المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تخريج روايات مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب ، كما رواه الطبري ،



أهــل الحـديث
29-05-2014, 07:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


چ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ چ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد : ( ) ...
فهذه صفحات طوال ، انتسختُها كما هي من كتاب الإمام محمد بن جرير- أبو جعفر- : " تاريخ الأمم والملوك " ، لأنه أبو الكتب والمصادر التاريخية وأقدمها وأوسعها ، وكل من جاء بعده فإنما هو من العيال عليه ، على ما في رواياته التاريخية من كلامٍ تجلوه أقوال أهل العلم ، الذين يأتي على رأسهم الإمام الطبري نفسه حيث قال في مقدمة كتابه :
( وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول والاستنباط بفكر النفوس فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا ) إهـ
ولقد قرأت في " إرشيف ملتقى أهل الحديث رقم (3) " : بعنوان : (الرقابة على التاريخ ) :
(الإمام الطبري - رحمه الله - يبين للقارئ بوضوح وجلاء أنه لم يشترط الصحة فيما يسوقه من مرويات في كتابه هذا ، وأن العهدة فيما ينقله إنما هي على الرواة النقلة ، وأنه في هذا الكتاب كان ناقلا أمينا ، لا محققا فاحصا . فبعض من روى عنهم الطبري جمع بين الكذب وكثرة الرواية ، ومن هؤلاء :
لوط بن يحيى أبو مخنف ؛ له روايات كثيرة في «تاريخ الطبري» بلغت (585) رواية ، تعرض فيها لأحداث ووقائع مهمة من التاريخ الإسلامي ، ولوط هذا مقدوح فيه عند علماء الحديث ) ( )
ولقد قرأت - أيضاً - في " إرشيف ملتقى أهل الحديث رقم (1) " : تحت عنوان : (منهج الطبري في تاريخه : د . محمد آمحزون ) :
( أما فيما يتعلق بعدالة الرواة ، فإذا كان الإمام الطبري لا يتقيد بالقيود التي تمسك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضعفاء ، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي وابنه هشام ، والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضعفاء المتهمين بالكذب والوضع في الحديث ، فإن ذلك يرجع إلى اتباعه منهجا معلوما عند علماء الحديث وغيرهم ،حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده ، فالصحيح يؤخذ وغيرالصحيح يعرف ويرد وفق ضوابط الشرع وقواعد الرواية ..وهكذا لم يكن الإمام الطبري بذلك العمل مغفلا أو جاهلا عندما يورد مئات الروايات عن الضعفاء والمتروكين ، لكنه يتبع منهجا مرسوما عند علماء الجرح والتعديل لا يلزم من إيراد أخبار المتروكين والضعفاء وتدوينها في كتاب من الكتب الاحتجاج بها ... وفي هذا الصدد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني [في " اللسان " ] بأن الحفاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم الأسانيد ، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عهدته ، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده ( ). ولكون الإمام الطبري من علماء الحديث فقد سار على هذا النهج في تاريخه ، فهو ليس صاحب الأخبار التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته بتسميتهم ، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار ، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية ، ففيها الصحيح والضعيف الموضوع ، تبعا لصدق الرواة أو كذبهم ومنزلتهم من الأمانة والعدالة والتثيبت ، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه . وبناء على ذلك لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على تاريخ الإمام الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها ، لأن من أسند فقد برىء من العهدة . ومما يلاحظ أيضا أن الطبري لم يرد الاقتصار على المصادر الموثوقة ، بل أراد أن يطلع قارئه على مختلف وجهات النظر ، فأخذ من مصادر أخرى قد لا يثق هو بأكثرها إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية ؛ فقد تكمل بعض ما فيها من نقص ، أو تقوى الخبر باشتراكها مع المصادر الصحيحة في أصل الحادثة .إن مثل الإمام الطبري ومن على شاكلته من العلماء الثقات الأثبات في إيرادهم الأخبار الضعيفة كمثل رجال القضاء إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية ، فإنهم يجمعون كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها مع علمهم بتفاهة بعضها أوضعفه اعتمادا منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره . ولهذا فقد كان لا يفرط في خبر مهما علم من ضعف ناقله خشية أن يفوته بإهماله شيء من العلم أو الفائدة ولو من بعض النواحي ، إلا أنه يسند كل خبر إلى رواية ليقف القارئ على قوة الخبر أو ضعفه من كون رواته ثقاة أو مجروحين ، وبذلك يرى أنه أدى ما عليه ، خصوصا وقد وضع بين أيدي القارئ كل ما وصل إلى يده من نصوص وطرق مختلفة للخبر ... وتحسن الإشارة إلى أن اتساع صدور أئمة السنة من أمثال الإمام الطبري لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم دليل على فهمهم وأمانتهم ورغبتهم في تمكين قرائهم من أن يطلعوا على كل ما في الأمر ، واثقين من أن القارئ اللبيب المطلع لا يفوته بأن العلم مثل أبي مخنف وابن الكلبي وغيرهم هم موضع تهمة فيما يتصل بالقضايا التي يتعصبون لها ، مما ينبغي معه التحري والتثبت لاستخلاص الحقائق المختلطة بالإشاعات والمفتريات . أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم أو لجهلهم بمنهج الإمام الطبري ولا يتعرفون إلى رواتها ويكتفون بالإشارة في الحاشية إلى أن الطبري روى في صفحة كذا من جزء كذا .. ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك ، فهؤلاء قد يظلمون الإمام الطبري بذلك ويسيؤون إليه ، وهو لا ذنب له بعد أن بين لقرائه مصادره ، وعليهم معرفة نزعات وأحوال أصحاب هذه المصادر ليعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها ) انتهى ( )










قال الطبري في " تاريخ الأمم والملوك " :
وفي هذه السنة [أي سنة ستين من الهجرة] بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه ..فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة ، والنعمان بن بشير( ) على الكوفة .
وقال هشام بن محمد( ) ، عن أبي مخنف( ) : وَلِيَ يزيد في هلال رجب سنة ستين ، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ( )، وأمير الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري ، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد ( )، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص( ) ؛ ولم يكن ليزيد هِمّة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته وأنه وليُّ عهده بعده ، والفراغ من أمرهم ؛ فكتب إلى الوليد : " بسم الله الرحمن الرحيم : من يزيد أمير المؤمنين ، إلى الوليد بن عتبة أما بعد : فإن معاوية كان عبداً من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوَله ومكن له فعاش بقدر ومات بأجل ، ففقد عاش محمودا ومات براً تقيا ، والسلام " ، وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة : ( أما بعد : فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا ، والسلام ) . فلما أتاه [ أي : الوليد بن عتبة ] نعي معاوية فظع به وكبر عليه ، فبعث إلى مروان بن الحكم( ) فدعاه إليه ؛ وكان الوليد يوم قدم المدينة قدمها مروان متكارها، فلما رأى ذلك الوليد منه شتمه عند جلسائه فبلغ ذلك مروان فجلس عنه وصرمه فلم يزل كذلك حتى جاء نعي معاوية إلى الوليد ، فلما عظم على الوليد هلاك معاوية وما أمر به من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة فزع عند ذلك إلى مروان ودعاه ، فلما قرأ عليه كتاب يزيد استرجع وترحم عليه ، واستشاره الوليد في الأمر، وقال : كيف ترى أن نصنع ؟ قال : فإني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل امرئ منهم في جانب واظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه ؛ لا أدري أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال ولا يحب أنه يُولَّى على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفواً .
فأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهوإذ ذاك غلام حدث- إليهما يدعوهما فوجدهما في المسجد ، وهما جالسان ، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس ولا يأتيانه في مثلها ، فقال : أجيبا الأمير يدعوكما . فقالا له : انصرف الآن نأتيه . ثم أقبل أحدهما على الآخر فقال عبدالله بن الزبير : للحسن ظن فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها ؟ فقال حسين : قد ظننت ؛ أرى ظاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر . فقال : وأنا ما أظن غيره قال فما تريد أن تصنع ؟ قال أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه ثم دخلت عليه . قال : فإني أخافه عليك إذا دخلت . قال : لا آتيه إلا وأنا على الامتناع قادر .
فقام [ أي : الحسين ] فجمع إليه مواليه وأهل بيته ، ثم أقبل يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقال لأصحابه : إني داخل فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم . فدخل فسلم عليه بالإمرة ومروان جالس عنده . فقال حسين- كأنه لا يظن ما يظن من موت معاوية- : الصلة خير من القطيعة ، أصلح الله ذات بينكما ! فلم يجيباه في هذا بشيء ، وجاء حتى جلس ، فأقرأه الوليد الكتاب ونعى له معاوية ودعاه إلى البيعة ، فقال حسين : إنا لله وإنا إليه راجعون ورحم الله معاوية وعظم لك الأجر ، أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سراً ، ولا أراك تجتزئ بها مني سراً دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية ، قال : أجل ، قال : فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً . فقال له الوليد- وكان يحب العافية- : فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس . فقال له مروان : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه ؛ فوثب عند ذلك الحسين فقال يابن الزرقاء : أنت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله وأثمت ، ثم خرج فمر بأصحابه فخرجوا معه حتى أتى منزله .
فقال مروان للوليد : عصيتني لا والله لا يمكّنك من مثلها من نفسه أبدا ، قال الوليد : وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا ، سبحان الله : أقتلُ حسينا أن قال لا أبايع ، والله إني لا أظن امرءاً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة . فقال له مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت ، يقول هذا له وهو غير الحامد له على رأيه .
وأما ابن الزبير فقال الآن آتيكم ثم أتى داره فكمن فيها فبعث الوليد إليه فوجده مجتمعا في أصحابه متحرزا فألح عليه بكثرة الرسل والرجال في إثر الرجال . فأما حسين فقال : كف حتى تنظر وننظر وترى ونرى . وأما ابن الزبير فقال : لا تعجلوني فإني آتيكم أمهلوني ، فألحوا عليهما عشيتهما تلك كلها وأول ليلهما وكانوا على حسين أشد إبقاء . وبعث الوليد إلى ابن الزبير موالي له فشتموه وصاحوا به : يا ابن الكاهلية( ) والله لتأتين الأمير أو ليقتلنك ، فلبث بذلك نهاره كله وأول ليلة يقول : الآن أجيء ، فإذا استحثوه قال : والله لقد استربت بكثرة الإرسال وتتابُع هذه الرجال فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه وأمره فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال : رحمك الله كف عن عبدالله فإنك قد أفزعته وذعرته بكثرة رسلك وهو آتيك غدا إن شاء الله فمُر رسلك فلينصرفوا عنا ؛ فبعث إليهم فانصرفوا ؛ وخرج ابن الزبير من تحت الليل فأخذ طريق الفرع -هو وأخوه جعفر ليس معهما ثالث- وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب وتوجه نحو مكة ؛ فلما أصبح بعث إليه الوليد فوجده قد خرج ، فقال مروان : والله إن أخطأ ، مكة فسرّح في أثره الرجال ، فبعث راكبا من موالي بني أمية في ثمانين راكبا فطلبوه فلم يقدروا عليه ، فرجعوا .
فتشاغلوا عن حسين بطلب عبدالله يومهم ذلك حتى أمسوا ثم بعث الرجال إلى حسين عند المساء فقال : أصبحوا ثم ترون ونرى فكفوا عنه تلك الليلة ولم يلحوا عليه فخرج حسين من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين - وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة خرج ليلة السبت- فأخذ طريق الفرع ...
وأما الحسين فإنه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجُل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية فإنه قال له : " يا أخي أنت أحب الناس إليّ ، وأعزهم عليّ ،ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك ، تَنَحّ بِتَبِعَتَكَ عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك ، إني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة ، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعُها دماً وأذلها أهلاً " قال له الحسين : فإني ذاهب يا أخي ، قال : " فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك وإن نَبَتْ بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا ، ولا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا " ، قال : يا أخي قد نصحت فأشفقت فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا .
قال أبو مخنف : وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق( ) عن أبي سعد المقبري( ) قال : نظرت إلى الحسين داخلا مسجد المدينة وإنه ليمشي وهو معتمد على رجلين يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة وهو يتمثل بقول ابن مفرغ :
لا ذَعَرْتُ السَّوامَ في فلَقِ الصُّبحِ ... مغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا...
يومَ أُعطِي مخافةَ الموت ضَيْماً ... والمنايا يرصُدْنَنِي أن أحيدا...
قال [أبو سعيد]: فقلت في نفسي ، والله ما تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد .
قال [أبو سعيد]: فما مكث إلا يومين حتى بلغني أنه سار إلى مكة .
ثم إن الوليد بعث إلى عبد الله بن عمر فقال : بايع ليزيد . فقال : إذا بايع الناس بايعت . فقال رجل : " ما يمنعك أن تبايع ، إنما تريد أن يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا فإذا جهدهم ذلك قالوا عليكم بعبد الله بن عمر لم يبق غيره بايعوه ! " . قال عبد الله : ما أحب أن يقتتلوا ولا يختلفوا ولا يتفانوا ولكن إذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت . قال : فتركوه وكانوا لا يتخوفونه .
قال [أبو سعيد] : ومضى ابن الزبير حتى أتى مكة وعليها عمرو بن سعيد ، فلما دخل مكة قال : إنما أنا عائذ ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض بإفاضتهم ،كان يقف هو وأصحابه ناحية ثم يفيض بهم وحده ويصلي بهم وحده.
قال الطبري : زعم الواقدي أن ابن عمر لم يكن بالمدينة حين ورد نعي معاوية وبيعة يزيد على الوليد وأن ابن الزبير والحسين لما دُعيا إلى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إلى مكة فلقيهما ابن عباس وابن عمر جائيين من مكة فسألاهما ما وراءكما : قالا موت معاوية والبيعة ليزيد ، فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين ، وأما ابن عمر فقدم فأقام أياما فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان فتقدم إلى الوليد بن عتبة فبايعه ، وبايعه ابن عباس .
قال الطبري : ذِكْر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين عليه السلام :
حدثني زكريا بن يحيى الضرير( ) ، قال حدثنا أحمد بن جناب المصيصي ويكنى أبا الوليد( ) قال حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري ( ) قال حدثنا عمار الدهني( ) قال : قلت لأبي جعفر( ) : حدثني بمقتل الحسين حتى كأني حضرته ، قال : مات معاوية - والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة - فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته ، فقال له : " أخرّني وارفق " ، فأخره ، فخرج إلى مكة فأتاه أهل الكوفة ورسلهم : " إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي فاقدم علينا "، وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة .
قال : فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فقال له : سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي ، فإن كان حقا خرجنا إليهم ؛ فخرج مسلم حتى أتى المدينة فأخذ منها دليلين فمرا به في البرية فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين ، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه فكتب إليه الحسين : " أن امض إلى الكوفة " ، فخرج حتى قدمها ونزل على رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة ( ).
قال : فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دبّوا إليه فبايعوه فبايعه منهم اثنا عشر ألفا . قال : فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير فقال له : إنك ضعيف او متضعف قد فسد البلاد ، فقال له النعمان : " أن أكون ضعيفا وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويا في معصية الله ، وما كنت لأهتك سترا ستره الله " ، فكتب بقول النعمان إلى يزيد ، فدعا مولى له يقال له سرجون -وكان يستشيره - فأخبره الخبر ، فقال له : أكنت قابلا من معاوية لو كان حيا ؟ قال : نعم ، قال : فاقبل مني ، فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد ، فولهّا إياه - وكان يزيد عليه ساخطاً وكان هم بعزله عن البصرة - فكتب إليه برضائه ، وأنه قد ولاه الكوفة مع البصرة ، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده .
قال : فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثما ولا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا : عليك السلام يا ابن بنت رسول الله - وهم يظنون أنه الحسين بن علي عليه السلام - حتى نزل القصر، فدعا مولى له فأعطاه ثلاثة آلاف وقال له : اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى ؛ فلم يزل يتلطف ويرفق به حتى دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة ، فلقيه فأخبره ،فقال له الشيخ : " لقد سرني لقاؤك إياي وقد ساءني، فأما ما سرني من ذلك فما هداك الله له ،وأما ما ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد " ، فأدخله إليه فأخذ منه المال وبايعه ورجع إلى عبيد الله ، فأخبره ؛ فتحول مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها إلى منزل هانىء بن عروة المرادي( ) ، وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بن علي عليه السلام يخبره ببيعة اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة ويأمره بالقدوم ؛ وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة : مالي أرى هانىء بن عروة لم يأتني فيمن أتاني ؟
قال : فخرج إليه [أي إلى هانىء]محمد بن الأشعث( ) في ناس من قومه وهو على باب داره ، فقالوا : إن الأمير قد ذكرك واستبطأك فانطلق إليه ، فلم يزالوا به حتى ركب معهم وسار حتى دخل على عبيد الله - وعنده شريح القاضي- فلما نظر إليه ، قال لشريح : " أَتَتْكَ بِحائنٍ رِجْلاه " ( ) ، فلما سلم عليه قال : يا هانىء ، أين مسلم ؟ قال : ما أدري ، فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه ، فلما رآه قطع به ، فقال : أصلح الله الأمير والله ما دعوته إلى منزلي ولكنه جاء فطرح نفسه عليّ . قال : ائتني به ، قال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه ، قال : أدنوه إلي ، فأُدْنِيَ ، فضربه على حاجبه فشجه .
قال : وأهوى هانىء إلى سيف شرطي ليسله فدُفع عن ذلك ، وقال : قد أحل الله دمك ، فأُمر به ، فحبس في جانب القصر.
قال الطبري : وقال غير أبي جعفر: الذي جاء بهانىء بن عروة إلى عبيد الله بن زياد : عمرو بن الحجاج الزبيدي( ) .
ذِكْرُ من قال ذلك : حدثنا عمرو بن علي( ) ، قال : حدثنا أبو قتيبة ( ) ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق( ) عن العيزار بن حريث ( )، قال : حدثنا عمارة بن عقبة بن أبي معيط ( ) : فجلس في مجلس ابن زياد فحدّث ، قال : طردت اليوم حُمُراً فأصبت منها حمارا فعقرته ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : " إن حماراً تعقره أنت لحمارٌ حائن " فقال : " ألا أخبرك بأحين من هذا كله ؟ رجل جيء بأبيه كافراً إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر به أن يُضرب عنقه ، فقال : يا محمد فمن للصبية ؟ قال : { النار } فأنت من الصبية وأنت في النار "( ) . قال : فضحك ابن زياد .
قال الطبري : رَجَعَ الحديث إلى حديث عمار الدهني عن أبي جعفر ، قال :
فبينا هو كذلك إذ خرج الخبر إلى مذحج( ) فإذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله فقال : ما هذا ؟ فقالوا : مذحج ، فقال لشريح : اخرج إليهم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله - وبعث عيناً عليه من مواليه يسمع ما يقول - فمر بهانىء بن عروة فقال له هانىء : اتق الله يا شريح ، فإنه قاتلي ؛ فخرج شريح حتى قام على باب القصر، فقال : لا بأس عليه إنما حبسه الأمير ليسائله ، فقالوا : صدق ليس على صاحبكم بأس ، فتفرقوا ، فأتى مسلماً الخبر فنادى بشعاره ، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة فقدم مقدمته وغبى ميمنته وميسرته وسار في القلب إلى عبيد الله ، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر فلما سار إليه مسلم فانتهى إلى باب القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة( ) فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضا ( ) ، فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده يتردد في الطرق أتى باباً فنزل عليه ، فخرجت إليه امرأة ، فقال لها : إسقيني ، فسقته ثم دخلت فمكثت ما شاء الله ثم خرجت فإذا هو على الباب ، قالت : يا عبد الله إن مجلسك مجلس ريبة فقم ، قال : إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى ؟ قالت : نعم ادخل- وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث - فلما علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره فبعث عبيد الله : عمرو بن حريث المخزومي( ) - وكان صاحب شرطته - إليه ، ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث( ) فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم فأعطاه عبد الرحمن الأمان ، فأمكن من يده ، فجاء به إلى عبيد الله ، فأُمر به فأُصعد إلى أعلى القصر، فضربت عنقه ، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانىء فسحب إلى الكناسة فصلب هنالك وقال شاعرهم في ذلك :
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانىء في السوق وابن عقيل
أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
أيركب أسماء( ) الهماليج( ) آمنا ... وقد طلبته مذحج بذحول ( )
قال الطبري : وأما أبو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إلى الكوفة ومقتله قصة هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني ، عن أبي جعفر الذي ذكرناه : ما حدثت عن هشام بن محمد عنه [ أي : عن أبي مخنف] ، قال [ أبو مخنف] : حدثني عبد الرحمن بن جندب( ) ، قال حدثني عقبة بن سمعان ( )- مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية ، امرأة حسين وكانت مع سكينة ابنة حسين ، وهو مولى لأبيها، وهي إذ ذاك صغيرة - قال : خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم فقال للحسين أهل بيته : لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب ، قال : لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو أحب إليه .
قال [عقبة بن سمعان] فاستقبلنا عبد الله بن مطيع فقال للحسين : جعلت فداك أين تريد ؟ قال أما الآن فإني أريد مكة وأما بعدها فإن أستخير الله . قال : " خار الله لك وجعلنا فداك ، فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشؤومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه ، الزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك والله أهل الحجاز أحدا ، ويتداعى إليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم ، فداك عمي وخالي ، فوالله لئن هلكت لنُسترقَّن بعدك " ،
فأقبل حتى نزل مكة ، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق - وابن الزبير بها قد لزم الكعبة ، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ،ويأتي حسينا فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كل يومين مرة ، ولا يزال يشير عليه بالرأي ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير ، قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبداً ما دام حسين بالبلد ، وأن حسينا أعظم في أعينهم وأنفسهم منه وأطوع في الناس منه - فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد وقالوا : قد امتنع حسين وابن الزبير ولحقا بمكة، فكتب أهل الكوفة إلى حسين وعليهم النعمان بن بشير .
قال أبو مخنف : فحدثني الحجاج بن علي( ) ، عن محمد بن بشر الهمداني ( ) ، قال : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد ( )فذَكَرْنا هلاك معاوية ، فحمدنا الله عليه ، فقال لنا سليمان بن صرد : " إن معاوية قد هلك وإن حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه " ، قالوا لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه ، قال : فاكتبوا إليه ، فكتبوا إليه : " بسم الله الرحمن الرحيم : لحسين بن علي من : سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ( ) ، ورفاعة بن شداد( )، وحبيب بن مظاهر( )، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة ، سلام عليك : فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد : فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيْئها وتأمّر عليها بغير رضا منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود ، إنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نُلحقه بالشأم إن شاء الله والسلام ورحمة الله عليك " ( )
قال [ أي : محمد بن بشر ] : ثم سرّحنا بالكتاب مع عبدالله بن سبع الهمداني( ) وعبد الله بن وال( ) وأمرناهما بالنجاء ، فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة ، ثم لبثنا يومين ثم سرحنا إليه قيس بن مسهر الصيداوي( ) ، وعبد الرحمن بن عبدالله بن الكدن الأرحبي( ) ، وعمارة بن عبيد السلولي( ) ، فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة ، الصحيفة من الرجل والاثنين والأربعة ( ).
قال : ثم لبثنا يومين آخرين ثم سرحنا إليه هانىء بن هانىء السبيعي( ) وسعيد بن عبد الله الحنفي وكتبنا معهما : " بسم الله الرحمن الرحيم : لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد : فحيهلا فإن الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك فالعَجَل العَجَل ، والسلام عليك ".
