المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة بلاغية في حديث



أهــل الحـديث
08-05-2014, 01:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وصحبه الغر الميامين، وعلى من اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين!
وبعد:
فيُعدُّ النبيr رأس الفصاحة ومجمع البلاغة، وأفصح من نطق بالضاد، وكلامُه وإن كان نازلا عن فصاحة القرآن الكريم إلا أنّه في الدرجة العليا من فصاحة البشر؛ إذ إنّ ألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة. تنطلق ألفاظه من لسان نزل عليه القرآن، فتراها خالية من الغرابة، بعيدة عن التعقيد، سهلة المتناول، لا لبس فيها ولا غموض.
ومن الأحاديث التي اشتملت على الكثير من البلاغة قولهr: ((ان مما ادرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)). وهذا الحديث على وجازته جمع صورا بلاغية كثيرة منها: التوكيد والإيجاز، والإيضاح بعد الإبهام، والتقديم والتأخير، وأسلوب القصر، وأسلوب الأمر، وغير ذلك.
أسباب اختيار الموضوع
1- الاشتغال بعلم الحديث الذي هو أشرف العلوم بعد القرآن الكريم.
2- المساهمة في الكشف عن بعض القضايا البلاغية المستنبطة من الحديث.
3- التأمّل في دقة العلماء ومعرفة جهودهم في التعامل مع الأحاديث النبوية.
خطة البحث
جاء هذا البحث في مقدمة وستة مطالب وخاتمة وذكر للمصادر والمراجع.
مقدمة: وفيها تعريف بأهمية الدراسة، وأسباب اختيار الموضوع، وبيان منهج الباحث.
المطلب الأوّل: إعراب الحديث.
المطلب الثاني: المعنى الإجمالي للحديث.
المطلب الثالث: الإيجاز.
المطلب الرابع: الإيضاح بعد الإبهام.
المطلب الخامس: التقديم والتأخير.
المطلب السادس: القصر.
المطلب السابع: الأمر.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصّل إليها الباحث.
منهج البحث
إنّ المنهج المتبع في كتابة هذا البحث كان استنباطيا استدلاليا، وفيه عمدت إلى النظر في حديث الدراسة، واستنباط البلاغة منه، مستدلا على ما أتوصل إليه بأقوال العلماء السابقين ما أمكنني ذلك.
وبعد فإنّي لا أزعم أنّ هذا البحث جاء خاليا من الأخطاء، ولكنّه جهد المُقل، وحسبي أنّي بذلت شيئا من جهدي، فما أصبت فيه فمن توفيق الله وحده، وما أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله العفو والمغفرة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل!



المطلب الأوّل
إعراب الحديث




الكلمة
الإعراب
الصورة البلاغية
إنّ
مما (من+ما)
أدرك
الناس
من كلام

من الأحرف المشبهة بالفعل يدخل على المبتدأ والخبر فينصب الأول اسما له ويرفع الثاني خبرا له.

من حرف جر وهي تبعيضية و(ما) اسم موصول بمعنى الذي في محل جر اسم مجرور، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم.

فعل ماض مبني على الفتح



فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والعائد إلى ((ما)) محذوف، أو مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة، أي بلغ الناسَ، والعائد ضمير الفاعل.

((من)) حرف جر ((كلام)) اسم
أسلوب خبري مؤكد بــ((إنّ)) والغرض من هذا الأسلوب: التوكيد والتقرير.


لفظ ((من)) حرف تبعيض يوحي بكثرة ما فهم الناس من عصور النبوة السابقة، ويوحي أيضا بأن خلق الحياء يتفق مع الطبيعة البشرية.

لفظ ((أدرك)) يوحي بعمق الوعي وحسن الفهم. قال ابن الكمال: (والإدراك إحاطة الشيء بكماله).

لفظ ((الناس)) يوحي بالعموم والشمول، وأنّ رسالة الأنبياء واحدة، والغرض منها إسعاد الناس جميعا.



