المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أيها الدعاة .. حتى لا تموت الهمم .



أهــل الحـديث
28-05-2014, 10:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





أيها الدعاة .. حتى لا تموت الهمم

د.محمد الخضيري .

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقبل الدخول إلى تفاصيل الموضوع أشير إلى مقدمات هامَّة يجب ألا تغيب عن ذهن المسلم فضلاً عن طالب العلم ومن هيأ نفسه للدعوة إلى الله.
أولاً: أن المسؤولية فردية في الحياة وفي القبر وفي الآخرة قال الله تعالى: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة : 281] وقال: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [آل عمران : 30] .
وقال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم : 93 ).

ثانياً: لا بُدَّ من الشعور بالفرح والاصطفاء، فأعظم النعمِ نعمةُ الإيمان. فالإيمان نورٌ وهدايةٌ، قال تعالى : (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر : 22] وقال تعالى : (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة : 257] فمن حُرم الهداية فهو في ظلماتٍ بعضها فوق بعض (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور : 40]

ثالثاً: أنَّ المبلِغ عن الله قائمٌ مقام الأنبياء وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلم.
ومهمة الأنبياء الدعوة إلى الله تعالى (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأنعام : 48] وقال (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) [النحل : 82]
رابعاً: ما المبتغى يا طالب الحق ومريد الخير؟ و إلى أين المسير؟ وما المقصِد؟
هل هو محبة الثناء؟ أو التكاثر بالعلم أو صرف وجوه الناس إليك؟ ... إذاً النار النار
ففي صحيح البخاريِّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال له قائل من أهل الشام: أيها الشيخ حدثنا حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدتُّ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبتَ، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل! ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجلٌ وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل! ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار".

قال تعالى: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : 57] .

وللمحافظة على روح الهمَّة وبقائها حيةً في النفوس لا بد من:
1- الاستقامة على دين الله ظاهراً وباطناً، وأخذ الدين بالكليَّة، و إلا فكيف يسعى للإصلاح من شَغَل نفسَه بانتهاك حدود الله تبارك وتعالى، وضيعّ أوامر الله وفرائضه؟!
2- دعوة الناس إلى لزوم الاستقامة، وتعبيدهم لرب العالمين.
وإن المتأمِّلَ لأحوال الشباب الصالحين ومن هم في ركاب الدعوة يجدهم قسمين:
القسم الأول: قسم نشأ حديثاً وتربى إما على خطاب الدعوة العامَّة، أو مناهج تربوية خاصة، يعيش معظمهم ازدواجيَّة في التلقين والتطبيق، فهو يسمع أكثر مما يرى، ويعد أكثر مما يحقق، فهو يعيش صراعاً داخلياً وتتجاذبه منازع شتى.
فتجده يحب الأصالة، ويرنو إلى الماضي، ويتفاعل مع الأحاديث والدروس التربوية ذات الطابع التشويقي والحماسي، وإذا التفتَ إلى الدنيا ومدَّ عينيه ورأى أقرانه وأترابه على حال ليس هو عليها= أصيب بالفتور والضعف؛ خاصَّةً إذا قلَّ تعاهده ورعايته .

وهذا الصنف هم في رقاب كلِّ متأهل للدعوة من معلم أو غيره، فحقُّهم علينا أن يروا فينا قدواتٍ صالحةً متميزةً، وأن يجدوا الرعاية والمتابعة؛ لأنهم هم جمهور الصحوة والدعوة وهم سوادُها الأعظم، وقاعدتها الأولى، وهم خطوطٌ ثانية لمن قبلهم، وأُولى لمن بعدهم، فإن سقطت هذه الطبقة فمن سيكون حلقةَ وصلٍ بين الداعية الحالي وبين الجيل الثالث الذي هو على أبواب المراهقة ينتظره كلُّ جديدٍ ومُغرٍ، وهم خاماتٌ جديدة وصُحُفٌ بيضاء.

ومما يجب التأكيد عليه ومداومة استشعاره= حُسن العمل، وإخلاص القصد. والشيطانُ كثيرًا ما يغرُّ ويلبِّسُ على كثيرٍ من الصالحين، فيجعله يرائي بنيةٍ حسنة أي بنية أن يكون قدوةً، ولكنه لا يسلم من حظ النفس! وهذا مورد للتنازع يجب فيه محاسبة النفس والتجرد لله في ذلك. والمسلم مأمورٌ بأن يعمل الصالحات ويجاهد نفسه في إخلاص قصده لله عزوجل. وموضوع النيات موضوعٌ خطير ودقيق جداً، إذ هو أساس قبول الأعمال وردها، فهو أساس الفوز أو الخسران المبين، والجميع مُقرِّون بأن أمره شاق بل شاقٌ جداً كما قال سفيان الثوري: (ما عالجت شيئًا أشدَّ من نيتي؛ إنها تتقلب عليَّ)، وعن يوسف بن أسباط أنه قال: (تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد). و قد ُنقل عن بعض العلماء أنه قال: (وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك).