وكتب شبث بن ربعي( ) ، وحجار بن أبجر( ) ، ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم( ) ، وعزرة بن قيس( ) ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ( ) ، ومحمد بن عميرالتميمي( ) : " أما بعد : فقد اخضرّت الجنان ، وأينعت الثمار، وطمت الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند والسلام عليك " ( ) وتلاقت الرسل كلها عنده ، فقرأ الكتب ، وسأل الرسل عن أمر الناس ثم كتب مع هانىء بن هانىء السبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي - وكانا آخر الرسل- : " بسم الله الرحمن الرحيم : من حسين بن علي إلى الملإ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد : فإن هانئاً وسعيداً قدما علي بكتبكم - وكانا آخر من قدم علي من رسلكم - وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جُلّكم إنه ليس علينا إمام فأقبِل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدِمَت عليّ به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، أقدُم عليكم وشيكاً إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله ، والسلام " .
قال أبو مخنف : وذكر أبو المخارق الراسبي ( )، قال : اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد أو منقذ ، أياماً ، وكانت تَشَيَّع ، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدثون فيه، وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق .
قال : فأجمع يزيد بن نبيط الخروج - وهو من عبد القيس- إلى الحسين ، وكان له بنون عشرة فقال : أيكم يخرج معي ؟ فانتدب معه ابنان له : عبد الله ، وعبيد الله ، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة : إني قد أزمعت على الخروج وأنا خارج . فقالوا له : إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد . فقال : إني والله لو قد استوت أخفافهما بالجَدَد لهان علي طلب من طلبني .
قال : ثم خرج فتقدى( ) في الطريق حتى انتهى إلى الحسين عليه السلام فدخل في رحله بالأبطح ، وبلغ الحسين مجيئه فجعل يطلبه ، وجاء الرجل إلى رحل الحسين ، فقيل له : قد خرج إلى منزلك ، فأقبل في أثره ولمّا لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره ، وجاء البصري فوجده في رحله جالساً ، فقال : { بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } ، قال : فسلم عليه وجلس إليه فخبره بالذي جاء له ، فدعا له بخير ثم أقبل معه حتى أتى فقاتل معه فقُتل معه هو وابناه .
ثم دعا مسلم بن عقيل ، فسرحه مع : قيس بن مسهرالصيداوي ، وعمارة بن عبيد السلولي ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي ، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك .
فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وودع من احب من أهله ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به فضلّا الطريق ،وجارا وأصابهم عطش شديد وقال الدليلان : هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء وقد كادوا أن يموتوا عطشاً ، فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين - وذلك بالمضيق من بطن الخبيت - : " أما بعد فإني أقبلت من المدينة ، معي دليلان لي ، فجارا عن الطريق وضلا ، واشتد علينا العطش ، فلم يلبثا ان ماتا ، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء ، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى " المضيق " من بطن الخبيت ، وقد تطيرت من وجهي هذا ، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري ، والسلام " . فكتب إليه حسين : " أما بعد : فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إليّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن فامض لوجهك الذي وجهتك له ، والسلام عليك " . فقال مسلم لمن قرأ الكتاب : هذا ما لست أتخوفه على نفسي . فأقبل كما هو حتى مر بماء لطيء فنزل بهم ثم ارتحل منه فإذا رجل يرمي الصيد فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه فقال مسلم : يُقتل عدونا إن شاء الله ( ) ، ثم أقبل مسلم حتى دخل الكوفة فنزل دار المختار بن أبي عبيد - وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب - وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين فأخذوا يبكون( ) ، فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد : فإني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرك منهم والله لأحدثنك عما أنا مُوَطّن نفسي عليه ، والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ، ولأضربن بسيف دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله " ،
فقام حبيب بن مظاهر النقعسي : فقال : " رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك " ثم قال: " وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه
" ، ثم قال الحنفي مثل ذلك .
فقال الحجاج بن علي : فقلت لمحمد بن بشر فهل كان منك أنت قول ؟ فقال : إن كنت لأحب أن يعز الله أصحابي بالظفر وما كنت لأحب أن أقتل وكرهت أن أكذب . واختلفت الشيعة إليه حتى علم مكانه فبلغ ذلك النعمان بن بشير .
قال أبو مخنف : حدثني نمير بن وعلة( ) عن أبي الوداك( ) قال : خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد فاتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيهما يهلك الرجال وتسفك الدماء وتغضب الأموال "، - وكان حليما ناسكا يحب العافية - قال : " إني لم أقاتل من لم يقاتلني ولا أثب على من لا يثب علي ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبتَ قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل "
قال [ أبي الوداك ]: فقام إليه عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال : إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين . فقال : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ، ثم نزل .
وخرج عبد الله بن مسلم وكتب إلى يزيد بن معاوية : " أما بعد : فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف " ، فكان أول من كتب إليه ، ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه ، ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك .
قال هشام ، قال عوانة ( ): فلما اجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم إلا يومان دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية فقال : ما رأيك فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء وأَقْرَأَه كتبهم ، فما ترى من استعمِل على الكوفة ؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد ، فقال سرجون : أرأيت معاوية لو نَشَرَ لك ، أكنتَ آخذاً برأيه ؟ قال : نعم , فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة . فقال : هذا رأي معاوية ، ومات وقد أمر بهذا الكتاب . فأخذ برأيه وضم المصرين إلى عبيد الله وبعث إليه بعهده على الكوفة .
ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي- وكان عنده- فبعثه إلى عبيد الله بعهده إلى البصرة وكتب إليه معه : " أما بعد فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام " ، فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة فأمر عبيد الله بالجهاز والتهيؤ والمسير إلى الكوفة من الغد .
وقد كان حسين كتب إلى أهل البصرة كتابا :
قال هشام : قال أبو مخنف : حدثني الصقعب بن زهير ( )، عن أبي عثمان النهدي( ) ، قال : كتب حسين مع مولى لهم يقال له سليمان وكتب بنسخة إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف فكتب إلى مالك بن مسمع البكري ، وإلى الأحنف بن قيس ، وإلى المنذر بن الجارود ، وإلى مسعود بن عمرو ، وإلى قيس بن الهيثم ، وإلى عمرو بن عبيد الله بن معمر ، فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها ، " أما بعد : فإن الله اصطفى محمداً صلى الله عليه و سلم على خلقه وأكرمه بنبوته واختاره لرسالته ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه و سلم وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم أنّا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه ؛ وقد أحسنوا وأصلحوا وتحروا الحق فرحمهم الله وغفر لنا ولهم وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم فإن السنة قد أميتت وإن البدعة قد أحييت وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد والسلام عليكم ورحمة الله " . فكل من قرأ ذلك الكتاب من أشراف الناس كتمه غير المنذر بن الجارود فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيساً من قبل عبيد الله فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة وأقرأه ، كتابه فقدم الرسول فضرب عنقه ، وصعد عبيد الله منبر البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد فوالله ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنان وإني لَنَكِلٌ لمن عاداني ، وسمٌّ لمن حاربني ، أُنْصف القارة من راماها ، يا أهل البصرة إن أمير المؤمنين ولاني بالكوفة وأنا غاد إليها الغداة وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان وإياكم والخلاف والإرجاف ، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنه وعريفُه ووليُه ، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مخالف ولا مُشاقّ ، أنا ابن زياد أشبَهْتُه من بين من وطىء الحصى ، ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم " ، ثم خرج من البصرة واستخلف أخاه عثمان بن زياد وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي ، وحَشَمِه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم والناس قد بلغهم إقبال حسين إليهم فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين ، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا : مرحبا بك يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم فرأى من تباشيرهم بالحسين عليه السلام ما ساءه ، فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا : تأخروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد ، فاخذ حين أقبل على الظهر وإنما معه بضعة عشر رجلاً ، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عبيد الله بن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد وغاظ عبيد الله ما سمع منهم وقال ألا أرى هؤلاء كما أرى .
قال هشام ، قال أبو مخنف ، فحدثني المعلى بن كليب ( ) ، عن أبي وداك ( ) قال : لما نزل القصر نودي الصلاة جامعة ، قال : فاجتمع الناس فخرج إلينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد : فإن أمير المؤمنين -أصلحه الله- ولّاني مصرُكم وثغرُكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متبع فيكم أمره ، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي فليبقِ امرؤ على نفسه ، الصدق ينبىء عنك لا الوعيد " ، ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً ، فقال : اكتبوا إلي الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق ، فمن كتبهم لنا فبرىء ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغٍ فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلالٌ لنا ماله وسفْكُ دمه ، وأيما عريف وُجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألقيت تلك العرافة من العطاء وسير إلى موضع بعمان الزارة .
وأما عيسى بن يزيد الكناني ( ) ، فإنه - فيما ذكر عمر بن شبة ( ) ، عن هارون بن مسلم ( ) ، عن علي بن صالح ، عنه - قال : لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد انتخب من أهل البصرة خمسمائة فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل ، وشريك بن الأعور، وكان شيعة لعلي ، فكان أول من سقط بالناس شريك ، فيقال : إنه تساقط غمرة ومعه ناس ثم سقط عبد الله بن الحارث وسقط معه ناس ، ورَجَوْا أن يلوي عليهم عبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة ، فجعل لا يلتفت إلى من سقط ويمضي حتى ورد القادسية ، وسقط مهران مولاه ، فقال : أيا مهران على هذه الحال إن أمسكت عنك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف ، قال : لا والله ما أستطيع .
فنزل عبيد الله فأخرج ثياباً مقطعة من مقطعات اليمن ثم اعتجر بمعجرة يمانية فركب بغلته ثم انحدر راجلاً وحده فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إليه لم يشكّوا أنه الحسين ؛ فيقولون : مرحبا بك يا ابن رسول الله وجعل لا يكلمهم وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم ، وسمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه وعلى خاصته وانتهى إليه عبيد الله وهو لا يشك أنه الحسين ومعه الخلق يضجّون ، فكلمه النعمان فقال : " أنشدك الله إلا تنحيت عني ما أنا بمسلم إليك أمانتي وما لي في قتلك من أرب " فجعل لا يكلمه ، ثم إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفتين فجعل يكلمه ، فقال افتح لا فتحت فقد طال ليلك ، فسمعها إنسان خلفه فتكفّى إلى القوم فقال : أي قوم ابن مرجانة والذي لا إله غيره ، فقالوا: ويحك إنما هو الحسين . ففتح له النعمان ، فدخل ، وضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا وأصبح فجلس على المنبر فقال : " أيها الناس : إني لأعلم أنه قد سار معي وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه والله ما عرفت منكم أحداً " ، ثم نزل ، وأُخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة وأنه بناحية الكوفة فدعا مولى لبني تميم فأعطاه مالاً وقال : انتحل هذا الأمر وأعنهم بالمال واقصد لهانئ ومسلم وانزل عليه ، فجاء هانئاً فأخبره أنه شيعة وأن معه مالا .
وقدم شريك بن الأعور شاكياً فقال لهانئ : مُر مسلماً يكن عندي فإن عبيد الله يعودني . وقال شريك لمسلم : أرأيتك إن أمكنتُك من عبيد الله أَضارِبَه أنت بالسيف ؟ قال : نعم والله . وجاء عبيد الله شُريكا يعوده في منزل هانئ ، وقد قال شريك لمسلم : إذا سمعتني أقول اسقوني ماء فاخرج عليه فاضربه ، وجلس عبيد الله على فراش شريك وقام على رأسه مهران ، فقال : اسقوني ماء ، فخرجت جارية بقدح فرأت مسلماً فزالت ، فقال شريك : اسقوني ماء ، ثم قال الثالثة : ويلكم تحموني الماء اسقونيه ولو كانت فيه نفسي ، ففطن مهران فغمز عبيد الله فوثب فقال شريك أيها الأمير: إني أريد أن أوصي إليك ، قال : أعود إليك ، فجعل مهران يطرد به، وقال : أراد والله قتلك قال وكيف مع إكرامي شريكاً ، وفي بيت هانئ ويد أبي عنده يد ، فرجع ، فأرسل إلى أسماء بن خارجة( ) ومحمد بن الأشعث ، فقال : ائتياني بهانئ ، فقالا له : إنه لا يأتي إلا بالأمان ، قال : وما له وللأمان وهل أحدث حدثاً ؟ انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمنّاه . فأتياه فدعواه فقال : إنه إن أخذني قتلني فلم يزالا به حتى جاءا به وعبيد الله يخطب يوم الجمعة فجلس في المسجد وقد رَجَّلَ هانئ غديرتيه ، فلما صلى عبيد الله قال : يا هانئ ، فتبعه ودخل فسلم فقال عبيد الله : " يا هانئ أما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر - وكان من حجر ما قد علمت - ثم لم يزل يحسن صحبتك "، ثم كتب إلى أمير الكوفة إن حاجتي قِبَلَك هانئ ؟ قال : نعم ، قال : فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلاً ليقتلني قال ما فعلت فأخرج التميمي الذي كان عيناً عليهم فلما رآه هانئ علم أن قد أخبره الخبر ، فقال أيها الأمير قد كان الذي بلغك ولن أضيع يدك عني فأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت ، فكبا عبيد الله عندها ، ومهران قائم على رأسه في يده معكزة واذلّاه هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك ، فقال : خذه فطرح المعكزة وأخذ بضفيرتيْ هانئ ثم أقنع بوجهه ثم أخذ عبيد الله المعكزة فضرب بها وجه هانئ وندر الزج فارتز في الجدار ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه وجبينه ، وسمع الناس الهيعة ، وبلغ الخبر مذحج فأقبلوا فأطافوا بالدار ، وأمر عبيد الله بهانئ فأُلقي في بيت ، وصيح المذحجيون وأمر عبيد الله مهران أن يُدخل عليه شريحاً ، فخرج فأدخله عليه ودخلت الشرط معه فقال : يا شريح قد ترى ما يُصنع بي ! قال : أراك حيا . قال : وحي أنا مع ما ترى ، أخبر قومي أنهم إن انصرفوا قتلني ، فخرج إلى عبيد الله ، فقال : قد رأيته حياً ورأيت أثراً سيئاً ، قال : وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته ، اخرج إلى هؤلاء فأخبرهم فخرج وأمر عبيد الله الرجل فخرج معه فقال لهم شريح ما هذه الرعة السيئة ! الرجل حي وقد عاتبه سلطانه بضربٍ لم يبلغ نفسه فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم ، فانصرفوا .
وذكر هشام ، عن أبي مخنف ، عن المعلى بن كليب ، عن أبي الوداك قال : نزل شريك بن الأعور على هانئ بن عروة المرادي ، وكان شريك شيعياً وقد شهد صفين مع عمار.
وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله ومقالته التي قالها وما أخذ به العرفاء والناس، فخرج من دار المختار وقد علم به حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي فدخل بابه وأرسل إليه أن أخرج ، فخرج إليه هانئ فكره هانئ مكانه حين رآه فقال له مسلم : أتيتك لتجيرني وتضيفني ، فقال : رحمك الله لقد كلفتني شططاً ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني غير أنه يأخذني من ذلك ذمام وليس مردود مثلي على مثلك عن جهل ، ادخل .فآواه وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ بن عروة ، ودعا ابن زياد مولى له يقال له معقل فقال له خذ ثلاثة آلاف درهم ثم اطلب مسلم بن عقيل واطلب لنا أصحابه ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف فقل لهم استعينوا بها على حرب عدوكم ، وأعلمهم أنك منهم فإنك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك ووثقوا بك ولم يكتموك شيئا من أخبارهم ثم اغد عليهم ورح، ففعل ذلك ، فجاء حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم وهو يصلي وسمع الناس يقولون إن هذا يبايع للحسين فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته ثم قال يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشأم مولى لذي الكلاع أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت وحب من أحبهم فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عليه ولا يعرف مكانه ، فإني لجالسٌ آنفاً في المسجد إذ سمعت نفراً من المسلمين يقولون هذا رجل له علم بأهل هذا البيت وإني أتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني على صاحبك فأبايعه ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه ، فقال احمد الله على لقائك إياي فقد سرني ذلك لتنال ما تحب ولينصر الله بك أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم ولقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته ، فأخذ بيعته قبل أن يبرح وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحه وليكتمن فأعطاه من ذلك ما رضي به ثم قال : له اختلف إلي أياما في منزلي فأنا طالب لك الإذن على صاحبك فأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن ، فمرض هانئ بن عروة فجاء عبيد الله عائداً له فقال له عمارة بن عبيد السلولي : إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية فقد أمكنك الله منه فاقتله ، قال هانئ : ما أحب أن يقتل في داري ، فخرج فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور - وكان كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء وكان شديد التشيع - فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشية فقال لمسلم إن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها ، فلما كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك ، فقام مسلم بن عقيل ليدخل وقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس ، فقام هانئ بن عروة إليه فقال : إني لا أحب أن يقتل في داري كأنه استقبح ذلك ، فجاء عبيد الله بن زياد فدخل فجلس فسأل شريكا عن وجعه وقال ما الذي تجد ومتى أشكيت ؟ فلما طال سؤاله إياه ورأى أن الآخر لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:
ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها ... اسقينها وإن كانت فيها نفسي
فقال ذلك مرتين أو ثلاثا فقال عبيد الله - ولا يفطن ما شأنه - : أترونه يهجر؟ فقال له هانئ نعم أصلحك الله ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه ثم إنه قام فانصرف ، فخرج مسلم فقال له شريك : ما منعك من قتله ؟ فقال خصلتان أما إحداهما فكراهة هانئ أن يُقتل في داره وأما الأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي صلى الله عليه و سلم {إن الإيمان قيد الفتك ، ولا يفتك مؤمن }( ) فقال هانئ : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً ولكن كرهت أن يقتل في داري ، ولبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثاً ، ثم مات.
فخرج ابن زياد فصلى عليه ، وبلغ عبيد الله بعد ما قتل مسلماً وهانئاً أن ذلك الذي كنت سمعتَ من شريك في مرضه إنما كان يحرض مسلماً ويأمره بالخروج إليك ليقتلك ، فقال عبيد الله : والله لا أصلي على جنازة رجل من أهل العراق أبداً ، ووالله لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكاً .
ثم إن معقلاً مولى ابن زياد الذي دسه بالمال إلى ابن عقيل وأصحابه اختلف إلى مسلم بن عوسجة أياماً ليُدخله على ابن عقيل فأقبل به حتى أدخله عليه بعد موت شريك بن الأعور فأخبره خبره كله فأخذ ابن عقيل بيعته وأمر أبا ثمامة الصائدي فقبض ماله الذي جاء به وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضا يشتري لهم السلاح وكان به بصيرا وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة ، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم فهو أول داخل وآخر خارج يسمع أخبارهم ويعلم أسرارهم ثم ينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد .
قال [ هشام بالسند المذكور ] : وكان هانئ يغدو ويروح إلى عبيد الله ، فلما نزل به مسلم انقطع من الاختلاف وتمارض فجعل لا يخرج فقال ابن زياد لجلسائه مالي لا أرى هانئا فقالوا هو شاكٍ فقال لو علمت بمرضه لعدته
قال أبو مخنف : فحدثني المجالد بن سعيد ( ) ، قال : دعا عبيد الله : محمد بن الأشعث ، وأسماء بن خارجة .
قال أبو مخنف : حدثني الحسن بن عقبة المرادي( ) أنه بعث معهما عمرو بن الحجاج الزبيدي .
قال أبو مخنف ، وحدثني نمير بن وعلة ، عن أبي الوداك قال : كانت روعة أخت عمرو بن الحجاج تحت هانئ بن عروة وهي أم يحيى بن هانئ فقال لهم : ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا ؟ قالوا ما ندري أصلحك الله وإنه ليتشكى ، قال : قد بلغني أنه قد برأ وهو يجلس على باب داره فالقوه فمروه ألا يدع ما عليه في ذلك من الحق فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب ، فَأَتَوْه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه ، فقالوا : ما يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك وقد قال لو أعلم أنه شاك لعُدته ؟ فقال لهم : الشكوى تمنعني ، فقالوا له : يبلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك وقد استبطأك والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان أقسمنا عليك لما ركبت معنا فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا ببغلة فركبها حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه أحست ببعض الذي كان فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يا ابن أخي إني والله لهذا الرجل لخائف فما ترى ؟ قال أي عم والله ما أتخوف عليك شيئا ولم تجعل على نفسك سبيلاً وأنت بريء . وزعموا أن أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيد الله ، فأما محمد فقد علم به فدخل القوم على ابن زياد ودخل معهم ، فلما طلع قال عبيد الله : " أتتك بحائن رجلاه " وقد عرس عبيد الله إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة فلما دنا من ابن زياد وعنده شريح القاضي التفت نحوه فقال : أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
- وقد كان له أول ما قدم مُكرماً مُلطفاً - فقال له هانئ : وما ذاك أيها الأمير؟ قال : إيه يا هانئ بن عروة ما هذه الأمور التي تربص في دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك وظننت أن ذلك يخفى علي لك ؟ قال : ما فعلتُ ، وما مسلمٌ عندي . قال : بلى قد فعلت . قال : ما فعلت . قال : بلى ؛ فلما كثر ذلك بينهما وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته دعا ابن زياد معقلا ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه فقال : أتعرف هذا ؟ قال نعم وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عيناً عليهم وأنه قد أتاه بأخبارهم فسقط في خلده ساعة ثم إن نفسه راجعته فقال له : " اسمع مني وصدّق مقالتي فوالله لا أكذبك والله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي فسألني النزول علي فاستحييت من رده ودخلني من ذلك ذمام فأدخلته داري وضفته وآويته وقد كان من أمره الذي بلغك فإن شئت أُعْطيتَ الآن موثقا مغلظا وما تطمئن إليه ألا أبغيك سوءا وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه وجواره " ، فقال لا والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به ، فقال : لا والله لا أجيئك أبدا ، أنا أجيئك بضيفي تقتله ! قال : والله لتأتيني به ، قال : والله لا آتيك به ، فلما كثر الكلام بينهما، قام مسلم بن عمرو الباهلي وليس بالكوفة شأمي ولا بصري غيره فقال : أصلح الله الأمير خلني وإياه حتى أكلمه ، لما رأى لجاجته وتأبيه على ابن زياد أن يدفع إليه مسلما فقال لهانئ : قم إلي ها هنا حتى أكلمك فقام فخلا به ناحية من ابن زياد وهما منه على ذلك قريب حيث يراهما إذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان وإذا خفضا خفي عليه ما يقولان فقال له مسلم : يا هانئ إني أنشدك الله أن تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك وعشيرتك فوالله إني لأنفس بك عن القتل - وهو يرى أن عشيرته ستحرك في شأنه - أن هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان ، قال : بلى والله إن علي في ذلك للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى شديد الساعد كثير الأعوان ! والله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول والله لا أدفعه إليه أبداً ، فسمع ابن زياد ذلك فقال : أدنوه مني فأدنوه منه فقال : والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك ، قال : إذا تكثر البارقة حول دارك فقال : والهفاً عليك أبالبارقة تخوفني ؟ وهو يظن أن عشيرته سيمنعونه فقال ابن زياد : أدنوه مني فأدني فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لخم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب وضرب هانئ بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الرجال وجابذه الرجل ومنع ، فقال عبيد الله : أحروري سائر اليوم أحللت نفسك قد حل لنا قتلك خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه واجعلوا عليه حسراً ففُعل ذلك به ، فقام إليه أسماء بن خارجة فقال : أَرُسُلُ غدرٍ سائر اليوم ! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به وأدخلناه عليك هشمت وجهه وسيلت دمه على لحيته وزعمت أنك تقتله ؟ فقال له عبيد الله: وإنك لها هنا فأمر به فلهز وتعتع به ثم ترك فحبس .
وأما محمد بن الأشعث فقال : قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا إنما الأمير مؤدِّب ، وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قُتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ثم نادى : " أنا عمرو بن الحجاج ، هذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم يقتل ، فأعظموا ذلك " ، فقيل لعبيد الله هذه مذحج بالباب ، فقال لشريح القاضي ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل وأنك قد رأيته فدخل إليه شريح فنظر إليه .
