تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : القيمة العلمية للتقاييد عند السادة المالكية



أهــل الحـديث
03-05-2014, 05:20 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


القيمة العلمية للتقاييد عند السادة المالكية (1)
وُضِعَ تقييد أبي الحسن الزرويلي على "التهذيب" في عصرٍ فَتَرَت فيه همةُ العلماء عن التأليف، وقصرت فيه همة الطلاب عن التحصيل، قال عنه بعض المقيِّدين: "... لم يظهر من علماء فاس شيء من التآليف المرتجلة ولا الملخصة، إلا ما كان سبيله النسج بها على ما هي عليه فقط، كما في تأليف المدوَّنة المنسوب للشيخ أبي الحسن، وهو الذي اعتنى به طلَبته، وبنَوه على ما قَيّدوا عنه من فوائد المجلس، وذلك كلُّه في العشرة الرابعة من المائة الثامنة ... فلا يقال في هذه تآليف، لكونها منسوخة من أماكن مَعْزوَّة"(2).
ربما ناسب هذا المقام أن نأتي بكلام لافت للإمام أبي يحيى الونشريسي يقول فيه: " ما قُيَّدَ عن الشيخ الجَزولي، وأبي الحسن الصُّغَيِّر، فإنك تجِدُهم يزدحمون عليها في كل زمان، وخصوصاً فصل الشتاء، لا يَلحقُ الآخِرُ منها ورقة واحدة، مع كثرة عددها بحيث ذُكِر، بل تجدهم يتنافسون في اقتنائها بالأثمان العظيمة المُجْحِفة، ومَن مَلَك منهم المسبَّع من الجَزولي، وتقييد اليَحْمديّ عن أبي الحسن، أو حصلت له عناية بنقلها، فهو عالِم العالَم بأسره، وحائز مذهب إمام دار الهجرة على التمام، والقائم بأمره، ولقد كان الحسن المغيلي عندهم في أعلى طبقة من الفقه والتفقه، لقيامه على مسبع الجزولي نقلا، ولقد شاهدتهم يتساقطون كالفراش، على نسخة من الجزولي بخزانة القرويين، وزعموا أنها بخط أبي الحسن المذكور، وهي مشحونة بالتصحيف، تعمي البصر والبصائر، نور الله قلوبنا بذكره، وعمَّر ألسنتنا بشكره، ووفقنا لمّا فيه رضاه عنا"(3).
ما قاله الونشريسي لا نكاد نجد فيه مخالفاً عند السادة المالكية، بل يكاد يكون محل إجماع عند متأخريهم؛ يتناقلونه فيما بينهم، ويؤكدون عليه، مع التماس أكثرهم العذر للمقيدين(4)، ويأخذون على التقاييد أموراً أبرزها:
أولاً: أنها تؤخذ من أفواه المشايخ، لا من خطوطهم؛ بل إن المشايخ يومئون في مجلس الإقراء إلى مراجع ومصادر نقولهم، ويَدعون لطلبتهم أمر الرجوع إليها، وإثبات نصوصها بعد ما قيدوه في المجلس، وهذا يخضع لتفاوت الملكة العلمية فيما بين طالبٍ وطالب، فيبني كل واحد في تقييده على ما سمعه من الشيخ ما ناسب اجتهاده ونظره, ومن تقاييد الفقهاء؛ مثل ابن يونس، واللَّخمي، وعياض، وابن رشد, واختلف رأيهم في ذلك، فمنهم الموجز، ومنهم المُطْنِب(5)؛ بل قد يُفتَح على الشيخ – نفسه- في الوقت ما لا يفتح عليه في غيره.
تأمل –رعاك الله- ما ذكر أهلُ التراجم من أن أبا محمد عبد الرحمن بن محمد بن يوسف الفاسي، المتوفى سنة: 1036هـ، كان إذا تكلم في العلم كأنه حاضر كله لا يغادر شيئًا مما تحتاج إليه المسألة المتكلم عليها، ويقتضيه المقام، وكان ربما يقول للحاضرين من الفقهاء وغيرهم: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي} [سورة هود، الآية: 55]، يعني في مسائل العلم، وكان بعض المقيدين عنه من الطلبة يوماً فاته كلام قاله في حال تقييده لغيره، فطلب منه أن يعيده عليه فقال له: أقول كما قال الجنيد: لو كنت أجريه لكنت أمليه(6).
ومعنى كلام الجنيد المستدل به أنه لا يُحضِّر الكلام قبل إلقائه على طلابه؛ لذلك يعجز عن تكراره بألفاظه وعباراته عند الطلب خارج مجلس الدرس.
ثانياً: أن الغالب في التقاييد عدم عرضها -بعض تقييدها- على الشيخ المِّصنف، أو المملي، وهذا ما أدى إلى التنفير من الفُتيا بما فيها، والنكير بالتعزير لمن أقدم على ذلك، فقال الشيخ زروق: " سمعت أن بعض الشيوخ أفتى بأن من أفتى من التقاييد يؤدب "(7).
