المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تذكير الأخيار بخُلق الإيثار



أهــل الحـديث
07-05-2014, 03:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحية مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.


تذكير الأخيار بخُلق الإيثار

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن مما ينبغي على المؤمن أيها الأحبة الأخيار هو أن يتحلى بالخصال الكريمة والصفات الحميدة، ومن ذلك خلق الإيثار،وهو كما قال الجرجاني-رحمه الله-:" أن يقدم -المرء-غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة". التعريفات (ص 59)
إن الإيثار أيها الكرام من أعلى مراتب البذل والعطاء، يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-: "المراتب ثلاثة :
إحداها : أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو منزلة السخاء. الثانية : أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئا أو يبقى مثل ما أعطى، فهو الجود. الثالثة : أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثار ". مدارج السالكين ( 2/ 292)
لذا كان الاتصاف بخلق الإيثار من علامات أهل الصلاح الأبرار كالأنصار الذين مدحهم العزيز الغفار،حيث قال عنهم سبحانه جلَّ وعلا:(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)[الحشر: 9].
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:"أي:ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها عمن سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود،وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها،وبذلها للغير مع الحاجة إليها،بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خُلق زكي ومحبةٍ لله تعالى مقدمة على شهوات النفس ولذاتها".تفسير السعدي(ص 851)
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يُضرب به المثل في البذل والإيثار،حيث كان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلا حتى وإن سأله عن شيء هو بحاجة إليه، فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أَنَّ امْرَأَةً جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَة،ٍ فقالت يا رسول الله:إني نَسَجْتُ هذه بِيَدِي لِأَكْسُوَكَهَا،فَأَخَذَه َا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فيها وَإِنَّهَا لَإِزَارُهُ،فَجَاءَ فُلَانُ بن فُلَانٍ رَجُلٌ سَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ،فقال يا رَسُولَ اللَّهِ ما أَحْسَنَ هذه الْبُرْدَةَ! اكْسنِيهَا؟قال:"نعم"،فلما دخل طَوَاهَا وَأَرْسَلَ بها إليه،فقال له الْقَوْمُ:والله ما أَحْسَنْتَ كُسِيَهَا النبي صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وقد عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا،فقال:إني والله ما سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا لِأَلْبَسَهَا،وَلَكِنْ سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا لِتَكُونَ كَفَنِي،فقال سَهْلٌ-رضي الله عنه-:(فَكَانَتْ كَفَنَهُ يوم مَاتَ).رواه ابن ماجة(3555)،وصححه الشيخ الألباني-رحمه الله-.
وكذلك أيها الأفاضل كان أصحابه رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من سلفنا الصالح -رحمهم الله- حيث سطروا لنا أروع الأمثلة وأزكى المعاني في تحقيق هذه الخصلة الكريمة،فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال:جاء رَجُلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مَجْهُودٌ - أي أصابني الجهد, وهو المشقة والحاجة وسوء العيش والجوع- الشرح على صحيح مسلم (14/ 12)- ، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت:والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما عندي إلا مَاءٌ،ثُمَّ أرسل إلى أُخْرَى،فقالت: مِثْلَ ذلك حتى قُلْنَّ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذلك: لا والذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما عِنْدِي إلا مَاءٌ،فقال:"من يُضِيفُ هذا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ الله؟"، فَقَامَ رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ،فقال: أنا يا رسول الله فَانْطَلَقَ به إلى رَحْلِهِ، فقال لِامْرَأَتِهِ هل عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قالت: لا إلا قُوتُ صِبْيَانِي، قال: فَعَلِّلِيهِمْ بشيء،فإذا دخل ضَيْفُنَا فَأَطْفِئْ السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ،فإذا أهوى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إلى السِّرَاجِ حتى تُطْفِئِيهِ، قال فقعدوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فلما أَصْبَحَ غَدَا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"قد عَجِبَ الله من صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ".رواه البخاري (3587) ومسلم ( 2054)واللفظ له.