فقال أبو مخنف : حدثني الصقعب بن زهير ، عن عبد الرحمن بن شريح( ) قال : سمعته يحدث إسماعيل بن طلحة( ) : قال دخلت على هانئ فلما رآني قال: " يا لله ، يا للمسلمين ، أهلكَت عشيرتي ! فأين أهل الدين وأين أهل المصر تفاقدوا يخلّوني وعدوهم وابن عدوهم " ، والدماء تسيل على لحيته إذ سمع الرجة على باب القصر ، وخرجت واتبعني فقال : يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني.
قال : فخرجت إليهم ومعي حميد بن بكير الأحمري أرسله معي ابن زياد - وكان من شُرَطِه ممن يقوم على رأسه- وايم الله لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به ، فلما خرجت إليهم قلت : إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه فأمرني أن ألقاكم وأن أعلمكم أنه حي وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلاً . فقال عمرو وأصحابه : فأما إذ لم يقتل فالحمد لله ، ثم انصرفوا .
قال أبو مخنف : حدثني الحجاج بن علي عن محمد بن بشر الهمداني، قال : لما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه خشي أن يثب الناس به فخرج فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد أيها الناس فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا إن أخاك من صدقك وقد أعذر من أنذر " .
قال : ثم ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون قد جاء ابن عقيل قد جاء ابن عقيل فدخل عبيدالله القصر مسرعا وأغلق أبوابه .
قال أبو مخنف : حدثني يوسف بن يزيد ، عن عبدالله بن خازم ، قال : أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هانئ قال فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عثرتاه يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدور حوله وقد بايعه ثمانية عشر ألفا وفي الدور أربعة آلاف رجل فقال لي ناد : " يا منصور أمت " فناديت: " يا منصور أمت "وتنَادَى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وقال : سر أمامي في الخيل؛ ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وقال : انزل في الرجال فأنت عليهم ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة ، ثم أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وغلق الأبواب .
قال أبو مخنف : وحدثني يونس بن أبي إسحاق ، عن عباس الجدلي ، قال : خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف فما بلغنا القصر إلا ونحن ثلثمائة ( ) قال : وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر ،ثم إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا ، فوالله ما لبثنا إلا قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يثوبون حتى المساء ،فضاق بعبيد الله ذرعه وكان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر وليس معه إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه ، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ، وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم فيتقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم ، وهم لا يفترون على عبيد الله وعلى أبيه ، ودعا عبيد الله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان ، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس ، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل .
قال أبو مخنف : فحدثني أبو جناب الكلبي أن كثيراً ألفى رجلا من كلب يقال له عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان فأخذه حتى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره فقال لابن زياد إنما أردتك قال وكنت وعدتني ذلك من نفسك فأمر به فحبس ، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة ، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل عليه سلاحه ، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه ، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامي ، فلما رأى محمد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحى ويتأخر، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمد بن الأشعث قد جلت على ابن عقيل من العرار فتأخر عن موقفه فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قبل دار الروميين فلما اجتمع عند عبيد الله كثير بن شهاب ومحمد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم قال له كثير: وكانوا مناصحين لابن زياد( ) أصلح الله الأمير معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك فاخرج بنا إليهم فأبى عبيد الله وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه وأقام الناس مع ابن عقيل يكبرون ويثوبون حتى المساء وأمرهم شديد فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم إليه ثم قال أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم فصول الجنود من الشأم إليهم .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن خازم الكثيري من الأزد من بني كثير قال : أشرف علينا الأشراف فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب فقال : أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشأم على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا اذاقها وبال ما جرت أيديها ، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون .
قال أبو مخنف فحدثني المجالد بن سعيد أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول انصرف الناس يكفونك ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول غدا يأتيك أهل الشأم فما تصنع بالحرب والشر انصرف فيذهب به فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسا في المسجد حتى صليت المغرب فما صلى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسا فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة وبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان والتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة - أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها ،فتزوجها الحضرمي فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره- فسلم عليها ابن عقيل فردت عليه فقال لها : يا أمة الله اسقيني ماء فدخلت فسقته فجلس وأدخلت الإناء ثم خرجت فقالت يا عبدالله ألم تشرب ؟ قال : بلى ، قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت ، ثم عادت فقالت مثل ذلك ، فسكت ، ثم قالت له في الثالثة : سبحان الله يا عبد الله فمر إلى أهلك عافاك الله فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك، فقام فقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلي مكافئك به بعد اليوم ؟ فقالت : يا عبد الله وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني . قالت : أنت مسلم ؟ قال : نعم، قالت : ادخل ، فأدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فقال والله إنه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه إن لك لشأنا . قالت : يا بني إله عن هذا . قال لها : والله لتخبريني ، قالت : أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء ، فألح عليها ، فقالت : يا بني لا تحدثن أحدا من الناس بما أخبرك به أخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته فاضطجع وسكت وزعموا أنه قد كان شريدا من الناس وقال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له ولما طال على ابن زياد وأخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمعه قبل ذلك قال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا فأشرفوا فلم يروا أحدا . قال : فانظروا لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم ففرعوا بحابح المسجد وجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم ثم ينظرون هل في الظلال أحد وكانت أحيانا تضيء لهم وأحيانا لا تضيء لهم كما يريدون فدلوا القناديل وأنصاف الطنان تشد بالحبال ثم تجعل فيها النيران ثم تدلى حتى تنتهي إلى الأرض ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد ففتح باب السدة التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر وخرج أصحابه معه فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة وأمر عمرو بن نافع ، فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد ، فلم يكن له إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ثم أمر مناديه فأقام الصلاة فقال الحصين بن تميم : إن شئت صليت بالناس أو يصلي بهم غيرك ودخلت أنت فصليت في القصر فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك ، فقال : مر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون ، ودُر فيهم فإني لست بداخل إذاً ، فصلى بالناس ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ، يا حصين بن تميم ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به وقد سلطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصدة على أفواه السكك وأصبح غدا واستبر الدور وجُس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل . " ، وكان الحصين على شرطه وهو من بني تميم ، ثم نزل ابن زياد فدخل وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمره على الناس فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه وأقبل محمد بن الأشعث فقال : مرحبا بمن لا يستغش ولا يتهم ثم أقعده إلى جنبه . وأصبح ابن تلك العجوز وهو بلال بن أسيد الذي آوت أمه ابن عقيل فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه .
قال : فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه فقال له ابن زياد : ما قال لك ؟ قال أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا ، فنخس بالقضيب في جنبه ثم قال قم فأتني به الساعة .
قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إلى عمرو بن حريث وهو في المسجد خليفته على الناس أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل ، فبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في ستين أو سبعين من قيس حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أُتي ، فخرج إليهم بسيفه واقتحموا عليه الدار فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ثم عادوا إليه فشد عليهم كذلك فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا وأشرع السيف في السفلى ونصلت لها ثنيتاه فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة فقاتلهم فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال : يا فتى لك الأمان لا تقتل نفسك فأقبل يقاتلهم وهو يقول :
أقسمت لا أقتل إلا حرا ... وإن رأيت الموت شيئا نكرا ..
كل امرئ يوما ملاق شرا ... ويخلط البارد سخنا مرا ..
رد شعاع الشمس فاستقرا ... أخاف أن أكذب أو أغرا ..
فقال له محمد بن الأشعث إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر ، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك وقد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار فدنا محمد بن الأشعث فقال : لك الأمان فقال آمن أنا ؟ قال : نعم وقال القوم : أنت آمن ، غير عمرو بن عبيدالله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحى، وقال ابن عقيل : أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم وأتي ببغلة فحمل عليها واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه فكأنه عند ذلك آيس من نفسه فدمعت عيناه ثم قال : هذا أول الغدر .
قال محمد بن الأشعث : أرجو ألا يكون عليك بأس ، قال : ما هو إلا الرجاء أين أمانكم إنا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس : إن من يطلب مثل الذي تطلب، إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك ! قال : إني والله ما لنفسي أبكي ولا لها من القتل أرثي - وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً - ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ ، أبكي لحسين وآل حسين . ثم أقبل على محمد بن الأشعث : فقال يا عبد الله إني أراك والله ستعجز عن أماني فهل عندك خير تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلغ حسينا فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلاً أو هو خرج غداً هو وأهل بيته وإن ما ترى من جزعي لذلك ، فيقول إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حتى تقتل وهو يقول ارجع بأهل بيتك ولا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لمكذب رأي . ( ) فقال ابن الأشعث : والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك .
قال أبو مخنف : فحدثني جعفر بن حذيفة الطائي( ) - وقد عرف سعيد بن شيبان ( )الحديث - قال : دعا محمد بن الأشعث ، إياس بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو بن ثمامة وكان شاعرا وكان لمحمد زَوّارا ، فقال له : الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل وقال له هذا زادك وجهازك ومتعة لعيالك ، فقال من أين لي براحلة فإن راحلتي قد أنضيتها قال هذه راحلة فاركبها برحلها ، ثم خرج . فاستقبله بزبالة لأربع ليال فأخبره الخبر وبلغه الرسالة فقال له حسين : كل ما حم نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا .
وقد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا قدم كتابا إلى حسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري : " أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر الفا ( ) فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى ، والسلام . "
وأقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر فاستأذن فأُذن له فأخبر عبيد الله خبر ابن عقيل وضرب بكير إياه فقال : بُعدا له ، فأخبره محمد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إياه ، فقال عبيد الله : ما أنت والأمان ؟ كأنا أرسلناك تؤمنه إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت .
وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن منهم : عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب .
قال أبو مخنف : فحدثني قدامة بن سعد أن مسلم بن عقيل حين انتهى إلى باب الفصر فإذا قُلّة باردة موضوعة على الباب فقال ابن عقيل : اسقوني من هذا الماء . فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم ، قال له ابن عقيل : ويحك من أنت ؟ قال أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته ونصح لإمامه إذ غششته وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال ابن عقيل : لأمك الثكل ما أجفاك وما أفظك وأقسى قلبك وأغلظك أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني ، ثم جلس متساندا إلى حائط .
قال أبو مخنف : فحدثني قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلاما يدعى سليمان فجاءه بماء في قلة فسقاه .
قال ابو مخنف : وحدثني سعيد بن مدرك بن عمارة أن عمارة بن عقبة بعث غلاما له يدعى قيسا فجاءه بقلة عليها منديل ومعه قدح فصب فيه ماء ثم سقاه ، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما ، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فيه ، فقال : الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته . وأدخل مسلم على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمرة فقال له الحرسي : ألا تسلم على الأمير ؟ فقال له : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عليه . فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : كذلك ! قال : نعم ، قال : فدعني أوص إلى بعض قومي، فنظر إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد فقال : يا عمر إن بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وقد يجب لي عليك نجح حاجتي وهو سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها ، فقال له عبيد الله : لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك ، فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد فقال له : " إن عليَّ بالكوفة ديْناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني ، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد فوارِها ، وابعث إلى حسين من يرده فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلا " ( ) فقال عمر لابن زياد : أتدري ما قال لي ؟ إنه ذكر كذا وكذا ، قال له ابن زياد : إنه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن أما مالك فهو لك ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت ، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكف عنه ، وأما جثته فإنا لن نشفعك فيها إنه ليس بأهل منا لذلك قد جاهدنا وخالفنا وجهد على هلاكنا- وزعموا أنه قال : أما جثته فإنا لا نبالي إذ قتلناه ما صُنع بها - . ثم إن ابن زياد قال : " إيه يا بن عقيل : أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم وتحمل بعضهم على بعض " . قال : " كلا لست أتيت ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب " ( ). قال : " وما أنت وذاك يا فاسق ، أولم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ! " قال : " أنا أشرب الخمر والله إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك قلت بغير علم وأني لست كما ذكرت وإن أحق بشرب الخمر مني وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا " ، فقال له ابن زياد : " يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حالَ الله دونه ولم يرك أهلا ً " ، قال : " فمن أهله يا ابن زياد ؟ " قال : " أمير المؤمنين يزيد " ، فقال : " الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكما بيننا وبينكم " ، قال : " كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا " قال : " والله ما هو بالظن ولكنه اليقين " ، قال : " قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام " ( ) قال : " أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه ، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة ولا أحد من الناس أحق بها منك " ، وأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلمه وزعم أهل العلم أن عبيدالله أمر له بماء فسقي بخزفة ثم قال له إنه لم يمنعنا أن نسقيك فيها إلا كراهة أن تحرم بالشرب فيها ثم نقتلك ولذلك سقيناك في هذا ، ثم قال : اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ، ثم أتبعوا جسده رأسه ، فقال يا ابن الأشعث : " أما والله لولا أنك آمنتني ما استسلمت ، قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك " ، ثم قال : " يا ابن زياد أما والله لو كانت بيني وبينك قرابة ما قتلتني " ، ثم قال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه ، فدعي فقال : اصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه فصعد به وهو يكبر ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ورسله وهو يقول : " اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا " ، وأشرف به على موضع الجزارين اليوم فضربت عنقه وأتبع جسده رأسه .( )
قال أبو مخنف : حدثني الصقعب بن زهير عن عون بن أبي جحيفة( ) قال : نزل الأحمري بكير بن حمران الذي قتل مسلما فقال له ابن زياد : قتلته ؟ قال : نعم . قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به ؟ قال : كان يكبر ويسبح ويستغفر ، فلما أدنيته لأقتله قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا ، فقلت له : ادن مني ، الحمد الله الذي اقادني منك ، فضربته ضربة لم تغن شيئا ، فقال : أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد ؟ فقال ابن زياد : " أوفخراً عند الموت ! " قال: ثم ضربته الثانية فقتلته .
قال : وقام محمد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلمه في هانئ بن عروة وقال : إنك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر وبيته في العشيرة وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك فأنشدك الله لما وهبته لي فإني أكره عداوة قومه هم أعز أهل المصر وعدد أهل اليمن .
قال : فوعده أن يفعل ، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان ، بدا له فيه ، وأبى أن يفي له بما قال .
قال : فأمر بهانئ بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال : أخرجوا إلى السوق فاضربوا عنقه .
قال : فأخرج بهانئ حتى انتهى إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف فجعل يقول " وامذحجاه ! ولا مذحج لي اليوم وامذحجاه وأين مني مذحج ! " فلما رأى أن أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ثم قال : أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش به رجل عن نفسه !
قال : ووثبوا إليه فشدوه وثاقا ثم قيل له امدد عنقك فقال ما أنا بها مجد سخي وما أنا بمعينكم على نفسي .
قال : فضربه مولى لعبيد الله بن زياد تركي يقال له رشيد بالسيف فلم يصنع سيفه شيئا ، فقال هانيء : إلى الله المعاد اللهم إلى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى فقتله .
قال : فبصر به عبد الرحمن بن الحصين المرادي بخازر وهو مع عبيدالله بن زياد ، فقال الناس : هذا قاتل هانئ بن عروة فقال ابن الحصين : قتلني الله إن لم أقتله أو أقتل دونه فحمل عليه بالرمح فطعنه فقتله.
ثم إن عبيدالله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان فأتي به فقال له : أخبرني بأمرك فقال أصلحك الله خرجت لأنظر ما يصنع الناس فأخذني كثير بن شهاب فقال له : فعليك وعليك من الأيمان المغلظة إن كان أخرجك إلا ما زعمت ؟ فأبى أن يحلف فقال عبيدالله : انطلقوا بهذا إلى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بها ، قال فانطلق به فضربت عنقه.
قال : وأخرج عمارة بن صلخب الأزدي وكان ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره فأتي به أيضا عبيد الله فقال له : ممن أنت ؟ قال : من الأزد ، قال : انطلقوا به إلى قومه فضربت عنقه فيهم .
فقال عبدالله بن الزبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادي - ويقال قاله الفرزدق - :
فإن كُنْتِ لاَ تَدْرِينْ ما الموتُ فَانْظُرِي ... إلى هانئٍ في السُّوقِ وَابْنِ عَقِيلِ
إلى بَطَلٍ قد عفَّرَ السيفُ وجهه ... وآخَرَ يَهْوِي من طَمَارِ قَتِيلِ
أَصابهما أمْرُ الأمير فأصبحا ... أحادِيثَ من يَسْعى بكل سبيل
تَرَىْ جَسَداً قد غَيرَ المَوْتُ لونه ... وَنَضْحَ دم قد سَالَ كل مَسِيل
أيترك أسماء الهماليج آمِناً ... وقد طلبته مَذْحجِ بذحُول
فَتىً هو أحيى من فتاة حَيِيَّةٍ ... وأقطع من ذِي شَفْرَتيْنِ صقيل
تطيف حواليه مراد وكلهم ... على رقبة من سائل ومسول ..
فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم ... فكونوا بغيّا أُرضيت بقليل...
قال أبو مخنف : عن أبي جناب : يحيى بن أبي حية الكلبي( ) ، قال : ثم إن عبيدالله بن زياد لما قتل مسلما وهانئا بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي ، والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ فكتب إليه كتابا أطال فيه وكان أول من أطال في الكتب فلما نظر فيه عبيدالله بن زياد كرهه وقال ما هذا التطويل وهذه الفضول ! كَتَبَ : " أما بعد : فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤنة عدوه ، أُخبِرُ أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما فقدمتهما فضربت أعناقهما وقد بعثت إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني والزبير بن الأروح التميمي وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمر فإن عندهما علما وصدقا وفهما وورعا ، والسلام " .
فكتب إليه يزيد : " أما بعد : فإنك لم تعد أن كنت كما أحب ، عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك ورأيي فيك ، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خيرا ؛ وإنه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق فضع المناظر والمسالح ، واحترس على الظن ، وخذ على التهمة ؛ غير ألا تقتل إلا من قاتلك ، واكتب إلي في كل ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك ورحمة الله " .
وذكر هارون بن مسلم عن علي بن صالح عن عيسى بن يزيد أن المختار بن أبي عبيد ، وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، كانا خرجا مع مسلم ، خرج المختار براية خضراء وخرج عبد الله براية حمراء وعليه ثياب حمر، وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث وقال : إنما خرجت لأمنع عمرا ، وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلما وأصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالا شديدا ، وأن شبثاً جعل يقول :انتظروا بهم الليل يتفرقوا ، فقال له القعقاع : إنك قد سددت على الناس وجه مصيرهم فافرج لهم ينسربوا ، وإن عبيد الله أمر أن يُطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلا فأتي بهما فحبسا .
وفي هذه السنة كان خروج الحسين عليه السلام من مكة متوجها إلى الكوفة
ذكر الخبر عن مسيره إليها وما كان من أمره في مسيره ذلك :
قال هشام عن أبي مخنف ، حدثني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي( ) قال : لما قدمت كتب أهل العراق إلى الحسين وتهيأ للمسير إلى العراق ، أتيته فدخلت عليه وهو بمكة فحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت : أما بعد فإني أتيتك يا ابن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة فإن كنت ترى أنك تستنصحني وإلا كففت عما أريد أن أقول . فقال : قل فوالله ما أظنك بسيء الرأي ولا هو للقبيح الأمر والفعل , قال : قلت له : إنه قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق وإني مشفق عليك من مسيرك ، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه . فقال الحسين : جزاك الله خيرا يا ابن عم فقد والله علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل ومهما يقض من أمر يكن أخذت برأيك أو تركته فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح .
قال [ أي : عمر بن عبد الرحمن ]: فانصرفت من عنده فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام فسألني هل لقيت حسينا ؟ فقلت له : نعم . فقال : فما قال لك وما قلت له ؟ قال : فقلت له قلت كذا وكذا وقال كذا وكذا ، فقال: نصحته ورب المروة الشهباء أما ورب البنية إن الرأي لما رأيته قبله أو تركه ثم قال ... رب مستنصح يغش ويردي ... وظنين بالغيب يلفى نصيحاً ...
قال أبو مخنف : وحدثني الحارث بن كعب الوالبي( ) عن عقبة بن سمعان أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال : يا ابن عم : إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبين لي ما أنت صانع ؟ قال : إني قد أجمعت المسير في احد يومي هذين إن شاء الله تعالى ، فقال له ابن عباس : فإني أعيذك بالله من ذلك ، أخبرني - رحمك الله- أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم ؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم ، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك . فقال له حسين وإني أستخير الله وأنظر ما يكون .
قال [ أي :عقبة بن سمعان ] فخرج ابن عباس من عنده فأتاه ابن الزبير فحدثه ساعة ثم قال : ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكففنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم ؟ خبرني : ما تريد أن تصنع ؟ فقال الحسين : والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها وأستخير الله . فقال له ابن الزبير : أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها .
قال [ أي :عقبة بن سمعان ] : ثم إنه خشي أن يتهمه فقال : أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله ، ثم قام فخرج من عنده فقال الحسين : ها إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء وأن الناس لم يعدلوه بي فود أني خرجت منها لتخلو له .
قال : فلما كان من العشي أو من الغد أتى الحسين عبد الله بن العباس فقال : يا ابن عم : إني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم ، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم أقدم عليهم فإن أبيت إلا أنه تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية. فقال له الحسين: يا ابن عم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير. فقال له ابن عباس: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك فوالله إني لخائفٌ أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ، ثم قال ابن عباس : لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك.
قال : ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بعبد الله بن الزبير فقال قرت عينك يا ابن الزبير ثم قال :
( يَالَكِ مِنْ قُبَّرَةٍ بِمَعْمَرِ ... خَلاَ لِكِ الْجَوُّ فَبِيضي وَاصْفِرِي... ونقري ما شئت أن تنقري ) ( )هذا حسين يخرج إلى العراق وعليك بالحجاز .
قال أبو مخنف : قال أبو جناب يحيى بن ابي حية ، عن عدي بن حرملة الأسدي ،عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا : خرجنا حاجين من الكوفة حتى قدمنا مكة فدخلنا يوم التروية فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجر والباب قالا فتقربنا منهما فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين : إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك . فقال له الحسين : إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش. فقال له ابن الزيير : فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى ، فقال :وما أريد هذا أيضا . قالا : ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إلى منى عند الظهر قالا فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة وقص من شعره وحد من عمرته ثم توجه نحو الكوفة وتوجهنا نحو الناس إلى منى .
قال أبو مخنف عن أبي سعيد عقيصى عن بعض أصحابه قال : سمعت الحسين بن علي وهو بمكة وهو واقف مع عبد الله بن الزبير فقال له ابن الزبير: إلي يا ابن فاطمة ، فأصغى إليه فسارّه .
قال : ثم التفت إلينا الحسين فقال : أتدرون ما يقول ابن الزبير فقلنا لا ندري جعلنا الله فداك فقال : قال : أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس . ثم قال الحسين : والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم ووالله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت .
قال أبو مخنف : حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن عقبة بن سمعان قال : لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد فقالوا له : انصرف أين تذهب فأبى عليهم ومضى وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط ، ثم إن الحسين وأصحابه امتنعوا امتناعا قويا ومضى الحسين عليه السلام على وجهه فنادوه : يا حسين ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة ! فتأول حسين قول الله عز وجل : { لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون }
قال : ثم إن الحسين أقبل حتى مر بالتنعيم فلقي بها عيرا قد أقبل بها من اليمن بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية وكان عامله على اليمن وعلى العير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد فأخذها الحسين فانطلق بها ثم قال لأصحاب الإبل لا أكرهكم من أحب أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض .
قال : فمن فارقه منهم حوسب فأوفي حقه ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه .
قال أبو مخنف : عن أبي جناب ، عن عدي بن حرملة عن عبدالله بن سليم والمذري قالا : أقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر فواقف حسينا فقال له : " أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب " ، فقال له الحسين : " بين لنا نبأ الناس خلفك " ، فقال له الفرزدق : " من الخبير سألت : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء " فقال له الحسين : صدقت لله الأمر والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته ؛ ثم حرك الحسين راحلته فقال السلام عليك ثم افترقا .