القسم الثاني : شبابٌ نشأوا على طلب العلم والتربية الإيمانية فكان لهم ماضٍ مجيد في مجالات الخير والاستقامة، وبعد أن شبوا وترعرعوا كانوا قسمين أيضًا:

القسم الأول : أخذوا بركاب من سبقهم ضربوا بسهام في الدعوة والتعليم والنشاط.
القسم الثاني : رضوا بما هم عليه من الحال والسلوك وترنحوا بين مقامين:
مقام الأماني لبلوغ مراتب أصحابهم، ومقام ملاحظة الحظوظ والعوائد والرجوع إلى المال والولد والزوجة واللذات بأنواعها ونسوا حظا مما ذكروا به وضعفت همهم بل احتضرت.
وإنَّ المراقب الناقد لصفات الأجيال الدعوية المتعاقبة يلحظ نوعًا من الهبوط في مستوى الالتزام بدقائق الأخلاق الإيمانية والدعوية؛ إذ ليسَ اللاحق على مثل جودة السابق مع احتمال أن يكون أقوى منه فكريًا وعلميًا.

أبرز مظاهر ضعف الهمم:

1- ضعف الايمان وضعف تزكية القلب، فصاحب الهمة المتدنِّية لا يحرص على تقوية إيمانه وزكاة قلبه ولا يهتم بنفسه فيقوم عليها بعبودية المجاهدة والمحاسبة. فهو يفعل الفرائض ويكتفي بها على نقصٍ في ذلك، وربما زيَّن له الشيطان هذا الاكتفاء، وأقعده عن غيره بحجة أنَّ الواجب هو فعل الفرائض، وما علم المسكين أن الشيطان لن يتركه على هذا المستوى بل سيطوّف به تارة أخرى، ولهذا تجد بعض هؤلاء إن لم يتداركه الله برحمته واقعاً في كبائر الذنوب، بحجة أنّه لم يقترف الكفر بالله، وأنه لا يزال من عباد الله المسلمين وهذا من أبرز مظاهر ضعف الايمان يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) .[1][1]
وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2364 . وفي رواية (مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة يقلبها الريح ظهراً لبطن). أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح : ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني 1/102 .
وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً) المرجع السابق رقم 226 وإسناده صحيح: ظلال الجنة 1/102 . وفي رواية (أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً) رواه أحمد 6/4 وهو في صحيح الجامع رقم 5147.
والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) رواه مسلم رقم 2654.

2- ضعف الهمة في العبادة: فالعبد الصالح تمر عليه لحظات الاستقامة الأولى يتذوق نعيمها ويستنشق عبيرها وكأنه في الجنة لشدة تعلقه بالله تبارك وتعالى، ومع كثرة أعماله الصالحة إلا أنه مع ذلك خائف من عذاب الله تبارك وتعالى، كمن قال الله تعالى فيهم (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون : 60 ) ولكن ما إن تزول هذه المرحلة عند البعض حتى تخبو تلك الجذوة، وتخمد تلك الروح، وتبحث عن صاحبها ثم تجده يقضي الصلاة في مؤخرة الصفوف أو يصلي في البيت بعد أن كان لا تفوته تكبيرة الإحرام! كان في السابق له حظٌ من الليل يناجي فيه الله تبارك وتعالى، والآن لا يعرف من الليل إلا الخلود للراحة والنوم، في السابق كان محافظاً على صيام التطوع (الاثنين – الخميس – الأيام البيض – صوم يوم وإفطار يوم ...) والآن لا يصوم سوى المكتوب، وهكذا حاله في سائر أنواع العبادات.
قال صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شِرّة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك) [4] . قال ابن القيم (رحمه الله): (تخلل الفترات للسالكين أمرٌ لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رُجي له أن يعود خيراً مما كان) [5].