((من كلام النبوة الأولى))


الكلمة
الإعراب
الصورة البلاغية
النبوة
الأولى
إذا
لم
تستحي


مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره وهو مضاف.


مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
صفة مجرورة وعلامة جرها الكسرة المقدرة على الألف منع من ظهورها التعذّر.





أداة شرط غير جازمة، وهي ظرف لما يستقبل من الزمان.

أداة جزم ونفي وقلب.

فعل مضارع مجزوم وعلى جزمه حذف الياء، لأنّ أصل الفعل استحيى يستحيي.
إجمال، وما بعده تفصيل لهذا الإجمال، وهو أسلوب خبري غرضه التوكيد والتقرير.
ويدل التعبير أيضا على تكامل الأديان، ويحث اللاحقين على الانتفاع بما ترك السابقون من القيم والمبادىء. وعبّر بـ((النبوة الأولى)) ولم يُعبّر بالأنبياء السابقين ليشير إلى أنّ رسالة الأنبياء واحدة. يقول ملا علي القارئ: (وقيد النبوة بالأولى للإرشاد إلى اتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام من أولهم إلى آخرهم)([1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn1)).

((إذا)) أداة تفيد اليقين والتحقق في الكلام.

((لم تستحي)) يفهم منها التنفير من الوقاحة والحث على الاتصاف بخلق الحياء، فالفعل المضارع يفيد الاستمرار والتجدد.
والخطاب يفيد العموم.


الكلمة
الإعراب
الصورة البلاغية
فاصنع
ما
شئت

الفاء واقعة في جواب الشرط. ((اصنع)) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت.

اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل نصب مفعول به.

شاء فعل ماضٍ مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل والتاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة ((شئت)) صلة الموصول لامحل لها من الإعراب، وجملة ((إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) المكونة من أداة الشرط وما بعدها في موضع نصب خبر إنَّ مؤخر.
عبّر بــ((فاصنع)) ولم يقل فاعمل
لأن العمل قد يكون بإتقان وقد يكون بغير إتقان، ولكن (الصنع) لا يكون بإتقان([2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn2)).

الخطاب في قوله: (إذ لم تستحي فاصنع ما شئت) للعموم أي: إن الخطاب عام يشمل كل من يتأتى منه الاستحياء. والصنع، وعليه يكون الخطاب عاما لجميع الناس.
والحديث كله كناية جميلة عن عظمة الحياء وأثره فى حياة الناس.



المطلب الثاني
المعنى الإجمالي للحديث

بدأ النبيr هذا الحديث بمقدمة هي بمثابة التمهيد، تشدُّ السامع وتشوّقه لتلقّي الخبر الذي جاء من أجله الحديث، لا سيما أنّ إنزال المخاطب للخبر منزلة المتردد أو الشاك في مضمونه قد استدعى مجيء أداة التوكيد ((إنّ)) لتدفع عنه ذلك التردد أو الشك الواقع في ذهن المخاطب.
ثم انتقل النبيr ليضيف الكلام الذي ابتدأ به حديثه إلى النبوة، وفائدة هذه الإضافة بيّنها المناوي بقوله:
(ففائدة إضافة الكلام إلى النبوة الأولى الإشعار بأن ذلك من نتائج الوحي ثم تطابقت عليه العقول، وتلقته جميع الأمم بالقبول)([3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn3)).
ثم ينتقل النبيr في سياق الحديث إلى أسلوب فعل الشرط والجزاء؛ ليضع السامع في موضع التخيير بأداة الشرط ((إذا)) وهي ظرف لما يُستقبل من الزمان ينبئ بوقوع حدث معيّن لابد منه في ذلك الزمان.
بعد ذلك يأتي الخطاب بقوله [لم تستحي] وهذا الخطاب يفيد العموم؛ لأنّ الحديث لم يرد فيه سبب معيّن، والنبيr لم يعيّن أحدا من الناس بهذا الخطاب كما ذكر ذلك شراح الحديث، إلا بمن تنطبق عليه تلك الصفة المذمومة، وإذا ما تحقق عدم الاستحياء، جاء السياق النبوي المبتدأ بصيغة فعل الأمر ((اصنع)) مقرونا بالفاء التي لازمت السببية في العمل؛ لأنّها وقعت جوابا للشرط بمعنى اصنع ما شئت بسبب عدم استحيائك فأنت مجازى بما تصنع. فالفائدة من استعمال هذا التركيب من صيغة الأمر المجازية جاءت لبيان أنّ الإنسان فيما لو ذهب عنه الاستحياء: فعل كل ما يشتهي أن يفعله دون أن يردعه رادع.