قال هشام : عن عوانة بن الحكم ( ) عن لَبُطَة بن الفرزدق بن غالب( ) ، عن أبيه قال : حججت بأمي فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في ايام الحج - وذلك في سنة ستين - إذ لقيت الحسين بن علي خارجا من مكة معه أسيافه وتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار؟ فقيل للحسين بن علي ، فأتيته فقلت: بأبي وأمي يا ابن رسول الله ما أعجلك عن الحج ؟ فقال : لو لم أعجل لأُخذت . قال : ثم سألني ممن أنت ؟ فقلت له: امرؤ من العراق . قال : فوالله ما فتشني عن أكثر من ذلك ، واكتفى بها مني ، فقال : أخبرني عن الناس خلفك ؟ قال : فقلت له : " القلوب معك والسيوف مع بني أمية ، والقضاء بيد الله " ، قال : فقال لي: صدقت . قال : فسألته عن أشياء ، فأخبرني بها من نذور ومناسك . قال : وإذا هو ثقيل اللسان من برسام أصابه بالعراق .
قال : ثم مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم وهيئته حسنة ، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فسألني فأخبرته بلقاء الحسين بن علي فقال لي: ويلك فهلا اتبعته فوالله ليملكن ، ولا يجوز السلاح معه ولا في أصحابه .( )
قال : فهممت والله أن ألحق به ، ووقع في قلبي مقالته ، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم ، فصدني ذلك عن اللحاق بهم ، فقدمت على أهلي بعسفان .
قال : فوالله إني لعندهم إذ اقبلت عير قد امتارت من الكوفة ، فلما سمعت بهم خرجت في آثارهم حتى إذا أسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم : ألا ما فعل الحسين بن علي؟ قال فردوا عليّ : ألا قد قُتل . قال : فانصرفت وأنا ألعن عبد الله بن عمرو بن العاص .
قال : وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر وينتظرونه في كل يوم وليلة . قال : وكان عبد الله بن عمرو يقول لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الأمر . قال : فقلت له فما يمنعك أن تبيع الوهط ؟ قال : فقال لي : لعنة الله على فلان - يعني معاوية وعليك - ، قال : فقلت : لا بل عليك لعنة الله ، قال : فزادني من اللعن ، ولم يكن عنده من حشمه أحد ، فألقى منهم شرا .قال : فخرجت وهو لا يعرفني – و" الوهط " حائط لعبد الله بن عمرو بالطائف - .
قال :وكان معاوية قد ساوم به عبد الله بن عمرو وأعطاه به مالا كثيرا فأبى أن يبيعه بشيء.
قال : وأقبل الحسين مغذا لا يلوي على شيء حتى نزل ذات عرق .
قال أبو مخنف : حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب قال لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنيه عون ومحمد : " أما بعد : فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين فلا تعجل بالسير فإني في أثر الكتاب والسلام "
قال : وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه وقال : اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان وتمنيه فيه البر والصلة وتوثق له في كتابك وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع ، فقال عمرو بن سعيد : اكتب ما شئت وأتني به حتى أختمه ، فكتب عبدالله بن جعفر الكتاب ثم أتى به عمرو بن سعيد فقال له : اختمه وابعث به مع أخيك يحيى ين سعيد فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنه الجد منك، ففعل. وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكة .
قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب فقالا : أقرأناه الكتاب وجهدنا به وكان مما اعتذر به إلينا أن قال إني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت فيها بأمر أنا ماض له علي كان أولى ، فقالا له : فما تلك الرؤيا ؟ قال : ما حدثت أحدا بها وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي .
قال : وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي : " بسم الله الرحمن الرحيم ، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي ، أما بعد : فإني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك وأن يهديك لما يرشدك ، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق وإني أعيذك بالله من الشقاق فإني أخاف عليك فيه الهلاك وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد فأقبل إلي معهما فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار ، لك الله علي بذلك شهيد وكفيل ومراع ووكيل ، والسلام عليك " .
قال : وكتب إليه الحسين : " أما بعد فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عز و جل وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة فخير الأمان أمان الله ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة ، والسلام "
رجع الحديث إلى حديث عمار الدهني عن أبي جعفر : فحدثني زكرياء بن يحيى الضرير قال حدثنا أحمد بن جناب المصيصي قال حدثنا خالد بن يزيد بن عبدالله القسري قال حدثنا عمار الدهني ، قال : قلت لأبي جعفر حدثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته .
قال : فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له : أين تريد ؟ قال أريد هذا المصر . قال له : ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه ، فهم أن يرجع وكان معه إخوة مسلم بن عقيل ، فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل ، فقال : لا خير في الحياة بعدكم . فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء فأسند ظهره إلى قصباء وخلا كيلا يقاتل إلا من وجه واحد فنزل وضرب أبنيته وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل ؛ وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيد الله بن زياد الري وعهد إليه عهده فقال : " اكفني هذا الرجل " قال : أعفني ، فأبى أن يعفيه، قال : فانظرني الليلة، فأخره ، فنظر في أمره فلما اصبح غدا عليه راضيا بما أمر به . فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين : اختر واحدة من ثلاث : إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت ؛ وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد ؛ وإما أن تدَعوني فألحق بالثغور . فقبل ذلك عمر فكتب إليه عبيد الله : لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي ، فقال له الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدا فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته وجاء سهم فأصاب ابناً له معه في حجره فجعل يمسح الدم عنه ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا ، ثم أمر بحبرة فشققها ثم لبسها وخرج بسيفه فقاتل حتى قتل صلوات الله عليه ، قتله رجل من مذحج وحز رأسه وانطلق به إلى عبيد الله وقال :
أوقر ركابي فضة وذهبا ... فقد قتلت الملك المحجبا ...
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا ...
وأوفده إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس فوضع رأسه بين يديه وعنده أبو برزة الأسلمي فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول : يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما ...
فقال له أبو برزة : ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت فا رسول الله صلى الله عليه و سلم على فيه يلثمه ، وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي عليه السلام إلا غلام كان مريضا مع النساء فأمر به عبيد الله ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه وقالت : والله لا يقتل حتى تقتلوني فرقّ لها فتركه وكف عنه .
قال : فجهزهم وحملهم إلى يزيد فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشأم ، ثم أدخلوهم فهنؤوه بالفتح , قال رجل منهم أزرق أحمر ونظر إلى وصيفة من بناتهم ، فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه . فقالت زينب : لا والله ولا كرامة لك ولا له إلا أن يخرج من دين الله ، قال : فأعادها الأزرق فقال له يزيد : كف عن هذا ثم أدخلهم على عياله فجهزهم وحملهم إلى المدينة فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها واضعة كمها على رأسها تلقاهم وهي تبكي وتقول: ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم ...
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي ...
قال الطبري : حدثني الحسين بني نصر ، قال : حدثنا أبو ربيعة ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن حصين بن عبد الرحمن قال: بلغنا أن الحسين عليه السلام ؛ وحدثنا: محمد بن عمار الرازي ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان، قال : حدثنا عباد بن العوام ، قال : حدثنا حصين : أن الحسين بن علي عليه السلام كتب إليه أهل الكوفة : إنه معك مائة ألف فبعث إليهم مسلم بن عقيل فقدم الكوفة فنزل دار هانئ بن عروة فاجتمع إليه الناس فأخبر ابن زياد بذلك .
- زاد الحسين بن نصر في حديثه : فأرسل إلى هانئ فاتاه ، فقال : ألم أوقرك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أفعل بك ؟ قال : بلى . قال : فما جزاء ذلك ؟ قال : جزاؤه أن أمنعك . قال : تمنعني ! قال : فأخذ قضيبا مكانه فضربه به وأمر فكتف ثم ضرب عنقه ، فبلغ ذلك مسلم بن عقيل فخرج ومعه ناس كثير، فبلغ ابن زياد ذلك فأمر بباب القصر فأغلق وأمر مناديا فنادى: يا خيل الله اركبي فلا أحد يجيبه فظن أنه في ملإ من الناس -
قال حصين : فحدثني هلال بن يساف قال: لقيتهم تلك الليلة في الطريق عند مسجد الأنصار فلم يكونوا يمدون في طريق يمينا ولا شمالا إلا وذهبَت منهم طائفة الثلاثون والأربعون ونحو ذلك، قال : فلما بلغ السوق وهي ليلة مظلمة ودخلوا المسجد قيل لابن زياد والله ما نرى كثير أحد ولا نسمع أصوات كثير أحد فأمر بسقف المسجد فقلع ثم أمر بحرادي فيها النيران فجعلوا ينظرون فإذا قريب خمسين رجلا قال فنزل فصعد المنبر وقال للناس : تميزوا أرباعا أرباعا فانطلق كل قوم إلى رأس ربعهم فنهض إليهم قوم يقاتلونهم فجرح مسلم جراحة ثقيلة وقتل ناس من أصحابه وانهزموا فخرج مسلم فدخل دارا من دور كندة فجاء رجل إلى محمد بن الأشعث وهو جالس إلى ابن زياد فسارّه فقال له : إن مسلما في دار فلان ، فقال ابن زياد : ما قال لك ؟ قال : إن مسلما في دار فلان . قال ابن زياد لرجلين : انطلقا فأتياني به، فدخلا عليه وهو عند امرأة قد أوقدت له النار فهو يغسل عنه الدماء فقالا له : انطلق الأمير يدعوك، فقال : اعقدا لي عقدا. فقالا :ما نملك ذاك ، فانطلق معهما حتى أتاه ، فأمر به فكتف ثم قال :هيه هيه يا ابن خلية - قال الحسين في حديثه يا ابن كذا - جئت لتنزع سلطاني، ثم أمر به فضربت عنقه.
قال حصين : فحدثني هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشأم إلى طريق البصرة فلا يدعون أحدا يلج ولا أحدا يخرج ، فأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب فسألهم فقالوا: لا والله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج.
قال: فانطلق يسير نحو طريق الشأم نحو يزيد ، فلقيته الخيول بكربلاء فنزل يناشدهم الله والإسلام.
قال : وكان بعث إليه عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحصين بن نميم فناشدهم الحسين الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين فيضع يده في يده فقالوا: لا إلا على حكم ابن زياد ، وكان فيمن بعث إليه الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم : ألا تقبلوا من هؤلاء ما يعرضون عليكم والله لو سألكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوه ! فأبوا إلا على حكم ابن زياد ، فصرف الحر وجه فرسه وانطلق إلى الحسين وأصحابه فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم ، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم ثم كر على أصحاب ابن زياد فقاتلهم فقتل منهم رجلين ثم قُتل رحمة الله عليه .
وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجا فأقبل معه وخرج إليه ابن أبي بجرية المرادي ورجلان آخران وعمرو بن الحجاج ومعن السلمي . قال الحصين : وقد رأيتهما .
قال الحصين : وحدثني سعد بن عبيدة قال : إن اشياخاً من أهل الكوفة لوقوف على التل يبكون ويقولون اللهم أنزل نصرك ، قال : قلت يا أعداء الله ألا تنزلون فتنصرونه. قال: فأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد . قال: وإني لأنظر إليه وعليه جبة من برود ، فلما كلمهم انصرف ، فرماه رجل من بني تميم يقال له عمر الطهوي بسهم ، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلقا في جبته فلما أبوا عليه رجع إلى مصافه ، وإني لأنظر إليهم ، وإنهم لقريب من مائة رجل فيهم لصلب علي بن أبي طالب عليه السلام خمسة ومن بني هاشم ستة عشر ورجل من بني سليم حليف لهم ورجل من بني كنانة حليف لهم وابن عمر بن زياد .
قال: وحدثني سعد بن عبيدة قال : إنا لمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد إذ أتاه رجل فسارّه وقال له : قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك , قال : فوثب إلى فرسه فركبه ثم دعا سلاحه فلبسه وإنه على فرسه فنهض بالناس إليهم فقاتلوهم فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد فوضع بين يديه فجعل ينكت بقضيبه ويقول : إن أبا عبد الله قد كان شمط ، قال : وجيء بنسائه وبناته وأهله وكان أحسن شيء صنعه أن أمر لهن بمنزل في مكان معتزل وأجرى عليهن رزقا وأمر لهن بنفقة وكسوة . قال : فانطلق غلامان منهم لعبد الله بن جعفر أوابن ابن جعفر فأتيا رجلا من طيء فلجآ إليه فضرب أعناقهما وجاء برؤوسهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد . قال : فهمّ بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت .( )
قال : وحدثني مولى لمعاوية بن أبي سفيان قال : لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه قال : رأيته يبكي وقال : لو كان بينه وبينه رحم ما فعل هذا
قال حصين: فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع .
قال : وحدثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدثني رأس الجالوت عن أبيه قال : ما مررت بكربلاء إلا وأنا أُركض دابتي حتى أخلف المكان ، قال: قلت : لم ؟ قال : كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان . قال : وكنت أخاف أن أكون أنا ، فلما قتل الحسين قلنا: هذا الذي كنا نتحدث. قال: وكنت بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض .
قال الطبري : حدثني الحارث قال حدثنا ابن سعد قال حدثني علي بن محمد عن جعفر بن سليمان الضبعي قال : قال الحسين : والله لا يَدَعُوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة فقدم للعراق فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين .
قال الحارث: قال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال: قتل الحسين بن علي عليه السلام في صفر سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن خمس وخمسين .
حدثني بذلك أفلح بن سعيد عن ابن كعب القرظي قال الحارث حدثنا ابن سعد قال أخبرنا محمد بن عمر عن أبي معشر قال قتل الحسين لعشر خلون من المحرم قال الواقدي هذا أثبت .
قال الحارث : قال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال : أخبرنا عطاء بن مسلم عمن أخبره عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال : أول رأس رفع على خشبة رأس الحسين رضي الله عنه وصلى الله على روحه .
قال أبو مخنف: عن هشام بن الوليد عمن شهد ذلك قال أقبل الحسين بن علي بأهله من مكة ومحمد بن الحنفية بالمدينة قال فبلغه خبره وهو يتوضأ في طست قال فبكى حتى سمعت وكف دموعه في الطست .
قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي، قال : ولما بلغ عبيد الله إقبال الحسين من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن تميم صاحب شرطته حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى لعلع وقال الناس : هذا الحسين يريد العراق .
قال أبو مخنف : وحدثني محمد بن قيس أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة وكتب معه إليهم : " بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين : سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد : فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقنا فسألت الله أن يحسن لنا الصنع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدوا فإني قادم عليكم في ايامي هذه إن شاء الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . "
وكان مسلم بن عقيل قد كان كتب إلى الحسين قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة : " أما بعد فإن الرائد لا يكذب اهله ، إن جمع أهل الكوفة معك ، فأقبل حين تقرأ كتابي والسلام عليك . "
قال : [ أي : محمد بن قيس ] فأقبل الحسين بالصبيان والنساء معه لا يلوي على شيء ، وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين ، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى عبيد الله بن زياد ، فقال له عبيد الله : اصعد إلى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب فصعد ثم قال : أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله وأنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه ، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه واستغفر لعلي بن أبي طالب، قال فأمر به عبيدالله بن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرمي به فتقطع فمات ، ثم أقبل الحسين سيرا إلى الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب ، فإذا عليه عبدالله بن مطيع العدوي وهو نازل ها هنا فلما رأى الحسين قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما اقدمك ؟ واحتمله فأنزله فقال له الحسين : كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم ، فقال له عبدالله بن مطيع :" أذكّرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك ، أنشدك الله في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض لبني أمية " .
قال : [ أي : محمد بن قيس ] فأبى إلا أن يمضي ، قال : فأقبل الحسين حتى كان بالماء فوق زرود .
قال أبو مخنف : فحدثني السدي عن رجل من بني فزارة قال : لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة -التي في التمارين التي أقطعت بعد زهير بن القين من بني عمرو بن يشكر بن بجيلة وكان أهل الشأم لا يدخلونها فكنا مختبئين فيها – قال [ أي: السدي ] : فقلت للفزاري : حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي ،قال : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل ، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين ، وإذا نزل الحسين تقدم زهير، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدا من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين حتى سلم ثم دخل فقال : يا زهير بن القين إن أبا عبدالله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه ، قال : فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير .
قال أبو مخنف فحدثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين ، قالت : فقل له أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ، سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت ، قالت : فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه ، قالت : فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقدم وحمل إلى الحسين ثم قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير ، ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، إني سأحدثكم حديثا : غزونا بلنجر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الباهلي أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ، فقلنا : نعم ، فقال لنا : إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم ، فأما أنا فإني أستودعكم الله ، قال ثم والله ما زال في أول القوم حتى قتل .
قال أبو مخنف : حدثني أبو جناب الكلبي عن عدي بن حرملة الأسدي عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا : لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ، قالا : فوقف الحسين كأنه يريده ، ثم تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا فلنسأله فإن كان عنده خبر الكوفة علمناه فمضينا حتى انتهينا إليه ، فقلنا : السلام عليك ، قال : وعليكم السلام ورحمة الله ، ثم قلنا : فمن الرجل ؟ قال: أسدي ، فقلنا : فنحن أسديان ، فمن أنت ؟ قال : انا بكير بن المثعبة ، فانتسبنا له ثم قلنا : أخبرنا عن الناس وراءك ، قال : نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق ، قالا : فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا ، فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا فقلنا له: يرحمك الله إن عندنا خبرا فإن شئت حدثنا علانية وإن شئت سرا ، قال فنظر إلى أصحابه وقال : ما دون هؤلاء سر فقلنا له : أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس ؟ قال : نعم وقد أردت مسألته . فقلنا : قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته وهو امرؤ من أسد منا ذو رأي وصدق وفضل وعقل وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وحتى رآهما يجران في السوق بأرجلهما . فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون رحمة الله عليهما ، فردد ذلك مرارا ، فقلنا : " ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك ، إلا انصرفت من مكانك هذا فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف أن تكون عليك " ، قال : فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب .
قال أبو مخنف : حدثني عمر بن خالد عن زيد بن علي بن حسين وعن داود بن علي بن عبدالله بن عباس أن بني عقيل قالوا : لا والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا .
قال أبو مخنف : عن أبي جناب الكلبي عن عدي بن حرملة عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا : فنظر إلينا الحسين فقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، قالا : فعلمنا أنه قد عزم له رأيه على المسير . قالا : فقلنا : خار الله لك . قالا: فقال : رحمكما الله . قالا: فقال له بعض أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع . قال الأسديان : ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا ثم ارتحلوا وساروا حتى انتهوا إلى زبالة .
قال أبو مخنف : حدثني أبو علي الأنصاري عن بكر بن مصعب المزني قال : كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى زبالة ، سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة ، مقتل عبدالله بن يقطر ، وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنه قد اصيب ، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية ، فسرح به إلى عبيد الله بن زياد فقال : إصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي قال فصعد فلما أشرف على الناس قال : أيها الناس إني رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ، ابن سمية، الدعيّ . فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر إلى الأرض فكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فلما عيب ذلك عليه قال : إنما أردت أن أريحه .
قال هشام : حدثنا أبو بكر بن عياش عمن أخبره قال : والله ما هو عبد الملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه ولكنه قام إليه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك بن عمير قال : فأتى ذلك الخبر حسينا وهو بزبالة فأخرج للناس كتابا فقرأ عليهم
" بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد : فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام " .
قال : فتفرق الناس عنه تفرقا فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في اصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أنما اتبعه الأعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه . قال : فلما كان من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا ثم سار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها .
قال أبو مخنف : فحدثني لوذان أحد بني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام : أين تريد فحدثه فقال له : إني أنشدك الله لما انصرفت ، فوالله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف ، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذه الحال التي تذكرها فإني لا أرى لك أن تفعل .
قال : فقال له : يا عبدالله إنه ليس يخفى علي الرأي ما رأيت ولكن الله لا يغلب على أمره ثم ارتحل منها .
قال الطبري : ثم دخلت سنة إحدى وستين : ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث :فمن ذلك مقتل الحسين رضوان الله عليه ، قتل فيها في المحرم لعشر خلون منه كذلك :
حدثني أحمد بن ثابت : قال حدثني محدث عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر- وكذلك قال الواقدي وهشام بن الكلبي-وقد ذكرنا ابتداء أمر الحسين في مسيره نحو العراق وما كان منه في سنة ستين ونذكر الآن ما كان من أمره في سنة إحدى وستين وكيف كان مقتله :
حدثت عن هشام عن أبي مخنف قال : حدثني أبو جناب عن عدي بن حرملة عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا : أقبل الحسين عليه السلام حتى نزل شراف ، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثم ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار ، ثم إن رجلا قال : الله أكبر. فقال الحسين : الله أكبر ما كبرت ، قال رأيت النخل ، فقال له الأسديان : إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط ، قالا : فقال لنا الحسين : فما تريانه رأى؟ قلنا : نراه رأى هوادي الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك ، فقال الحسين : أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد ؟ فقلنا له : بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد ، قالا : فأخذ إليه ذات اليسار ، قالا : وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدنا فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب وكأن راياتهم أجنحة الطير ، قال : فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين فأمر بأبنتيه فضربت وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حر الظهيرة والحسين وأصحابه معتمّون متقلدو أسيافهم ، فقال الحسين لفتيانه : اسقوا القوم وأرووه من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفا ، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفا فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عب فيه ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها .
قال هشام : حدثني لقيط عن علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال أنخ الراوية - والراوية عندي السقاء - ثم قال : يا ابن أخ أنخ الجمل ، فأنخته فقال : اشرب ، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين : اخنث السقاء أي اعطفه ، قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل ، قال : فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي .
قال : وكان مجيء الحر بن يزيد ومسيره إلى الحسين من القادسية وذلك أن عبيد الله بن زياد لما بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن تميم التميمي وكان على شرطته فأمره أن ينزل القادسية وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان ، وقدم الحر بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حسينا .
قال : فلم يزل موافقا حسينا حتى حضرت الصلاة - صلاة الظهر- فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن فأذن فلما حضرت الإقامة خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أيها الناس إنها معذرة إلى الله عز و جل إليكم ، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم أن أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم " .
قال : فسكتوا عنه وقالوا للمؤذن أقم فأقام الصلاة فقال الحسين عليه السلام للحر : أتريد أن تصلي بأصحابك ؟ قال : لا بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك .
قال : فصلى بهم الحسين ثم إنه دخل واجتمع إليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان به فدخل خيمة قد ضربت له فاجتمع إليه جماعة من أصحابه وعاد أصحابه إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤوا للرحيل ثم إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر واقام فاستقدم الحسين فصلى بالقوم ثم سلم وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم " ، فقال له الحر بن يزيد إنا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر ، فقال الحسين : يا عقبة بن سمعان : أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي ، فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنشرها بين أيديهم ، فقال الحر : فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد ، فقال له الحسين : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثم قال لأصحابه : قوموا فاركبوا ، فركبوا وانتظروا حتى ركبت نساؤهم ، فقال لأصحابه : انصرفوا بنا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين للحر : ثكلتك أمك ما تريد ؟ قال : أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان ، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدرعليه ، فقال له الحسين : فما تريد ؟ قال الحر : أريد والله أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد ، قال له الحسين : إذن والله لا أتبعك ، فقال له الحر : إذن والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرات ، ولما كثر الكلام بينهما قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك وإنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة تكون بيني وبينك نصفا حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت فلعل الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك ، قال : فخذ هاهنا ، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا ثم إن الحسين سار في أصحابه والحر يسايره .
قال أبو مخنف : عن عقبة بن أبي العيزار إن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : { من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله } ، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غير قد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم فلكم فيّ أسوة وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .
وقال عقبة بن أبي العيزار : قام حسين عليه السلام بذي حسم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت ، وأدبر معروفها واستمرت جدا ، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون أن الحق لا يعمل به ! وأن الباطل لا يتناهى عنه ! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً ، فإني لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً " .
قال : فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه : تكلمون أم أتكلم ؟ قالوا : لا بل تكلم فحمد الله فأثنى عليه ثم قال : قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها .
