المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخطاء الأنبياء الطاهرين في الإسلام



أهــل الحـديث
27-04-2014, 12:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم


إن الإسلام العظيم حرص حرصاً شديداً على إرشاد وهداية البشرية جمعاء لمعرفة ولو جزء بسيط من المكانة العظيمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند الله الملك العظيم الذي خلقهم فطَهَّرَهُم، روى أنس بن مالك رضي الله عنه (أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أتاهُ جبريلُ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ وَهوَ يلعَبُ معَ الغلمانِ، فأخذَهُ فصرعَهُ فشقَّ عن قلبِهِ، فاستَخرجَ القلبَ، فاستَخرجَ منهُ علَقةً ، فقالَ : هذا حظُّ الشَّيطانِ منكَ ، ثمَّ غسلَهُ في طَستٍ من ذَهَبٍ بماءِ زمزمَ ، ثمَّ لأَمَهُ ، ثمَّ أعادَهُ في مَكانِهِ ، وجاءَ الغِلمانُ يسعَونَ إلى أمِّهِ ( يَعني ظئرَهُ ) فقالوا : إنَّ محمَّدًا قد قُتِلَ ، فاستَقبلوهُ وَهوَ مُنتقعُ اللَّونِ ، قالَ أنسٌ : وقد كنتُ أرى أثرَ ذلِكَ المِخيَطِ في صدرِهِ) ( الراوي: أنس بن مالك المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 162 خلاصة حكم المحدث: صحيح.)، و قال تعالى عن عيسى عليه السلام (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) (مريم: 19)، وقال تعالى عن يحي عليه السلام (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا) (مريم: 12-13). فأحَبَهم، قال تعالى عن موسى عليه السلام (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) (طه: 39)، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم:47)، وقال تعالى عن إسماعيل وإدريس عليهما السلام (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (الأنبياء: 85-86 )، وقال تعالى عن لوط عليه السلام (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ۗ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (الأنبياء: 74-75). فاصطفاهم، قال تعالى عن موسى عليه السلام (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ ) (طه: 13)، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام (إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا)، وقال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) (القصص: 86). فأحبوه، قال تعالى عن موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ) (طه: 84)، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) (الشعراء: 77-81)، وقال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، وقال تعالى عن المؤمنين أتبَاعِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ ) (البقرة: 165). فأرسلهم رحمةً للعالمين، قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وقال تعالى عن موسى وهارون عليهما السلام (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ) (طه: 47)، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام (قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) (مريم: 21). كي يُثبتوهم على فطرة التوحيد والإيمان بخالقهم ويحفظونهم من الضلال والتيهان في ظلمات الكفر والإشراك والجحود بإرشادهم وهدايتهم إلى صراط الحق المستقيم، قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64)، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم: 43) ، وقال تعالى عن موسى عليه السلام ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (طه: 49-50)، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم: 36).

فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا هم يتصفون بالكمال البشري، فهم بمثابة الملائكة البشرية، وذلك لأنهم معصمون عن معصية الله عزوجل بشكل مقصود متعمد لأنه لا يستقيم أن يجعل الله سبحانه وتعالى الأنبياء قدوة ونموذج للبشرية في طاعة الله عزوجل بالرغم من إقترافهم وإرتكابهم للمعاصي عن قصد وعمد ثم يُطلب سبحانه وتعالى من الناس أن يقتدوا بالأنبياء العصاة. وبنفس الوقت يطلب عزوجل من الناس عدم معصيته ويعاقبهم إذا ما إقترفوا المعاصي وحاشى لله عزوجل أن يفعل ذلك، ولكنهم ليسوا معصومين عن الإجتهاد الخاطئ عن عِلمٍ أو الوقوع في الخطأ الغير مقصود أو النسيان وبالطبع هم معصمون عن الإقرار على الإجتهاد الخاطئ وعن الخطأ الغير مقصود كما أنهم من شدة ورعهم وتقواهم يتجنبون صريح الكذب ويلجؤن إلى التورية والمعاريض في كلامهم إذا ما أكرهوا على ذلك من أجل تحصيل مصلحة فيها دفع شر أو تحقيق خير، فمن أجل ذلك هم عبارة عن نموذج للبشرية في عباد ة الله عزوجل مع الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن صحيفة أعمال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي صحيفة ناصعة البياض ومطهرة من أي ذرة سيئة في معيار ميزان شريعة الإسلام العظيمة التي بُعث بها سيد الخلق والبشرية جمعاء الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ تجاوزَ عَن أمَّتي الخطأَ والنِّسيانِ وما استُكرِهوا علَيهِ) ( الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 1675 خلاصة حكم المحدث: صحيح.). فهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن الله عزوجل يعفو ولا يعاقب المسلم على المعاصي التي يقترفها على سبيل الخطأ و النسيان والإكراه، و لقوله تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)، ولقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب:5). وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام (لا يَصْلُحُ الكَذِبُ إلا في ثلاثٍ : يُحَدِّثُ الرجلُ امرأتَه ليُرْضِيَها ، والكَذِبُفي الحربِ، والكَذِبُ ليُصْلِحَ بين الناسِ.) ( الراوي: أسماء بنت يزيد المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 7723 خلاصة حكم المحدث: حسن). فهذا الحديث الشريف يُشير إلى جواز الكذب في هذه الصور، مع الإشارة إلى أن الكذب في الإسلام هو حرام سواء على المسلم أو على الكافر ولا رخصة فيه إلا ما استثناه الشرع في هذه الصور، فالعلماء لم يختلفوا في جواز الكذب في هذه الصور، ولكن اختلفوا في ما هو المراد بالكذب المباح. فقالت طائفة أنه جائز الكذب في غير هذه المواضع إذا كان للمصلحة، بينما قال آخرون ومنهم الطبري أنه لا يجوز أصلا وأنه ما جاء من الإباحة في تلك المواضع هو ليس صريح الكذب وإنما هو التورية واستعمال المعاريض، وهي التلفظ بلفظ له معنى ظاهر وقريب والمراد حقيقةً هو المعنى البعيد والخفي.