المطلب الثالث
الإيجاز

من المعلوم عند أهل البلاغة أنّ الإيجاز ضربان:
الأوّل: إيجاز القصر: وهو ما ليس بحذف، ويزيد معناه على لفظه. يقول القزويني:
(وهو ما ليس بحذف كقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فإنه لا حذف فيه مع أن معناه كثير يزيد على لفظه)([4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn4)).
الثاني: إيجاز الحذف: (وهو ما يكون بحذف والمحذوف إما جزء جملة أو جملة أو أكثر من جملة)([5] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn5)).
أمّا الإيجاز في هذا الحديث فيظهر في موضعين:
الأوّل: في قولهr [مما أدرك الناس] فقد حذف المفعول، والأصل بأن يُقال [مما أدركه الناس] ولكنّ سياق الحديث جاء في مقام التشويق وشدّ الانتباه؛ لذلك جاء الحذف ليكون الكلام أوقع في نفوس المستمعين.
الثاني: في قولهr [إذا لم تستح فاصنع ما شئت] وهذا من النوع الأول (إيجاز القصر) لأنّه من جوامع الكلم، فقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من المعاني التي يحملها الأمر التهديدي، فبدل أن يسهب في الكلام ويُفصّل فيه جاء بهذه العبارة التي معناها أنّ الحياء إذا فُقد من الإنسان فقد يعمد إلى عمل الفواحش والكبائر سرا وجهرا، قولا وعملا، ولكنّ الإنسان الفطن هو من يدرك أنّ قول وعمل الفواحش له ما وراءه من تهديد ووعيد، فمن يفعل ذلك فحساب شديد يكون بانتظاره. يقول المناوي:
(فدخل الحديث إذا في جوامع الكلم التي خص الله بها نبيهr. وقد عده العسكري وغيره من الأمثال)([6] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn6)). ويقول ابن جرير عن بلاغة الحديث:
(هذا أبلغ موعظة وأبين دلالة بأوجز إيجاز وأوضح بيان إذ لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح وذوي الهيئات والفضل أن يراه وهو فاعله والله مطلع على جميع أفعال خلقه فالعبد إذا استحى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه تجنب جميع المعاصي الظاهرة والباطنة)([7] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn7)).
ويكمن جمال الإيجاز في قوله [فاصنع ما شئت] بحذف مفعول [شئت] وذلك لعموم الذم والتحقير؛ إذ التقدير [فاصنع ما شئته] وأمّا الغرض من هذا الإيجاز فهو إثارة العقل، وتحريك الذهن، وإمتاع النفس.