قال : فدعا له الحسين ثم قال له خيرا وأقبل الحر يسايره وهو يقول له : " يا حسين : إني أذكرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلن ، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى" فقال له الحسين : أفبالموت تخوفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ ما أدري ما أقول لك ؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه -ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له : أين تذهب فإنك مقتول فقال :سأمضي وما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا يغش ويرغما
قال : فلما سمع ذلك منه الحر تنحى عنه وكان يسير بأصحابه في ناحية وحسين في ناحية أخرى حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه وهو يقول :
يا ناقتي لا تذعري من زجري ... وشمري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفر ... حتى تحلي بكريم النجر
الماجد الحر رحيب الصدر ... أتى به الله لخير أمر
ثمت أبقاه بقاء الدهر
قال : فلما انتهوا إلى الحسين أنشدوه هذه الأبيات فقال : أما والله إني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله بنا قُتلنا أم ظفرنا . قال : وأقبل إليهم الحر بن يزيد فقال : إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك وأنا حابسهم أو رادهم فقال له الحسين : لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي إنما هؤلاء أنصاري وأعواني وقد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد ، فقال : أجل لكن لم يأتوا معك ، قال : هم أصحابي وهم بمنزلة من جاء معي ، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك . قال : فكف عنهم الحر. قال : ثم قال لهم الحسين : أخبروني خبر الناس وراءكم؟ فقال له مجمع بن عبد الله العائذي - وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه - : أما أشراف الناس فقد أُعظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم يستمال ودهم ويستخلص به نصيحتهم فهم ألبّ واحد عليك ، وأما سائر الناس بعد فإن أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك . قال : أخبروني فهل لكم برسولي إليكم ؟ قالوا : من هو؟ قال : قيس بن مسهر الصيداوي ، فقالوا : نعم أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك فصلى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه ودعا إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر ، فترقرقت عينا حسين عليه السلام ولم يملك دمعه ثم قال {منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلاً واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك .
قال أبو مخنف : حدثني جميل بن مرثد من بني معن عن الطرماح بن عدي أنه دنا من الحسين فقال له : " والله إني لأنظر فما أرى معك أحداً ، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازمتك لكان كفي بهم ، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ، ظهر الكوفة وفيه من الناس مالم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه ، فسألت عنهم فقيل : اجتمعوا ليعرضوا ثم يسرحون إلى الحسين ، فأنشدك الله إن قدرت على ألا تقدم عليهم شبراً إلا فعلت ، فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى " أجأ " ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر ، والله إن دخل علينا ذل قط فأسير معك حتى أنزلك القرية ، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيء فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيء رجالا وركبانا ، ثم أقم فينا ما بدا لك فإن هاجك هيج ، فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف " ، فقال له : جزاك الله وقومك خيرا إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقِبِِه .
قال ابو مخنف : فحدثني جميل بن مرثد قال حدثني الطرماح بن عدي قال : فودعته وقلت له دفع الله عنك شر الجن والإنس إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة ومعي نفقة لهم فآتيهم فأضع ذلك فيهم ثم أقبل إليك إن شاء الله فإن ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك ، قال : فإن كنت فاعلاً ، فعجّل رحمك الله ، قال : فعلمت أنه مستوحش إلى الرجال حتى يسألني التعجيل ، قال : فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم وأوصيت فأخذ أهلي يقولون : إنك لتصنع مرتك هذه شيئا ما كنت تصنعه قبل اليوم ، فأخبرتهم بما أريد وأقبلت في طريق بني ثعل حتى إذا دنوت من عذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إليّ ، فرجعت قال : ومضى الحسين عليه السلام حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به فإذا هو بفسطاط مضروب .
قال أبو مخنف : حدثني المجالد بن سعيد عن عامر الشعبي أن الحسين بن علي رضي الله عنه قال : لمن هذا الفسطاط ؟ فقيل لعبيد الله بن الحر الجعفي ، قال : ادعوه لي ، وبعث إليه فلما أتاه الرسول قال : هذا الحسين بن علي يدعوك ، فقال عبيد الله بن الحر : إنا لله وإنا إليه راجعون والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها والله ما أريد أن أراه ولا يراني ، فأتاه الرسول فأخبره فأخذ الحسين نعليه فانتعل ثم قام فجاءه حتى دخل عليه فسلم وجلس ثم دعاه إلى الخروج معه فأعاد إليه ابن الحر تلك المقالة فقال : فإلا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك ، قال : أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله ،ثم قام الحسين عليه السلام من عنده حتى دخل رحله .
قال أبو مخنف : حدثني عبد الرحمن بن جندب عن عقبة بن سمعان قال : لما كان في آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء ثم أمرنا بالرحيل ففعلنا ، قال : فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين .
قال : ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا .
قال : فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين يا أبت جُعلت فداك مم حمدت الله واسترجعت ؟ قال : يا بني إني خفقت برأسي خفقة فعنّ لي فارس على فرس فقال : القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم ، فعلمت أنها أنفُسنا نُعيت إلينا ، قال له : يا أبت لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحق ؟ قال : بلى والذي إليه مرجع العباد ، قال : يا أبت إذاً لا نبالي نموت محقين ، فقال له : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده .
قال : فلما أصبح نزل فصلى الغداة ثم عجل الركوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردهم ، فيرده ، فجعل إذا ردهم إلى الكوفة رداً شديداً امتنعوا عليه ، فارتفعوا ، فلم يزالوا يتسايرون حتى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين .
قال : فإذا راكب على نجيب له وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة فوقفوا جميعا ينتظرونه فلما انتهى إليهم سلم على الحر بن يزيد وأصحابه ولم يسلم على الحسين عليه السلام وأصحابه فدفع إلى الحر كتابا من عبيد الله بن زياد ، فإذا فيه : " أما بعد : فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام " .
قال : فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره ألا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره ، فنظر إلى رسول عبيد الله : يزيد بن زياد بن المهاصر أبو الشعثاء الكندي ثم البهدلي ، فعنّ له فقال : أمالِكُ بن النسير البدي( ) ؟ قال : نعم ، - وكان أحد كندة - ، فقال له يزيد بن زياد : ثكلتك أمك ماذا جئت فيه ؟ قال : وما جئت فيه أطعت إمامي ووفيت ببيعتي ، فقال له أبو الشعثاء : عصيت ربك وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، كسبت العار والنار، قال الله عز و جل {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون} هو إمامك .
قال : وأخذ الحر بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، فقالوا : دعنا ننزل في هذه القرية ، يعنون نينوى، أو هذه القرية يعنون الغاضرية ، أو هذه الأخرى يعنون شفية ، فقال : لا والله ما أستطيع ذلك هذا رجل قد بُعث إلي عينا ، فقال له زهير بن القين : يا ابن رسول الله إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به ، فقال له الحسين : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، فقال له زهير بن القين : سر بنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فإنها حصينة وهي على شاطئ الفرات فإن منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم ، فقال له الحسين : وأية قرية هي ؟ قال: هي العقر ، فقال الحسين : اللهم إني أعوذ بك من العقر، ثم نزل ، وذلك يوم الخميس وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين ، فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف.
قال : وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين عليه السلام أن عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى " دستبى " وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها ، فكتب إليه ابن زياد عهده على الري وأمره بالخروج ، فخرج معسكرا بالناس ب "حمام أعين " فلما كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال : سر إلى الحسين فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك ، فقال له عمر بن سعد : إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل ، فقال له عبيد الله : نعم على أن ترد لنا عهدنا .
قال : فلما قال له ذلك ، قال عمر بن سعد : أمهلني اليوم حتى أنظر .
قال : فانصرف عمر يستشير نصحاءه فلم يكن يستشير أحدا إلا نهاه .
قال : وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة - وهو ابن أخته – فقال : أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك ، فوالله لأن تخرج من دنياك وما لك سلطان الأرض كلها لو كان لك خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين ، فقال له عمر بن سعد : فإني أفعل إن شاء الله .
قال هشام : حدثني عوانة بن الحكم ، عن عمار بن عبدالله بن يسار الجهني عن أبيه قال : دخلت على عمر بن سعد وقد أُمر بالمسير إلى الحسين فقال لي : إن الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين فأبيت ذلك عليه ، فقلت له : أصاب الله بك ، أرشدك الله ، أحل فلا تفعل ولا تسر إليه ، قال : فخرجت من عنده فأتاني آت وقال : هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين ، قال : فأتيته فإذا هو جالس فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قد عزم على المسير إليه ، فخرجت من عنده ، قال : فأقبل عمر بن سعد إلى ابن زياد فقال : أصلحك الله إنك ولّيتني هذا العمل وكتبت لي العهد وسمع به الناس ، فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل ، وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه ، فسمّى له أناسا ، فقال له ابن زياد : لا تعلمني بأشراف أهل الكوفة ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث ، إن سرت بجندنا وإلا فابعث إلينا بعهدنا ، فلما رآه قد لج ، قال : فإني سائر .
قال : فأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى .
قال : فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام عزرة بن قيس الأحسمي ، فقال : ائته فسله ما الذي جاء به وماذا يريد ؟ - وكان عزرة ممن كتب إلى الحسين - فاستحيا منه أن يأتيه .
قال : فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه فكلهم أبى وكرهه .
قال : وقام إليه كثير بن عبدالله الشعبي وكان فارسا شجاعا ليس يرد وجهه شيء فقال : أنا أذهب إليه والله لئن شئت لأفتكن به ، فقال له عمر بن سعد : ما أريد أن يفتك به ولكن ائته فسله ما الذي جاء به .
قال : فأقبل إليه فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين : أصلحك الله أبا عبد الله قد جاءك شر أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه ، فقام إليه فقال : ضع سيفك ، قال : لا والله ولا كرامة إنما أنا رسول فإن سمعتم مني أبلغتكم ما أرسلت به إليكم وإن أبيتم انصرفت عنكم ، فقال له : فإني آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك ، قال : لا والله لا تمسه ، فقال : له أخبرني ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر .
قال : فاستبّا ، ثم انصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر .
قال : فدعا عمر: قرة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك يا قرة الق حسينا فسله ما جاء به وماذا يريد .
قال : فأتاه قرة بن قيس ، فلما رآه الحسين مقبلا قال أتعرفون هذا ؟ فقال حبيب بن مظاهر : نعم هذا رجل من حنظلة تميمي وهو ابن أختنا ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد .
قال : فجاء حتى سلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له ، فقال الحسين : " كتب إلي أهل مصركم هذا أن اقدم فأما إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم " .
قال : ثم قال له حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرة بن قيس أنّى ترجع إلى القوم الظالمين ! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك ، فقال له قرة : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي .
قال : فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر ، فقال له عمر بن سعد إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله .
قال هشام عن أبي مخنف ، قال: حدثني النضر بن صالح بن حبيب بن زهير العبسي ، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي قال: أشهد أن كتاب عمر بن سعد جاء إلى عبيد الله بن زياد وأنا عنده فإذا فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد : فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عما أقدمه وماذا يطلب ويسأل ، فقال : ( كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم) .. " فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال : الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص ...
قال : وكتب إلى عمر بن سعد : " بسم الله الرحمن الرحيم , أما بعد : فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأيْنا رأيَنا , والسلام " .
قال : فلما أتى عمر بن سعد الكتاب , قال : " قد حسبت ألا يقبل ابن زياد العافية " .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد( ) ، عن حميد بن مسلم الأزدي ( ) , قال : جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد : " أما بعد : فحُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان " .
قال : فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة وذلك قبل قتل الحسين بثلاث .
قال : ونازله عبدالله بن أبي حصين الأزدي وعداده في بجيلة , فقال : يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً , فقال حسين : اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا . قال حميد بن مسلم : والله لعُدته بعد ذلك في مرضه فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى بغر ثم يقيء , ثم يعود فيشرب حتى يبغر , فما يروى فما زال ذلك دأبه حتى لفظ عصبه - يعني نفسه - .
قال : ولما اشتد على الحسين وأصحابه العطش دعا العباس بن علي بن أبي طالب - أخاه - فبعثه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا وبعث معهم بعشرين قربة فجاؤوا حتى دنوا من الماء ليلا واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي , فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي مَن الرجل ؟ فجيء , فقال : ما جاء بك ؟ قال : جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه , قال : فاشرب هنيئا قال : لا والله لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومَن ترى من أصحابه , فطلعوا عليه فقال : لا سبيل إلى سقي هؤلاء إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء فلما دنا منه أصحابه قال لرجاله : املئوا قربكم , فشد الرجالة فملؤوا قربهم وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه فحمل عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال , كفّوهم ثم انصرفوا إلى رحالهم , فقالوا : مضوا ووقفوا دونهم فعطف عليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه واطردوا قليلا ثم إن رجلا من صداء طعن من اصحاب عمرو بن الحجاج طعنه نافع بن هلال فظن أنها ليست بشيء ثم إنها انتقضت بعد ذلك فمات منها , وجاء أصحاب حسين بالقرب فأدخلوها عليه
قال أبو مخنف : حدثني أبو جناب عن هانئ بن ثبيت الحضرمي - وكان قد شهد قتل الحسين- قال : بعث الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد , عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري أن القني الليل بين عسكري وعسكرك .
قال : فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا وأقبل حسين في مثل ذلك فلما التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحوا عنه وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك , قال : فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما فتكلما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيع ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه وتحدث الناس فيما بينهما ظنا يظنونه أن حسينا قال لعمر بن سعد اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين , قال عمر : إذن تهدم داري , قال : أنا أبنيها لك , قال : إذن تؤخذ ضياعي , قال : إذن أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز .
قال : فَتَكَرّه ذلك عمر .
قال : فتحدث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه .
قال أبو مخنف : وأما ما حدثنا به المجالد بن سعيد والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدثين فهو ما عليه جماعة المحدثين , قالوا : إنه قال : اختاروا مني خصالا ثلاثا : إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه , وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه , وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لي ما لهم وعلي ما عليهم . قال أبو مخنف : فأما عبد الرحمن بن جندب فحدثني عن عقبة بن سمعان قال : صحبت حسينا فخرجت معه من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها , ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين , ولكنه قال : دعوني فلأذهب في هذه الارض العريضة حتى ننظر ما يصير امر الناس .
قال أبو مخنف : حدثني المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير أنهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا - حسين وعمر بن سعد - .
قال : فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد : " أما بعد : فإن الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن نسيره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه وفي هذا لكم رضا وللأمة صلاح " .
قال : فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال : " هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه , نعم : قد قبلت " .
قال : فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال :" أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة وإن غفرت كان ذلك لك والله لقد بلغني أن حسينا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل " , فقال له ابن زياد : نعم ما رأيت الرأي رأيك .
قال أبو مخنف : فحدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال :ثم إن عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له : " اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما وإن هم أبوا فليقاتلهم فإن فعل فاسمع له وأطع وإن هو أبى فقاتلهم فأنت أمير الناس وثُب عليه فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه "
قال أبو مخنف : حدثني أبو جناب الكلبي قال : ثم كتب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد : " أما بعد : فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتقعد له عندي شافعا , انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إلي سلما وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون , فإن قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم , وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا , ولكن علي قول لو قد قتلته فعلت هذا به , إن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بأمرنا , والسلام "
قال أبو مخنف : عن الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريك العامري قال : لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل - وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عند علي بن أبي طالب عليه السلام فولدت له العباس وعبدالله وجعفرا وعثمان - فقال عبد الله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب : أصلح الله الأمير إن بني أختنا مع الحسين فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت , قال : نعم ونعمة عين , فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له كزمان فلما قدم عليهم دعاهم فقال : هذا أمان بعث به خالكم فقال له الفتية : أقرئ خالنا السلام وقل له : أن لا حاجة لنا في أمانكم أمان الله خير من أمان ابن سمية .
قال : فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد فلما قدم به عليه فقرأه قال له عمر: ما لك ويلك لا قرب الله دارك وقبح الله ما قدمت به علي والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه أفسدت علينا أمراً كنا رجونا أن يصلح , لا يستسلم والله حسين إن نفسا أبية لبين جنبيه . فقال له شمر : أخبرني ما أنت صانع ؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه , وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر , قال : لا ولا كرامة لك , وأنا أتولى ذلك . قال : فدونك وكن أنت على الرجال .
قال : فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم .
قال : وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين , فقال : أين بنو أختنا ؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي , فقالوا له : مالك وما تريد ؟ قال : أنتم يا بني أختي آمنون , قال له الفتية : لعنك الله ولعن أمانك لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له !
قال : ثم إن عمر بن سعد نادى : يا خيل الله اركبي وأبشري فركب في الناس ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها فقالت : يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت ؟
قال : فرفع الحسين رأسه فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام فقال لي : إنك تروح إلينا .
قال : فلطمت أخته وجهها وقالت : يا ويلتا , فقال : ليس لك الويل يا أخية اسكني رحمك الرحمن ؛ وقال العباس بن علي : يا أخي أتاك القوم .
قال : فنهض ثم قال : يا عباس اركب , بنفسي أنت يا أخي , حتى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم وما بدا لكم ؟ وتسألهم عما جاء بهم , فأتاهم العباس فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر فقال لهم العباس : ما بدا لكم وما تريدون ؟ قالوا : جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم , قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم .
قال : فوقفوا ثم قالوا : القه فأعلمه ذلك ثم القنا بما يقول .
قال : فانصرف العباس راجعا يركض إلى الحسين يخبره بالخبر ووقف أصحابه يخاطبون القوم فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلّم القوم إن شئت وإن شئت كلمتُهم فقال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلمهم , فقال له حبيب بن مظاهر : " أما والله لبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه عليه السلام وعترته وأهل بيته صلى الله عليه و سلم , وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيرا , فقال له عزرة بن قيس : إنك لتزكي نفسك ما استطعت , فقال له زهير : يا عزرة إن الله قد زكاها وهداها ، فاتق الله يا عزرة ، فإني لك من الناصحين ، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية , قال : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت ، إنما كنت عثمانيا. قال : أَفَلَسْتَ تستدل بموقفي هذا أني منهم! أما والله ما كتبت إليه كتابا قط ، ولا أرسلت إليه رسولا قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله صلى الله عليه و سلم ومكانه منه وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم فرأيت أن أنصره وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله عليه السلام .
قال : وأقبل العباس بن علي يركض حتى انتهى إليهم فقال : يا هؤلاء إن أبا عبد الله يسألكم أن تصبروا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر فإن هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق ، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه أو كرهنا فرددناه ؛ وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمر بأمره ويوصي أهله ، فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر؟ قال : ما ترى أنت ، أنت الأمير والرأي رأيك ؟ قال : قد أردت ألا أكون ، ثم أقبل على الناس فقال : ماذا ترون ؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي : سبحان الله ! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها ، وقال قيس بن الأشعث أجبهم إلى ما سألوك فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة ، فقال : والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية.
قال : وكان العباس بن علي حين أتى حسينا بما عرض عليه عمر بن سعد قال : ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.
قال أبو مخنف : حدثني الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريك العامري عن علي بن الحسين قال : أتانا رسول من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال : إنا قد أجلناكم إلى غد فإن استسلمتم سرحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاركيكم .
قال أبو مخنف : وحدثني عبد الله بن عاصم الفائشي عن الضحاك بن عبد الله المشرقي - بطن من همدان - أن الحسين بن علي عليه السلام جمع أصحابه .
قال أبو مخنف : وحدثني أيضا الحارث بن حصيرة عن عبد الله بن شريك الامري عن علي بن الحسين ، قالا : جمع الحسين وأصحابه بعدما رجع عمر بن سعد وذلك عند قرب المساء ، قال علي بن الحسين : فدنوت منه لأسمع وأنا مريض فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه : أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين ، أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعا خيرا ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ألا وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملا .
قال أبو مخنف : حدثنا عبدالله بن عاصم الفائشي بطن من همدان عن الضحاك بن عبدالله المشرقي قال : قدمت ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين فسلمنا عليه ثم جلسنا إليه فرد علينا ورحب بنا وسألنا عما جئنا له فقلنا : جئنا لنسلم عليك وندعو الله لك بالعافية ونحدث بك عهدا ونخبرك خبر الناس وإنا نحدثك أنهم قد جمعوا على حربك فر رأيك ، فقال الحسين عليه السلام : حسبي الله ونعم الوكيل ، قال : فتذممنا وسلمنا عليه ودعونا الله له ، قال : فما يمنعكما من نصرتي ، فقال مالك بن النضر : علي دين ولي عيال ، فقلت له : إن علي دينا وإن لي لعيالا ولكنك إن جعلتني في حل من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك ما كان لك نافعا وعنك دافعا ، قال: قال : فأنت في حل فأقمت معه ، فلما كان الليل قال : هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري ، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبدالله بن جعفر : لم نفعل لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه ، فقال الحسين عليه السلام يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا قد أذنت لكم ، قالوا : فما يقول الناس ؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا والله لا نفعل ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك .
قال أبو مخنف : حدثني عبد الله بن عاصم عن الضحاك بن عبد الله المشرقي قال : فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال ، أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك ، أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائِمُه في يدي ، ولا افارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك .
قال : وقال سعيد بن عبد الله الحنفي : والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيك ، والله لوعلمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك ؟ وإنما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا .
قال : وقال زهير بن القين : والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل كذا ألف قتلة ، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك .
قال : وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد ، فقالوا : والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء ، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا ، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا .
قال أبو مخنف : حدثني الحارث بن كعب وأبو الضحاك عن علي بن الحسين بن علي قال : إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها ، وعمتي زينب عندي تمرضني ، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له وعنده حوي مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول :
يا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ... وكل حي سالك السبيل ...
قال : فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها فعرفت ما أراد ، فخنقتني عبرتي فرددت دمعي ولزمت لاسكون فعلمت أن البلاء قد نزل ، فأما عمتي فإنها سمعتْ ما سمِعتُ وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه فقالت : واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي .
قال : فنظر إليها الحسين عليه السلام فقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان قالت : بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله استقتلت نفسي فداك ، فرد غصته وترقرقت عيناه وقال : لو ترك القطا ليلا لنام ، قالت : يا ويلتي أفتغصب نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي ، ولطمت وجهها وأهوت إلى جيبها وشقته وخرت مغشيا عليها ، فقام إليها الحسين فصب على وجهها الماء وقال لها : يا أختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله ، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته ، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده ، أبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة.
قال : فعزاها بهذا ونحوه وقال لها : يا أخية إني أقسم عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور ، إذا أنا هلكت .
قال : ثم جاء بها حتى أجلسها عندي وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم .
قال أبو مخنف : عن عبد الله بن عاصم عن الضحاك بن عبد الله المشرقي قال : فلما أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون .
قال : فتمر بنا خيل لهم تحرسنا وإن حسينا ليقرأ { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } ، فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا فقال : نحن ورب الكعبة الطيبون ميزنا منكم.
قال : فعرفته فقلت لبرير بن حضير : تدري من هذا ؟ قال : لا ، قلت : هذا أبو حرب السبيعي عبدالله بن شهر - وكان مضحاكا بطالا ، وكان شريفا شجاعا فاتكا - وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية - فقال له برير بن حضير : يا فاسق أنت يجعلك الله في الطيبين ، فقال له : من أنت ؟ قال : أنا برير بن حضير، قال : إنا لله عز علي هلكت والله هلكت والله يا برير، قال : يا أبا حرب هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام ، فوالله إنا لنحن الطيبون ولكنكم لأنتم الخبيثون ، قال : وأنا على ذلك من الشاهدين . قلت : ويحك أفلا ينفعك معرفتك قال : جعلت فداك فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي - من عنز بن وائل – قال : ها هو ذا معي ، قال : قبح الله رأيك على كل حال أنت سفيه ، قال : ثم انصرف عنا وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي وكان على الخيل. قال : فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت ، وقد بلغنا أيضا أنه كان يوم الجمعة وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء ، خرج فيمن معه من الناس .