يقول الإمام النووي –رحمه الله- :" هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة منها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من الزهد في الدنيا، والصبر على الجوع، وضيق حال الدنيا، ومنها أنه ينبغي لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف، ومن يطرقهم بنفسه فيواسيه من ماله أولا بما يتيسر إن أمكنه، ثم يطلب له على سبيل التعاون على البر والتقوى من أصحابه ومنها المواساة في حال الشدائد، ومنها فضيلة إكرام الضيف وإيثاره، ومنها منقبة لهذا الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما، ومنها الاحتيال في إكرام الضيف إذا كان يمتنع منه رفقا بأهل المنزل لقوله:(أطفئي السراج وأريه أنا نأكل) فإنه لو رأى قلة الطعام وأنهما لا يأكلان معه لامتنع من الأكل".الشرح على صحيح مسلم (14/ 12)
يقول الإمام الحسن البصري –رحمه الله- :" لقد رأيت أقواما كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواما يمسي أحدهم وما يجد عنده إلا قوتا، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني لأجعلنَّ بعضه لله عز وجل، فيتصدق ببعضه وإن كان هو أحوج ممن يتصدق به عليه".حلية الأولياء ( 2/ 134)
فأين أمثال هؤلاء اليوم بين أهل الإسلام أيها الكرام ؟!...
إننا لا نقول أيها الأحبة الأفاضل أنه لا يُوجد مطلقا من المسلمين اليوم من يتخلق بهذه الخصلة الكريمة!فالحمد لله أيها الأخيار فإنه لا تخلوا منهم أمصار!!
لكن الذي يُحزن كل مؤمن محب لنشر الخير بين الأنام أن يرى أن هذه الصفة الحميدة التي هي من أسباب نشر الألفة والمحبة بين أهل الإسلام! بدأت تَقل! بل أصبحت نادرة الوجود! والله المستعان.
لماذا ؟!...
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى اختفاء خُلق الإيثار بين الكثير من المسلمين أيها الأحباب ضُعف التوكل والاعتماد على العزيز الوهاب،وكثرة الذنوب والمعاصي التي هي سبب كل بلاء وأصل كل شقاء، وكذلك تعلق القلوب بالأمور الدنيوية الفانية بدل ربطها بالحياة الأخروية الباقية، ولذا نتج عن ذلك طول الأمل الذي هو من أسباب إساءة العمل!
يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل،ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل". حادي الأرواح(ص 48)
أيها الأفاضل إن أرحم الراحمين قد حثنا على الإنفاق والتصدق مما نحب على الفقراء والمساكين، لأن البذل والعطاء لوجه الرحمن هو طريق الفوز بالجنان بإذن المنان، حيث قال سبحانه:(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) [آل عمران:92]
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:"هذا حث من الله لعباده على الإنفاق في طرق الخيرات،فقال:(لن تنالوا)أي:تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة،(حتى تنفقوا مما تحبون) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة، ودلت الآية أن العبد يحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره،وأنه ينقص من بره بحسب ما نقص من ذلك".تفسير السعدي (ص 138)
لكن مما ينبغي أن نعلمه أيها الأحبة أن الإيثار بالشيء مع احتياجه! هو أكمل من مجرد التصدق به مع محبته، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :" أما الإيثار مع الخصاصة، فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة، فإنه ليس كل متصدقٍ محبًا مؤثرا، و لا كل متصدقٍ يكون به خصاصة، بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة ". منهاج السنة النبوية( 7/184)
فعلينا أن نعلم أيها الأخيار أن التحلي بهذه الصفة الجليلة لا يكون مجرد عبارات تُردد!ولا شعارات تُرفع!وإنما تتضح حقيقة الاتصاف بهذه الخصلة الكريمة عند الامتحان والاختبار!وذلك عند حاجة الناس لما في يدي مدعي الإيثار!
فعلى كل من وُفق للتحلي بالإيثار أن يحمد الله جل وعلا العليم ويشكره على أن يسر له تحقيق هذا الخلق الكريم الذي يحبه العزيز الحكيم ، وليسعى دائما لدعوة الناس إليه وحثهم على التحلي به.
وعلى كل من لم يتصف به من المسلمين،أن يسأل الله العليم التوفيق لتحقيق هذا الخلق القويم، وأن يبذل الأسباب المعينة له على كسبه والتحلي به بإذن السميع الحليم،يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"الذي يسهله على العبد أمور: أحدها : أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة.
الثاني: أن يكون إيمانه راسخا ويقينه قويا، فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته.
الثالث: قوة صبره وثباته.
فبهذه الأمور الثلاثة ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه".طريق الهجرتين (ص450)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفات العليا أن يوفقنا جميعا للتحلي بصفات المتقين الأبرار ومن ذلك خُلق الإيثار ، وأن يحفظ المسلمين في كل الأمصار من كيد الفجار ومكر الأشرار،فهو سبحانه ولي ذلك والعزيز الجبار.


وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


أبو عبد الله حمزة النايلي