المطلب الرابع
الإيضاح بعد الإبهام

من الوسائل التي كان يتبعها النبيr في تثبيت المعنى في نفوس السامعين: الإيضاح بعد الإبهام بأن يبدأ كلامه بصيغة مبهمة ثم يقوم بتوضيح ذلك الإبهام، يقول القزويني:
(...وهو إما بالإيضاح بعد الإيهام ليرى المعنى في صورتين مختلفتين أو ليتمكن في النفس فضل تمكن، فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفضيل والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك، فإذا ألقى كذلك تمكن فيها فضل تمكن وكان شعورها به أتم، أو لتكمل اللذة بالعلم به فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم، وإذا حصل الشعور به من دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول فيحصل لها بسبب المعلوم لذة وبسبب حرمانها عن الباقي ألم، ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى، واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم أو لتفخيم الأمر وتعظيمه)([8] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn8)).
وفي هذا الحديث نجد النبيr يبهم مطلع كلامه بقوله [إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى]، والإبهام جاء في موضعين:
الأوّل: إبهام الحياء في ضمير الشأن [إنّ] ثم جاء التوضيح بقوله [مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى]. والغرض من هذا الإبهام: التشويق لمعرفة القصة.
الثاني: إبهام الحياء بقوله [مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى] وهذه الإبهام يجعل المستمع يتساءل عن ذلك الشيء الذي أثر على الأنبياء السابقين، وخاصة أنه قد أكد بإنّ وباسمية الجملة؛ وما ذلك إلا لأنه من الأمور العظيمة التي يريد المصطفى أن يحرص المسلمون على معرفتها؛ لتعصمهم من الخطأ في أمور دينهم، وفي تساؤلهم دليل على شد انتباههم وحرصهم على معرفته. ثم يأتي التوضيح بعد الإبهام بالقول [إذا لم تستح فاصنع ما شئت] فبيّن عليه الصلاة والسلام أنّ الحياء هو المقصود من هذا الحديث.
والخطاب النبوي في هذا النص جاء في مقام التعليم وتصحيح الخطأ وتبشيعه، ولعلّ في الإبهام تعجيلا في بشاعة هذا الفعل، وهذا التدرج جعل المعنى ثابتا في نفوس الصحابة الكرام.



المطلب الخامس
التقديم والتأخير

يُعد أسلوب التقديم والتأخير في الكلام من أبرز الطرق التي اتبعها النبيr في أحاديثه؛ لما له من أثر فعّال في نفوس المستمعين، فهو يبحث في (بناء الجمل، وصياغة العبارات، ويتأمّل التراكيب، لكي يبرز ما يكمن وراءها من أسرار ومزايا بلاغية)([9] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn9)).
وقد بيّن عبد القاهر الجرجاني أهمية التقديم والتأخير بقوله:
(هو بابٌ كثيرُ الفوائد جَمُّ المحاسن واسعُ التصرُّف بعيدُ الغاية . لا يزالُ يفتَرُّ لك عن بديعةٍ ويُفضي بكَ إِلى لطيفةٍ . ولا تزالُ ترى شِعراً يروقُك مسمَعُه ويَلْطُف لديك موقعُه ثم تنظرُ فتجدُ سببَ أنْ راقك ولُطف عندك أن قُدَّم فيه شيءٌ وحُوَّل اللفظُ عن مكانٍ إلى مكان)([10] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn10)).
وفي هذا الحديث نجد أسلوب التقديم والتأخير متبعا، وذلك بتقديم خبر ((إنّ)) على اسمها، فإنّ قوله [مما أدرك الناس] شبه جملة وقعت خبرا مقدما، وقوله [إذا لم تستح فاصنع ما شئت] اسم إنّ مؤخر؛ ذلك أنّ المبتدأ في هذا الحديث هو المصدر المؤول من إذا الشرطية وفعلها وجوابها، ومن المعروف عند أهل اللغة أنّ المبتدأ إذا كان نكرة والخبر شبه جملة فإنّ تقديم الخبر على المبتدأ واجب، وهذا يقودنا إلى أنّ التقديم نحوي لا بلاغي، ومع ذلك فإذا أنعمنا النظر في الحديث وجدنا أنّ للتقديم لونا بلاغيا، فالتعبير بـ((ما)) في قوله [مما أدرك الناس] جاء في موضع التهويل والتعظيم، والمعنى: إنّ ما تركه الأنبياء على النبيr عظيم.
ثمّ إنّ استخدام ((من)) المدغمة في ((ما)) يبين أنّ خلق الحياء إنما هو جزء من كل فــ((من)) تبعيضية، فكأنّه أراد القول: إنّ بعض ما تركه الأنبياء السابقون.
أمّا الغرض البلاغي من هذا التقديم والتأخير في الحديث فهو لإبراز الأهمية ولشد انتباه السامع، فنجده أخّر الحديث عن الحياء ليتهيأ السامع لاستقبال المعلومة، ثم بعد ذلك تستقر في ذهنه.



