المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحمد لله



أهــل الحـديث
09-05-2014, 02:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الحمد لله

يكفي هذه الكلمة فضلاً أنها أول كلمة في كتاب الله، وأول سورة الفاتحة التي هي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي آخر ما يقوله أهل الجنة، "وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، فقد انتظمت فواتح الخير وخواتمه. ويرددها حملة العرش، "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ" وتقولها الملئكة يوم القيامة، "وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ"، وهي التي تقال بعد فصل القضاء، "وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". وهي التي يقولها أهل الجنة عند دخولهم فيها، "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ". وهي التي أُمر بها نوح، عليه السلام، "فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، وقالها إبراهيم، عليه السلام، "الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ"، وداود وسليمان، عليهما السلام، "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ"، وأُمر بها النبي، صلى الله عليه وسلم، في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله: "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطفى".

وبين رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عظمتها بقوله: "وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ"، رواه مسلم. والميزان هو الذي توزن به أعمال الخلائق جميعا يوم القيامة، ولايعلم مقدار كفته إلا الله، وهذه الكلمة تملؤه، فأي عظمة وأي فضيلة كهذه؟ وسن لأمته الحمد فكان إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ"، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ". وكان يبدأ خطبه بها، وفي أوائل الصلاة وأدبارها، وعند تجدد النِعَم، وبعد النصر، وعند النوم والاستيقاظ منه، وركوب الدابة، ورؤية الهلال، وبعد الأكل والشرب، واللباس الجديد، وعند رؤية أهل البلاء، وبعد العطاس، وقضاء الحاجة وغير ذلك مما هو مروي في كتب الصحاح والسنن والمسانيد.

والألف واللام في "الحمد" للاستغراق وليست للجنس ولا للعهد، لأن الحمد الذي لله حمد تام وعام ومستقل، وأما حمد المخلوقين فهو حمد مقيد، فهو ليس من الجنس الذي لله، لأنه تابع لحمد الله الذي أنعم على العباد بما حُمدوا عليه. واللام التي في قوله :"لله" للاستحقاق، أي هو من يستحق الحمد كله دون سواه. وإذا كان الحمد كله لله، وهو الذي يستحقه دون غيره، فقد تضمنت هذه الكلمة أعظم المطالب وأجلها وهو التوحيد بنوعيه: الربوبية والألوهية، لأنها خصت الرب بما لا يشركه به غيره من صفات الكمال، وهذه هي الربوبية، وأثنت عليه بما هو أهله وهذه هي الألوهية.

والحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، وهو يختلف عن الشكر الذي يكون في مقابل النعمة، ويكون باللسان والقلب والجوارح، كما قال تعالى: "اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ". فالحمد أعم متعلقا وأخص آلة. وأما المدح فقد يكون لمن يستحق ولمن لايستحق، وقد يكون لمن تحب ولمن لاتحب، وأما الحمد فيكون مقترناً بالحب والتقدير. والبعض يرى أن المدح هو الثناء باللسان على الصفات الجميلة خلقية كانت أو اختيارية فهو أعم من الحمد، لأن الحمد على الصفات الاختيارية فقط، فمثلا يمدح الرجل لجماله ولايحمد عليه، ويمدح على كرمه ويحمد عليه، لأن الأول لا اختيار له فيه بخلاف الثاني. وأحسب أن هذا التفريق مستساغا في حق المخلوقين وليس في حق الخالق، لأن كل صفات الله الذاتية والفعليه تتضمن ما يحمد عليه.

وإذا كانت "الحمد لله" تدل على كمال الله بالتضمن فإنها تدل على نقص المخلوقين بالالتزام، فلا كمال إلا لله وحده. ولهذا استحق الحمد كله، وأما غيره فكما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ". وإذا ذم الإنسان شخصاً ما فإن فيه ما يذم عليه، وإنما يتفاوت الناس فيما بينهم بحسب كثرة الخير نسبة إلى الشر، ولذلك كثر في القرآن إقرار الأنبياء، عليهم السلام، بذنوبهم والحديث عن توبتهم، ليعلم كل مؤمن أنه أحوج مايكون إلى الاعتراف بذنبه، والشعور بتقصيرة واللجوء إلى ربه، وليس إلى المخلوقين لأن الاستجارة بالمخلوقين كاستجارة الغريق بالغريق.

وأجهل الناس من ينسى ربه ويلجأ إلى مخلوق مثله يطلب منه حاجته، وهذا المخلوق فقير مثله، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "، وعبد مثله، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا "، ومقصر مثله مأمور بالتوبة، "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ "، وأجهل الجاهلين وأظلم الظالمين من يلجأ إلى الموتى ليدعوهم ويستغيث بهم وهم بحاجة إلى من يدعو لهم، كما قال تعالى: "إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"، وقال: "إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ".

وإذا كان الجهل والظلم لاينفك عنه إنسان، فعلى المرء أن يتواضع ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب غيره، وينشغل بعيوب نفسه أكثر من أن ينشغل بعيوب الناس، لأنه أبصر بحال نفسه من حال غيره، كما قال تعالى: " بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ"، وأولى الناس بالإصلاح نفسك التي بين جنبيك. والخاسر من انشغل بعيب الناس عن عيب نفسه، ومن هنا يتبين خطأ فريقين من الناس، فريق يبالغ في المدح حتى يصير السيئات حسنات، وفريق يبالغ في الذم حتى يصير الحسنات سيئات، وأهل العلم والإيمان مأمورون بالعدل في القول ولو كان على أنفسهم أو والديهم أو من يحبون، كما قال تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ"، بل إن الله عز وجل نهى المؤمنين أن تحملهم عداوتهم للكفار على ظلمهم فقال جل شأنه: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى". والعدل يكون في الأقوال والأفعال والأحوال. فإذا كان المؤمن مأموراً بالعدل مع الكفار المحاربين فكيف يكون الحال مع المؤمنين؟ أم كيف يكون مع المظلومين منهم؟

ونبينا، صلى الله عليه وسلم، واسمه محمد وأحمد، ومحمد لكثرة الصفات التي يحمد عليها، وأحمد لفضلها، فهذه في الكيف وتلك في الكم، فله الصفات التي يحمد عليها كما وكيفا، وهو بأبي وأمي خير من خلق الله، وأكمل الخلق وأقربهم إلى الله، ومع ذلك فقد كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة. وأمره ربه بالاستغفار في مواضع، وتلك من لوازم العبودية التي هي أشرف منازل المخلوقين.

والله أعلم