وأيضاً قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجرانِ ، وإذا حكم فاجتهدَ ثم أخطأَ فله أجرٌ.) ( الراوي: عمرو بن العاص المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7352 خلاصة حكم المحدث: صحيح ). طبعاً بشرط أن الحاكم يؤجر عندما يُخطئ إذا كان عالماً بالإجتهاد فاجتهد ، وأما إذا لم يكن عالما فلا، وقد يقول قائل بأن هذه الأحاديث تنطبق على المسلمين وأن الأنبياء عليه الصلاة والسلام هم جاءوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي لا يشملهم هذا التخفيف والتجاوز عن الإجتهاد الخاطئ والخطأ الغير مقصود والنسيان، والجواب طبعا هو لا وأنهم بمشيئة الله الملك العظيم الرحمن العفو الغفار هم واقعون تحت هذا التخفيف. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد البشرية وهو أيضا عبد مسلم وبالتالي هو واقع تحت هذا التخفيف وبما أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا هم مشتركون في تكريم وتشريف النبوة، لقوله عليه الصلاة والسلام : ( أنا أولى الناسِ بِعِيسَى ابنِ مريمَ في الدنيا و الآخرةِ ، ليس بَيْنِي و بينَهُ نَبِيٌّ ، و الأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى ، و دِينُهُمْ واحِدٌ.) (الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم : 1452 خلاصة حكم المحدث: صحيح.)، مع العلم بأنهم متفاوتون في المنازل لقوله تعالى ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (البقرة: 253 )، وبالتالي ما ينطبق على الرسول صلى الله عليه وسلم ينطبق على بقية الأنبياء والرسل جميعا ما يعني أنهم يقعون تحت هذا التخفيف. وأيضا من جانب آخر أنه لا يستقيم أن يعفو الله سبحانه وتعالى عن كلا العبد المسلم العاصي والمطيع بالتجاوز عن الخطأ والنسيان وبالأجر للمجتهد المخطئ ولا يعفو عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام لأن الأنبياء هم سادة البشر جميعاً وخيارهم، وفيما يلي شرح وتوضيح الأخطاء الغير مقصودة التي وقع فيها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

بما يخص سيدنا إبراهيم عليه السلام:

قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لم يَكْذب إبراهيمُ علَيهِ السَّلامُ في شيءٍ قطُّ إلَّا في ثلاثٍ قولِهِ إِنِّي سَقِيمٌ ولم يَكُن سَقيمًا وقولُهُ لسارَّةَ أختي وقولِهِ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ( الراوي: أبو هريرة المحدث: الترمذي – المصدر : سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم: 3166 خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح.). فلو نظرنا إلى الثلاث كذبات فنجد أن جميعها ليست كذب صريح وإنما هي عبارة عن تورية و معاريض. فالأولى تقع تحت الإكراه لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام أُجبر وأُرغم على التورية فقال أن سارة رضي الله عنها هي أخته وهذا هو المعنى الظاهر أو القريب بينما هو يقصد أنها أخته في الإسلام وهذا هو المعنى البعيد والخفي، وقد فعل ذلك من أجل أن يُنقذ سارة من اللعين النمروذ لأنه كان يأخذ كل فتاة جميلة متزوجة بأرضه ليزني بها وكما هو مُشار في الحديث النبوي الشريف أعلاه بأن الله الملك العظيم الرؤوف الرحيم يتجاوز عن الإكراه. بينما في قوله عليه السلام ( إني سقيم ) ففيه معراض لأن المعنى الظاهر أو القريب هو أنه به مرض مزمن بينما المعنى الخفي والبعيد هو أن أي إنسان ما دامت نهايته الموت فهو به مرض مُزمن لأن نهاية أي مرض مزمن هو الموت، وقد قال ذلك من أجل أَنْ يَبْقَى في البَلَدِ بَعْدَ أَنْ يَذهَبَ قَوْمُهُ إِلَى الاحْتِفَالِ بِالأَعْيَادِ خَارِجَ البَلَدِ، وَذَلِكَ كي يُحَطِّم أَصْنَامَهُمْ. أما في قوله عليه السلام (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (الأنبياء: 63)، فقد طلب منهم عليه الصلاة والسلام بأن يسألوا الأصنام المحطمة لكي تنطق وتدافع عن نفسها وتخبرهم إذا ما كان كبيرهم هو الفاعل أم لا وهذا ظاهر في المقطع (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ) (الأنبياء: 63)، وهذا هو المعنى الظاهر والقريب بينما المعنى الخفي والبعيد والمقصود هو أن هذه الأصنام المحطمة عاجزة عن النطق لكي تدافع عن نفسها وتُخبر عن الفاعل كما أن كبيرهم الصنم هو أيضا عاجز عن النطق لإنكار هذه التهمة وهذا هو المعنى الخفي والبعيد والمقصود لأنه من المفترض أن لا يقوم كبيرهم بهكذا فعل فقوله عليه السلام (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) يشملُ سُؤالَ كبيرَهم مع سؤالِهم جميعاً. وطبعا هو عليه الصلاة والسلام قال ذلك من أجل أن يُظهر عجز هذه الأصنام المعبودة عن الدفاع عن نفسها حتى ولو بالنطق وهو أبسط أنواع الدفاع عن النفس، فكيف يُمكن لها أن تُدافع عن عبيدها. ما يعني أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قام بإستعمال المعاريض في تظاهره بالمرض وفي نسبه التحطيم لكبير الأصنام من أجل هدف مشترك وهو إقامة الحجة عليهم ببطلان وفساد معتقداتهم وزهقها، وبالتالي دفع ظلم الشرك بالله عزوجل وهذا جائز لأنه إذا كان جائز إستعمال المعاريض من أجل الإصلاح بين الناس كما هو مذكور في الحديث الشريف أعلاه فإنه بالتأكيد جائز في حالة دفع ظلم الشرك بالله عزوجل لأن الإصلاح بين الناس هو إصلاح ذات البين ودفع مظلمة مرادة بين اثنين مسلمين أو مسلم وكافر كما قال ابن حزم (رحمه الله تعالى ). وبالتالي إذا كان دفع المظلمة بين الناس جائز فإن دفع ظلم الشرك هو أحرى وأولى أن يكون جائزاً لأنَّ أعظمَ الظلمِ هو ظلمُ الشركُ بالله عزوجل والدليل على ذلك هو قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72)، فهذه الآية تشير إلى أن الإنسان يظلم نفسه بظلم الشرك أو الكفر عندما يخون أمانة توحيد الله عزوجل وعبادته، وقوله تعالى عن لقمان رضي الله عنه وهو يعظ ابنه ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (لقمان: 13)، وكذلك قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (النساء: 48)، فهذه الآية تشير إلى أن الله الملك العظيم الغفور الرحيم لا يغفر ظلم الشرك بينما يغفر ما دونه من الذنوب لأن الشرك هو أعظم من أي ذنب.

بينما بما يخص سيدنا يوسف عليه السلام:

