المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من الابتداع



أهــل الحـديث
08-05-2014, 09:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


وصلني مقال من الأخ الفاضل محمد محب الدين أبو زيد حفظه الله ، وهو أحد طلبة العلم المتميزين فوجدته نافعا جدا وهاكم هو بين أيديكم لينتفع به
براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من الابتداع
كتبه: محمد محب الدين أبو زيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين وبعد:
فإنه بلغني أن بعض المتصوفة الأشاعرة -هدانا الله وإياهم إلى طريق الحق- قد طعن في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه قد خالف السلف الصالح في كثير من المسائل، وأنه قد ابتدع أقوالا لم يأت بها أحد قبله!
وهذا كلام غريب منكر؛ إذ إنه رحمه الله من أتبع الناس للسلف الصالح، ولا أعلم له مسألة انفرد بها ولم يكن له سلف فيها، كيف وهو القائل في «مجموع الفتاوى» (21 / 291):
«وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فإنه يكون خطأ»؟!
وعقيدته هي عقيدة السلف الصالح، لم يأت بشيء من عند نفسه، بل هو مقرر لما قرره السلف الصالح في أمور الاعتقاد وغيرها، وقد صرح بذلك حيث قال في حكاية مناظرة الواسطية من «مجموع الفتاوى» (3 / 161):
«أما الاعتقاد: فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني؛ بل يؤخذ عن الله ورسوله وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم» اهـ.
وقال أيضا في «مجموع الفتاوى» (3 / 169):
«فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله وهذه عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة -التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»- يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلي أن آتي بنقول جميع الطوائف -عن القرون الثلاثة توافق ما ذكرته- من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم» اهـ.
وقد جمعتُ من مدةٍ العقائدَ المختصرة لأكثر من ثلاثين عالما قبل شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا وازنتَ بينها وبين ما قرره شيخ الإسلام من مسائل الاعتقاد وجدتَ الجميع متطابق، كأنه يخرج من مشكاة واحدة، وهذا تصديق لقوله رحمه الله: «ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم».
وما هو إلا إمام من أئمة المسلمين، إن وافق ما عليه السلف الصالح وأئمة المسلمين قَبْله أخذنا بقوله، وإن خالفه فكلامه مردود، مع علمنا أنه إذا أخطأ فخطؤه مغفور إن شاء الله وله أجر عليه، ونوقره ونُجِله كباقي علماء المسلمين.
ويكفي تزكية العلماء له وإذعانهم له بالإمامة والتقدم في جميع العلوم، مثل: المزي، والذهبي، وابن كثير، وابن القيم، وابن عبد الهادي، وابن رجب، وابن ناصر الدين الدمشقي، وابن حجر، والسخاوي، والصنعاني، والشوكاني وغيرهم كثير. فأي قيمة لطعن طاعن بعد تزكية هؤلاء العلماء له؟!
وهذه ثلاث مسائل قد زعم المعترض أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد خالف مَن سبقه من السلف وعلماء المسلمين فيها، وفي الجواب أذكر بعض العلماء الذين سبقوه بالقول فيها. والله المستعان.
المسألة الأولى:
زعم المعترض أن ابن تيمية هو أول من قال: نثبت الصفات بلا تأويل ولا تعطيل ولا تحريف!

أقول: أهل العلم من السلف الصالح وأهل الحديث وأئمة الصوفية على إثبات الصفات بلا تعطيل ولا تأويل ولا تشبيه، وهذه أقوال بعضهم:
قال الإمام أبو العباس ابن سريج (المتوفى: 303هـ) في «أجوبة في أصول الدين» (ص 86):
«ونسلِّم الخبر الظاهر والآية الظاهر تنزيلها، لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب والقول بها سنة وابتغاء تأويلها بدعة» اهـ.
وقال الإمام أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ) في «قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» (2 / 207):
«ثم تسليم أخبار الصفات فيما ثبتت به الروايات وصح النقل، ولا يتأول ذلك ولا يشبه بالقياس والعقل، ولكن يعتقد إثبات الأسماء والصفات بمعانيها وحقائقها لله تعالى، وينفي التشبيه والتكييف عنها إذ لا كفؤ للموصوف فيشبه، ولا مثل له فيجنس منه، ولا نشبه ونصف، ولا نمثل ونعرف، ولا نكيف، وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول في كل ما نقله، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من أخبار الصفات فالكذاب مردود القول في كل ما جاء به، والكذب على الله كفر، فكيف تقبل شهادة كافر؟ وإذ جاز أن يجترئوا على الله عز وجل بأن يزيدوا في صفاته ما لم يسمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم إلى أن يكذبوا على الرسول فيما من الأحكام أولى، ففي ذلك إبطال الشريعة، وتكفير النقلة من الصحابة والتابعين بإحسان، فلذلك كفر أصحاب الحديث من نفي أخبار الصفات» اهـ.
