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهـما قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد) [البخاري (3/108).]..



وفي حديث سعيد بن زيد رضي اللع تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) [الترمذي (4/30) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود (5/128).]..



ولقد نفى رسول الله عليه الصلاة والسلام، إيمان من اعتدى على هذه الضرورات وقت اعتدائه عليها، وهو نفي لكمال الإيمان الواجب بالنسبة للمسلم، وليس نفياً لأصل الإيمان إلا إذا كان المعتدي عليها مستحلاً لذلك، كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول عليه الصلاة والسلام، قال: (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) [البخاري (8/13) ومسلم (1/76).]..



ومما يدل على خطر هذه الضرورات والعناية بها في الإسلام أن لبعضها الصدارة يوم القيامة في المحاسبة. فقد روى عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء) [البخاري (7/197) ومسلم (3/1304).].. وفي رواية للنسائي: (أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس: في الدماء) [النسائي (7/77).]).. نبه بالصلاة على ضرورة حفظ الملة، ونبه بالدماء على الضرورات المتعلقة بحقوق المخلوقين.



ولو قال قائل: إن كتب الفقه الإسلامي كلها وضعت من أجل حفظ هذه الضرورات، وحفظ ما يكملها، والوقاية من أسباب زوالها أو زوال ما يكملها لما كان مبالغاً في ذلك.



وباستعراض الكتب والأبواب في كتب الفقه الإسلامي وغيره من علوم الإسلام، يتبين ذلك بجلاء، فإنه ما من باب من تلك الأبواب إلا وجدته يخدم إحدى تلك الضرورات أو كلها من قريب أو من بعيد.



فالعبادات - مثلاً - كالطهارة والصلاة ـ فرضها ونفلها ـ والصيام، والحج والزكاة والاعتكاف وما يتعلق بكل باب منها.. قصد بها حفظ الدين.



والبيوع والقروض والشركات والإجارات والتركات والمواريث والغصب والشفعة وما إليها من المعاملات قصد بها حفظ الأموال.



والنكاح والطلاق والخلع والعدة وبعض الحدود، كحد الزنا وحد القذف.. قصد بها حفظ النسل والنسب والعرض.



وتحريم المسكرات وما شابهها وحد الخمر.. قصد بها حفظ العقل.



والقصاص وبقية الحدود والتعازير.. قصد بها حفظ النفوس والأنساب والأعراض والأموال والعقول. لهذا يصعب على الباحث أن يتوسع في تعلق كثير من كلام العلماء في الأصول والفقه والأخلاق وغيرها بالضرورات الست، فلا بد من الاكتفاء ببعض أقوال العلماء للإشارة بها إلى ما عداها.



وقد لخص الإمام الشاطبي رحمه الله، وهو من العلماء الذين اهتموا بالتوسع في مقاصد الشريعة الإسلامية، كيفية رجوع الشريعة كلها إلى حفظ هذه الضرورات أو ما يكملها، فقال: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:



أحدها: أن تكون ضرورية.



الثاني: أن تكون حاجية.



الثالث: أن تكون تحسينية.



فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.