تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : إهدنا الصراط المستقيم



أهــل الحـديث
13-05-2014, 09:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ

هذا هو الدعاء الوحيد الذي أُمرنا بترديدة في كل ركعة وفي كل صلاة، وهو الدعاء الذي تضمنته وتدور حوله سورة الفاتحة التي هي أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم. وهو أنفع دعاء وأعظمه وأحكمه، لأن من هداه الله إلى صراطه المستقيم فقد دلّه وأعانه على العمل بطاعته وترك معصيته، وحصل له بذلك خيري الدنيا والآخرة وصرفت عنه الشرور فيهما، لأن الخير سببه الطاعة والشر سببه المعصية فمن هدي فقد نجى من جميع الشرور.

والهداية لغة الإرشاد والدلالة، وقد وردت في الكتاب العزيز على ثلاثة أوجه: هدى بنفسه كقوله تعالى: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ". وهدى باللام كقوله تعالى: "الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا"، وهدى بإلى كقوله تعالى: "وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ". وفي سورة الفاتحة جاءت من النوع الأول. وأحسب أن سبب ذلك للدلالة على أن الهداية هنا تتضمن معنى التوفيق، لأن الهداية في القرآن هدايتان، الأولى بمعنى الإرشاد كما في قوله تعالى: "وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" وهذه يصلح أن تكون مع إلى، والثانية بمعنى التوفيق وهذه تأتي بغير "إلى" كما في قوله تعالى: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء". فجاء الدعاء هنا ليشمل نوعي الهداية، أو أنواع الهداية عند من يضيف لها الهداية الفطرية التي وردت في قوله تعالى: "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"، والهداية يوم القيامة التي مر ذكرها آنفا.

وإضافة الفعل إلى ضمير الجمع للتذكير بحاجة العباد جميعا إلى الهداية حتى الأنبياء ولهذا داوم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على هذا الدعاء إلى آخر حياته. وربما دل ضمير الجمع إلى مسؤولية الفرد في هداية الناس، والتنبيه على الدعوة إلى الخير، وأن يشرك غيره في الخير الذي يصيبه وأعظم ذلك نعمة الهداية. وربما دل على أهمية أن يكون المرء في طائفة المهتدين وأن لاينفرد عنهم، وأن يعيش بينهم يصيبه خيرهم ويصيبهم خيره. وربما دل على التواضع لله وأن لاينفرد السائل بنفسه فكأنه يتوسل إلى الله بكثرة المحتاجين وقد جاز له ذلك لأنه انتظم مع غيره من السائلين، أو لغير ذلك من الحكم التي يعلمها الحكيم الخبير.

وفي التوجه إلى الله بطلب الهداية دليل على أن العبد لاسبيل له إلى الهداية إلا بتوفيق الله، فمن اعتمد على عقله وفكره ونسي ربه فلن يصل إلى الهداية مهما بلغت درجة ذكائه ومهما كان اجتهاده. وقد رأينا كثيراً من أذكياء العالم وفلاسفته بعيدين كل البعد عن الهداية ورأينا من بسطاء الناس من هم على طريق الخير والتوفيق. والإلحاح والمداومة على هذا الدعاء يدلان على أن الإنسان مهما أوتي من علم وتوفيق فقد يزل في أي لحظة، وينحرف عن الصراط المستقيم. فمن لم يثبته الله فلا ثبات له كائنا من كان، كما قال تعالى لرسوله: "وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً". فمن هدي الى الصراط المستقيم كان من أكثر الناس خوفاً على نفسه من الانحراف.

والصراط هو الطريق، والمستقيم هو الذي لاعوج فيه. وهذا يدل على أنه أقصر الطرق وأسهلها وأيسرها، وأن سائر الطرق فيها كلفة ومشقة. وهكذا ديننا دين سهل سمح، كما قال النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ" رواه البخاري. والتعريف فيه للدلالة على أن الصراط واحد لايتعدد، كما قال تعالى: "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ"، وأن كل شيء غيره فهو من السبل التي يدعو إليها شياطين الإنس والجن، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن، عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: "خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم خَطًّا، فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ تَلاَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ".
"
وعبارة "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" بدلٌ من عبارة "الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" وهذا البدل من الإِطناب البليغ، الذي لا يتوقفُ عليه أصل المعنى، لكنهُ ذو فائدة جليلة، وهي بيان أنَّ الصراط المستقيم هو صراط كلّ الذين أنعم الله عليهم في كل الأُمم السابقة واللاحقة سواءٌ أكانُوا من مرسلين أم من أتباعهم. وأن من خرج عن طريقتهم فقد انحرف عن جادة الصواب. وورود عبارة "الذين أنعمت عليهم" بعد "الصراط المستقيم" من باب التفسير بعد الابهام، وهو أشد وقعا في النفوس.