وقال الإمام أبو بكر الكلاباذي (المتوفى: 380هـ) في «التعرف لمذهب أهل التصوف» (ص89):
«الباب الثاني والثلاثون في التصوف ما هو؟
سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد الفارسي يقول أركان التصوف عشرة:
أولها تجريد التوحيد ثم فهم السماع وحسن العشرة وإيثار الإيثار وترك الاختيار وسرعة الوجد والكشف عن الخواطر وكثرة الأسفار وترك الاكتساب وتحريم الادخار.
معنى تجريد التوحيد أن لا يشوبه خاطر تشبيه أو تعطيل» اهـ.
ويعني بالتوحيد هنا: توحيد الأسماء والصفات، كما هو ظاهر.
وقال الإمام الترمذي (المتوفى سنة 279هـ) في «سننه» (3 / 41):
«وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات: ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة ، وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد، وسمع، وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]» اهـ.
وقال الإمام السجزي (المتوفى سنة 444هـ) في «رسالته إلى أهل زبيد» (ص 178):
«وقد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف.
فقول المتكلمين في نفي الصفات أو إثباتها بمجرد العقل أو حملها على تأويل مخالف للظاهر ضلال.
ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم» اهـ.
وقال الإمام البربهاري (المتوفى سنة 329هـ) في «شرح السنة» (ص 96):
«واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية أنهم فكروا في الرب، فأدخلوا لم وكيف، وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم فجاءوا بالكفر عيانا لا يخفي أنه كفر، وأكفروا الخلق واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل» اهـ.
وقال الإمام أبو منصور الأصبهاني شيخ الصوفية في زمانه (المتوفى سنة 418هـ) كما في «الحجة في بيان المحجة» (1 / 259):
«السنة هي اتباع الأثر والحديث والسلامة والتسليم، والإيمان بصفات الله عز وجل من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل فجميع ما ورد من الأحاديث في الصفات: مثل أن الله عز وجل خلق آدم على صورته، ويد الله على رأس المؤذنين، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الله عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، وسائر أحاديث الصفات، فما صح من أحاديث الصفات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمع الأئمة على أن تفسيرها قراءتها، قالوا: " أمروها كما جاءت "، وما ذكر الله في القرآن مثل قوله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام} وقوله عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} . كل ذلك بلا كيف ولا تأويل نؤمن بها إيمان أهل السلامة والتسليم لأهل السنة» اهـ.
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني (المتوفى سنة 449هـ) في أول «عقيدة السلف» (ص5):
«أصحاب الحديث -حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة.
ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه.
ويثبتون له عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيديه، كما نص سبحانه عليه في قوله -عز من قائل-: «قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي» [ص: 75]. ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية، أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف، أو يشبهونهما بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة، خذلهم الله.
وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتشبيه والتكييف، ومَنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» [الشورى: 11]» اهـ.
وقال الإمام عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى600هـ) في «الاقتصاد في الاعتقاد» (ص 80) واصفا أهل السنة:
«آمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه، وأمرُّوه كما ورد من غير تعرض لكيفية، أو اعتقاد شبهة أو مثلية، أو تأويل يؤدي إلى التعطيل. ووسعتهم السنة المحمدية، والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية» اهـ.
وبهذا يتبين أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يبتدع هذا القول، إنما هو ناقل لإجماع من سبقه من أئمة السلف، متبع لهم، مقتد بأقوالهم، معتقد لاعتقادهم.
المسألة الثانية:
زعم المعترض أيضا أن ابن تيمية أول من قال: نثبت صفات الله على الحقيقة!

أقول: أجمع السلف الصالح على إثبات الصفات على الحقيقة، وقالوا: إن من زعم غير هذا فهو جهمي.
قال الإمام ابن عبد البر (المتوفى463هـ) في «التمهيد» (7 / 145):
«أهل السنة مجموعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله» اهـ.
وقال الإمام ابن الجوزي (المتوفى 597هـ) في «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (15 / 279):
«وفي هذه السنة: قرئ الاعتقاد القادري في الديوان: أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد بن الفراء قال أخرج الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبو جعفر ابن القادر بالله في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة الاعتقاد القادري الذي ذكره القادر فقرئ في الديوان وحضر الزهاد والعلماء وممن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء وكتب الفقهاء خطوطهم فيه أن هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر، وفيه: لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه عليه السلام وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فهي صفة حقيقية لا مجازية» اهـ.