المطلب السادس
القصر

المراد بالقصر: (تخصيص شيء بشيء بطريق معهود)([11] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn11)). وللعلماء في تفسير القصر طرق كثيرة، والذي يهمنا في هذا الحديث هو تقسيمهم باعتبار التحقق والأداء، فإمّا أن يكون القصر حقيقيا، وإما أن يكون ادعائيا، وفي هذا الحديث نجد القصر الادعائي (ويكون هذا الادعاء للمبالغة في مدح المقصور عليه أو ذمه أو لغير ذلك من الأغراض)([12] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn12)).
ويكمن القصر الادعائي في قولهr: [إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى] فقد قصر ما أدرك الناس من النبوة الأولى على الحياء، فالمقصور عليه في هذه الجملة هو الحياء، فكأنّهr بيّن أنّ الناس لم يدركوا شيئا من النبوات السابقة إلا الحياء، وكأنّ عداه مما يُدرك في حكم العدم (ولهذا فعندما تلاشت النبوات السابقة، لم يدرك الناس منها إلا بعض المعاني، ومنها: [إذا لم تستح فاصنع ما شئت])([13] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn13)).
وإذا تأملنا هذه الجملة القصرية وجدناها مشتملة على أبرز طرق القصر وهو التوكيد بــ((إنّ)) والنفي ((لم)) والأمر ((فاصنع))، وبكل هذه التأكيدات يربط النبيr بين خلق الحياء وبين النبوات السابقة ربطا لا انفكاك فيه ليدل على عظم هذا الخلق وأهميته قديما وحديثا.



المطلب السابع
الأمر

من المعلوم عند البلاغيين أنّ الخبر قد يُراد به معناه الحقيقي، وقد يخرج عن معناه الحقيقي إلى معان وأغراض أخرى يقتضيها النصّ، وفي هذا الحديث ورد الأمر في قولهr ((فاصنع ما شئت))، وقد اختلف البلاغيون في تحديد المراد منه على أقوال:
القول الأوّل: إنّ الأمر للتهديد والوعيد، ويستعمل في مقام عدم الرضا بالمأمور به، فيكون المعنى على هذا القول: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، فإنك معاقب ومجازى على صنيعك هذا. يقول الحافظ ابن حجر:
(...أو هو للتهديد أي اصنع ما شئت فإن الله يجزيك)([14] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn14)). ويقول ابن رجب الحنبلي:
(إنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء، فاعمل ما شئت، فالله يجازيك عليه، كقولهﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﭼوقوله ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)([15] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn15)).
وقد جزم الحميدي على أنّ الأمر في هذا الحديث لا يكون إلا للتهديد فقال:
(إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ليس هذا على الإباحة وإنما هو على التوبيخ لترك الحياء)([16] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn16)).
القول الثاني: إنّ الأمر للإباحة، فيُراد بالجملة ما يتعلق بالفعل، وعلى هذا يكون المعنى: إذا أقدمت على أمر معيّن، ولم تستحي في صنيعه من الله ورسوله فافعله، فإنّه يباح لك ذلك. يقول النووي:
(معناه إذا أردت فعل شيء، فإن كان مما لا تستحي من فعله من الله، ولا من الناس، فافعله، وإلا فلا. وعلى هذا يدور مدار الإسلام كله، وعلى هذا يكون قولهr [فاصنع ما شئت] أمر إباحة؛ لأنّ الفعل إذا لم يكن منهيا عنه شرعا كان مباحا)([17] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn17)).
ويقول القرطبي الباجي:
(إذا كان ما تفعله مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت، فإنه لا يرتدع أهل الدين إلا مما يستحيا منه، ويكون قوله فافعل ما شئت على الإباحة)([18] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn18)).
القول الثالث: هو أمر بمعنى الخبر، أي يقوم مقام الخبر، وذلك بأن يخبرr بما يؤول إليه حال فاقد الحياء، فكأنّ المعنى: إنّ المانع من فعل ما يشين العبد هو الحياء، فمن فقده انهمك في معاصي الله عز وجل. يقول ابن عبد البر:
(وهو أمر في معنى الخبر، فإنّ من لم يكن له حياء يحجزه عن محارم الله تعالى، فسواء عليه فِعْلُ الكبائر منها والصغائر)([19] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn19)).
أمّا عن السبب في اختيار صيغة الأمر دون الخبر فقد بيّن سببها الإمام الخطابي إذ يقول:
(الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في التعبير إنّ الذي يكفُّ الإنسان عن موافقة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعا بارتكاب كل شر)([20] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=33#_ftn20)).
والذي يظهر من هذه الأقوال أنّ القول الأوّل هو الأقرب للصواب لقول معظم أهل العلم به ولأنّ السياق يقتضيه.