والفتور أمرٌ لا بد منه، ولكن الفتور درجات وأقسام:

1- أخطرها كسل وفتور عام في جميع الطاعات، مع كُرهٍ لها، وهذه حال المنافقين.
2- كسل وفتور في بعض الطاعات، مع عدم رغبة، دون كُرهٍ لها، وهذه حال كثير من المسلمين.
3- كسلٌ وفتور سببه بدني، فهناك الرغبة في العبادة، ولكن الكسل والفتور مستمر، وهذه حال كثير من المسلمين. والخطير في هذه الحالة أن العمر يمضي، والأيام تنصرم دون إنتاج ولا عمل يذكر، والأخطر من ذلك: الانتقال إلى حالة أشد منها، فتعظم المصيبة، أو يقع الشبه بالمنافقين في التكاسل عن الطاعات، والتثاقل عن الخيرات؛ لذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من العجز، ومن الكسل في الصباح والمساء، ويعلم أصحابه أن يستعيذوا منه. وقد عاتب الله المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، ودعاهم إلى المسارعة والمبادرة إلى الخيرات، ورغبهم في جزاء السابقين المسارعين إلى الخيرات.

والفتور والكسل داءٌ يدب في الناس على مختلف درجاتهم، وأخطر ما يكون على الدعاة وطلبة العلم مما يجعل تفاديه قبل حلوله، أو تلافيه بعد نزوله أمراً ضروريّاً. والدفع أسهل من الرفع.
ومن هنا: وجب تعاهد النفس؛ لئلا تقع في فتور ينقلها من مرحلة إلى مرحلة، فيتعسر الداء، وتصعب المعالجة؛ لأن أمراض النفس كالنبتة، أسهل ما يكون قلعها وإزالتها أول نباتها، فإذا ما تركت أخذت في النمو والكبر والثبات في الأرض ، حتى يحتاج قلعها إلى الرجال والفؤوس، وكذلك أمراض القلوب: تبدأ في ظواهر يسيرة، فإذا أهمل صاحبها علاجها تمكنت منه حتى تكون هيئات راسخة، وطباع ثابتة.

3- ضعف الهمة في طلب العلم الشرعي: فتجد المرء قد كان من أوائل من يبكر للدروس والحلق ولا يفوته شيء، وسرعان ما تتلاشى هذه الهمة في طلب العلم بأي عائق من العوائق فالبعض يتوقف عن الطلب بسبب الزواج، والآخر بسبب الانشغال بالدنيا الفانية، والثالث بسبب أنه لم يجد الثمرة العاجلة!
ومن أهم ما يعالَج به داء ضعف الهمة في طلب العلم: القراءة في سير السلف الصالح – رحمهم الله – قال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ يعني: ومعك المحبرة تحملها؟! فقال: (مع المحبرة إلى المقبرة) [1][2]. وقال محمد بن إسماعيل الصائغ: (كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمر بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال: إلى الموت)[1][3]. وقال الحافظ ابن كثير عن أمير المؤمنين في الحديث (الإمام البخاري): (وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة) [1][4]. وهذا الحافظ محمد بن فتوح الحميدي الأندلسي: كان ينسخ بالليل في الحرّ، فكان يجلس في إجّانة ماء وهي إناء يغسل فيه الثياب يتبرد به [1][5]. وذكر عمرُ بن حفص الإمامَ البخاري، فقال: إنهم فقدوا البخاري أياماً من كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه، فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما عنده، ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث [1][6]. وهذا إمام الشافعية في زمانه أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب) في الفقه الشافعي، الذي أشبعه العلماء شرحاً وتحقيقاً وتخريجاً، كان لا يملك شيئاً من الدنيا، فبلغ به الفقر مبلغه، حتى كان لا يجد قوتاً ولا ملبساً، ولقد كان يأتيه طلبة العلم في سكنه، فيقوم لهم نصف قومة، ليس يعتدل قائماً من العري، كي لا يظهر منه شيء! [1][7]. وهذا الإمام الواعظ ابن الجوزي يقول عن نفسه: (ولم أقنع بفن واحد، بل كنت أسمع الفقه والحديث، وأَتْبَعُ الزهاد، ثم قرأت اللغة، ولم أترك أحداً ممن يروي ويعظ، ولا غريباً يَقْدُم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نَفَسي من العدو لئلا أُسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل، وأُمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح).

وكذلك مما يعين على علاج هذا الداء الخطير: أن يعلم المرء أنه قد تحملّ أمانة التبليغ التي لا تتم إلا بالعلم المؤصَّل. وأنّ الله لا يقبض العلم إلا بموت العلماء كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ).

4- ضعف الهمة في الدعوة إلى الله: فتجده في السابق حريصاً على الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بكل الوسائل والأساليب التي يستطيعها والتي هي في مقدوره، أما الآن فلا تجد له همساً.
ومما يعين على التخلص من هذا الداء أن تعلم أنّ الله ليس بحاجة إلى دعوتك بل أنت أيها المسكين المحتاج العبد الفقير، قال تعالى: (هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد : 38 ).

