المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبو شهبة



أهــل الحـديث
09-05-2014, 01:40 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



مع كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبو شهبة



بقلم: علي ابراهيم النعمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد: فيُعدُّ كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم من أجود المؤلفات الحديثة في علوم القرآن؛ إذ جمع فيه مؤلفه بين منهج المتقدمين في تناول موضوعات القرآن من جهة، وتفنيد الشبّه الموجهة إلى القرآن الكريم من المستشرقين وأتباعهم من جهة أخرى، ثمّ إنّ المؤلف حاول من خلاله استيعاب جميع موضوعات القرآن الكريم، وتقديمها بأسلوب يتناسب وتطلعات العصر، وقد قدّم له بمقدمة صغيرة بيّن فيها فضل دراسة القرآن الكريم، وضرورة مداومة البحث فيه، والكشف عن علومه وحقائقه، والدفاع عنه من خلال نفي الشكوك والطعنات الموجهة إليه. ثم ختم المقدمة بالقول بأنّ كتابه أوّل كتاب أُلّف في هذا الشأن مطلع القرن العشرين، وأوّل باكورة شهية لقسم الدراسات العليا(1).
بعد الانتهاء من مقدمته شرع في تعريف القرآن الكريم مبيناً أنّه كتاب العربية الأكبر، والهداية الكبرى، من حارب التقليد ودعا إلى التأمّل والنظر في الكون، ومن فتح الباب للعلوم التجريبية، ومن حارب العنصرية والعنجهية الجاهلية، ومن كوّن أمة مثالية مستدلاً على كل ما ذهب إليه بآيات قرآنية، مذكّرا بأنّ كتاباً هذا شأنه لجدير أن يضعه الإنسان نُصب عينيه، ثمّ ختم حديثه عن القرآن الكريم ببيان عناية الأمة الإسلامية به. وكان هذا التعريف والحديث بمثابة المدخل للكتاب.
أمّا عن تقسيم الكتاب فقد جعله في عشرة مباحث هي:
المبحث الأوّل: معنى علوم القرآن وتحليل هذا المركب الإضافي.
المبحث الثاني: نزول القرآن الكريم.
المبحث الثالث: أول ما نزل من القرآن، وآخر ما نزل منه.
المبحث الرابع: أسباب النزول.
المبحث الخامس: نزول القرآن على سبعة أحرف.
المبحث السادس: المكي والمدني.
المبحث السابع: جمع القرآن وتاريخه.
المبحث الثامن: ترتيب آيات القرآن وسوره.
المبحث التاسع: كتابة القرآن ورسمه.
المبحث العاشر: ثبوت النص القرآني بالتواتر المفيد للقطع واليقين.
ثمّ أعقب هذه المباحث بمسائل في أدب تلاوة القرآن وحفظته.
وهنا نلحظ أنّ المؤلف حاول استيعاب أهم موضوعات علوم القرآن، وهو في كل مبحث من المباحث يدحض مزاعم المستشرقين وتلامذتهم من المستغربين في الطعن بالقرآن الكريم، وجعل تحت كل مبحث من هذه المباحث مسائل تندرج تحته كما وضع لهذه المسائل عناوين خاصة تدل عليها.