إن الحيلة التي ألهمها الله عزوجل سيدنا يوسف عليه السلام بجعل الصاع الذهبي المرصع بالجواهر في متاع أخيه بنيامين نجد فيها تورية، قال تعالى (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف: 76)، وكذلك قوله تعالى ( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ ) (يوسف: 79)، فالمعنى الظاهر هو أنه عليه السلام لا يتجرأ على إغضاب الله عزوجل بأن يأخذ أحداً بجرم غيره لأنه لا يستطيع أن يظلم أحداً لم يرتكب ذنباً، والمعنى الخفي والمقصود هو أنه عليه السلام لا يستطيع أن يظلم أحداً من أخوته بمعاقبته على جرم لم يرتكبه لأنه عليه السلام هو من أمر بجعل الصاع في متاع أخيه بنيامين وكذلك لأن سيدنا يوسف عليه السلام هدفه من هذه الحيلة هو إبقاء أخاه بنيامين عنده وليس معاقبة أحداً من باقي أخوته. وهنا يجب الإشارة إلى رحمة وطهارة روح ورقة قلب سيدنا يوسف عليه السلام بحرصه على إخبار أخيه بنيامين بالحيلة وطمئنته له قبل أن يتم إتهام أخيه بالسرقة وذلك حرصا منه عليه السلام من إفزاع أو إخافة أخيه بهذه التهمة، قال تعالى (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف: 69)، فهذه الآية الكريمة تشير إلى إعلام سيدنا يوسف عليه السلام لأخيه بنيامين بالحيلة وبأنه أمره أن يكتم الخبر، ثم قوله تعالى (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف: 70)، فهذه الآية الكريمة تشير إلى حادثة إتهام أخوة سيدنا يوسف عليه السلام بالسرقة، بالرغم من أنه عليه السلام قادر على أن يُخبر أخيه بنيامين بهذه الحيلة بعد إتهامه إياه بتهمة السرقة وبعد أن يأخذه في حُكم ملك مصر. وأيضاً حاول سيدنا يوسف عليه السلام تجنب صريح الكذب عندما قال عليه السلام ( من وجدنا متاعنا عنده ) ولم يقل (من سرق) عند إتهامه إخوته بالسرقة. فهنا يبدو واضحاً وجلياً كيف أن سيدنا يوسف عليه السلام لم يكذب كذباً صريحاً وإنما كان في كلامه تورية والغرض من ذلك كان هو أخذ مظلمة أخيه بنيامين بإرجاعه إليه وكذلك الإصلاح بينه وبين إخوته عندما صفح وعفا عنهم وبالتالي هذه التورية جائزة لأنه كما يشير الحديث النبوي الشريف أعلاه بأن التورية بهدف الإصلاح بين الناس جائز شرعاً. ولكن قد يقول قائل، لماذا قام سيدنا يوسف عليه السلام بأخذ أخيه في حُكم ملك مصر ثم جعل إخوته يُخبرون أبيهم سيدنا يعقوب عليه السلام بحادثة السرقة ثم من بعد ذلك قام بمصارحة إخوته ومكاشفتهم بحقيقة ما جرى والعفو والصفح عنهم، بدلا من العفو والصفح عنهم مباشرة دون القيام بهذه الحيلة. والجواب هو أنه عليه السلام أراد أن يُعلمهم بأن الله الملك العظيم الحكم الحكيم قادر على أن يُمكن غيرهم في شؤون حياتهم ومعاشهم كما مَكَنهم الله عزوجل في مصيره عندما كان طفلاً، قال تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف: 88)، وكذلك سبحانه وتعالى قادر على أن يَقدِرَ ويقضي عليهم الظلمَ كما ظلموه عليه السلام عندما ألقوه في البئر لكي يأخذوه بعض المارة من المسافرين فيكون ذلك رادعاً ومؤدباً لهم كي لا يعودوا إلى ظلم غيرهم أبداً، وبالتأكيد أنه عليه السلام لم يفعل ذلك إنتقاما منهم لأنه عفى وصفح عنهم رغم مقدرته عليهم. إضافةً إلى ذلك، كي يُعلمهم ويُنبههم إلى أن الله الملك العظيم العزيز المُعز أعزه وكرمه لأنه نبي كريم ولأنه مظلوم بينما أذلهم وأهانهم الله عزوجل لأنهم كانوا ظالمين، قال تعالى ( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف:91)، وكذلك لأنه عليه السلام اتقى الله سبحانه وتعالى فلم يصبوا ويطاوع النساء اللواتي راودنه عن نفسه بينما هم لم يتقوا الله عزوجل فيه وألقوه في البئر، ولأنه صبر على ظلم إخوته له وعلى ظلم السجن بينما هم لم يصبروا على ما أصابهم من شدة من الجدب والقحط ومن أخذ أخيهم منهم فأظهروا ذلهم وإنكسارهم لسيدنا يوسف عليه السلام استرحاماً واستعطافاً، ولأنه قابل إساءتهم له بالإحسان إليهم وبالعفو والصفح عنهم وهذا ظاهر في قوله تعالى (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 90).

أما بالنسبة لقوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (يوسف: 24)، فهذه الآية الكريمة تُشير إلى أن زوجة العزيز قصدت وعمدت إجباره على فعل الفاحشة معها وذلك ظاهر في لفظ (ولقد همت به) بينما سيدنا يوسف عليه السلام مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية وحدثته نفسه بالنزول عند رغبتها ولكنه أعرض عن وسوسة الشيطان ولم يعزم أو يقصد فعل الفاحشة معها إطلاقا والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى ( كذلك لنصرف عنه السوء ) أي أن الله عزوجل حفظه وعصمه عليه السلام من الفحشاء بجعله يرى البرهان كي يصرف ويدفع وسوسة الشيطان اللعين عن قلب وروح سيدنا يوسف عليه السلام وليس ليصرف قلبه وروحه عن عمل الفاحشة لأنه لو عزم عليه السلام في قلبه وفي روحه فعل الفاحشة أي لو أن روحه أمرت وطلبت من جوارحه فعل الفاحشة أي لو أن نفسه عليه السلام رغبت في عمل الفاحشة فعندئذ سوف يريه الله عزوجل البرهان من أجل أن يصرفه عن السوء ولقال تعالى (كذلك لنصرفه عن السوء) ولكنه عزوجل قال في كتابه الكريم (كذلك لنصرف عنه السوء). وعند تدبر قوله تعالى (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف: 33)، نجد أن سيدنا يوسف عليه السلام يرجو ويسأل الله أن يدفع عنه شرهن ويعصمه منهن كي لا يميل إليهن بمقتضى الطبيعة البشرية فيجيبهن على ما يردن من الفاحشة والسوء وبالتالي يصبح من الجاهلين إذا ما تعمد وقصد فعل الفاحشة لأنه من يتعمد ويقصد معصية الله عزوجل فإنه جاهل في عواقب ذلك من حساب وغضب الله عليه وعقابه وعذابه في نار جهنم، قال تعالى (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (الزلزلة: 8) وفي ذلك إشارة واضحة لا لُبس فيها بأن جميع الأنبياء عندما أخطؤا كان خطأهم غير مقصود لأنهم لم يصفوا أنفسهم بالجهل وإنما وصفوا أنفسهم بالظلم وذلك لنقاء أرواحهم وطهارتها وشدة ورعهم وتقواهم وخشيتهم من الله عزوجل ولذلك كانوا لا يقرون على هذه الأخطاء الغير مقصودة وكانوا يُسارعون إلى الإستغفار والتوبة إلى خالقهم وملكهم وحبييهم سبحانه و تعالى.