قال : وعبأ الحسين أصحابه وصلى بهم صلاة الغداة وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه وحبيب بن مظاهر( ) في ميسرة أصحابه وأعطى رايته العباس بن علي أخاه وجعلوا البيوت في ظهورهم ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.
قال وكان الحسين عليه السلام أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية فحفروه في ساعة من الليل فجعلوه كالخندق ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب ، وقالوا : إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا وقاتلنا القوم من وجه واحد ففعلوا وكان لهم نافعا.
قال أبو مخنف : حدثني فضيل بن خديج الكندي عن ، محمد بن بشر عن عمرو الحضرمي ، قال : لما خرج عمر بن سعد بالناس كان على ربع أهل المدينة يومئذ : عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي ، وعلى ربع مذحج وأسد :عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ،وعلى ربع ربيعة وكندة : قيس بن الأشعث بن قيس ، وعلى ربع تميم وهمدان : الحر بن يزيد الرياحي، فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين وقُتل معه ؛ وجعل عمر على ميمنته : عمرو بن الحجاج الزبيدي ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية - وهو الضباب بن كلاب - وعلى الخيل : عزرة بن قيس الأحمسي ، وعلى الرجال : شبث بن ربعي الرياحي وأعطى الراية ذويدا مولاه .

قال أبو مخنف : حدثني عمرو بن مرة الجملي عن أبي صالح الحنفي عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري ، قال : كنت مع مولاي فلما حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين أمر الحسين بفسطاط فضرب ثم أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة . قال : ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط ، فتطلى بالنورة ؛ قال : ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير بن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبهما ، فازدحما أيهما يطلي على أثره فجعل برير يهازل عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل ، فقال له برير: والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم ، قال فلما فرغ الحسين دخلنا فاطلينا قال ثم إن الحسين ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه. قال : فاقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا فلما رأيت القوم قد صرعوا أفلتُّ ، وتركتهم .
قال أبو مخنف عن بعض أصحابه عن أبي خالد الكاهلي قال : لما صبحت الخيل الحسين رفع الحسين يديه فقال : اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة .
قال أبو مخنف : فحدثني عبد الله بن عاصم قال : حدثني الضحاك المشرقي قال: لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا إذ اقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلا حطبا تلتهب النار فيه فرجع راجعا فنادى بأعلى صوته : يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة ! فقال الحسين : من هذا ، كأن شمر بن ذي الجوشن ! فقالوا : نعم أصلحك الله هوهو. فقال : يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليا . فقال له مسلم بن عوسجة : يا ابن رسول الله جُعلت فداك ألا أرميه بسهم فإنه قد أمكنني وليس يسقط مني سهم فالفاسق من أعظم الجبارين! فقال له الحسين : لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم ، وكان مع الحسين فرس له يدعى لاحقا حمل عليه ابنه علي بن الحسين . قال : فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها ثم نادى بأعلى صوته دعاء يسمع جل الناس : " أيها الناس : اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم علي ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم :{ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ } {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } ... " .
قال: فلما سمع أخواته كلامه هذا ، صحن وبكين وبكى بناته فارتفعت أصواتهن ، فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي ، وعليا ابنه وقال لهما: أسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن . قال : فلما ذهبا ليسكتاهن ، قال : لا يبعد ابن عباس .
قال : فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهن فلما سكتن ، حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله وصلى على محمد صلى الله عليه وعلى ملائكته وأنبيائه فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره.
قال : فوالله ما سمعت متكلما قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ، ثم قال : " أما بعد : فانسبوني فانظروا من أنا ،ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ! ألست ابن بنت نبيكم صلى الله عليه و سلم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه ! أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي ! أوليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي ! أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي ولأخي : { هذان سيدا شباب أهل الجنة } ! فإن صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، ويضر به من اختلقه ، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري أو أبا سعيد الخدري أو سهل بن سعد الساعدي أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه و سلم لي ولأخي ، أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي!! " .
فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف ، إن كان يدري ما يقول . فقال له حبيب بن مظاهر( ) : والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك . ثم قال لهم الحسين : " فإن كنتم في شك من هذا القول ، أَفَتَشُكُّونَ أثرا ما أنى ابن بنت نبيكم ! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ، أنا ابن بنت نبيكم خاصة ، أخبروني : أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من جراحة ؟ .. " .
قال : فأخذو لا يكلمونه. قال : فنادى : " يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجنان ، وطمت الجمام ، وإنما تقدم على جند لك مجند ، فأقبل " قالوا له : لم نفعل ، فقال : سبحان الله بلى والله لقد فعلتم . ثم قال : " أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض " . قال : فقال له قيس بن الأشعث أولا تنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه ! فقال الحسين : أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد ، عباد الله: { إني عذت بربي وربكم أن ترجمون} ،{ أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } . قال : ثم إنه أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها وأقبلوا يزحفون نحوه .
قال أبو مخنف : فحدثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قتل يقال له كثير بن عبد الله الشعبي قال : لما زحفنا قِبَل الحسين خرج إلينا زهير بن قين على فرس له ذنوب شاك في السلاح فقال : " يا أهل الكوفة : نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بينا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة ، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون ! إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله ، ليسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم وقراءكم ، أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة ، وأشباهه " .
قال : فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا : والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً ، فقال لهم: " عباد الله إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلو بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين " .
قال : فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال : اسكُت أسكَتَ الله نأمتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك . فقال له زهير: " يا ابن البوال على عقبيه ، ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة ، والله ما أظنك تُحكِم من كتاب الله آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم " ، فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة . قال : أفبالموت تخوفني فوالله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم.
قال : ثم أقبل على الناس رافعا صوته فقال : " عباد الله : لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه فوالله لا تنال شفاعة محمد صلى الله عليه و سلم قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم" .
قال : فناداه رجل فقال له : إن أبا عبد الله يقول لك : أقبل فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ .
قال أبو مخنف عن أبي جناب الكلبي عن عدي بن حرملة قال : ثم إن الحر بن يزيد لما زحف عمر بن سعد قال له : أصلحك الله مقاتل أنت هذا الرجل ! قال : إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي . قال : أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضاً ! قال عمر بن سعد : " أما والله لو كان الأمر إليّ لفعلت ،ولكن أميرك قد أبى ذلك ".
قال [ أي :عدي بن حرملة ]: فأقبل حتى وقف من الناس موقفاً ، ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس ، فقال : يا قرة هل سقيت فرسك اليوم ! قال : لا ، قال : إنما تريد أن تسقيه ! قال [ أي : قرة ] : فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال وكره أن أراه حين يصنع ذلك فيخاف أن أرفعه عليه ، فقلت له : لم أسقه وأنا منطلق فساقيه.
قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه . قال : فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين . قال : فأخذ يدنو من حسين قليلا قليلا ، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد ! أتريد أن تحمل ! فسكت وأخذه مثل العروءا ، فقال له : يا ابن يزيد والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن ، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلا ما عدوتك ، فما هذا الذي ارى منك ! قال : إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا ، ولو قطعت وحرقت . ثم ضرب فرسه فلحق بحسين عليه السلام ، فقال له : " جعلني الله فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان ، والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، فقلت في نفسي لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك ، أفترى ذلك لي توبة ! " . قال : نعم يتوب الله عليك ويغفر لك ، ما اسمك ؟ قال : أنا الحر بن يزيد ، قال : أنت الحر كما سمتك أمك أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة ، انزل . قال : أنا لك فارسا خير مني راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري . قال الحسين : فاصنع يرحمك الله ما بدا لك . فاستقدم أمام أصحابه ثم قال أيها القوم : ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله ؟ قالوا : هذا الأمير عمر بن سعد ، فكلمه ، فكلمه بمثل ما كلمه به قبل وبمثل ما كلمه به اصحابه ، قال عمر : " قد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت " ، فقال : " يا أهل الكوفة : لأمكم الهبل والعبر، إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته وأصبح في أيديكم كالأسير كالأسيرلا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا ، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هم أولاء قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمدا في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه " . فحملت عليه رجالة لهم ترميه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين .
قال أبو مخنف : عن الصقعب بن زهير وسليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال: وزحف عمر بن سعد نحوهم ثم نادى : يا ذويد أدن رايتك ، قال : فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ، ثم رمى فقال : اشهدوا أني أول من رمى .
قال أبو مخنف : حدثني أبو جناب قال : كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير - من بني عليم كان قد نزل الكوفة واتخذ عند بئر الجعد من همدان داراً ، وكانت معه امرأة من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد - فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين .
قال : فسأل عنهم فقيل له : يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا ، وإني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين ، فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد ، فقالت : أصبت أصاب الله بك وأرشد أمورك افعل وأخرجني معك .
قال : فخرج بها ليلا حتى أتى حسينا ، فأقام معه فلما دنا منه عمر بن سعد ، ورمى بسهم ارتمى الناس ، فلما ارتموا خرج يسار : مولى زياد بن أبي سفيان ، وسالم مولى : عبيد الله بن زياد ، فقالا : من يبارز ؟ ليخرج إلينا بعضكم .قال : فوثب حبيب بن مظاهر( ) ، وبرير بن حضير ، فقال لهما حسين : اجلسا ، فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال : أبا عبد الله رحمك الله ائذن لي فلأخرج إليهما ، فرأى حسين رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين ، فقال حسين : إني لأحسبه للأقران قتالا، اخرج إن شئت ، قال : فخرج إليهما فقالا له : من أنت ؟ فانتسب لهما فقالا : لا نعرفك ، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر( ) أو برير بن حضير . ويسار مستنتل أمام سالم ، فقال له الكلبي : يا ابن الزانية وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس وما يخرج إليك أحد من الناس إلا وهو خير منك ؟ ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد ، فإنه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شد عليه سالم فصاح به قد رهقك العبد ، قال : فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة ، فأتقاه الكلبي بيده اليسرى فأطار أصابع كفه اليسرى ، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله ، وأقبل الكلبي مرتجزا وهو يقول
: وقد قتلهما جميعا ... إن تنكروني فأنا ابن كلب ...
حسبي بيتي في عليم حسبي ... إني امرؤ ذو مرة وعصب ...
ولست بالخوار عند النكب ... إني زعيم لك أم وهب ...
بالطعن فيهم مقدما والضرب ... ضرب غلام مؤمن بالرب .
فأخذت أم وهب امرأته عمودا ، ثم أقبلت نحو زوجها تقول له : فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد ، فأقبل إليها يردها نحو النساء ، فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت : إني لن أدعك دون أن أموت معك ، فناداها حسين فقال : جزيتم من أهل بيت خيرا ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن فإنه ليس على النساء قتال ، فانصرفت إليهن .
قال : وحمل عمرو بن الحجاج وهو على ميمنة الناس في الميمنة ، فلما أن دنا من حسين جثوا له على الركب وأشرعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم على الرماح ، فذهبت الخيل لترجع فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا منهم آخرين .
قال أبو مخنف : فحدثني حسين أبو جعفر قال : ثم إن رجلا من بني تميم يقال له عبدالله بن حوزة جاء حتى وقف أمام الحسين فقال : يا حسين يا حسين ! فقال حسين : ما تشاء ، قال : أبشر بالنار ، قال : كلا إني أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع .من هذا ؟ قال له اصحابه : هذا ابن حوزة . قال : رب حزْهُ إلى النار . قال : فاضطرب به فرسه في جدول فوقع فيه وتعلقت رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض ، ونفر الفرس فأخذ يمر به فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حتى مات .
قال أبو مخنف : وأما سويد بن حية فزعم لي أن عبد الله بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى في الركاب وارتفعت اليمنى فطارت ، وعدا به فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حتى مات .
قال أبو مخنف : عن عطاء بن السائب( ) عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي( ) عن أخيه مسروق بن وائل قال : كنت في أوائل الخيل ممن سار إلى الحسين ، فقلت : أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد ، قال : فلما انتهينا إلى حسين تقدم رجل من القوم يقال له ابن حوزة فقال : أفيكم حسين قال : فسكت حسين . فقالها ثانية ، فسكت ، حتى إذا كانت الثالثة قال : قولوا له : نعم هذا حسين فما حاجتك ؟ قال : يا حسين أبشر بالنار قال : كذبت بل أقدم على رب غفور وشفيع مطاع فمن أنت ؟ قال: ابن حوزة . قال : فرفع الحسين يديه حتى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثم قال : اللهم حزه إلى النار . قال فغضب ابن حوزة فذهب ليقحم إليه الفرس وبينه وبينه نهر، قال : فعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها ، قال : فانقطعت قدمه وساقه وفخذه وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب .
قال[عبد الجبار] : فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه.
قال : فسألته ، فقال : لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا اقاتلهم أبدا . قال : ونشب القتال .
قال أبو مخنف : وحدثني يوسف بن يزيد ( ) ، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس - وكان قد شهد مقتل الحسين – قال : وخرج يزيد بن معقل - من بني عميرة بن ربيعة وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس - فقال : يا برير بن حضير: كيف ترى الله صنع بك ؟ قال : صنع اللهُ ، واللهِ بي خيرا، وصنع الله بك شرا ، قال : كذبت وقبل اليوم ما كنت كذابا ، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول : إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفا وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل وإن إمام الهدى والحق علي بن ابي طالب ، فقال له برير : أشهد أن هذا رأيي وقولي . فقال له يزيد بن معقل : فإني أشهد أنك من الضالين ، فقال له برير بن حضير : هل لك فلأ باهلك ولندع الله أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المبطل ، ثم اخرج فلأبارزك.
قال : فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل ثم برز كل واحد منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شيئا ، وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ ، فخر كأنما هوى من حالق ، وإن سيف ابن حضير لثابت في رأسه ، فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه ، وحمل عليه رضي بن منقذ العبدي ، فاعتنق بريرا فاعتركا ساعة ثم إن بريرا قعد على صدره فقال رضي : أين أهل المصاع والدفاع ؟
قال : فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه ، فقلت : إن هذا برير بن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد ، فحمل عليه بالرمح حتى وضعه في ظهره فلما وجد مس الرمح برك عليه فعض بوجهه وقطع طرف أنفه ، فطعنه كعب بن جابر حتى ألقاه عنه وقد غيب السنان في ظهره ، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتى قتله.
قال عفيف : كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول أنعمت علي يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبداً ، قال : فقلت : أنت رأيت هذا ؟ قال : نعم رأي عيني وسمع أذني ، فلما رجع كعب بن جابر قالت له : امرأته أو أخته النوار بنت جابر : أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيد القراء لقد أتيت عظيما من الأمر والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً ، وقال كعب بن جابر :
سلي تخبري عني وأنت ذميمة ... غداة حسين والرماح شوارع ...
ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل ... علي غداة الروع ما أنا صانع ...
معي يزني لم تخنه كعوبه ... وأبيض مخشوب الغرارين قاطع ...
فجردته في عصبة ليس دينهم ... بديني وإني بابن حرب لقانع ...
ولم تر عيني مثلهم في زمانهم ... ولا قبلهم في الناس إذ أنا يافع ...
أشد قراعا بالسيوف لدى الوغى ... ألا كل م يحمي الذمار مقارع ...
وقد صبروا للطعن والضرب حسرا ... وقد نازلوا لو أن ذلك نافع ...
فأبلغ عبيد الله إما لقيته ... بأني مطيع للخليفة سامع ...
قتلت بريرا ثم حملت نعمة ... أبا منقذ لما دعا من يماضع ...
قال ابو مخنف : حدثني عبد الرحمن بن جندب قال :سمعته في إمارة مصعب بن الزبير وهو يقول : يا رب إنا قد وفينا فلا تجعلنا يا رب كمن قد غدر ، فقال له أبي : صدق ، ولقد وفى وكرم وكسبت لنفسك شرا ، قال : كلا إني لم أكسب لنفسي شرا ولكني كسبت لها خيرا ، قال : وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد على كعب بن جابر جواب قوله فقال :
لو شاء ربي ما شهدت قتالهم ... ولا جعل النعماء عندي ابن جابر ...
لقد كان ذاك اليوم عارا وسبة ... يعيره الأبناء بعد المعاشر ...
فيا ليت أني كنت من قبل قتله ... ويوم حسين كنت في رمس قابر ...
قال : وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين وهو يقول :
قد علمت كتيبة الأنصار ... أني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري ... دون حسين مهجتي وداري .
قال أبو مخنف : عن ثابت بن هبيرة فقتل عمرو بن قرظة بن كعب وكان مع الحسين وكان علي أخوه مع عمر بن سعد فنادى علي بن قريظة : يا حسين يا كذاب ابن الكذاب أضللت أخي وغررته حتى قتلته ، قال : إن الله لم يضل أخاك ولكنه هدى أخاك وأضلك ، قال قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك فحمل عليه فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه ، فحمله أصحابه فاستنقذوه فدووي بعد فبرأ .
قال أبو مخنف : حدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي أن الحر بن يزيد لما لحق بحسين قال رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الحارث بن تميم يقال له يزيد بن سفيان : أما والله لو أني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان ، قال فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدما ويتمثل قول عنترة : ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم ... قال : وإن فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبه وإن دماءه لتسيل ، فقال الحصين بن تميم - وكان على شرطة عبيد الله ، فبعثه إلى الحسين وكان مع عمر بن سعد فولاه عمر مع الشرطة المجففة - ليزيد بن سفيان : هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى ؟ قال : نعم ، فخرج إليه فقال له : هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة ؟ قال : نعم قد شئت ، فبرز له.
قال : فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول : والله لأبرز له فكأنما كانت نفسه في يده ، فما لبثه الحر حين خرج إليه أن قتله .
قال هشام بن محمد : عن أبي مخنف قال : حدثني يحيى بن هانئ بن عروة أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول : أنا الجملي أنا على دين علي قال : فخرج إليه رجل يقال له مزاحم بن حريث ، فقال : أنا على دين عثمان ، فقال له : أنت على دين شيطان ، ثم حمل عليه فقتله ، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى أتدرون من تقاتلون ؟ فرسان المصر ، قوما مستميتين لا يبرزن لهم منكم أحد ، فإنهم قليل ، وقلما يبقون ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم ، فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت ، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجل منكم رجلا منهم .
قال أبو مخنف : حدثني الحسين بن عقبة المرادي ، قال الزبيدي : إنه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول : يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام ، فقال له الحسين : يا عمرو بن الحجاج أعلي تحرض الناس ؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه ؟ أما والله لتعلمن لو قد قُبِضت أرواحكم ومتم على أعمالكم أيّنا مرق من الدين ومن هو أولى بصلي النار .
قال [ أي: الزبيدي] : ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات فاضطربوا ساعة فَصُرَع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين ، ثم انصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه ، وارتفعت الغبرة ، فإذا هم به صريع ، فمشى إليه الحسين فإذا به رمق فقال : رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة { فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } ، ودنا منه حبيب بن مظاهر ( )فقال : عز علي مصرعك يا مسلم ، أبشر بالجنة ، فقال له مسلم قولا ضعيفا : بشرك الله بخير ، فقال له حبيب : لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين ، قال : بل أنا أوصيك بهذا -رحمك الله - وأهوى بيده إلى الحسين ، أن تموت دونه . قال : أَفعلُ ورب الكعبة .
قال [ أي: الزبيدي]: فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم ، وصاحت جارية له فقالت : يا ابن عوسجتاه يا سيداه ، فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي .
فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه : ثكلتكم أمهاتكم إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذللون أنفسكم لغيركم ، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ، أما والذي أسلمت له، لرُبَّ موقف له قد رأيته في المسلمين كريم ، لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين ، أفيقتل منكم مثله ؟ وتفرحون ؟
قال [ أي: الزبيدي]: وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبدالله الضبابي وعبدالرحمن بن أبي خشكارة البجلي .
قال [ أي: الزبيدي]: وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة ، فثبتوا له فطاعنوه وأصحابه ، وحمل على حسين وأصحابه من كل جانب فَقَتَلَ الكلبي ، وقد قَتَلَ رجلين بعد الرجلين الأولين ، وقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرمي وبكير بن حي التيمي - من تيم الله بن ثعلبة - فقتلاه ، وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين .
وقاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا ، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا ؛ وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته ، فلما رأى ذلك عزرة بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة ، أن خيله تنكشف من كل جانب بعث عمر بن سعد : عبد الرحمن بن حصن فقال : أما ترى ما تلقي خيلي مذ اليوم من هذه العدة اليسيرة ، ابعث إليهم الرجال والرماة ، فقال لشبث بن ربعي : ألا تقدم إليهم ، فقال : سبحان الله أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد من تندب لهذا ويجزئ عنك غيري ؟
قال [ أي: الزبيدي]: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله .
قال وقال أبو زهير العبسي : فأنا سمعته في إمارة مصعب يقول : لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا ولا يسددهم لرشد . ألا تعجبون ، أنّا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ! ضلال يا لك من ضلال !
قال [ أي: الزبيدي]: ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم ، فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية ، فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم ، وصاروا رجالة كلهم .
قال أبو مخنف : حدثني نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول : أنا والله عقرت بالحر بن يزيد فرسه ، حشأته سهما ، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب ، وكبا ؛ فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف في يده ، وهو يقول :
إن تعقروا بي فأنا ابن الحر ... أشجع من ذي لبد هزبر ...
قال [ أيوب ] : فما رأيت أحدا قط يفري فَرْيَهُ .
قال [نمير] : فقال له أشياخ من الحي : أنت قتلته ؟ قال : لا والله ما أنا قتلته ولكن قتله غيري وما أحب أني قتلته . فقال له أبو الوداك : ولِمَ ؟ قال : إنه كان - زعموا -من الصالحين ؛ فوالله لئن كان ذلك إثما لأن ألقى الله بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن القاه بإثم قتل أحد منهم . فقال له أبو الوداك : ما أراك إلا ستلقى الله بإثم قتلهم أجمعين ، أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا ورميت آخر ووقفت موقفا وكررت عليهم وحرضت اصحابك وكثرت أصحابك وحمل عليك فكرهت أن تفر وفعل آخر من أصحابك كفعلك وآخر وآخر كان هذا وأصحابه يقتلون ؛ أنتم شركاء كلكم في دمائهم . فقال له يا أبا الوداك : إنك لتقنطنا من رحمة الله إن كنت ولي حسابنا يوم القيامة فلا غفرالله لك إن غفرت لنا . قال : هو ما أقول لك .
قال : وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال خلقه الله وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض .
قال : فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم .
قال : فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه ، فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: أحرقوها بالنار ولا تدخلوا بيتا ولا تقوضوه فجاؤوا بالنار فأخذوا يحرقون . فقال حسين : دعوهم فليحرقوها فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها. وكان ذلك كذلك وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد .
قال وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول هنيئا لك الجنة . فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم اضرب رأسها بالعمود فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانها .
قال : وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه ونادى :عليَّ بالنار حتى أُحرق هذا البيت على أهله .
قال : فصاح النساء وخرجن من الفسطاط.
قال : وصاح به الحسين : يا ابن ذي الجوشن أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ! حرقك الله بالنار .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال : قلت لشمر بن ذي الجوشن : سبحان الله إن هذا لا يصلح لك ، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين : تُعَذِّب بعذاب الله ، وتقتل الولدان والنساء ! والله إن في قتلك الرجال لما ترضى به أميرك . قال : فقال: من أنت ؟ قال : قلت : لا أخبرك من أنا . – قال : وخشيت والله أن لو عرفني أن يضرني عند السلطان - ، قال : فجاءه رجل كان أطوع له مني - شبث بن ربعي – قال : ما رأيت مقالا أسوأ من قولك ولا موقفا أقبح من موقفك أمرعبا للنساء صرت ! قال : فأشهد أنه استحيا فذهب لينصرف ، وحمل عليه زهير بن القين في رجال من أصحابه عشرة فشد على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه ، فكان من أصحاب شمر وتعطف الناس عليهم فكثروهم فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل فإذا قتل مهم الرجل والرجلان تبين فيهم ، وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم . قال : فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين : يا أبا عبدالله نفسي لك الفداء إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها .
قال : فرفع الحسين رأسه ثم قال : ذكرت الصلاة !جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها . ثم قال سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي . فقال لهم الحصين بن تميم : إنها لا تقبل . فقال له حبيب بن مظاهر( ) : لا تقبل – زعمتَ ! - الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقبل ! وتقبل منك يا حمار !
قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشب ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه وأخذ حبيب يقول :
أقسم لو كنا لكم أعدادا ... أو شطركم وليتم أكتادا
يا شر قوم حسبا وآدا ...
قال : وجعل يقول يومئذ:
أنا حبيب وأبي مظاهر ... فارس هيجاء وحرب تسعر ...
أنتم أعد عدة وأكثر ... ونحن أوفى منكم وأصبر ..
. ونحن أعلى حجة وأظهر ... حقا وأتقى منكم وأعذر ...
وقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله - وكان يقال له بديل بن صريم من بني عقفان - ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه ، فقال له الحصين : إني لشريكك في قتله ، فقال الآخر: والله ما قتله غيري . فقال الحصين : أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد فلا حاجة لي فيما تُعطاه على قتلك إياه .
قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه ثم دفعه بعد ذلك إليه فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه ثم اقبل به إلى ابن زياد في القصر فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه وإذا خرج خرج معه فارتاب به فقال : مالك يا بني تتبعني ؟ قال : لا شيء . قال : بلى يا بني أخبرني . قال له : إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ قال : يا بني لا يرضى الأمير أن يُدفن ، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا . قال له الغلام : لكن الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيرا منك ، وبكى ، فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همة إلا اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة ، فيقتله بأبيه ، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب " باجميرا " دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد .
قال أبو مخنف : حدثني محمد بن قيس قال : لما قُتل حبيب بن مظاهر هدَّ ذلك حسينا وقال عند ذلك : أحتسب نفسي وحماة أصحابي .
قال فأخذ الحر يرتجز ويقول :
آليت لا أقتل حتى أقتلا ... ولن أصاب اليوم إلا مقبلا ...
أضربهم بالسيف ضربا مقصلا ... لا ناكلا عنهم ولا مهللا ...
وأخذ يقول أيضا : أضرب في أعراضهم بالسيف ... عن خير من حل منى والخيف
فقاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا فكان إذا شد أحدهما فإن استلحم
شد الآخر حتى يخلصه ففعلا ذلك ساعة ثم إن رجالة شدت على الحر بن يزيد فقُتل وقُتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدواً له ، ثم صلوا الظهر صلى بهم الحسين صلاة الخوف ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم ووصل إلى الحسين فاستقدم الحنفي أمامه فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه فما زال يُرمى حتى سقط ، وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وأخذ يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين ... أذودهم بالسيف عن حسين ...
قال : وأخذ يضرب على منكب حسين ويقول:
أقدم هديت هاديا مهديا ... فاليوم تلقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا ... وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا ...
قال : فشد عليه كثير بن عبدالله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه .
قال : وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله فجعل يرمي بها مسومة وهو يقول أنا الجملي أنا على دين علي . فقَتَلَ اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح .
قال : فضرب حتى كسرت عضداه وأُخذ أسيرا .
قال : فأخذه شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحاب له يسوقون نافعا حتى أتي به عمر بن سعد ، فقال له عمر بن سعد : ويحك يا نافع ما حملك على ما صنعت بنفسك ؟ قال : إن ربي يعلم ما أردت . قال والدماء تسيل على لحيته ، وهو يقول : والله لقد قتلت منكم اثني عشر سوى من جرحت وما ألوم نفسي على الجهد ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني . فقال له شمر : أقتله أصلحك الله ، قال : أنت جئت به فإن شئت فاقتله .
قال : فانتضى شمر سيفه فقال له نافع : أما والله أن لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه فقتله .
قال : ثم أقبل شمر يحمل عليهم وهو يقول ... خلوا عداة الله خلوا عن شمر ... يضربهم بسيفه ولا يفر ... وهو لكم صاب وسم ومقر ...
قال: فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينا ولا أنفسهم تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه ، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان فقالا : يا أبا عبد الله ، عليك السلام حازنا العدو إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك نمنعك وندفع عنك . قال : مرحبا بكما ادنوا مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه وأحدهما يقول:
قد علمت حقا بنو غفار ... وخندف بعد بني نزار ..
لنضربن معشر الفجار ... بكل عضب صارم بتار ..
يا قوم ذودوا عن بني الأحرار ... بالمشرفي والقنا الخطار ..
قال : جاء الفتيان الجابريان سيف بن الحارث بن سريع ومالك بن عبد بن سريع وهما ابنا عم وأخوان لأم فأتيا حسينا فدنوا منه وهما يبكيان فقال: أي ابني أخي ، ما يبكيكما فوالله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين . قالا : جعلنا الله فداك ، لا والله ما على أنفسنا نبكي ولكنا نبكي عليك ، نراك قد أحيط بك ولا نقدر على أن نمنعك . فقال : جزاكم الله يا بني أخي بوحدكما من ذلك ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين .
قال : وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حسين فأخذ ينادي: { يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ، مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ، يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فماله من هاد } يا قوم : تقتلوا حسينا { فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى } ، فقال له حسين : يا ابن سعد رحمك الله إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين ! قال : صدقت جُعلت فداك أنت أفقه مني وأحق بذلك أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا ! فقال: رح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلي ملك لا يبلى . فقال : السلام عليك أبا عبد الله صلى الله عليك وعلى أهل بيتك وعرّف بيننا وبينك في جنته . فقال : آمين آمين . فاستقدم فقاتل حتى قتل .
قال : ثم استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إلى حسين ويقولان: السلام عليك يا ابن رسول الله . فقال : وعليكما السلام ورحمة الله ، فقاتلا حتى قتلا .
قال : وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر ، فقال : يا شوذب ما في نفسك أن تصنع ؟ قال : ما أصنع ! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أقتل ، قال : ذلك الظن بك ، أما لا فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه ، وحتى أحتسبك أنا ، فإنه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به مني بك ، لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه ، فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه ، فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب .
قال : فتقدم فسلم على الحسين ثم مضى فقاتل حتى قتل ، ثم قال عابس بن أبي شبيب : يا ابا عبد الله أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي ولا أحب إلي منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته ، السلام عليك يا أبا عبد الله ، أشهد الله أني على هديك وهدي أبيك ، ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة على جبينه .
قال أبو مخنف : حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم- شهد ذلك اليوم – قال : لما رأيته مقبلا عرفته وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس , فقلت : أيها الناس هذا الأسد الأسود هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم ، فأخذ ينادي ألا رجل لرجل ! فقال عمر بن سعد : إرضخوه بالحجارة.
قال: فرُمِيَ بالحجارة من كل جانب ، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شد على الناس فوالله لرأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقُتل .
قال : فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة ، هذا يقول أنا قتلته وهذا يقول أنا قتلته ، فأتوا عمر بن سعد فقال : لا تختصموا هذا لم يقتله سنان واحد ، ففرق بينهم بهذا القول .
قال أبو مخنف : حدثني عبد الله بن عاصم عن الضحاك بن عبدالله المشرقي قال : لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا وقد خلص إليه وإلى أهل بيته ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي ، وبشير بن عمرو الحضرمي ، قلت له : يا ابن رسول الله : قد علمت ما كان بيني وبينك ، قلت لك أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا ، فإذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف، فقلت لي نعم ! قال : فقال : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت على ذلك فأنت في حل . قال : فأقبلت إلى فرسي وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطا لأصحابنا بين البيوت وأقبلت أقاتل معهم راجلا فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين وقطعت يد آخر وقال لي الحسين يومئذ مرارا لا تشلل لا يقطع الله يدك جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك صلى الله عليه و سلم فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط ثم استويت على متنها ثم ضربتها حتى إذا قامت على السنابك رميت بها عرض القوم فأفرجوا لي واتبعني منهم خمسة عشر رجلا حتى انتهيت إلى شفية قرية قريبة من شاطئ الفرات فلما لحقوني عطفت عليهم فعرفني كثير بن عبدالله الشعبي وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عبدالله الصائدي فقالوا : هذا الضحاك بن عبدالله المشرقي هذا ابن عمنا ننشدكم الله لما كففتم عنه ، فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم : بلى والله لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبوا من الكف عن صاحبهم .
قال : فلما تابع التميميون أصحابي كف الآخرون قال فنجاني الله . قال أبو مخنف : حدثني فضيل بن خديج الكندي أن يزيد بن زياد - وهو أبو الشعثاء الكندي من بني بهدلة - جثا على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم - وكان راميا - فكان كلما رمى قال: أنا ابن بهدلة فرسان العرجلة ، ويقول حسين: اللهم سدد رميته واجعل ثوابه الجنة ، فلما رمى بها قام ، فقال: ما سقط منها إلا خمسة أسهم ولقد تبين لي أني قد قتلت خمسة نفر وكان في أول من قتل وكان رجزه يومئذ :
أنا يزيد وأبي مهاصر ... أشجع من ليث بغيل خادر ..
يا رب إني للحسين ناصر ... ولابن سعد تارك وهاجر ...
وكان يزيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين فلما ردوا الشروط على الحسين مال إليه فقاتل معه حتى قتل ، فأما الصيداوي عمر بن خالد وجابر بن الحارث السلماني وسعد مولى عمر بن خالد ومجمع بن عبدالله العائذي فإنهم قاتلوا في أول القتال فشدوا مقدمين بأسيافهم على الناس فلما وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد فحمل عليهم العباس بن علي فاستنقذهم فجاؤوا قد جرحوا ، فلما دنا منهم عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتى قتلوا في مكان واحد .
قال أبو مخنف: حدثني زهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي قال : كان آخر من بقي مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي .
قال : وكان أول قتيل من بني أبي طالب يومئذ : علي الأكبر بن الحسين بن علي ، وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي ،وذلك أنه أخذ يشد على الناس وهو يقول :
أنا علي بن حسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي ...
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
قال : ففعل ذلك مرارا ، فبصُر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي فقال : علي آثام العرب إن مر بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه ، فمر يشد على الناس بسيفه فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه فصُرع واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال : سماع أذني يومئذ من الحسين يقول : قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفاء .
قال : وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة تنادي يا أخياه ويا ابن أخياه ! قال : فسألت عليها ، فقيل هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت حتى أكبت عليه فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط ، وأقبل الحسين إلى ابنه وأقبل فتيانه إليه فقال : احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه .
قال : ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه ثم انتحى له بسهم آخر ففلق قلبه ، فاعتورهم الناس من كل جانب فحمل عبد الله بن قطبة الطائي ثم النبهاني على عون بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب فقتله ، وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقتله .
قال: وشد عثمان بن خالد بن أسير الجهني وبشر بن سوط الهمداني ثم القابضي على عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب فقتلاه ، ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمي جعفر بن عقيل بن أبي طالب فقتله .
قال أبو :دثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال : خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر في يده السيف عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ما أنسى أنها اليسرى فقال لي عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي : والله لأشدن عليه ، فقلت له : سبحان الله وما تريد إلى ذلك يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم . قال : فقال : والله لأشدن عليه ، فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف ، فوقع الغلام لوجهه فقال : يا عماه ! قال : فجلى الحسين كما يحلي الصقر ، ثم شد شدة ليث غضب ، فضرب عمرا بالسيف ، فاتّقاه بالساعد فأطنها من لدن المرفق ، فصاح ثم تنحى عنه ، وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من حسين ، فاستقبلت عمرا بصدورها ، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه فوطئته حتى مات . وانجلت الغبرة فإذا أنا بالحسين قائم على رأس الغلام والغلام يفحص برجليه وحسين يقول : بعدا لقوم قتلوك ومَن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، ثم قال :عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك ، صوت والله كثر واتره وقل ناصره ثم احتمله ، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض وقد وضع حسين صدره على صدره .
قال : فقلت في نفسي : ما يصنع به ! فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين وقتلى قد قتلت حوله من أهل بيته ، فسألت عن الغلام فقيل هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
قال : ومكث الحسين طويلا من النهار، كلما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه ، وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عليه.
قال : وإن رجلا من كندة يقال له مالك بن النسير من بني بداء أتاه فضربه على رأسه بالسيف وعليه برنس له فقطع البرنس وأصاب السيف رأسه فأدمى رأسه فامتلأ البرنس دما ، فقال له الحسين : لا أكلت بها ولا شربت وحشرك الله مع الظالمين.
قال : فألقى ذلك البرنس ثم دعا بقلنسوة فلبسها واعتم وقد أعيا وبلد ، وجاء الكندي حتى أخذ البرنس - وكان من خز- فلما قدم به بعد ذلك على امرأته أم عبد الله ابنة الحر أخت حسين بن الحر البدي ، أقبل يغسل البرنس من الدم فقالت له امرأته : أَسَلْبُ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخل بيتي ؟ أخرجه عني ، فذكر أصحابه أنه لم يزل فقيرا بشرّ ، حتى مات .
قال : ولما قعد الحسين أُتِىَ بصبي له فأجلسه في حجره -زعموا أنه عبد الله بن الحسين- .
قال أبو مخنف : قال عقبة بن بشير الأسدي : قال لي أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين : إن لنا فيكم يا بني أسد دماً . قال : قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر وما ذلك ؟ قال : أتي الحسين بصبي له فهو في حجره إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه فتلقى الحسين دمه فلما ملأ كفيه صبه في الأرض ثم قال رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير ، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين .
قال : ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله فلذلك يقول الشاعر -وهو ابن أبي عقب - : وعند غني قطرة من دمائنا ... وفي أسدٍ أخرى تعد وتذكر ...
قال : وزعموا أن العباس بن علي قال لإخوته من أمه عبد الله وجعفر وعثمان : يا بَنِي أمي : تقدموا حتى أرثكم فإنه لا ولد لكم ، ففعلوا ، فقتلوا . وشد هانئ بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي بن أبي طالب فقتله ، ثم شد على جعفر بن علي فقتله ، وجاء برأسه ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي بن أبي طالب بسهم ، ثم شد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله وجاء برأسه ، ورمى رجل من بني أبان بن دارم محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه .
قال هشام : حدثني أبو الهذيل- رجل من السكون- عن هانئ بن ثبيت الحضرمي قال : رأيته جالسا في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبد الله وهو شيخ كبير ، قال :فسمعته وهو يقول :كنت ممن شهد قتل الحسين.
قال : فوالله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس وقد جالت الخيل وتصعصعت إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية عليه إزار وقميص وهو مذعور يتلفت يمينا وشمالا فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت ، إذ أقبل رجل يركض حتى إذا دنا منه مال عن فرسه ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف .
قال هشام : قال السكوني هانئ بن ثبيت : هو صاحب الغلام فلما عُتب عليه ، كنى عن نفسه .
قال هشام : حدثني عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفي قال : عطش الحسين حتى اشتد عليه العطش فدنا ليشرب من الماء ، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه فجعل يتلقى الدم من فمه ويرمي به إلى السماء ثم حمد الله وأثنى عليه ثم جمع يديه فقال : اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تذر على الأرض منهم أحدا .
قال هشام :عن أبيه محمد بن السائب ، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة قال ، قال : حدثني من شهد الحسين في عسكره أن حسينا حين غلب على عسكره ركب المسناة يريد الفرات . قال : فقال رجل من بني أبان بن دارم : ويلكم حولوا بينه وبين الماء لا تتام إليه شيعته . قال وضرب فرسه وأتبعه الناس حتى حالوا بينه وبين الفرات ، فقال الحسين : اللهم أظمه ، قال : وينتزع الأبّاني بسهم فأثبته في حنك الحسين . قال : فانتزع الحسين السهم ثم بسط كفيه فامتلأت دما ثم قال الحسين :اللهم إني أشكو إليك ما يُفعل بابن بنت نبيك . قال : فوالله إن مكث الرجل إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى .
قال القاسم بن الأصبغ : لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يُبَرَّدُ له ، فيه السكر ، وعساس فيها اللبن ، وقلال فيها الماء ، وإنه ليقول : ويلكم اسقوني قتلني الظمأ ، فيُعطى القلة أو العس كان مرويا أهل البيت فيشربه ، فإذا نزعه مِنْ فيه اضطجع الهنيهة ثم يقول : ويلكم اسقوني قتلني الظمأ . قال : فوالله ما لبث إلا يسيرا حتى انقَدَّ بطنه انقداد بطن البعير .
قال أبو مخنف في حديثه : ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو من عشرة من رجالة أهل الكوفة قِبَلَ منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله ، فمشى نحوه ، فحالوا بينه وبين رَحْلِه ؛ فقال الحسين : ويلكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب ، امنعوا رحلي وأهلي من طِغامِكُم وجُهَّالكم . فقال ابن ذي الجوشن : ذلك لك يا ابن فاطمة .
قال : وأقدم عليه بالرجالة منهم أبو الجنوب واسمه عبدالرحمن الجعفي والقشعم بن عمرو بن يزيد الجعفي وصالح بن وهب اليزني وسنان بن أنس النخعي وخولي بن يزيد الأصبحي فجعل شمر بن ذي الجوشن يحرضهم فمر بأبي الجنوب وهو شاكّ في السلاح فقال له : أقدم عليه ، قال : وما يمنعك أن تقدم عليه أنت ؟ فقال له شمر : ألي تقول ذا ؟ قال : وأنت لي تقول ذا ؟ فاستبّا ، فقال له أبو الجنوب- وكان شجاعا- : والله لهممت أن أخضخض السنان في عينك .
قال فانصرف عنه شمر وقال : والله لئن قدرت على أن أضرك لأضرنك.
قال : ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه ، ثم إنهم أحاطوا به إحاطة ، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله فأخذته أخته زينب ابنة علي لتحبسه ، فقال لها الحسين : احبسيه ، فأبى الغلام وجاء يشتد إلى الحسين ، فقام إلى جنبه .
قال : وقد أهوى بحر بن كعب بن عبيد الله - من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة - إلى الحسين بالسيف فقال الغلام : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي ؟ فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده فأطنها إلا الجلدة ، فإذا يده معلقة ، فنادى الغلام : يا أمَتَاه ، فأخذه الحسين فضمه إلى صدره وقال يا ابن أخي : اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول الله صلى الله عليه و سلم وعلي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن بن علي صلى الله عليهم أجمعين .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال : سمعت الحسين يومئذ وهو يقول : " اللهم أمسك عنهم قطر السماء وامنعهم بركات الأرض ، اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا واجعلهم طرائق قددا ، ولا تُرض عنهم الولاة أبدا ، فإنهم دعونا لينصرونا فَعَدَوْا علينا فقتلونا ".
قال : وضارَبَ الرجالة حتى انكشفوا عنه .
قال : ولما بقي الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة دعا بسراويل محققة يلمع فيها البصر يماني محقق ففزره ونكثه لكيلا يُسْلَبَهُ فقال له بعض أصحابه : لو لبست تحته تُبّاناَ ؟ قال : ذلك ثوب مذلة ولا ينبغي لي أن ألبسه .
قال : فلما قُتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إياه فتركه مجردا .
قال أبو مخنف : فحدثني عمرو بن شعيب عن محمد بن عبد الرحمن أن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء تنضحان الماء وفي الصيف تيبسان كأنهما عود .
قال أبو مخنف عن الحجاج ، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي( ) - وعتب على عبد الله بن عمار بعد ذلك مشهده قتل الحسين - فقال عبد الله بن عمار : إن لي عند بني هاشم ليداً . قلنا له وما يدك عندهم : قال حملت على حسين بالرمح فانتهيت إليه فوالله لو شئت لطعنته ، ثم انصرفت عنه غير بعيد وقلت ما أصنع بأن أتولى قتله ! يقتله غيري .
قال : فشد عليه رجالة ممن عن يمينه وشماله ، فحمل على من عن يمينه حتى ابذعروا ، وعلى من عن شماله حتى ابذعروا ، وعليه قميص له من خز وهو مُعْتَمّ .
قال : فوالله ما رأيت مكسوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه ، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله ، أن كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب .
قال : فوالله إنه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته وكأني أنظر إلى قرطها يجول بين أذنيها وعاتقها وهي تقول : ليت السماء تطابقت على الأرض. وقد دنا عمر بن سعد من حسين ، فقالت : يا عمر بن سعد : أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ! قال فكأني أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته قال وصرف بوجهه عنها
قال أبو مخنف : حدثني الصقعب بن زهير عن حميد بن مسلم قال : كانت عليه جبة من خز وكان معتما وكان مخضوبا بالوسمة.
قال : وسمعته يقول قبل أن يُقتل وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويفترض العورة ويشد على الخيل وهو يقول : " أَعَلَى قتلي تحاثّون ! أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله أسخط عليكم لقتله مني ، وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون ، أما والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم " .
قال : ولقد مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء .
قال : فنادى شمر في الناس : ويحكم ماذا تنظرون بالرجل ! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم .
قال : فحُمِل عليه من كل جانب فضُربت كفه اليسرى ضربة ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضُرب على عاتقه ، ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو ( ).
قال : وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع ، ثم قال لخولي بن يزيد الأصبحي : احتز رأسه فأراد أن يفعل فضعف فأرعد ، فقال له سنان بن أنس : فت الله عضديك وأبان يديك ، فنزل إليه فذبحه واحتز رأسه ، ثم دُفع إلى خولي بن يزيد وقد ضرب قبل ذلك بالسيوف .
قال أبو مخنف : عن جعفر بن محمد بن علي ، قال : وُجد بالحسين عليه السلام حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة ، وأربع وثلاثون ضربة . قال : وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسين إلا شد عليه مخافة أن يُغلب على رأسه حتى أخذ رأس الحسين فدفعه إلى خولي .
قال : وسُلب الحسين ما كان عليه ، فأخذ سراويله : بحر بن كعب ، وأخذ قيس بن الأشعث : قطيفته -وكانت من خز- وكان يسمى بَعْدُ : قيس قطيفة ، وأخذ نعليه : رجل من بني أود يقال له الأسود ، وأخذ سيفه : رجل من بني نهشل بن دارم ، فوقع بعد ذلك إلى أهل حبيب بن بديل .
قال : ومال الناس على الورس والحلل والإبل وانتهبوها.
قال ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه فأن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تًغلب عليه فيُذهب به منها .
قال أبو مخنف : حدثني زهير بن عبدالرحمن الخثعمي أن سويد بن عمرو بن أبي المطاع كان صُرع فأُثخن فوقع بين القتلى مثخناً ، فسمعهم يقولون : قُتل الحسين فوجد إفاقة فإذا معه سكين - وقد أُخذ سيفه - فقاتلهم بسكينه ساعة ثم إنه قتل، قتله : عروة بن بطار التغلبي وزيد بن رقاد الجنبي وكان آخر قتيل .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال : انتهيت إلى علي بن الحسين بن علي الأصغر وهو منبسط على فراش له وهو مريض ، وإذا شمر بن ذي الجوشن في رجالة معه يقولون : ألا نقتل هذا ؟ قال : فقلت : سبحان الله أنقتل الصبيان إنما هذا صبي ! قال : فما زال ذلك دأبي أدفع عنه كل من جاء حتى جاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يدخلن بيت هؤلاء النسوة أحد ولا يعرضن لهذا الغلام المريض ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم .
قال : فوالله ما رد أحد شيئا .
قال : فقال علي بن الحسين : جُزيت من رجل خيراً ، فوالله لقد دفع الله عني بمقالتك شراً .