من ملامح منهجه في الكتاب
1- ردّ الأقوال بمخالفتها للسنة.
2- الاحتجاج باللغة في إثبات أمر أو ردّه، ومن أمثلة ذلك رده على المعتزلة في مسألة الكلام حيث قال:
(وأما ما زعمه المعتزلة وموافقوهم، من أن معنى كونه متكلما: أنه خالق للكلام كما خلق الكلام في الشجرة لموسى عليه السلام فزعم باطل لمخالفته للقواعد اللغوية والشرعية، وأقوى دليل في الرد عليهم قول الله تعالى:{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً}، فقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بذكر المصدر انتفى احتماله للمجاز)(2).
3- الاستشهاد بأقوال السلف على إثبات دعوى أو ردّها، مثال ذلك ردّه على من قال بأنّ المعوذتين ليستا من المصحف حيث قال:
(قال الإمام النووي في شرح المهذب: «أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منها شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح»، وقال ابن حزم في كتاب «القدح المعلّى»، تتميم المجلّى: «هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة»)(3).
4- بيان الكلمات الغريبة والمُشْكِلة، ويكون في الهامش، مثال ذلك بيانه لقول زيد بن ثابتt: (ولم تكن أدوات الكتابة ميسرة في ذلك الوقت، فلذلك كانوا يكتبونه على حسب ما تيسر لهم في الرقاع والعسب والأكتاف واللخاف والأقتاب) حيث قال:
(الرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو قماش أو ورق، العسب: جمع عسيب طرف الجريد العريض كانوا يكشطون الخوص ويكتبون فيه، والأكتاف جمع كتف وهي العظام العريضة من أكتاف الحيوان كالإبل والبقر والغنم، واللخاف بكسر اللام: جمع لخفة بفتح فسكون، وهي الحجارة الرقيقة، والأقتاب: جمع قتب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه)(4).
5- الإشارة إلى أقوال العلماء وآرائهم في المسألة الواحدة وإحالة التفصيل إلى الكتب المتقدمة، ومن أمثلة ذلك حديثه عن المكي والمدني من السور حيث قال:
(قد اختلف العلماء في بيان المكي والمدني من السور على أقوال كثيرة ذكرها السيوطي في إتقانه)(5).
6- الترجيح بين الأقوال، فبعد أن يستعرض آراء العلماء وأدلتهم في المسألة يلجأ إلى الترجيح بما يظهر عنده من قرائن، ومن أمثلة ذلك إيراده لأقوال العلماء عن تعلّم النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة من عدمه بعد النبوة، فذكر قول الفريقين وأدلتهم ثمّ رجّح بينهما بقوله:
(والذي يترجح عندي أنه صلى الله عليه وسلم تعلم الكتابة بعد أن لم يكن يعلمها وكفى في هذا دليلا حديث البخاري، ومستبعد جدّا، من مثل رسول الله- في ذكائه وفطنته ولقانته- أن لا يتعلم الكتابة بعد طول إملاء القرآن على الكاتبين ورؤيته لهم وهم يكتبون)(6).
7- تخريج الأحاديث من مصادرها الأصلية، ونسبة الأقوال إلى قائليها، والترجمة للرجال الواردة أسماؤهم من غير الأعلام.
8- ينبّه على الحكم والفوائد المتعلقة بالتشريع كحكمة تنزيل القرآن منجما، وفوائد معرفة أسباب النزول وهكذا.
9- الاستدلال بالحقائق العلمية لإثبات رأي أو ردّه، ومن أمثلة ذلك: ردّه على الزاعمين بأنّ النبيr كانت تنتابه حالات من الصرع فيظنّ بأنّه وحي، قال في الرد عليهم:
(إن الثابت علميّا أن المصروع حالة الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تامّا، فلا يدري المريض في نوبته شيئا عما يدور حوله، ولا ما يجيش في نفسه كما أنه يغيب عن صوابه، وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور ويصبح المريض بلا إحساس...وقد أثبت الطب أيضا أن الذكريات التي تمر بالمريض لا بد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما؛ إذ أن النوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم احتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيّا إجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلّط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس «الهلاوس» التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو «الهلاوس» فهذا مريض يسمع أغنية، أو قطعة من شعر، أو حديثا من أيّ نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولا بد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته، أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لا بد أن يكون قد مر عليه. وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وسلم نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته)(7).