والذين أنعم الله عليهم فسرها قوله تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَآء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً". وهم الرفيق الأعلى الذين اختارهم النبي، صلى الله عليهم وسلم حين خُيّر بين الحياة والممات. والصديقون منهم أبو بكر، رضي الله عنه. وفي الآية إشارة إلى خلافته لأنه ذكر بعد النبيين مباشرة، والشهداء منهم عمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم. فمن لم يكن محباً لهم متبعا لهم بإحسان فهو من الضالين والمغضوب عليهم. وإضافة الصديقين والشهداء والصالحين إلى الأنبياء دليل على أن طريقتهم واحدة، ومنهجهم واحد. فمن فرق بينهم فقد عارض صريح القرآن.

وسؤال المؤمن ربه أن يجعله مع الذين أنعم عليهم يخرجه من دائرة التعصب الجاهلي للقبيلة أو القوم أو الجنس أو اللون أو البلد ويلحقه بأمة المهتدين من الأنبياء واتباعهم الذين تجمعهم الهداية. وإذا علم العبد أنه مع هذه الأمة المهتدية والتي تمتد من آدم، عليه السلام، إلى اليوم فقد تهون عليه مخالفة الجاهلين من قومه، وتخف عليه وطأة الغربة لأنه يعلم أنه يسير في طريق طرقه قبله الأخيار من العالمين. وفي سؤال الله أن يجعله من المهتدين لا مع المخالفين إشارة إلى موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين.

وتعدد أنواع المهتدين فيه إشارة إلى تكامل الأمة، وأن من غلب عليه جانب من الخير، كالعلم مثلاً، فعليه أن يتعاون مع من غلب عليه جانب القوة، ومن كان قويا بماله أو سلطانه تعاون مع الصالحين من الضعفاء وغيرهم، لأن النصر قد يكون بالضعفاء كما قال، صلى الله عليه وسلم.

ومن المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، كما قال عليه السلام: " اليَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضُلاّلٌ"، رواه الترمذي. لأن اليهود يعلمون ولايعملون، والنصارى يعملون بلاعلم. ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى". فمن تكلم بالدين والعلم ولم يقترن قوله بعمل فهو من المغضوب عليهم. ومن عبد الله بلا علم وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله فهو من الضالين. ومن أراد أن يتجنب طريقتهم فعليه أن يتعلم أولاً ثم يعمل ثانياً، كما قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح.

وإذا كانت أعظم الأمم التي سبقتنا بهذه المنزلة التعيسة، وهم أصحاب كتب، وبعث فيهم أعظم الأنبياء، فإن في ذلك تنبيه إلى المنتسبين لهذه الأمة من مواجهة ذات المصير. وفيه أن مجرد الانتساب إلى الأنبياء وادعاء اتباعهم لايغني شيئا مالم يكن اتباعا صحيحاً، كما قال تعالى: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ".

وعلى هذا فلا يمكن للمرء أن يهتدي دون علم من القرآن والسنة، كما قال تعالى: "قدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ". وأول خطوات التوفيق التفقه في الدين، كما قال، صلى الله علبه وسلم: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"، متفق عليه. والفقه المحمود ما ينبني عليه عمل، لأن ترك العمل أو ضعفه موجب لغضب الله، والعلم الذي لاينبني عليه عمل يكون حجة على صاحبه لا له، ولهذا كان أصحاب النبي يتعلمون العلم مع العمل. أما جامعات اليوم فهي وإن سميت إسلامية أو شرعية فقد تجد فيها كثيراً من المدرسين لايؤمنون بما يدرّسون وكثيراً من الطلبة همهم أخذ الشهادة والحصول على وظيفة.

ونسبة الإنعام إلى الله والغضب والضلال لغيره من باب: " وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". فالخير من الله وحده والشر بسبب جهلنا وظلمنا وشهوات النفوس وكيد الشياطين.

وإذا كان الله قد غضب على اليهود مع علمهم، وحكم بضلال النصارى مع عملهم، فإن من لا علم له ولاعمل يكون أسوأ حالاً من الطائفتين، وهؤلاء هم شر الدواب كما قال تعالى: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ. وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ". وأسوأ من هؤلاء الفراعنة في كل عصر وجنود إبليس الذين يحاربون الأنبياء وأتباعهم ويقتلون الذين يطالبون بحقوقهم، كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ".

اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِى وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ.

والله أعلم