أما إجماع الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، في قوله تعالى ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (النساء:17)، على أنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ بِهِ اللَّهُ فهو جَهَالَةٌ عمدًا كَانَ أو لم يكُن، وَكُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فهو جَاهِلٌ. أقول: أن هذا فيه نظرٌ وتفصيلٌ، فالذنبُ أو المعصيةُ بعمدٍ وبغيرِ عمدٍ هي جهالةٌ اعتباراً بالوصف، فإقترفُ الذنبَ بغير عمدٍ يُعتبرُ جهالةٌ للجهل بالصواب ولذلك حادَ عن الصوابِ وأخطأ المُخطئ بإقترافِ الذنبِ بغير عمدٍ. أما إقترافُ الذنبَ بعمدٍ فهو جهالةٌ لأن من يتعمدُ معصيةَ اللهِ عزوجل هو جاهلٌ بحق اللهِ عليه من طاعةٍ له سبحانه وتعالى ومُضيعٌ له فلُغةً يُقال لمن جهِلَ الحقَ: أضاعه، فالإنسانُ هو مربوبٌ وعبدٌ مملوكٌ لله عزوجل لأنه هو من خلقه وأنشأه ورزقه من متاعِ الدنيا فلا يحقُ له أن يعصي رَبَهُ كما لا يَحِقُ للرقيقِ أن يعصيَ سيدَهُ ومالكَهُ، كذلك هو جهالةٌ للجهلِ بعواقبِ غضبِ اللهِ عليه سواءٌ في الدنيا أو الآخرة، قال تعالى (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ) (طه: 81)، فلا يأمن عذابَ اللهِ وغضبَهُ إلا الجاهلُ والأحمق السفيه. فيبدو واضحاً كيف أن المعصيةَ بعَمدٍ أو بغيرِ عَمدٍ مشتركتان في وصفِ الجهالةِ ولكنهما مُختلفتان في ذاتهما لأنه هنالك فرقٌ كبيرٌ بين من يقترفُ الذنبَ وهو يعلمُ بأنه مُخالفٌ للصوابِ فيتعمدُ المعصيةَ، وبين من يقترفُ الذنبَ خَطأً وهو جاهلٌ بالصوابِ فلا يتعمدُ المعصيةَ. كالفرق بين اليهود والنصارى فكلاهما جاهلٌ بحق عبادةِ اللهِ عزوجل عليه ولكنَّ اليهودَ يعلمون الحقَ ومع ذلك يعرضون ويصدون عنه ولذلك هم مُضللون ومُغضوبٌ عليهم، أما النصارى يجهلون الحقَ فيحيدون عنه ويضلون ولذلك هم ضالون. أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً قد وصفوا أنفسهم بالظُلمِ عندما أخطئوا لأنَّ وصفَ الظلمُ أقربُ من وصفِ الجَهلِ إلى وصفِ الخطأ لأن الظلمُ لُغةً: وضعُ الشيءَ في غيرِ موضعهِ، وقولُ ظلمَ الطريقَ لُغةً: حادَ عنها. فعندما يُخطئ الإنسانُ بعمله فإنه يَضَعُ عملَهُ في الموضعِ الخاطئ بدلاً أن يضعه في الموضع الصحيح، فالمقصود بقولِ ظلمَ نفسَهُ: أي حاد بنفسِهِ عن الصواب فأخطأ في حق نفسهِ، قال تعالى (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) (الإسراء: 13)، فالمقصود بطائره في الآية هو عمل السعادةِ أو عمل الشقاوةِ فالإنسان عندما يَضعُ عملَهُ في موضع السعادة يُصيب وعندما يَضعُ عملَه في موضع الشقاوة يُخطئ، ما يعني أنَّ الإنسانَ يظلمُ نفسَهُ عندما يعصي اللهَ بعملِ الشقاوةِ. أما تعمدُ المعصية فإنَّ وصفَ الجهلِ أقربَ إليه من وصفِ الخطأ لأنَّ تعمدَ إستحقاقُ عذابِ وسخطِ اللهِ وإنكارُ حقَهُ على العبد جهالةٌ وحماقة، وإن كانت المعصيةُ المتعمدةُ أحياناً توصف بالخطيئة كما أنَّه الخطأُ قد يُوصف أحياناً بالجهل كما قال الصحابة رضي الله عنهم، ولكنَّ قولَ الأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام جميعاً بأنَّ إقترافَ الخطأِ هو ظلمٌ للنفس وليس جهلاً هو حجةٌ على قول الصحابة رضي الله عنهم بأن إقترافَ الخطأِ هو جهالةٌ.

بينما بما يخص سيدنا سليمان عليه السلام:

قال تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) (ص: 34)، فهذه الآية الكريمة تشير إلى الخطأ الغير مقصود الذي وقع فيه عليه السلام عندما عزم الطوف على سبعين امرأة من نسائه في ليلة واحدة من أجل أن تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ونسي قول (إن شاء الله)، ونسيانُ أداءُ ما هو واجب وفرض يقع تحت الخطأ الغير مقصود لأن ترك أداء الفرض والواجب يُعتبر ذنب أي خطأ وبما أنه بسبب النسيان فهو يعتبر غير مقصود لأن النسيان لا يحدث بإرادة الإنسان. فطاف عليهن ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بنصف رجل،و قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي الشريف أنه لو قال عليه السلام ( إن شاء الله ) لجاءت كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله. ثم تاب عليه السلام واستغفر الله الملك العظيم الغفور الرحيم على ما صدر منه وسأل ورجى الله عزوجل أن يُنعم عليه ويهبه ملكا واسعا لا يكون لأحد غيره من بعده ليكون دلالة على نبوته عليه السلام، قال تعالى (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (ص: 35). لأنه كما هو معلوم فإن الله الملك العظيم العزيز الحكيم يخص كل رسول أو نبي بمعجزات خاصة له غالبًا ما تكون من جنس ما برع فيه قوم النبي؛ فقوم سيدنا موسى عليه السلام برعوا في السحر فجعل الله عزوجل عليه السلام يلقي عصاه فتتحول إلى ثعبان مبين، وقوم سيدنا عيسى عليه السلام برعوا في الطب فداوى عليه السلام الأبرص والأعمى وأحيا الموتى بإذن الله عزوجل، وبرع العرب في البلاغة والشعر فأنزل الله عزوجل القرآن الكريم على الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان معجزة لهم عجزوا على أن يأتوا بسورة من مثله. فيبدو واضحا أن الخطأ الغير مقصود الذي أخطأه سيدنا سليمان عليه السلام هو بسبب النسيان الذي تجاوز عنه الله سبحانه وتعالى كما يشير الحديث النبوي الشريف أعلاه.