انفراداته
لم يكن الشيخ أبو شهبة مجرد ناقل للأقوال، بل كان ناقداً بارعا له آراؤه الخاصة في مسائل علوم القرآن، وسأذكر هنا ما تفرّد به من آراء:
1- في تحديد ظهور مصطلح علوم القرآن يجمع العلماء على أنّ أول ظهور له كان في القرن السادس الهجري على يد أبي الفرج بن الجوزي كما نصّ على ذلك الزركشي والسيوطي وغيرهما، أمّا الشيخ محمد فيرى أنّ ظهور المصطلح كان في القرن الخامس حيث قال:
(ولكني وقفت على مؤلّف بعنوان: «مقدمتان في علوم القرآن» ... وإحدى هاتين المقدمتين لمؤلف لم يعرف، لفقدان الورقة الأولى من المخطوطة التي نقل عنها الطابع، إلا أنه ذكر في الصحيفة الثانية منها: أنه بدأ في تأليف كتابه في سنة أربعمائة وخمس وعشرين، وسماه: «كتاب المباني في نظم المعاني»، وهو تفسير للقرآن الكريم وقد صدره بهذه المقدمة، وهي تقع في عشرة فصول، وهي إحدى المقدمتين المنشورتين، والأخرى: مقدمة التفسير للإمام «عبد الحق بن أبي بكر» المعروف «بابن عطية» المتوفى سنة 543 هـ.وقد ذكر صاحب كتاب «المباني» في فصول هذه المقدمة العشرة: المكي والمدني، ونزول القرآن، وجمع القرآن وكتابة المصاحف، واختلافها، ورد الشّبه الواردة على الجمع والمصاحف وبيان عدد السور والآيات والتفسير والتأويل، والمحكم والمتشابه ونزول القرآن على سبعة أحرف، إلى غير ذلك من مباحث علوم القرآن)(8).
2- عند حديثه عن مدة نزول القرآن ذكر اختلاف العلماء، فمنهم من قال مدة نزوله عشرون سنة، ومنهم من قال: ثلاث وعشرون سنة، ومنهم من قال: خمس وعشرون سنة. أمّا الشيخ أبو شهبة فيرى أنّ مدة نزوله اثنتان وعشرون سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما بالحساب الدقيق حيث قال:
(وبيان ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نبئ على رأسي الأربعين من ميلاده الشريف، وذلك في شهر «ربيع الأول؛ الثاني عشر منه» وقد بدئ الوحي إليه بالرؤيا الصادقة، ومكث على ذلك إلى السابع عشر من رمضان، وهو اليوم الذي نزل عليه فيه صدر سورة «اقرأ» أول ما نزل من القرآن، وجملة ذلك: ستة أشهر وخمسة أيام، وآخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى:{واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}، وقد روي أن ذلك قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بتسعة أيام، وقيل: بأحد عشر يوما، وقيل: بواحد وعشرين يوما، فلو أخذنا بالمتوسط تكون جملة المدة التي لم ينزل فيها القرآن ستة أشهر وستة عشر يوما. وجملة عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستون عاما؛ لأنه توفي في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كما عليه الجمهور، فتكون مدة نبوته: ثلاثا وعشرين سنة، فإذا أنقصنا منها ستة أشهر وستة عشر يوما، يكون الباقي اثنتين وعشرين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)(9).
3- عند حديثه عن تلقي النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن عن جبريل ذكر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يتحوّل من الهيئة البشرية إلى الهيئة الملائكية، وهو قول غريب لم أقف على أحد قال به غيره حيث قال:
(والذي نقطع به -والله أعلم- أنّ القرآن الكريم كلّه نزل في الحالة الأولى، وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته، وتحوّل النبي صلى الله عليه وسلم من البشرية إلى الملائكية، وهذا هو الذي يليق بالقرآن الكريم)(10).