بل وبما هو في مصنَّفَاتٍ أوثَق من التقاييد بمراحل؛ كتبصرة أبي الحسن علي بن محمد اللخمي، المتوفى سنة 478هـ، فقد قال ابن مرزوق: " تجدني أتوقف عن الفُتيا بما فيه، وبلغني عن بعض شيوخنا الفاسيين - حفظهم الله- أن كتاب اللخمي لم يُقْرأ عليه، فكان الشيوخ يجتنبون الفتيا منه لذلك"(8)، وقال المقري الجد: "كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه، ولم يؤخذ عنه"(9).
فتأمل – رعاك الله- كيف عدلوا عن الفُتيا بما في "التبصرة" مع أن مصنفها أحد الجهابذة الأعلام، وأن تبصرته مما ذاع صيتها بين الأنام، ولا تستغرب إن قيل مثل ذلك عن تقاييد تلُقِّيَتُ رؤوس مسائلها في مجلس الدرس، ثم تُمِّمَت بعد ذلك من مصادرها الأصلية في حياة الشيخ، أو بعد وفاته(10).
قال شيخنا الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله- في التفريق بين حالات المقيِّدين عن الشيوخ: جرت عادة المجدين من الطلاب التقييد عند الشيخ زمن الإقراء، إلا أنه قد يحصل اختلاف بينهم في التقييد؛ لهذا فإن أحكام التقييد على التفصيل الآتي:
1 - تقييد الطالب عن شيخه زمن الإقراء، ثم عرضه عليه، ومراجعته له؛ فهذا يعتمد.
2- مثل الحالة قبلها، لكن لا يعرضه -بعدُ - على الشيخ، ولا يراجعه، فالتقييد هنا غير مَعتمَد، فهو يَهْدِي ولا يُعتمد(11).
قول الشيخ بكر "يَهْدِي ولا يُعتمد" سبقه إليه الشيخ زروق في مقدمة شرحه للرسالة عند ذكره الكتب التي اعتمد عليها في شرحه هذا ونصه: "... أما الجزولي وابن عمر- ومن في معناهما- فليس ما ينسب إليهم بتأليف، وإنما هو تقييد قيده الطلبة زمن إقرائهم؛ فهو يَهْدِي ولا يُعتمد"(12).
ونظم هذا المعنى النابغة الغلاوي في نظمه المعروف بـ "البوطليحية"، فقال رحمه الله:
وكل ما قُيِّدَ ممّا يُستَمَدْ = في زمَن الإقراءِ غيرُ مُعْتَمَدْ
وهو المسمّى عندَهمْ بالطرَّه = قالوا ولا يُفتي بهِ ابن الحُرّهْ
لأنَّه يَهْدي وليسَ يُعتَمَدْ = عَليهِ وحدَه مَخافَة الفَندْ
كطرَّة الجزولي وابن عُمرا = على رسالة أمير الأمَرا
ثالثاً: إن العصر الذي شاعت فيه التقاييد على "المدونة" و "الرسالة" وغيرهما عصرُ ضعف ملكة التأليف، وشيوع الأمية وشيء من البداوة التي قد تؤدي – مع صلاح أهلها- إلى خفة في الضبط، وضعفٍ في النقل.
رابعاً: إن التحذير من الفُتيا بما في التقاييد مقيد بمذهب إمام دار الهجرة؛ فيقال في ذلك: لا يُفتى على مذهب مالك من التقاييد!
وهذا له وجه؛ ويشهد له ما في "أزهار الرياض" من التعليل بأن المُقيِّد قد يجمع للخلاف المذهبيِّ ما ليس فيه، بل هو خارج المذهب، وقد وقع ذلك في غير موضع من تلك التقاييد ... وقد عُلِمَت نصوص أهل المذهب في هذه المسائل، ومن هذا في تلك التقاييد ما لا يُحصىُ كَثْرَةً لمن تأمّلها... فلعل هذا هو سبب نقد العلماء في مجموع تلك التقاييد. والله اعلم.اهـ(13).
---------------------
(1) هذا المبحث مستلٌ من المقدمة التحقيقية لتقييد أبي الحسن الزرويلي على تهذيب البراذعي لمسائل المدونة والمختلطة.
(2) أزهار الرياض، للمقري: 3/23، 24.
(3) أزهار الرياض، للمقرئ: 3/36.
(4) قال أبو الهيثم الشهبائي: لكأني بشهاب الدين المَقَرِّي يلتمس أحسن الأعذار لمن هذا حاله فينقل عن بعض المحققين قوله: إياك أن تظن القصور بمن تصدّى للتقييد على "التهذيب"، من طلبة الشيخ أبي الحسن ... ويَقرعَ سمعك ما أفتى به الشيوخ، ومن له في العلم الرسوخ، أنَّ تقاييد "التهذيب" و "الرسالة " لا يعوَّل عليها في الإقراء، ولا يُوثَق بشيء منها في الفُتيا؛ وأنَّ من عوَّل عليها في الإقراء يرد المراتب.