بينما بما يخص سيدنا داود عليه السلام:

قال تعالى (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) (ص: 21-24). فهذه الآيات الكريمة تشير إلى قصة الملكين اللذين دخلا على سيدنا داود عليه السلام مسجده وهو منشغلٌ في العبادة و الطاعة حيث جاءا في صورة خصمين على إفتراض وقوع مخصمة بينهما وذلك من أجل تنبيه سيدنا داود عليه السلام على ما وقع منه حيث كان له تسع وتسعون امرأة وطلب امرأة شخص ليس له غيرها وتزوّجها ودخل بها. فقال أحدهما إن صاحبي هذا يملك تسعَ وتسعين نعجة وأنا أملك نعجة واحدة والمراد هو أن عنده تسعَ وتسعين امرأة بينما عندي امراة واحدة لأن النعجة يُكنى بها عن المرأة، أي يُعبر بها عن المرأة، فطلب مني جعلها تحت كفالته وغلبني في الجدال ووافقت على ذلك. ثم قال له عليه السلام لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضهم على بعض إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنم لا يبغون وهم قليل. فقال الملكان صاعدين في صورتيهما إلى السماء: قضى الرجل على نفسه، فتنبه عليه السلام لذلك وعلم وأيقن أنما الله عزوجل ابتلاه وامتحنه بزواجه من تلك المرأة فعندئذ طلب المغفرة من الله عزوجل وخر ساجدا لله تعالى وتاب إلى الله عزوجل وندم على ما صدر منه من خطءٍ غيرِ مقصودٍ والدليل على عدم تعمده ذلك أنه عليه السلام بمجرد تنبهه إلى خطئه سارع إلى الندم والإستغفار والتوبة إلى الله عزوجل. ما يعني أنه عليه السلام عندما تزوج بتلك المرأة كان غافلاً عن خطئه لأنه لو لم يكن كذلك لسارعَ إلى الإستغفارِ والتوبةِ عندما تزوج بتلك المرأة كما فعل عندما فطن وتنبه لخطئه حينما نبهه الرجلان لذلك. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً لا يصرون على أخطائهم الغير مقصودة ويسارعون إلى إستغفار اللهِ عليها عند تنبههم لها بمعاتبةِ اللهُ لهم عليها بواسطة الوحي أو بغيره. والغفلةُ عن الأخطاءِ الغيرِ متعمدةٍ واردٌ حُدوثها عند بني البشر فقد يغفلُ الإنسانُ عن خطئه لكنَّ إذا إرتكب غيرُه نفسَ خطئهِ فإنه يتنبه ويفطن له فمقدرة الإنسانِ على مراقبةِ غيرَه أكبرُ من مقدرته على مراقبة نفسه. وبالتالي يبدو واضحاً وجلياً كيف أن الله الملك العظيم الغفور الرحيم تجاوز عن خطئه عليه السلام لأنه غير مقصود كما يشير الحديث النبوي الشريف أعلاه.


أما بما يخص سيدنا نوح عليه السلام:

قال تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ) (هود: 45-47)، فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن سيدنا نوح عليه السلام نادى الله سبحانه و تعالى متوسلاً ومُتذللاً إليه بأن يُنجي سبحانه وتعالى إبنه ( كنعان ) من الطوفان لأنه من أهله، فقال له سبحانه وتعالى أن إبنه ليس من أهله وأنه عمل سيء غير صالح لأن أهله عليه السلام هم أهل السعادة لأنهم مؤمنين بينما إبنه هو من أهل الشقاء لأنه كافر، ثم نبهه سبحانه وتعالى ونصحه بأن لا يطلب النجاة لأبنه الكافر لأنه لا تجوز محبة الكافر وموالاته وإن هكذا طلب يقود صاحبه إلى إرتكاب ذنب عظيم يجعله من الجاهلين لجهله بعقاب ذلك الذنب العظيم، فعندئذ اعتذر عليه السلام إلى الله عزوجل عما صدر منه من خطأ غير مقصود بطلبه النجاة لإبنه الكافر واستجار واستغاث بالله عزوجل من سؤال طلب يُغضب الله عزوجل وأعلن وإعترف بأنه إذا لم يغفر الله عزوجل له خطأه هذا فإنه عليه السلام سوف يخسر عصمة ورعاية وحفظ الله عزوجل له في الدنيا كنبي كريم وبالتالي يخسر أيضا التكريم والنعيم العظيم في الدار الآخرة. فهنا يبدو واضحاً وجلياً كيف أن الخطأ الذي وقع فيه سيدنا نوح عليه السلام هو خطأ غير مقصود لأنه عليه السلام لم يكن يعلم بأن محبته لأبنه الكافر يُغضب الله عزوجل وهذا ظاهر في لفظ (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) وكذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى نفى عنه عليه السلام تعمده وقصده إغضاب الله لأنه سبحانه وتعالى نفى عنه صفة الجاهل لأن من يرتكب الذنب عن عمد وقصد فهو جاهل وهذا ظاهر في لفظ (فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ).

أما بما يخص سيدنا يونس عليه السلام:

قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) (الأنبياء: 87-88). فهذه الآيات الكريمة تُشير إلى خروج ذا النون، أي صاحب الحوت، وهو سيدنا يونس عليه السلام من بلده مغاضبا لقومه لأنه ضجر منهم ولم يصبر على أذاهم وعلى تكذيبهم له وعلى إصرارهم على الكفر فلم يكن له العزم على مواجهتهم ولذلك قال سبحانه وتعالى (َفَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ) (القلم: 48)، وبالتالي عندما خرج عليه السلام عن قومه ظن أي إعتقد أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء بسبب غضبه عليه السلام على قومه وفراقه إياهم. وفي ذلك دلالة واضحة بأنه عليه السلام لم يتعمد أو يقصد معصية الله عزوجل بمفراقته إياهم لأنه لو قصد ذلك لظن وإعتقد بأن الله عزوجل سوف يقضي ويُقَدِر عليه العقوبة لأنه كما هو معلوم من يذنب أي من يتعمد معصية الله عزوجل فإنه يتوقع العقوبة في الدنيا، ولذلك نجد أنه عليه السلام لم يظن أي لم يعتقد بأن الله عزوجل سوف يقضي عليه العقوبة. كذلك الأنبياء عليهم الصلاة و السلام معصمون عن إتباع الهوى، قال تعالى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) (ص: 26). فهذه الآية الكريمة تُشير بكل وضوح إلى أن الله عزوجل يعظ سيدنا داود عليه السلام أن يقع في الضلال إذا ما إتبع الهوى كما وعظ سبحانه وتعالى سيدنا نوح عليه السلام أن يُصبح من الجاهلين عندما أحب إبنه الكافر وطلب النجاة له، وبما أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا معصمون من الضلال لأنهم نموذج وقدوة في الهداية فبالتالي هم معصمون من إتباع الهوى لأن إنتفاء المعلول،أي النتيجة، وهي الضلال يفيد إنتفاء العلة،أي السبب، وهو إتباع الهوى الذي ينشأ عنه الضلال. وبالتالي يبدو واضحا وجليا أن الأنبياء عليه الصلاة والسلام معصمون عن إتباع الهوى وبالتالي هم معصمون عن قصد أو عزم المعصية. وبناءا على ذلك، فإن سيدنا يونس عليه السلام لم يتعمد أو يقصد معصية الله عزوجل بمفراقته قومه ما يعني أن الله الملك العظيم الغفور الرحيم تجاوز عن خطئه الغير مقصود كما يشير الحديث النبوي الشريف أعلاه.