الخاتمة

بعد التطواف في هذا الموضوع توصلنا إلى النتائج الآتية:
· من أبرز سمات الحديث: الإيجاز، وقد وقع في موضعين من الحديث، في قولهr [مما أدرك الناس] فقد حذف المفعول، والأصل بأن يُقال [مما أدركه الناس]، وفي قولهr [إذا لم تستح فاصنع ما شئت] فقد حذف المفعول، والأصل فاصنع ما شئته.
· من بلاغة النبيr: الإيضاح بعد الإبهام، وجاء الإبهام في الحديث في موضعين: الأوّل: إبهام الحياء في ضمير الشأن [إنّ] ثم جاء التوضيح بقوله [مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى]. والغرض من هذا الإبهام: التشويق لمعرفة القصة. والثاني: إبهام الحياء بقوله [مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى] والغرض من الإبهام: التعليم وتصحيح الخطأ وتبشيعه.
· في حديث الدراسة نجد أسلوب التقديم والتأخير متبعا، وذلك بتقديم خبر ((إنّ)) على اسمها، فإنّ قوله [مما أدرك الناس] شبه جملة وقعت خبرا مقدما، وقوله [إذا لم تستح فاصنع ما شئت] اسم إنّ مؤخر، أمّا الغرض البلاغي من هذا التقديم والتأخير في الحديث فهو لإبراز الأهمية ولشد انتباه السامع.
· من جماليات البلاغة: القصر. وقد جاء في قولهr: [إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى] فقد قصر ما أدرك الناس من النبوة الأولى على الحياء، فالمقصور عليه في هذه الجملة هو الحياء، فكأنّهr بيّن أنّ الناس لم يدركوا شيئا من النبوات السابقة إلا الحياء، والجملة اشتملت على أبرز طرق القصر وهو التوكيد بــ((إنّ)) والنفي ((لم)) والأمر ((فاصنع))، والقصر هنا ادعائي لا حقيقي.
· إختلف العلماء في تحديد معنى الأمر في قولهr: [فاصنع] على ثلاثة أقوال: الأوّل: إنّ الأمر خرج عن معناه الحقيقي إلى غرض التهديد والوعيد.
الثاني: إنّ الأمر يبقى على حقيقته ويُراد به الإباحة.
الثالث: إنّ الأمر بمعنى الخبر.
والذي يظهر لنا أنّ القول الأوّل أقرب للصواب والله تعالى أعلم.