تعقباته
إنّ الشيخ أبا شهبة ناقد بارع؛ لذلك نجده محّص كتاب الإتقان للسيوطي دراسة وفهما، وعقد مسألة في المبحث الأول سمّاها: [الإتقان في الميزان] تحدّث فيها عن محاسن الكتاب ثمّ أعقبها ببعض النقد حيث قال:
(ومن المآخذ التي أخذتها على مؤلف هذا الكتاب أنه يذكر بعض الأقوال الشاذة والآراء الباطلة، ويمر بها من غير أن يفندها ويبين بطلانها، وليس من شك في أن ذكر هذه الآراء من غير تمحيص، وتحقيق، يضر بالقارئ الذي لم يتعمق في الدراسات الإسلامية، وليس له من العلم بأصول الدين ما يعصمه من قبول هذه الآراء الزائفة المتسترة، أو على الأقل ما يوقعه في بلبلة فكرية، وشكوك علمية)(11).
وهنا نقف على جانب من تعقباته على السيوطي وغيره من المتقدمين:
1- عقّب على خطأ وقع به السيوطي تبعاً للزركشي في روايةٍ عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بقوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات}ولو أنهما علما سبب النزول لما قالا ذلك، ولكن خفي عليهما، فوقعا في هذا الرأي الشاذ، فقد روي: أن ناسا قالوا لما حرمت الخمر: «كيف بمن قتلوا في سبيل الله، وماتوا، وكانوا يشربون الخمر، وهي رجس فنزلت.
قال الشيخ أبو شهبة:
(هذا هو الصحيح أنه «قدامة» وفي البرهان للزركشي ونقله عنه السيوطي في الإتقان أنه «عثمان بن مظعون» وهو غلط لا محالة؛ لأنه رضي الله عنه توفي عقب بدر، أما أخوه قدامة فهو الذي طالت به الحياة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه وكان يتأول الآية على هذا)(12).
2- عقّب على أبي المعالي المعروف بشيذلة حين عدّ للقرآن خمسة وخمسين اسما فيما نقله الزركشي والسيوطي عنه، قال أبو شهبة:
(ومما ينبغي أن يتنبه إليه أن أغلب ما ذكروه أسماء للقرآن هو في الحقيقة أوصاف له، فمثلا: عدوا من الأسماء لفظ «كريم» أخذا من قوله تعالى{إنه لقرآن كريم}، ولفظ «مبارك» أخذا من قوله تعالى:{وهذا ذكر مبارك} مع أن الظاهر كونهما وصفين للقرآن لا اسمين. كما أن في بعض ما عدوه اسما للقرآن بعدا وتكلّفا في أن المراد به القرآن وذلك مثل عدهم من الأسماء: «مناديا»، لقوله تعالى:{ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان})(13).
3- عقّب على السيوطي حين ذكر إمكانية أن تكون خواتيم سورة البقرة كلّم الله بها النبيr يقظة أو في المنام مستدلا برواية مسلم: (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم... فأعطي رسول الله ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات) قال أبو شهبة معلقا على رأي السيوطي:
(وأعقب على ما ذهب إليه الإمام السيوطي إمكانا: بأن رواية مسلم ليس فيها تصريح بنزول خواتيم سورة البقرة عن طريق تكليم الله، فلعلّ المراد بإعطائه إيّاها: إعلام الله له باختصاصه صلى الله عليه وسلم وأمته بما تدلّ عليه؛ تمنّنا عليه في هذا الموقف العظيم)(14).
4- عقّب على ابن الحصار فيما نقله السيوطي عنه أنّه ادعى أنّ السور المدنية المتفق عليها عشرون سورة، والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة وباقي السور مكية ومنها الحج، قال أبو شهبة معقباً عليه:
(إنّ بعض ما ذكره ابن الحصار غير مسلم؛ لأن على رأيه تكون سورة الحج مكية باتفاق مع أنه روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أنها مدنية، وهو الأرجح)(15).
5- عقّب على الزركشي حين قال:(لا يجوز تعدي أمثلة القرآن ولذلك أنكر على الحريري قوله: [فأدخلني بيتا أحرج من التابوت وأوهى من بيت العنكبوت]). قال أبو شهبة:
(والإنكار على الحريرى غير متجه؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها} والآية تحتمل معنيين أحدهما: فما فوقها في الحجم والمقدار، وثانيهما: فما فوقها أي في الخسة والقدر، يعني فما دونها في الحجم، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بما دون البعوضة، فقال: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء»)(16).