أما بما يخص سيدنا موسى عليه السلام:

قال تعالى (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (القصص: 15-16). فهذه الآيات الكريمة تُشير إلى الحادثة عندما دَخَلَ مُوسَى مَدِينَةَ مِصْرَ في وَقتٍ كَانَتْ خَاليةً فِيهِ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ رَجُلَينِ يَقْتَتِلانِ وَيَتَضَارَبَانِ أَحَدُهُما إِسْرئِيليٌّ (مِنْ شِيعَتِهِ) والآخَرُ قِبْطِيٌّ (مِنْ عَدوِّهِ) فَاسْتَغَاثَ الإِسْرائيليُّ بمُوسى، فَضَرَبَ مُوسَى القِبْطِيَّ بُجْمعِ يَدِهِ في صدره، أَوْ بِعَصاً كَانَتْ في يِدِهِ (فَوَكَزَهُ) فَقَضَى عَليهِ. فَقالَ مُوسَى: هذا الذِي حَدَثَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ وتَزْيِينِهِ فهو الذي هيج غضبه عليه السلام حتى ضرب القبطي فقتله عن غير قصد، وَالشيطان هُوَ العَدُوُّ المُبِينُ للإِنسَانِ، فَينبَغي الحَذَرُ مِنْهُ. فَاسْتَغَفَرَ مُوسَى الله عزوجلُ، وَقَالَ إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِقْتْلِهِ القبطي، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَعَفَا عَنْهُ، واللهُ عزوجل هُوَ المبالغ في المغفرة للعباد والواسع الرحمة لهم. فهنا يبدو واضحاً وجلياً كيف أن حادثة قتل سيدنا موسى عليه السلام للقبطي هي خطأ غير مقصود لأنه عليه السلام كان في نيته الضرب وليس القتل وهذا ظاهر في لفظ (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) وبالتالي فإن الله الملك العظيم الغفور الرحيم تجاوز عن خطئه لأنه غير مقصود كما يشير الحديث النبوي الشريف أعلاه.

أما بما يخص سيدنا آدم عليه السلام:

قال تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (طه: 115)، وكذلك قوله تعالى ( فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ) (طه: 121-122). فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أمر الله عزوجل ونهيه لسيدنا آدم عليه السلام وزوجه حواء رضي الله عنها عن الإقتراب من الشجرة والأكل منها لأنه إذا كان النهي حاصل في القرب من الشجرة فإنه بالتأكيد حاصل في الأكل من الشجرة لأن الأكل من الشجرة يلزمه القرب منها، قال تعالى (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 35). ولكنه عليه السلام ورضي الله عنها خالفوا أمر الله عزوجل ونهيه بسبب النسيان وبالتالي لم يحفظا ما أمرهما الله عزوجل به ولم يصبرا على ما نهى سبحانه وتعالى عنه من القرب من الشجرة ولكن هذا الخطأ يُعتبر خطأ غير مقصود لأنَّ مخالفةَ الأمرِ بسبب نسيانَ إلتزامه أو مخالفةَ النهيُ بسبب النسيان يقع تحت الخطأ الغير مقصود لأن مخالفة النهي يُعتبر ذنب أي خطأ وبما أنه بسبب النسيان فهو يعتبر غير مقصود لأن النسيان لا يحدث بإرادة الإنسان. والمراد بالنسيان والله أعلم هو نسيانه عليه السلام تحذيرَ اللهِ عزوجل له بأن إبليسَ عدوٌ له ولزوجه فلا ينصحهما بخير وما جعله ينسى ذلك هو حلفُ إبليسُ اللعينُ لهما بالله على أنَّه ناصحٌ لهم فصدقه عليه السلام لأنه أقسم بالله فنسي وغفل عن أنه عدوٌ له ولم يتيقظ لذلك فاطمئن إليه واتبع نصيحته، قال تعالى (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف: 21 ). وقد يُخدع المؤمن بالله، وقال تعالى (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) (الأعراف:22)، فمعنى قوله تعالى فدلاهما بغرور أوقعهما في الهلاك بخداعه . قال ابن عباس : غرهما باليمين . وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحدٌ بالله كاذبا ، فخدعهما بوسوسته وقسمه لهما . وقال قتادة : حلف بالله لهما حتى خدعهما . وقد يخدع المؤمن بالله . كان بعض العلماء يقول : من خادعنا بالله خدعنا . وروُي أن آدم عليه السلام قال لله عزوجل مُعتذراً (ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً )، فلو لم ينسيا آدم وزوجه عليهما السلام أن إبليسَ عدوٌ لهما لما أكلا من الشجرة حتى ولو أقسمَ لهما لأن العدوَ لا ينصح أعداءَهُ ولذلك عندما لامهما وعاتبهما اللهُ على الأكلِ من الشجرة ذَّكرهما بنهيه لهما عن الشجرة وبعداوةِ إبليس لهما، قال تعالى ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) (الأعراف:22)، فتَذَكُرِ عداوةَ إبليس لهما يمنعهما من قبولِ نصيحتِهِ لأنَّ المرءَ يَعْلمُ كِذب العدوِ في نصيحته. أما قولُ بعض المُفسرين بأن المقصود بنسيانِ آدم عليه السلام هو نسيان النهي عن الأكلِ من الشجرة، قد يكون إجتهادٌ خاطئاً لأن وسوسة الشيطان اللعين لهما بالأكل من الشجرةِ كانت متضمنةً الإخبارّ عما نهى الله آدم وزوجه عنه وهذا ظاهر في قوله تعالى عن إبليس اللعين ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) (الأعراف: 20) فكيف يستقيم أن ينسيا آدم وزوجه عليهما السلام ما نهاهما اللهُ عنه من الأكل من الشجرة والشيطان يُخبرهم بنفسه بأن اللهَ نهاهما عن الأكل من الشجرة كي لا يكونا ملكين أو خالدين في الجنة عندما وسوس لهما الشيطانُ بالأكل من الشجرة وخدعهم بالحلف بالله كذباً على أنه ناصحٌ وصادقٌ في وسوسته، فيكون إخبارُ اللعينِ بنهي الله لهما عن الأكل من الشجرة كي لا يكونا ملكين أو خالدين هو في ذاته تذكيرٌ لهما بنهي الله لهما عن الأكل من الشجرة.

وما يؤكد ذلك قوله تعالى (وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ)، فلو افترضنا أنَّ آدم عليه السلام نسي ما نهاه اللهُ عنه من الأكلِ من الشجرة لكان مستبعداً أن يصفَ اللهُ أكلَ آدمَ من الشجرة بالمعصية لأن الإنسانَ يعصي وهو على علمٍ بالمعصيةِ، أما إذا نسي المعصية وارتكبها فإنَّ وصفهُ بالخطأ أقرب من وصفه بالعصيان. وفي هذا لطيفةٌ عظيمة أنه عندما عصى آدمُ ربه ظن إبليسَ اللعينَ أنه إنتقم من آدم عليه السلام وأن اللهَ عزوجل سوف يطرد آدم من رحمته ولكنه عزوجل لطيف لما يشاء فعاقب آدم على ما فعل فأنزله إلى الأرض ليبتليَه ويمتحنَه في عبادة الله عزوجل ووعده بالخلود في جنةٍ أعظمُ من الجنة التي كانا هو وزوجه فيها فلا عينٌ رأتها ولا أذنٌ سمعتها ولا خطرت على قلب بشر وبمنزلةٍ أعلى من منزلة الملائكةِ وبذلك لم يُشمت اللهُ إبليسَ بآدمَ وزوجهُ لأنه عزوجل وَعَدهُما بأعظم مما أغراهما إبليسُ اللعين به من الخلودِ في الجنة ومن الكونِ ملائكةً فسبحان الله ما أعظم وُدَّهُ لعباده المؤمنين!!!. ومن بعد ذلك الله الملك العظيم التواب الغفور اصطفاه واختاره عليه السلام فقربه إليه عزوجل وقبل توبته وهداه إلى الثبات على التوبة وعلى التمسك بأسباب الطاعة. ما يعني أنه عليه السلام عصى الله عزوجل أي خالف أمره ونهيه سبحانه وتعالى ولكن بدون قصد وعمد فضَّلَ عن الصوابِ وهو طاعةُ اللهِ عزوجل بسبب معصيته، قال تعالى (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). وبالتالي يبدو واضحاً وجلياً كيف أن الله الملك العظيم الغفور الرحيم تجاوز عن الخطأ الغير مقصود الذي صدر من سيدنا آدم عليه السلام بسبب النسيان كما يُشير الحديث النبوي الشريف أعلاه.