وقال الإمام ابن أبي يعلى (المتوفى 526هـ) في «الاعتقاد» (ص31):
«فإن اعتقد معتقد في هذه الصفات ونظائرها مما وردت به الآثار الصحيحة التشبيه في الجسم والنوع والشكل والطول- فهو كافر.
وإن تأولها على مقتضى اللغة وعلى المجاز فهو جهمي.
وإن أمرَّها كما جاءت، من غير تأويل، ولا تفسير، ولا تجسيم، ولا تشبيه، كما فعلت الصحابة والتابعون فهو الواجب عليه» اهـ.
المسألة الثالثة:
زعم المعترض أيضا أن ابن تيمية هو أول مَن ردَّ على الذين أولوا الصفات!

أقول: بل ما زال العلماء يردون على من أول الصفات، وقد بينت -فيما سبق من أقوال أهل العلم قبل ابن تيمية- أنهم يعدون تأويل الصفات من البدع المنكرة، فكيف يُظَن بهم أنهم يتركون إنكار هذه البدع والضلالات، وهم قد بلغوا درجة عظيمة في حفظ الشريعة والدفاع عنها؟!
إن القول بأنهم لم ينكروا على من أول الصفات مع إقرارهم بأنه بدعة، يقتضى الطعن عليهم والانتقاص منهم ووصمهم بأنهم يتهاونون في حفظ الشريعة، وأي إهانة للسلف الصالحين وأئمة المسلمين أكبر من هذا؟! نعوذ بالله من ذلك.
وأذكر هنا بعض الأمثلة التي تبين كيف رد العلماء على من أوَّل الصفات قبل ابن تيمية:
- فهذا الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي (المتوفى: 620هـ) قد رد على الإمام ابن عقيل لخوضه في علم الكلام وتأويله للصفات، يقول ابن قدامة في «تحريم النظر في كتب الكلام» (ص 29):
«أما بعد فإنني وقفت على فضيحة ابن عقيل التي سماها نصيحة وتأملت ما اشتملت عليه من البدع القبيحة والشناعة على سالكي الطريق الواضحة الصحيحة فوجدتها فضيحة لقائلها قد هتك الله تعالى بها ستره وأبدى بها عورته ولولا أنه قد تاب إلى الله عز وجل منها وتنصل ورجع عنها واستغفر الله تعالى من جميع ما تكلم به من البدع أو كتبه بخطه أو صنفه أو نسب إليه لعددناه في جملة الزنادقة وألحقناه بالمبتدعة المارقة.
ولكنه لما تاب وأناب وجب أن تحمل منه هذه البدعة والضلالة على أنها كانت قبل توبته في حال بدعته وزندقته...
إلى أن قال: فإن قال: تركتم تأويل الآيات والأخبار الواردة في الصفات وادعى أن السلف تأولوها وفسروها. فقد أفك وافترى وجاء بالطامة الكبرى.
فإنه لا خلاف في أن مذهب السلف الإقرار والتسليم وترك التعرض للتأويل والتمثيل، ثم إن الأصل عدم تأويلهم فمن ادعى أنهم تأولوها فليأت ببرهان عل قوله، وهذا لا سبيل إلى معرفته إلا بالنقل والرواية، فلينقل لنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته أو عن أحد من التابعين أو الأئمة المرضيين.
ثم المدعي لذلك من أهل الكلام وهم أجهل الناس بالآثار وأقلهم علما بالأخبار وأتركهم للنقل
فمن أين لهم علم بهذه ومن نقل منهم شيئا لم يقبل نقله ولا يلتفت إليه. وإنما لهم الوضع والكذب وزور الكلام.
ولا خلاف بين أهل النقل سنيهم وبدعيهم في أن مذهب السلف رضي الله عنهم في صفات الله سبحانه وتعالى الإقرار بها والإمرار لها والتسليم لقائلها وترك التعرض لتفسيرها بذلك جاءت الأخبار عنهم مجملة...» اهـ.
-وهذا الإمام الزاهد القدوة إسحاق بن غانم العلثي (المتوفى 634هـ) قد أرسل رسالة طويلة إلى الإمام أبي الفرج بن الجوزي بالإنكار عليه فيما يقع في كلامه من الميل إلى أهل التأويل يقول فيها -كما في «ذيل طبقات الحنابلة» (3 / 446):
«من عبيد الله إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي، إلى عبد الرحمن بن الجوزي، حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح، ووفقنا وإياه لاتباع السلف الصالح، وبصرنا بالسنة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع من الشريعة المحمدية. فلا حاجة إلى ذلك. فقد تركنا على بيضاء نقية، وأكمل الله لنا الدين، وأغنانا عن آراء المتنطعين، ففي كتاب الله وسنة رسوله مقنع لكل من رغب أو رهب، ورزقنا الله الاعتقاد السليم، ولا حرمنا التوفيق، فإذا حرمه العبد لم ينفع التعليم. وعرفنا أقدار نفوسنا، وهدانا الصراط المستقيم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفوق كل في علم عليم. وبعد حمد الله سبحانه، والصلاة على رسوله: فلا يخفى أن لا الدين النصيحة، خصوصا للمولى الكريم، والرب الرحيم. فكم قد زل قلم، وعثر قدم، وزلق متكلم، ولا يحيطون به علما. قال: عز من قائل: «ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير».