ردوده
ردّ الشيخ أبو شهبة على كثير من معاصريه ويكفينا أنّ نعلم أنّ أربعين شبهة أُثيرت حول القرآن الكريم من الملاحدة والمستشرقين وأتباعهم والشيعة عالجها وردّ عليها بأسلوب علمي رصين وسنقتصر على ذكر بعض الردود إذ لا يتسع المقام لذكرها كلّها.
1- ردّه على الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عمّ حين زعم أنّ القرآن لم يثبت نزوله جملة واحدة على السماء الدنيا بخبر يصح الاعتماد عليه، قال أبو شهبة:
(وأعقّب على قول الإمام فأقول: إن مسألة نزول القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليست من العقائد التي يتحتم تواتر الأخبار بها، والتي لا بد فيها من العلم القطعي اليقيني، مثل وجود الله وصفاته، ونحو ذلك من العقائد، وإنما يكفي فيها الأخبار الصحيحة التي تفيد غلبة الظن ورجحان العلم، ثم إن من قال إن مثل هذه الحقيقة الغيبية لا بد فيها من تواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم! إن كثيرا من السمعيات يكتفى فيها بالأخبار الصحيحة التي تفيد رجحان العلم بما دلت عليه، وعلى هذا جرى العلماء سلفا وخلفا)(17).
2- ردّه على قس من القساوسة تستّر باسم [هاشم العربي] حين زعم أنّ في القرآن زيادة ونقصان، واستدل بحديث: «رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية: «أنسيتها» فهذا فيه اعتراف من النبي بأنه أسقط بعض الآيات، أو أنسيها.
وقد ردّ الشيخ أبو شهبة على ذلك بأنّ النسيان حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الخطأ لا العمد، (فالرواية الثانية تفسر الأولى، وتدل على أن الإسقاط عن طريق النسيان لا العمد، ولا يضر نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام يحصل له التذكر إما من نفسه، أو من مذكر كما في الحديث)(18).
ثم يزيد الشيخ الجواب وضوحاً فيقسّم نسيان النبي شيئا من القرآن على قسمين:
الأوّل:: نسيان الشيء الذي يتذكر، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون».
الثاني: أن يرفعه عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى}.
أما الأول: فعارض سريع الزوال يدل عليه قوله تعالى:{إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون}، فهذا تكفل من الله تبارك وتعالى أن يحفظ كتابه عن أي نقص أو زيادة، أو تغيير أو تحريف...وأما الثاني: فداخل في قوله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}، فالنسيان عارض بشري يجوز على الأنبياء فيما ليس طريقه البلاغ من أمور الدين والشريعة، وذلك كالأمور الدنيوية أما ما كان من الدين والشريعة، مما هو واجب البلاغ فيجوز لكن بشرطين:
أ- أن يكون بعد تبليغه كما هنا.
ب- أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره إما بنفسه، وإما بغيره، وأما قبل التبليغ فلا يجوز أصلا، وهذا ما قام عليه الدليل العقلي؛ إذ لو جاز النسيان قبل التبليغ أو بعده بدون أن يتذكر، أو يذكره الغير لأدى إلى الطعن في عصمة الأنبياء، ولجاز ضياع بعض الشرائع والأديان، وفي هذا تشكيك فيها وإبطال لها(19).
3- ردّه على بعض الشيعة الذين ردّوا حديث [نزل القرآن على سبعة أحرف] ناسبين القول إلى جعفر الصادق، قال في الرد عليهم:
(ولا أدري كيف يستسيغ إخواننا الشيعة أن يردّوا حديثا متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية واحد وعشرين صحابيّا عدولا ضابطين، بروايات مقطوعة على التابعين ومن بعدهم، وليس مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا موقوفة على الصحابي ومهما بلغ شأن التابعي أو تابع التابعي فلن تبلغ روايته مبلغ الرواية المسندة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولا تصلح أن تكون معارضة لها بل لو وردت رواية عن بعض الصحابة، وورد عن النبي ما يخالفها أخذنا بالرواية المرفوعة ورفضنا الموقوفة، وهذا هو المنهج الصحيح الذي لا ينبغي أن يختلف فيه شيعي أو سني... وماذا نملك للشيعة ما دام مذهبهم رفض كل المرويات التي رويت في كتب أهل السنة مهما بلغت من الصحة، وثقات رواتها! إذا عارضت ما روي عن أهل البيت)(20).

الكتاب في الميزان

أولا: ما له

1- الاقتصار في الكتاب على أهمّ موضوعات علوم القرآن، حيث لم يذكر جميع موضوعاته، بل اقتصر على ما تمس اليه الحاجة بشكل أكبر، وما كان عرضة للشبهات والنقد، وقد صرّح بذلك حين قال: (إنما قصدنا ذكر مباحث كلية تعين على تفسير كتاب الله، ومعرفة القواعد والاصطلاحات)(21).
2- إجادته في عرض القضايا وتوجيهها وترجيح ما يراه صائبا من الأقوال، وهذه قاعدة مطردة في جميع الكتاب، وقد حسم خلافات علمية حادة كنزول القرآن على سبعة أحرف.
3- تخصيص جزء كبير من الكتاب لعرض الشبهات والردّ عليها، فقد ذكر في كتابه أربعين شبهة أثيرت حول القرآن الكريم وأجاب عليها إجابة وافية معتمداً في جوابه على التاريخ والعقل والطب والحساب وأقوال العلماء السابقين في المسألة.
4- لم يُسلّم لكل ما جاء في البرهان للزركشي والإتقان للسيوطي رغم موافقته لهما في معظم المسائل، بل ردّ عليهما في بعض الأحيان، وهذا يدلُّ على استقرائه التام لكتب المتقدمين، ويدلُّ كذلك على بصيرته النقدية وملكته العلمية.
5- الردّ على الشبهات الحديثة التي ساقها المستشرقون وأتباعهم كطه حسين ومصطفى مندور وبعض القساوسة والتي لم تكن حاضرة قبل القرن العشرين.
6- تفرّده بآراء لم يُسبق إليها –حسب اطلاعي- ويكون ذلك بعد عرض تحليلي لأقوال العلماء وأدلتهم في المسألة.
7- سهولة عبارته ووضوح منهجه في الكتاب والتي جعلت منه مقصدا للمتخصصين والعامة.
8- تدعيم ردوده بأقوال السلف، وبخاصة الحافظ ابن حجر العسقلاني على الشبه المتقدّمة، واعتماده على الأثر والجانب العقلي في نقض الشبة العصرية.
9- خلو الكتاب من الأحاديث الضعيفة والواهية إلا تلك التي يذكرها في الشبّه؛ لكونه معنيّاً بعلم الحديث.