أما بما يخص الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

فنجد أنه عليه الصلاة والسلام كان خطأُه في الغالبِ صادرٌ عن إجتهادٍ خاطئٍ غير مقصود، فالإجتهاد لُغةً: هو بذل الوُسْع والمجهود - مأخوذ من الجهد وهو الطاقة، وإصطلاحاً: هو بذل الوُسْع والمجهود في معرفة وإستنباط الحكمَ الشرعي الصوابَ أو الأصوبَ فيما لا نصَّ بحكمٍ شرعيٍ فيه. فإذا أصابَ في إجتهاده تجنبَ الخطأَ فيه وإذا إجتهد بالأصوب فيكون قد أخذَ بالأولى والأحرى. وهنالك أمثلة متعددة على اجتهادات الرسول التي أخطأ فيها، منها مثال اجتهاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أمور الحرب: اجتهاده في أسرى بدر ، فقد شاور الصحابة فيما يصنع بهم فأشار عليه أبو بكر بأخذ الفدية منهم وأشار عليه عمر بضرب رقابهم ، ومال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في اجتهاده إلى اجتهاد أبي بكر فنزل قول الله سبحانه معاتبا الرسول -صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 67). وكذلك مثال اجتهاده صلى الله عليه وسلم في شئون الدنيا: قوله للصحابة لما رآهم يؤبرون النخل (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا) فلما ذكروا له فيما بعد أن ثمر النخل قد سقط قال لهم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم )، وكذلك مثال اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العبادات استغفاره لبعض المنافقين وصلاته على بعضهم ، كما ثبت أنه صلى على عبد الله بن أبيّ ، واستغفر لعمه أبي طالب ، فنزل قول الله سبحانه في شأن استغفاره للمنافقين: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (التوبة: 80). ونزل قوله تعالى في شأن صلاته عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبيّ ابن سلول: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (التوبة: 84). ونزل قوله تعالى في شأن استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113). وكذلك مثالُ اجتهاده صلى الله عليه وسلم تفضيلهُ تَحريمَ جاريتَهُ على نفسه كما ذكرت روايات أو تَفضيلهُ تَحريمَ شراباً من الأشربةِ على نفسهِ كما ذكرت روايات أخرى على أن تغضب زوجاته منه، كما حرمَ يعقوبُ عليه السلام من قبلُ على نفسه أحبُ الطعامِ والشرابِ إليه وهو لحمُ الإبلِ ولبنُها، قال تعالى (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران: 93 (. فأنزل الله تعالى قولَهُ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (التحريم:1 ) عتاباً له عليه الصلاة والسلام لتحريمه على نفسه ما قد أحلَّ اللهُ له. وقد يقول قائل لماذا عاتب الله عزوجل الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حرمه على نفسه ولم يُعاتب يعقوبَ عليه السلام على ما حَرمه على نفسه. أقولُ (والله أعلم) أنَّ الله عزوجل لم يُعاتب يعقوبَ عليه السلام على ما حرمه على نفسه من أكلِ لحمِ الإبلِ وشربِ لبنها لأن ذلك التحريم كان نذراً أوجبه عليه السلام على نفسه لدفع مرضٍ وبلاءٍ أُصيب به وهذا جائزٌ شرعاً في الإسلام. أمّا الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أوجب على نفسه تحريمَ ما قد أحلَّ اللهُ له ليس لدفع شرٍ أو لجلب خيرٍ ولا لأداءِ طاعةٍ وإنّما إبتغاءُ مَرضاةَ أزواجِه فعاتبه اللهُ على ذلك لأنَّ اللهَ عزوجل لا يرضى لعباده أن يقسوا على أنفسهم وأن يُضيقوا عليها وهم في غنى عن ذلك. ومثالُ إجتهاده صلى الله عليه وسلم إخفاؤه عليه الصلاة والسلام ما أعلمهُ اللهُ بأن زينب بنت جحش سوف تكون زوجةً له بعد أن يُطلقها زيدٌ فتوصيته مولاه زيد بن حارثة بعدم تطليق زوجه زينب بنت جحش خشيةَ أن يقول الناسُ أنَّه عليه الصلاة والسلام أمره بتطليق زوجه كي ينكحها هو لأنَّ الناس لا يعلمون بواطن الأمورِ ويعلمون فقط ظاهرها، ولكنه عليه الصلاة والسلام لو علمَ أن اللهَ عزوجل سوف يُنزل آياتٍ تُبين وتُوضح أن زواجه من زينب بنت عمه هو أمرٌ أراده وشاءه اللهُ ولم يشأه هو لما أخفى حقيقة أنها سوف تكون زوجتَهُ لأنه عندئذٍ سوف يتضح للناس أن زواجه من زينب بنت جحش هو إمتثالٌ لأمرِ اللهِ وليس رغبةً منه. فأنزل اللهُ تعالى قولَهُ ( وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) ( الأحزاب: 37 ). عتاباً له صلى الله عليه وسلم لأنَّه أخفى ما أعلمه الله من مشيئته وقضائه عزوجل بزواجه عليه الصلاة والسلام من زينب رضي الله عنها لكي لا يكون هنالك مانعٌ يمنعُ المؤمنين من نكاح نساء من تبنوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحةٍ، إذا هم طلقوهن وبِنَّ منهم. وكذلك إجتهاده صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن عبد الله بن أم مكتوم وإقباله على بعض عضماء قريشٍ طمعاً في إيمانهم لما في ذلك من عزةٍ ونصرةٍ للإسلام والمسلمين، فأنزل الله تعالى قولَهُ (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ) (عبس: 1) عتاباً له عليه الصلاة والسلام لإعراضه عمن أقبل عليه يريد الهداية والإرشاد.