وكذلك مما يعين على التخلص من ضعف الهمة في الدعوة: أن تعلم أنّ المنصّرين وأصحاب البدع والأهواء المضللة لم يتكاسلوا طرفة عين وأنت الذي معك المحجة البيضاء تتوانى وتتخاذل عن نصرة دينك؟! إنّ أشد ما يتعجب له المرء حرص أصحاب البدع وأصحاب الباطل على نجاح دعوتهم، فنراهم يجوبون البلاد طولاً وعرضاً لنشر بدعهم ومبادئهم، يقول أحد دعاتهم: (وددت أن لو ظهر هذا الأمر يوماً واحداً من أول النهار إلى آخره فلا آسف على الحياة بعده). وكذلك لا بدّ من التأمل في تضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ هذا الدين وما تحملّه من مشاق وما تكبده من الآم، وكذلك تبعه أصحابه الكرام – رضي الله عنهم أجمعين-.

5- ضعف الهمة في حفظ الوقت:
ففي السابق كان صاحبنا حريصاً كلّ الحرص على الثواني قبل الدقائق، قليل الخلطة بالناس إلا في تعلم أو تعليم، ممتثلاً قول القائل:

لقاء الناس ليس يفيدُ شيئاً سوى الإكثار من قيل وقالِ
فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ علمٍ ، أو إصلاح حالِ

أماّ الآن فلا يكترث بالأيام والأسابيع والشهور دون تعلم أو تعليم، أو إفادة من الوقت.
وعلاج ضعف الهمة في المحافظة على الوقت: أن تتأمل – رعاك الله – في سير السلف – رضوان الله عليهم – وتأمل أقوالهم ووصاياهم في هذا الباب ومن ذلك على سبيل التذكرة:
قال الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك".
وقال: "يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسِن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلتك". وقال: "الدنيا ثلاثة أيام؛ أما الأمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلّك لا تدركه، وأما اليوم فلك فاعمل فيه". وقال ابن مسعود: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".
وقال ابن القيم: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".
وقال السري بن المفلس: "إن اغتممت بما ينقص من مالك فابكِ على ما ينقص من عمرك".
وكذلك إذا عرف الإنسان قيمة شيء ما، وأهميته حرص عليه، وعزَّ عليه ضياعه وفواته، وهذا شيء بدهي، فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته، كان أكثر حرصاً على حفظه واغتنامه فيما يقربه من ربه، وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يبين هذه الحقيقة بقوله: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته".

ويقول ابن الجوزي: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل ".

ولقد عني القرآن والسنة بالوقت من نواحٍ شتى وبصور عديدة، فقد أقسم الله به في مطالع سور عديدة بأجزاء منه مثل الليل، والنهار، والفجر، والضحى، والعصر، كما في قوله تعالى: ( واللَّيْلِ إِذَا يَغْشى والنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى )، (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، ( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ ..)، (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِيْ خُسْر). ومعروف أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه دلَّ ذلك على أهميته وعظمته، وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفعته.

وجاءت السنة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتقرر أن الإنسان مسئول عنه يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل أن رسول الله r قال: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، و عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه" [رواه الترمذي وحسنه الألباني]. وأخبر النبيُّ r أن الوقت نعمة من نعم الله على خلقه ولا بد للعبد من شكر النعمة وإلا سُلبت وذهبت. وشكر نعمة الوقت يكون باستعمالها في الطاعات، واستثمارها في الباقيات الصالحات، يقول r: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ" [ رواه البخاري ].

والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد ، وعلى اله وصحبه وسلم تسلمياً مزيداً إلى يوم الدين .
كتبه
د. محمد بن عبد الله الخضيري
أستاذ العقيدة المساعد بجامعة القصيم
16 / 10 / 1427 هـ

[1] - أخرجه الحاكم في المستدرك برقم ( 5 ) والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1590 .
[2] - مناقب الإمام أحمد ، لابن الجوزي ، ص 31 .
[3] - مناقب الإمام أحمد ، ص 32 .
[4] - البداية والنهاية ، 11/25 2) تذكرة الحفاظ ، 4/1219 .
[5] - مقدمة المجموع للنووي ، 1/64 ، طبعة المطيعي .
[6] - طبقات الشافعية الكبرى ، للسبكي ، 3/90 .
[7] - من مقدمة (صيد الخاطر) ، ص 27 .