قال : فقال الناس لسنان بن أنس : قتلت حسين بن علي وابن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ! قتلت أعظم العرب خطراً ! جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم ، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم ، لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلاً . فأقبل على فرسه وكان شجاعا شاعرا وكانت به لوثة فأقبل حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد ثم نادى بأعلى صوته :
أوقر ركابي فضة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فقال عمر بن سعد : أشهد إنك لمجنون ما صححت قط ، أَدْخِلُوُه عليَّ . فلما أدخل ،حذفه بالقضيب ثم قال يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام أما والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك .
قال : وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان - وكان مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبية وهي أم سكينة بنت الحسين- فقال له : ما أنت ؟ قال : أنا عبد مملوك . فخلي سبيله ، فلم ينج منهم أحد غيره ، إلا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كان قد نثر نبله وجثا على ركبتيه فقاتل فجاءه نفر من قومه فقالوا له : أنت آمن أخرج إلينا . فخرج إليهم فلما قدم بهم عمر بن سعد على ابن زياد وأخبره خبره سَيَّرَهُ إلى " الزارة " .
قال : ثم إن عمر بن سعد نادى في أصحابه : من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه فانتدب عشرة ، منهم : إسحاق بن حيوة الحضرمي - وهو الذي سلب قميص الحسين ، فبرص بعد - وأحبش بن مرثد بن علقمة بن سلامة الحضرمي ، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره ، فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذلك بزمان أتاه سهم غرب وهو واقف في قتال ففلق قلبه فمات .
قال: فقتل من أصحاب الحسين عليه السلام : اثنان وسبعون رجلا ، ودَفَنَ الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعدما قُتلوا بيوم وقتل من اصحاب عمر بن سعد : ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى ، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم .
قال : وما هو إلا أن قتل الحسين فسُرح برأسه من يومه ذلك مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد ، فأقبل به خولي فأراد القصر ، فوجد باب القصر مغلقا ، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة في منزله ، وله امرأتان امرأة من بني أسد ، والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية .
قال هشام : فحدثني أبي ، عن النوار بنت مالك ، قالت : أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت إجانة في الدار ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه ، فقلت له : ما الخبر ؟ ما عندك ؟ قال : جئتُكِ بغنى الدهر ، هذا رأس الحسين معك في الدار . قالت : فقلت : ويلك جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدا . قالت : فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه وجلستُ أنظر . قالت : فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة ، ورأيت طيرا بيضاً ترفرف حولها.
قال : فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد ، وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد ، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة ، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان وعلي بن الحسين مريض .
قال أبو مخنف : فحدثني أبو زهير العبسي عن قرة بن قيس التميمي قال : نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن . قال فاعترضتهن على فرس ، فما رأيت منظرا من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهم ذلك اليوم والله لهن أحسن من مها يبرين .
قال : فما نسيت من الأشياء لا أنس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهي تقول : يا محمداه ! يا محمداه ! صلى عليك ملائكة السماء ، هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء مقطع الأعضاء يا محمداه ! وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليها الصبا .
قال : فأبكت والله كل عدو وصديق . قال وقطف ورؤوس الباقين فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس ، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيدالله بن زياد .
قال أبو مخنف : حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم ، قال : دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته ، فأقبلت حتى أتيت أهله فأعلمتهم ذلك ، ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس وأجد الوفد قد قدموا عليه فأدخلهم وأذن للناس فدخلت فيمن دخل فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة ، فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له : اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه و سلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.
قال : فنهض فخرج ، فلما خرج سمعت الناس يقولون : والله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله . قال : فقلت : ما قال ؟ قالوا : مر بنا وهو يقول : ملك عبد عبدا فاتخذهم تلدا ( )، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم ، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم ، فرضيتم بالذل فبعدا لمن رضي بالذل .
قال : فلما دخل برأس حسين وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها ، فلما دخلت جلست ، فقال عبيد الله بن زياد : من هذه الجالسة ؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثا ،كل ذلك لا تكلمه ، فقال بعض إمائها : هذه زينب ابنة فاطمة قال : فقال لها عبيد الله : الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم . فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه و سلم وطهرنا تطهيرا لا كما تقول أنت ، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر. قال : فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟ قالت : كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتخاصمون عنده .
قال : فغضب ابن زياد واستشاط. قال : فقال له عمرو بن حريث : أصلح الله الأمير إنما هي امرأة وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها ؟ إنها لا تؤاخذ بقول ولا تلام على خطل . فقال لها ابن زياد :قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك .
قال : فبكت ، ثم قالت : لعمري لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت . فقال لها عبيد الله : هذه شجاعة ، قد لعمري كان أبوك شاعرا شجاعا . قالت : ما للمرأة والشجاعة إن لي عن الشجاعة لشغلا ولكن نفثي ما أقول .
قال أبو مخنف : عن المجالد بن سعيد : إن عبيد الله بن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين ، قال لشرطي : انظر هل أدرك ما يدرك الرجال ؟ فكشط إزاره عنه فقال : نعم . قال : انطلقوا به فاضربوا عنقه . فقال له علي : إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن . فقال له ابن زياد : تعال أنت ، فبعثه معهن .
قال أبو مخنف : وأما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين فقال له : ما اسمك ؟ قال : أنا علي بن الحسين . قال : أولم يقتل الله علي بن الحسين ؟ فسكت . فقال له ابن زياد : مالك لا تتكلم ؟ قال : قد كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتله الناس . قال : إن الله قد قتله ، قال : فسكت علي ، فقال له : مالك لا تتكلم ؟ قال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها }{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } ، قال : أنت والله منهم ، ويحك انظروا هل أدرك والله إني لأحسبه رجلا .
قال : فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال : نعم قد أدرك ، فقال : اقتله ، فقال علي بن الحسين : من تُوكِل بهؤلاء النسوة ؟ وتعلقت به زينب عمته ، فقالت : يا ابن زياد حسبك منا ، أما رويت من دمائنا ، وهل أبقيت منا أحدا ؟
قال: فاعتنقته فقالت : اسألك بالله - إن كنت مؤمنا ( )- إن قتلته لما قتلتني معه .
قال : وناداه علي فقال : يا ابن زياد إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام .
قال : فنظر إليها ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: عجبا للرحم والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه ، دعوا الغلام ، انطلق مع نسائك .
قال حميد بن مسلم : لما دخل عبيد الله القصر ودخل الناس نودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس في المسجد الأعظم فصعد المنبر ابن زياد فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه ، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته ، فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حتى وثب إليه عبدالله بن عفيف الأزدي ثم الغامدي ثم أحد بني والبة - وكان من شيعة علي كرم الله وجهه، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كان يوم صفين ضُرِب على رأسه ضربة وأخرى على حاجبه فذهبت عينه الأخرى ، فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف – قال : فلما سمع مقالة ابن زياد قال : يا ابن مرجانة ، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه ، يا ابن مرجانة : أتقتلون أبناء النبيين وتكلمون بكلام الصديقين ! فقال ابن زياد : عليّ به . قال : فوثبت عليه الجلاوزة ، فأخذوه . قال : فنادى بشعار الأزد : " يا مبرور" . قال : وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس ، فقال : ويح غيرك ، أهلكت نفسك وأهلكت قومك . قال : وحاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل . قال : فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه ، فأتوا به أهله . فأرسل إليه من أتاه به ، فقتله وأمر بصلبه في السبخة ، فصلب هنالك .
قال أبو مخنف : ثم إن عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة فجعل يدار به في الكوفة ، ثم دعا زحر بن قيس فسرح معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية وكان مع زحر : أبو بردة بن عوف الأزدي ، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي ، فخرجوا حتى قدموا بها الشأم على يزيد بن معاوية .
قال هشام فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي عن أبيه عن الغاز بن ربيعة الجرشي- من حمير- قال : والله إنا لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية فقال له يزيد : ويلك ما وراءك وما عندك ؟ فقال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ، وَرَدَ علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته ، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال على الاستسلام ، فعدونا عليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية ، حتى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم[فجعلوا( )] يهربون إلى غير [مهرب ولا ( )]وزر ، ويلوذون منا بالآكام والحفر لواذاً كما لاذ الحمائم من صقر ، فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم ، فهاتيك أجسادهم مجردة وثيابهم مزملة ، وخدودهم معفرة ، تصهرهم الشمس وتسفى عليهم الريح ، زوارهم العقبان والرخم ، بقي سبسب( ) .
قال : فدمعت عين يزيد وقال : قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين .
ولم يصله بشيء( )
قال : ثم إن عبيد الله أمر بنساء الحسين وصبيانه فجُهزن ، وأمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن ، فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد ، فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا ، فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفز بن ثعلبة صوته فقال: هذا محفز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة .
قال : فأجابه يزيد بن معاوية : ما ولدت أم محفز شرٌ وألأم .
قال أبو مخنف : حدثني الصقعب بن زهير عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية قال : لما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد ، رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه قال يزيد :
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما ( )...
أما والله يا حسين لو أنا صاحبك ما قتلتك .
قال أبو مخنف : حدثني أبو جعفر العبسي عن أبي عمارة العبسي قال: فقال يحيى بن الحكم - أخو مروان بن الحكم- :
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رسول الله ليس لها نسل !
قال : فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم وقال : اسكت.
قال : ولما جلس يزيد بن معاوية دعا أشراف أهل الشأم فأجلسهم حوله ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه فأُدخلوا عليه والناس ينظرون فقال يزيد لعلي : يا علي : أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت . قال : فقال علي : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } ، فقال يزيد لابنه خالد : اردد عليه .
قال : فما درى خالد ما يرد عليه . فقال له يزيد : قل : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }، ثم سكت عنه .
قال : ثم دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه فرأى هيئة قبيحة ، فقال : قبح الله ابن مرجانة ، لو كانت بينه وبينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم هكذا .
قال أبو مخنف عن الحارث بن كعب عن فاطمة بنت علي : قالت لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق لنا وأمر لنا بشيء ، وألطفنا .
قالت : ثم إن رجلا من أهل الشأم أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه - يعنيني وكنت جارية وضيئة - فأرعدت وفرقت وظننت أن ذلك جائز لهم وأخذت بثياب أختي زينب . قالت : وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل وكانت تعلم أن ذلك لا يكون ، فقالت : كذبت والله ولؤمت ، ما ذلك لك وله . فغضب يزيد فقال : كذبت والله إن ذلك لي ، ولو شئت أن أفعله لفعلت . قالت : كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا .
قالت : فغضب زيد واستطار ثم قال : إياي تستقبلين بهذا ، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك .
فقالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك .
قال : كذبت يا عدوة الله .
قالت: أنت أمير مسلط ، تشتم ظالما ، وتقهر بسلطانك .
قالت: فوالله لكأنه استحيا ، فسكت . ثم عاد الشامي فقال يا أمير المؤمنين : هب لي هذه الجارية . قال : اعزب وَهَبَ الله لك حتفاً قاضياً .
قالت : ثم قال يزيد بن معاوية : يا نعمان بن بشير ، جهزهم بما يصلحهم وابعث معهم رجلا من أهل الشأم أمينا صالحا ، وابعث معه خيلا وأعوانا فيسير بهم إلى المدينة .
ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة معهن ما يصلحهن ، وأخوهن معهن علي بن الحسين في الدار التي هن فيها ، قال : فخرجن حتى دخلن دار يزيد ، فلم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين ، فأقاموا عليه المناحة ثلاثاً ، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين إليه ، قال : فدعاه ذات يوم ودعا عمر بن الحسن بن علي وهو غلام صغير ، فقال لعمر بن الحسن : أتقاتل هذا الفتى - يعني خالدا ابنه – ، قال : لا ، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا ثم أقاتله ، فقال له يزيد : وأخذه فضمه إليه ثم قال شنشنة أعرفها من أخزم( ) ، هل تلد الحية إلا حية !
قال : ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يزيد علي بن الحسين ، ثم قال : لعن الله ابن مرجانة أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إياه ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ، ولكن الله قضى ما رأيت ،كاتِبْنِي بكل حاجة تكون لك .
قال : وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول ، قال : فخرج بهم وكان يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حيث لا يفوتون طرفه ، فإذا نزلوا تنحى عنهم ، وتفرق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم ، وينزل منهم بحيث إذا اراد إنسانٌ منهم وضوءاً أو قضاء حاجة لم يحتشم ، فلم يزل ينازلهم في الطريق هكذا ويسألهم عن حوائجهم ويلطفهم حتى دخلوا المدينة .
وقال الحارث بن كعب : فقالت لي فاطمة بنت علي : قلت لأختي زينب : يا أخية لقد أحسن هذا الرجل الشأمي إلينا في صحبتنا فهل لك أن نصله ؟ فقالت : والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا ، قالت : لها فنعطيه حلينا ، قالت : فأخذت سواري ودملجي وأخذت أختي سوارها ودملجها فبعثنا بذلك إليه ، واعتذرنا إليه وقلنا له : هذا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل .قال : فقال : لو كان الذي صنعت إنما هو للدنيا كان في حليكن ما يرضيني ودونه ، ولكن والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال هشام : وأما عوانة بن الحكم الكلبي فإنه قال : لما قتل الحسين وجيء بالأثقال والأسارى ، حتى وردوا بهم الكوفة إلى عبيد الله ، فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط ، وفي الكتاب : خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية وهو سائر كذا وكذا يوما وراجع في كذا وكذا ، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل ، وإن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إن شاء الله ، قال : فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي في السجن ، ومعه كتاب مربوط وموسى ، وفي الكتاب أوصوا واعهدوا ، فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا فجاء البريد ولم يسمع التكبير ، وجاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي ، قال فدعا عبيد الله بن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن ، فقال : انطلقوا بالثقل والرأس إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، قال : فخرجوا حتى قدموا على يزيد فقام محفز بن ثعلبة ، فنادى بأعلى صوته :جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم ، فقال يزيد : ما ولدت أم محفز ألأم وأحمق [منه] ، ولكنه قاطع ظالم .
قال : فلما نظر يزيد إلى رأس الحسين قال : ... يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما ... ، ثم قال : " أتدرون من أين أُتي هذا ! قال َ أبي علي خير من أبيه ، وأمي فاطمة خير من أمه ، وجدي رسول الله خير من جده ، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه ؛ فأما قوله : أبوه خير من أبي فقد حاجّ أبي أباه وعلم الناس أيهما حُكِم له ، وأما قوله : أمي خير من أمه فلعمري فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم خير من أمي ، وأما قوله جدي خير من جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا ، ولكنه إنما أُ تي من قبل فقهه ، ولم يقرأ {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ... " ثم أدخل نساء الحسين على يزيد ، فصاح نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن ، ثم إنهن أدخلن على يزيد فقالت فاطمة بنت الحسين - وكانت أكبر من سكينة - أَبَنَاتُ رسول الله سبايا يا يزيد ؟ ، فقال يزيد : يا ابنة أخي أنا لهذا كنت أكره ، قالت : والله ما ترك لنا خرص ، قال : يا ابنة أخي ما آتَ إليكِ أعظم مما أخذ منكِ ( ). ثم أخرجن فأدخلن دار يزيد بن معاوية فلم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهن ، وأقمن المأتم ، وأرسل يزيد إلى كل امرأة ماذا أُخذ لك ، وليس منهن امرأة تدعي شيئا بالغاً ما بلغ إلا قد أضعفه لها ، فكانت سكينة تقول : ما رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد بن معاوية ، ثم أدخل الأسارى إليه وفيهم علي بن الحسين ، فقال له يزيد : إيه يا علي ! فقال علي : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } فقال يزيد : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير } ثم جهزه وأعطاه مالا وسرحه إلى المدينة .
قال هشام : عن أبي مخنف قال : حدثني أبو حمزة الثمالي عن عبدالله الثمالي عن القاسم بن بخيت قال : لما أقبل وفد أهل الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق ، فقال لهم مروان بن الحكم : كيف صنعتم ؟ قالوا ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا ، فأتينا والله على آخرهم وهذه الرؤوس والسبايا . فوثب مروان ، فانصرف وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال : ما صنعتم ؟ فأعادوا عليه الكلام ، فقال : حجبتم عن محمد يوم القيامة لن أجامعكم على أمر أبدا ، ثم قام فانصرف ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه الحديث ، قال : فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، -وكانت تحت يزيد بن معاوية - فتقنعت بثوبها وخرجت ، فقالت : يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ؟ قال نعم ، فأعولي عليه وحدّي على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وصريحةُ قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله ، قتله الله . ثم أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه ، ومع يزيد قضيب فهو ينكت به في ثغره ، ثم قال : إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري : ... يفلقن هاما من رجال أحبة ... إلينا وهم كانوا أعق وأظلما ... ، قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقال له أبو برزة الأسلمي : أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يرشفه ، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد صلى الله عليه و سلم شفيعه ، ثم قام فولى ( ).
قال هشام : حدثني عوانة بن الحكم ( ) قال : لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي وجيء برأسه إليه ، دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال : انطلق حتى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص ، فبشره بقتل الحسين ، وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ ، قال : فذهب ليعتل به فزجره ، وكان عبيد الله لا يصطلى بناره ، فقال : انطلق حتى تأتي المدينة ولا يسبقك الخبر وأعطاه دنانير وقال : لا تعتل وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة ، قال عبد الملك : فقدمت المدينة فلقيني رجل من قريش فقال : ما الخبر ؟ فقلت : الخبر عند الأمير ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون قُتل الحسين بن علي ، فدخلت على عمرو بن سعيد ، فقال : ما وراءك ؟ فقلت : ما سَرَّ الأمير . قُتل الحسين بن علي . فقال : ناد بقتله ، فناديت بقتله ، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية نساء بن هاشم في دورهن على الحسين ، فقال عمرو بن سعيد - وضحك - :عجت نساء بني زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب ؛ والأرنب وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب من رهط عبد المدان ، وهذا البيت لعمرو بن معد يكرب ، ثم قال عمرو : هذه واعية بواعية عثمان بن عفان ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله .
قال هشام عن أبي مخنف ، عن سليمان بن أبي راشد ، عن ( عبد الرحمن بن عبيد : أبي الكنود ) ( ) قال : لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين دخل عليه بعض مواليه ، والناس يعزونه - قال : ولا أظن مولاه ذلك إلا أبا اللسلاس - فقال : هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين .
قال : فحذفه عبدالله بن جعفر بنعله ثم قال : يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا ! والله لو شهدته لأحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه ، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما ، ويهون علي المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه .
ثم أقبل على جلسائه فقال : الحمد لله عز و جل على مصرع الحسين إلا تكن آست حسينا يدي فقد آساه ولديّ .
قال : ولما أتى أهل المدينة مقتل الحسين خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وهي حاسرة تلوي بثوبها وهي تقول :
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
قال هشام ، عن عوانة قال : قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد بعد قتله الحسين : يا عمر أين الكتاب الذي كتبت به إليك في قتل الحسين ! قال مضيت لأمرك وضاع الكتاب . قال : لتجيئن به . قال : ضاع . قال : والله لتجيئني به . قال : تُرِك والله يقرأ على عجائز قريش اعتذارا إليهن بالمدينة . أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقاص كنتُ قد أديت حقه . قال عثمان بن زياد -أخو عبيد الله - : صدق والله لوددت أنه ليس من بني زياد رجلا إلا وفي أنفه خزامة ( )إلى يوم القيامة وأن حسينا لم يقتل .
قال : فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله .
هذه نهاية كلام الطبري في " تاريخ الأمم والملوك " والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات ..
ورقّمه ، ودققه وخرج رواياته وحققها: جمال بن موسى بن اسماعيل بن علي بن محمد ، الهريني
أسماء الأعلام (رواة الأخبار والحوادث) المُترجم لهم في هذا العمل
1. أبو الكنود : عبد الله بن عامر ، أو : ابن عوف ، أو ابن عويمر الأزدي ، أو ابن عمران .
2. أحمد بن جناب بن المغيرة المصيصي ، أبو الوليد الحدثي .
3. أسماء بن خارجة الفزاري
4. جبر بن نوف أبو الوداك البكيلي الكوفي
5. الحارث بن كعب الأزدي الكوفي
6. حبيب بن مظاهر النقعسي الأسدي
7. حجاج بن علي ، روى عن : عبد الله بن عمار بن يغوث ، عن علي
8. حجار بن أبجر بن جابر العجلي البكري .
9. الحسن بن عقبة أبو كيران المرادي ، كوفي .
10. حميد بن مسلم الدمشقي القرشى .
11. خالد بن يزيد بن أسد البجلى القسري .
12. رفاعة بن شداد بن عبد الله بن قيس أبو عاصم الكوفي .
13. زكريا بن يحيى بن أيوب المدائني الضرير .
14. سعيد بن أبى سعيد : كيسان المقبري .
15. سليمان بن أبي راشد
16. سليمان بن صرد ، يكنى أبا مطرف
17. شبث بن ربعي التميمي اليربوعي ، أبو عبد القدوس الكوفي
18. الصقعب بن زهير بن عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي ، الكوفي
19. عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي الكوفي ، أبو محمد .
20. عبد الرحمن بن جندب ، يروى عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله ، روى عنه محمد بن إسحاق
21. عبد الرحمن بن جندب العبدي من بني الدئل بن عمرو بن ربيعة .. : صحابي
22. عبد الرحمن بن جندب[الفزاري] روى عن كميل بن زياد ، و روى عنه أبو حمزة الثمالي
23. عبد الرحمن بن عبد الله بن الكدر الأرحبي .
24. عبد الرحمن بن عبيد الأرحبي .
25. عبد الرحمن بن قيس الارحبي .
26. عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس الكندي الكوفي .
27. عبد الرحمن بن مل بن عَمْرو ، أبو عثمان النهدي الكوفي .
28. عبد الله بن سبع ، و يقال ابن سبيع .
29. عبد الله بن وال التيمي .
30. عزرة بن قيس بن غزية الأحمسي البجلي .
31. عطاء بن السائب الثقفي الكوفي .
32. عقبة بن سمعان ، مولى الرباب بنت امرئ القيس، الكلبية، أم سكينة بنت الحسين : لم أجد له ترجمة .
33. عمار الدهني
34. عمارة بن عبد السلولي
35. عمارة بن عقبة بن أبي معيط
36. عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد بن رائطة النميري ، أبو زيد بن أبي معاذ البصري النحوي الإخباري
37. عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المخزومي ، المدني
38. عمرو بن الحجاج الزبيدي
39. عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص
40. عمرو بن على بن بحر بن كنيز ، أبو حفص الفلاس الصيرفى الباهلى البصرى
41. عوانة بن الحكم ابن عياض بن وزر الكلبي، العلامة الاخباري، أبو الحكم الكوفي الضرير،
42. عون بن أبي جحيفة ، واسمه وهب بن عبد الله السوائي الكوفي
43. عيزار بن حريث العبدي الكوفي ،
44. عيسى بن يزيد بن بكر بن داب الليثي المدني
45. قيس بن مسهر الصيداوي .
46. لوط بن يحيى ، أبو مخنف .
47. مجالد بن سعيد الهمداني
48. محمد بن الاشعث بن قيس الكندي ، أبو القاسم الكوفي.
49. محمد بن بشر
50. محمد بن على بن الحسين ، أبو جعفر الباقر ،
51. هانئ بن عروة بن الفضفاض بن نمران بن عمرو بن قماس بن عبد يغوث المرادي ثم الغطيفي
52. محمد بن نشر الهمداني الكوفي ،
53. مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية
54. المعلى بن كليب .
55. نمير بن وعلة .
56. هارون بن مسلم : بصري .
57. هارون بن مسلم بن هرمز صاحب الحناء العجلي أبو الحسين ، بصري أيضا.
58. هانئ بن هانئ الهمداني
59. هشام بن محمد بن السائب الكلبي .
60. الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب .
61. يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني ؛ وليس هو الصحابي. وليس العبدي ، ولا التغلبي .
62. يوسف بن يزيد البصرى ، أبو معشر البراء