فاعلم -شرَح الله صدرك- أنَّ القوم كانوا أهل صلاح وورع، وجِدّ في طلب الفقه، وإفراط حرص ومثابرة على درس "التهذيب"، وحِفْظ ما تعلَّق به من النصوص فقط ... وباب الفُتيا باب احتياط، فلا بد للمفتي من مباشرة الكتب المَرْويَّة، والأمهات الأصلية، ولا يَنبغي له الاقتصار على الواسطة؛ إذ لا تؤْمن من خلل أو تصحيف، لفقد ملكة التأليف، وإنما الغالب على طباعهم تَغّفل البداوة، فقَدَح ذلك في صناعة التصنيف، وكيفية التأليف، والقوم أهل دين متين كما وصفنا، فلا يقدح ذلك في مراتبهم، ولا يثلِم مناصبهم.اهـ. من أزهار الرياض، للمقري: 3/29، 30.
(5) انظر: أزهار الرياض، للمقري: 3/29، وقارن بما قاله القاضي برهان الدين ابن فرحون (في تبصرته: 1/55) في التسوية بين ما قُيِّد في حواشي الكتب من تقاييد عليها، مع ما في التصانيف: "إذا كان ما فيها موجودًا في الأمهات أو منسوبًا إلى محله، وهو بخط من يوثق به فلا فرق بينها وبين سائر التصانيف".
(6) الروض العطر، لابن عيشون، ص: 112.
(7) شرح الرسالة، لزروق: 1/4، ونظم هذا المعنى النابغة الغلاوي في نظمه المعروف بـ "البوطليحية"، فقال رحمه الله:
بلْ أوجَبوا تأديب منْ أفتى بِها = ما لمْ يكنْ نال المقام النّابِها
وهيَ إلى مَحلّها مَنسوبَهْ = بخط مَوثوق بهِ مَكتوبَهْ
ولمْ تُخالِف ما في الأمَّهاتِ = منْ نصِّ أو قاعِدَةٍ فهات
لا فرْقَ بيْنَها وبينَ ما نُقِل = في سائِر المُصَنَّفات وعُقِلْ
قال القرافي في كتاب الأحكام: (ص: 244-245): "تحرم الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تَشتهر حتى تتضافرَ عليها الخواطرُ، ويُعلمَ صحة ما فيها، وكذلك الكتب الحديثة التصنيفِ، إذا لم يَشتهر عَزْوُ ما فيها من النقول إلى الكتب المشهورة، أو يعلم أن مُصَنِّفَها كان يعتمدُ هذا النوعَ من الصحة وهو موثوق بعدالته، وكذلك حواشي الكتب تحرُمُ الفتوى بها لعدم صحتها والوثوقِ بها".
نقل الهلالي في "إتحاف المقتنع بالقليل"، ص: 160 ،161، عن ابن هارون توجيه قول القرافي -المتقدم- بأن مراده: "إذا كانت الحواشي غريبةَ النقل؛ وأما إذا كان ما فيها موجوداً في الأمهات أو منسوباً إلى محله، وهي بخط من يوثقُ به، فلا فرق بينها وبين سائر التصانيف، ولم يزل العلماء وأئمة المذهب ينقلون ما على حواشي كتب الأئمة الموثوق بعلمهم المعروفة خطوطهم، وذلك موجود في كلام القاضي عياض، وأبي الأصبغ بن سهل، وغيرهما إذا وجدوا حاشية يعرفون كاتبها نقلوها".
وما نسبه الهلالي لابن هارون ذكره ابن فرحون بنصه في «تبصرة الحكام»: 1/55، ولم ينسبه إلى ابن هارون.
(8) المعيار المعرب، للونشريسي:1 /37.
(9) نفح الطيب، للمقرئ الجد: 2/272.
(10) نقل المقرئ في "الأزهار": 3/23: أن تأليفَ المدَّونة المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن؛ هي التي اعتنى بها طلَبته، وبنَوها على ما قَيّدوه عنه من فوائد المجلس، وذلك كلُّه في العشرة الرابعة من المائة الثامنة.اهـ؛ أي: بعد وفاة أبي الحسن رحمه الله بأكثر من عِقدٍ من الزمن.
(11) المدخل المفصل، للدكتور بكر أبو زيد: 1/241، 242.
قلتُ: أكثَرَ أصحاب التقاييد عن أبي الحسن من توثيق ما قيَّدوه عن شيخهم من المصدر الذي يحيل عليه من المصنفات، بقول: (صحَّ)، أو (صحَّ منه)، أو ما يفيد هذا المعنى؛ كإيراد اسم الكتاب أو مؤلفِّه بعد النقل منه.
ولا ينتفي بهذا المحذورُ الذي حذَّر منه شيخُنا بكر أبو زيد رحمه الله؛ لأن التصحيح من الكتاب، أو معارضة ما تم تقييده على ما في الكتاب؛ لا يغني عن معارضة "التقييد" على الشيخ المقيَّد عنه؛ فالأول توثيق، والثاني عرض؛ فليُتَنَبَّه!
(12) شرح الرسالة، لزروق: 1/4.
(13) أزهار الرياض، للمقري: 3/33، 34.