المصادر والمراجع

· الاستذكار، يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوّض، الطبعة الأولى 1421-2000، دار الكتب العلمية، بيروت.
· أسلوب القصر في أحاديث الصحيحين ودلالتها البلاغية، عامر عبد الله الثبيتي، الطبعة الأولى 1425، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
· الإيضاح في علوم البلاغة، جلال الدين محمد بن سعد الدين القزويني، الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
· تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، محمد بن أبي نصر الأزدي الحميدي، تحقيق: زبيدة محمد سعيد، الطبعة الأولى 1415-1995، مكتبة السنة، القاهرة.
· جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ابن رجب الحنبلي، تحقيق: محمد عبد الرزاق الرعود، الطبعة الثانية 1420-1999، دار الفرقان، عمّان.
· دراسات بلاغية، بسيوني فيود، مؤسسة المختار، القاهرة.
· دلائل الإعجاز، عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، تحقيق: محمد التنجي، الطبعة الأولى 1995، دار الكتاب العربي، بيروت.
· شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، يحيى بن شرف الدين النووي، الطبعة الرابعة 1404-1984، المكتب الإسلامي، بيروت.
· الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الطبعة الثانية 2010، دار الكتب العلمية، بيروت.
· فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبع سنة 1973، دار المعرفة، بيروت.
· فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، محمد عبد الرؤوف المناوي، ضبطه وصححه: أحمد عبد السلام، الطبعة الأولى 1415-1994، دار الكتب العلمية، بيروت.
· مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، محمد عبد الله التبريزي، تحقيق: جمال عيتاني، الطبعة الأولى 1422-2001، دار الكتب العلمية، بيروت.
· المطول في شرح تلخيص المفتاح، سعد الدين مسعود التفتازاني الهروي، طبع سنة 1330، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، مصر.


([1]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، محمد عبد الله التبريزي، تحقيق: جمال عيتاني، الطبعة الأولى 1422-2001، دار الكتب العلمية، بيروت، 9/269.

([2]) ينظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الطبعة الثانية 2010، دار الكتب العلمية، بيروت، ص154.

([3]) فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، محمد عبد الرؤوف المناوي، ضبطه وصححه: أحمد عبد السلام، الطبعة الأولى 1415-1994، دار الكتب العلمية، بيروت 1/58.

([4]) الإيضاح في علوم البلاغة، جلال الدين محمد بن سعد الدين القزويني، الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1/177.

([5]) الإيضاح 1/177.

([6]) فيض القدير، 1/59.

([7]) فيض القدير 2/96.

([8]) الإيضاح 1/64.

([9]) دراسات بلاغية، بسيوني فيود، مؤسسة المختار، القاهرة، ص49.

([10]) دلائل الإعجاز، عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، تحقيق: محمد التنجي، الطبعة الأولى 1995، دار الكتاب العربي، بيروت، ص96.

([11]) المطول في شرح تلخيص المفتاح، سعد الدين مسعود التفتازاني الهروي، طبع سنة 1330، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، مصر، 204.

([12]) أسلوب القصر في أحاديث الصحيحين ودلالتها البلاغية، عامر عبد الله الثبيتي، الطبعة الأولى 1425، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1/31.

([13]) أسلوب القصر 1/330.

([14]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، طبع سنة 1973، دار المعرفة، بيروت، 6/523.

([15]) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ابن رجب الحنبلي، تحقيق: محمد عبد الرزاق الرعود، الطبعة الثانية 1420-1999، دار الفرقان، عمّان 1/295.

([16]) تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، محمد بن أبي نصر الأزدي الحميدي، تحقيق: زبيدة محمد سعيد، الطبعة الأولى 1415-1995، مكتبة السنة، القاهرة، 1/38.

([17]) شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، يحيى بن شرف الدين النووي، الطبعة الرابعة 1404-1984، المكتب الإسلامي، بيروت، ص50.

([18]) المنتقى

([19]) الاستذكار، يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: سالم محمد عطا ومحمد علي معوّض، الطبعة الأولى 1421-2000، دار الكتب العلمية، بيروت، 2/289.

([20]) فتح الباري 10/423.