ثانيا: ما عليه

1- الإسهاب في تفصيلات ثانوية، ومن الأمثلة على ذلك: إطالة الكلام في تعريف علوم القرآن حيث جعل له ثلاثين صفحة من الكتاب، وهذا العدد مبالغ فيه مقارنة بغيره من المباحث.
2- عند حديثه عن نزول القرآن الكريم ذكر أنّ المعنى اللغوي [الحلول] لا يليق بنزول القرآن على وجه الحقيقة لاقتضائه الجسمية والمكانية والانتقال، وعلى هذا يكون المراد معناه المجازي.وهذا الرأي مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، إذ لا حاجة للجوء إلى المجاز مع احتمال التفسير على الحقيقة، والآيات القرآنية تؤيد حمله على الحقيقة كما في قوله تعالى:{ونزلناه تنزيلاً} وقوله:{إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون}.
3- مخالفته لجمهور أهل السنة والجماعة في مسألة تلقّي النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن عن جبريل عليه السلام، حيث ذكر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يتحوّل من الهيئة البشرية إلى الهيئة الملائكية أثناء التلقّي.
4- أفرد موضعاً مستقلا بعد المبحث العاشر جعله بمثابة الخاتمة للكتاب ضمّنه مسائل متفرّقة في آداب تلاوة القرآن، وقد كان انتقاؤه موفقاً للمسائل إلا أنّ السلبية فيه كانت في إبحاره في المسائل الفقهية وأقوال المذاهب في المسألة الواحدة مما أبعد الكتاب عن جوّ علوم القرآن، وأدخله في جوّ الفقه.


خاتمة
بعد الانتهاء من كتابة هذا البحث توصلت إلى النتائج الآتية:
1- إنّ كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم من أجود الكتب العصرية التي أُلفت في علوم القرآن، وهو على عظيم فوائده إلا أنّه لم ينل حظّه من الدراسة والبحث، وترى الباحثة صلاحيته للدراسة كرسالة ماجستير.
2- امتاز الكتاب بسلاسة ألفاظه وسهولة عباراته ودقة مناقشاته للمسائل العلمية مما جعله مدخلا للتفسير للمبتدئ والمتخصص، وفي مقدمة الكتب التي ينبغي أن تدرّس في الجامعات الإسلامية.
3- حاول المؤلف التركيز على الشبه المثارة حول القرآن الكريم، وقد أجاب عنها بأسلوب جمع فيه بين أصالة السلف ومواكبة العصر مما جعل إجاباته مقنعة أكثر من تلك التي اقتصرت على أقوال المتقدمين فحسب.
4- نبّه المؤلف على أخطاء وقع بها المتقدمون وسار عليها المتأخرون دون تمحيص وعقّب عليها ببيان الصواب، وهذا إن دل على شيء فإنما يدلّ على ملكته النقدية وموضوعيته في البحث.
5- انفرد الشيخ في الكتاب بآراء لم يُسبق إليها، وقد ردّ بردود لم يُسبق إليها مما يضفي للكتاب أهمية كبيرة بين كتب علوم القرآن.


والحمد لله ربّ العالمين

الهوامش
(1) ينظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم ص7.
(2) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص85.
(3) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص286.
(4) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص266.
(5) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص224.
(6) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص347-348.
(7) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص105-106.
(8) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص35.
(9) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص56-57.
(10) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص65.
(11) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص41-42.
(12) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص138.
(13) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص25.
(14) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص64.
(15) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص225.
(16) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص458-459.
(17) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص54.
(18) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص54.
(19) ينظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم ص291.
(20) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص212-213.
(21) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص132.