فيتبين لنا أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أخطأ بالإجتهادات الخاطئة التي صدرت عنه وهو كذلكَ نسي لقوله عليه الصلاة والسلام : ) إنما أنا بشرٌ مثلُكم . أذكرُ كما تذكرون . وأنسى كما تنسون.) ( الراوي: عبد الله بن مسعود- المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 572 خلاصة حكم المحدث: صحيح)، عندما سأل مشركو قريش الرسول صلى الله عليه وسلم عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب (وهم أهل الكهف )، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها (وهو ذو القرنين)، وسألوه عن الروح ما هي؟. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخبركم بما سألتم عنه غدا ) ولم يستثن بقول (إن شاء الله). فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة يوماً، حتى حزنه إبطاؤه ، ثم أنـزل الله عليه الجواب عنهنّ، وعرف نبيه سبب احتباس الوحي عنه ، وعلَّمه ما الذي ينبغي أن يقوله في إخباره عن الأمور التي لم يسبق أن أتاه بها وحيٌ من الله عزوجل، فقال تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا ) (الكهف: 23-24). إذاً خلاصةُ القولِ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أخطاؤه في غالبها صادرةٌ عن إجتهادات خاطئة. ما يعني أن الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يُكتب له في كل إجتهاد خاطئ حسنةٌ إستناداً إلى الحديث النبوي الشريف المذكور أعلاه بينما باقي إخوته من الأنبياء عليه السلام جميعاً كان بعضهم يُخطئ عن غير عمد وقصد وبعضهم ينسى وآخرون يضطرون إلى التورية والمعاريض في كلامهم وكان الله الملك العظيم الغفور الرحيم يتجاوز عن أخطائهم هذه فلا يكتب عليهم سيئة قط وبالتالي تبقى صحيفة أعمالهم نقية طاهرة من أي ذرة سيئة ولكن بنفس الوقت الله عزوجل لا يكتب لهم حسنة على هذه الأخطاء الغير مقصودة ما يفيد بكل وضوح أن الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وسيد البشرية جمعاء مع التأكيد والتذكير دائما وأبداً بأنه فرضٌ علينا كمسلمين عدم المفاضلة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الإيمان والأخلاق والإخلاص لله عزوجل كفاضل ومفضول لأننا غير معصومين عن إتباع الهوى وعن ظلم الآخرين وبالتالي الإساءة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً. والإساءةُ لهم تُعتبر جريمةٌ عظيمةٌ مع الوقوف على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وأقربهم إلى اللهِ عزوجل. فضلاً عن ذلك أنه لا يستقيم ولا يجوز لمن هو أقل إيماناً بتقييم من هم أكمل إيماناً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعا، تماما كما هو أنه لا يستقيم ولا يجوز للتلميذ أن يقيم أستاذه أو معلمه لأنه أقل علما منه.

وقد يقول قائل، إن القرآن الكريم ذَكر لكل نبي خطأً واحداً بينما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذُكر في القرآن الكريم عدةُ أخطاءٍ له. فكيف يكون سيد الأنبياءِ وهو أكثرهم خطأً؟!!. أقول: الجواب في شقين، الأول: أنَّ قلةَ الأخطاءِ أو كثرتَها ليست حكماً وشاهداً على طهارة وحكمة ومنزلة ومكانة الأنبياءِ عند الله عزوجل. لأنه هنالك أنبياءٌ ذكروا في القرآن الكريم ولم يُذكر لهم أخطاءٌ كإدريس وذو الكفل وإسماعيل وهود وصالح وشعيب وغيرُهم، قال تعالى (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ) (الأنبياء: 85)، وقال تعالى (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) (هود: 50)، وقال تعالى (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61)، وقال تعالى (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ) (الشعراء: 177). بينما أولو العزم من الرسل كالرسول صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونوح وموسى عليهم الصلاة والسلام جميعاً ذُكر لهم أخطاءٌ كما تم توضيحه أعلاه، وثابتٌ عند جمهور العلماء أنهم أفضلُ الرسلِ. ما يفيد بأنه إذا كان من لم يُذكر له أخطاءٌ ليس بأفضل ممن ذُكر له أخطاء إذا وُجِد دليلٌ يُثبت ذلك كفضلِ أولو العزم من الرسل على غيرهم من الأنبياء. فإنه بطريق الأحرى والأولى أن من ذُكر له أخطاءٌ أقل هو ليس بأفضلَ ممن ذُكر له أخطاءٌ أكثرَ إذا وُجد دليلٌ يُثبت ذلك كإثبات جمهور العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء وخيرُهم. أما الشق الثاني: إنَّ اللهَ عزوجل قد نسخ جميع الشرائع السماوية كشريعتي موسى وعيسى عليهما السلام بشريعة الإسلام وجعلها باقية إلى يوم القيامة وأرسل بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة لا يقبل الله من أحد بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام ديناً غير الإسلام ، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85). فهي شريعةٌ غنية بالأحكام والشرائع ولذلك رضيها اللهُ عزوجل ديناً للمسلمين وللناس كافةً منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، قال تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (المائدة: 3). ولقد أوحى اللهُ عزوجل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه الصلاة والسلام كان معصوماً في كل ما يبلغه عن الله من الشرائع والأحكام قولاً وفعلاً، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ ومِثْلَهُ معه) ( الراوي: المقدام بن معد يكرب الكندي المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 2643 خلاصة حكم المحدث: صحيح). ولقد عاش عليه الصلاة والسلام حياتَه كُلَها كنبيٍ وهو يَنزلُ عليه الوحيُ إلا تسعَ ليالٍ فقد أُنزل إليه الوحيُ طيلة ما يقارب ثلاثة وعشرين عاماً في مكة المكرمة والمدينة المنورة فعَلِمه كُلَه وحَفِظه وفَهِمه ففهَّمه وعلَّمه أصحابه والناس ولقد كان معصوماً في تبليغ هذا الكمَ الهائل من الأحكام والشرائع عن الله عزوجل، ولكنه عليه الصلاة والسلام إجتهد خطأً في مراتٍ معدودةٍ فيما لا وحي ولا نص فيه. وهذا من الطبيعي أن يحدث لأنه كما ذكرت سابقاً أن الشريعة الإسلامية غنية بالأحكام والشرائع فإذا أراد المجتهد أن يجتهد فحتماً سوف يُخطئ لكثرة أحكامها، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم إجتهد خطأً في أحكام تتعلق بالأسرى وبالإستغفار للمنافقين وللكفار وبالصلاة على المنافقين وبالزواج من طليقات أبنائهم بالتبني وبالإمتناع عن المباح، فلو أُنزل على غيره من إخوته من الأنبياء أحكامٌ متنوعة ومختلفة تشملُ كافةَ شوؤنَ الحياةِ الدنيا والآخرة لأخطئوا كما أخطأ عليه الصلاة و السلام بل أكثرَ منه والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المراجع:

1) موقع إسلام ويب الإلكتروني (www.islamweb.net/mainpage/index.php (http://www.islamweb.net/mainpage/index.php) ).
2) موقع نداء الإيمان الإلكتروني
( www.al-eman.com/index.htm (http://www.al-eman.com/index.htm)).
3) صفوة التفاسير، تأليف الأستاذ محمد الصابوني.
4) موقع قاموس المعاني الإلكتروني
http://www.almaany.com) )

المؤلف: خالد صالح أبودياك