إلى أن قال: واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء والفضلاء، والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات. وقد أبانوا وهاء مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها ....
ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى، كأنها صدرت لا من صدر سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، بل من واقعات النفوس البهرجية الزيوف. وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وما فهموا. وحاشاهم من ذلك. بل كفوا عن الثرثرة والتشدق، لا عجزا - بحمد الله - عن الجدال والخصام، ولا جهلا بطرق الكلام. وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية، لا عن جهل وعماية.
والعجب ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض في الكلام. ثم يقدم على تفسير ما لم يره أولا، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده. فهذا الذي نهيت عنه. وكيف تنقص عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين؟ فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون: تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعا منا، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده، وتثبتون معرفته وفضله. كيف أقول ما لم يقل، فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ثم تنكر عليهم. هذا من العجب العجيب. ولو أن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق. لكان كاذبا في إخباره. فكيف تصفون الله سبحانه بشيء ما وقفتم على صحته، بل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات التي رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، يحتمل، ويحتمل.........
وإذا تأولت الصفات على اللغة، وسوغته لنفسك، وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا، فاختر لنفسك مذهبا، إن مكنت من ذلك، وما زال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضربوا بالسيوف، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا كذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهني، وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالا بالآخرة: ما هو معلوم معروف».
• ومن المعلوم أن الأشاعرة مِن أشهر مَن أول صفات الله تعالى، ولذلك فقد كثر رد العلماء عليهم:
-قال الإمام السجزي (المتوفى 444هـ ) في «رسالته إلى أهل زبيد» (ص 263):
«وينبغي أن يتأمل قول الكلابية والأشعرية في الصفات، ليعلم أنهم غير مثبتين إلها في الحقيقة، وأنهم يتخيرون من النصوص ما أرادوه، ويتركون سائرها ويخالفونه».
- وقال الإمام ابن خويز منداد المصري المالكي (المتوفى أواخر القرن الرابع) كما في «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2 / 943):
«أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها»
وعلق الإمام ابن عبد البر على ذلك بقوله: «ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه» اهـ.
وقال الإمام شيخ الحرمين أبو الحسن الكرجي (المتوفى 532هـ) في قصيدته «عروس القصائد في شموس العقائد»:
عقيدة أصحاب الحديث فقد سمت ... بأرباب دين الله أسنى المراتب
عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب
وأن استواء الرب يعقل كونه ... ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب
طرائق تجسيم وطرق تجهم ... وسبل اعتزال مثل نسج العناكب
وفي قدر والرفض طرق عمية ... وما قيل في الإرجاء من نعب ناعب
ثم قال:
وخبث مقال الأشعري تخنث ... يضاهي تلويه تلوي الشغازب
يزين هذا الأشعري مقاله ... ويقشبه بالسم يا شر قاشب
فينفي تفاصيلا ويثبت جملة ... كناقضه من بعد شد الذوائب
يؤول آيات الصفات برأيه ... فجرأته في الدين جرأة خارب
ويجزم بالتأويل من سنن الهدى ... ويخلب أغمارا فأشئم بخالب
وهذه القصيدة ذكر بعضها الذهبي في «العلو» (ص 236) وقال:
«وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين بن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث».
هذا، وقد أوجزت الكلام في هذه الوريقات لضيق الوقت، وبإمكان الباحث أن يأتي بمئات العلماء الذين سبقوا ابن تيمية إلى هذه المسائل وغيرها.
فشيخ الإسلام رحمه الله متبع وليس مبتدعا، وهو في منهجه واعتقاده مقرر لمنهج السلف الصالح واعتقادهم، وهذا لا شك فيه لمن اطلع على كتبه، ثم أنصف. وما وراء ذلك إلا الشتم والقذف والتبديع والتفسيق الذي لا يعجز عنه أحد!
ولحوم العلماء مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب ابتلاه الله بموت القلب.
أسأل الله عز وجل أن يرحم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يهدي من طعن فيه إلى الحق المبين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.
كتبه خادم العلم وأهله: محمد محب الدين أبو زيد.