المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الهداية والضلال بين مشيئةُ اللهِ ومشيئةُ العبدِ



أهــل الحـديث
05-04-2014, 06:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم


إن الإنسانَ في بعضِ الأحيانِ يُعتبر مُسير كما في حالة الموت والولادة لقوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (النجم: 44) ، لأنه عندما يكون الإنسان مُسيراً فإن هذا يعني أنه ليس له أدنى نصيب من الإختيار في ما يُقدر أو يَقع عليه من أقوال وأفعال وأحوال وغيرها من الأسباب الدنيوية وكما هو معلوم فإن الإنسان مقهور ومُسير في الموت والحياة. وفي البعض الآخر يكون الإنسان مُخير ومُسير معا في نفس الوقت بحيث أن ترجيح كل من التخيير والتسيير على الآخر يختلف من حال إلى آخر، فتجد في بعض الأمور التي يقوم بها الإنسان يكون التخيير فيها راجحاً على التسيير وفي أمور أخرى تجد التسيير راجحاً فيها على التخيير وهكذا. بينما يستحيل أن تجد حالة يكون فيها الإنسان مُخير بالمطلق أي بشكل كامل دون أي قيود، لأن الإنسان يُعتبر مُخير عندما يملك حرية مطلقة غير مقيدة في الإنتقاء والإصطفاء بين أمرين أو أكثر أو عندما يملك حرية مطلقة غير مقيدة في قبول أو رفض أمرا ما، وبالتالي فإن الإنسان ما كان له أن يختار أي سبب أو أمر دنيوي بمختلف أنواعه من حال وفعل وقول وظرف زماني ومكاني وغيره من الأنواع إلا عندما يُقَدَّر عليه ذلك السبب أو الأمر الدنيوي بإرادةِ ومشيئةِ وخَلقِ وإيجادِ اللهِ الملك العظيم الخالق القدير فما لا يشاء اللهُ له أن يكون لا يُمكن إختياره. وهذا طبعا لعدة حكم منها (والله أعلم)، أنه لو إستقام أن يكون الإنسان مُخير بشكل مُطلق وبدون قيود لظن الإنسان في نفسه عندئذ بأنه خارج سلطان وقهر الله الملك العظيم، قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 29) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الخليقة وعلى رأسها بني آدم هم مقهورون في كل حركاتهم وسكناتهم وأحوالهم وأفعالهم تحت سلطان ومشيئة وإرادة وقدرة الله الملك العظيم القهار القدير فما من إنسان يهتدي أو يضل إلا بمشيئة الله عزوجل لأنَّ ما يشاء اللهُ لهُ أن يكون يكون وما لا يشاء اللهُ له أن يكون لا يكون. أيضاً، لكي يعلم الإنسان الظلوم الجهول أنه لم يكن الإنسان ليهتدي إلا برحمة الله الملك العظيم الهادي الكريم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لن يدخُلَ الجنَّةَ أحدٌ إلَّا برحمةِ اللهِ ، قالوا : ولا أنت يا رسولَ اللهِ ؟ قال : ولا أنا إلَّا أن يتغمَّدنيَ اللهُ برحمتِه ، وقال بيدِه فوق رأسِه.) ( الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب - الصفحة أو الرقم: 4/301 خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن). وذلك لكي يعلم الإنسان أنه عندما يهتدي فإن ذلك يكون بفضل ورحمة الله عزوجل لأنه سبحانه وتعالى هو من وفقَهُ وأرشَدَهُ لأسبابِ الهدايةِ الدنيويةِ التي قام الإنسان بالإستجابة لها وإختيارها حتى إهتدى، قال تعالى (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ ) (الرعد: 18). وفي المقابل، لكي يعلم الإنسان أنه عندما يضلُ فإنه يظلمُ نفسَه ولم يظلمْهُ الله، قال تعالى (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل: 33) لأنه عندما قَدَّرَ اللهُ عزوجل وهيأ للإنسانِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ وأعرض عنها ولم يستجب لها عندئذ هو من ظلم نفسه ولم يظلمه اللهُ عزوجل، قال تعالى (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (الرعد: 18).

فاللهُ الملك العظيم الهادي الكريم لا يهدي إلا من يُحب الهداية ويرغب فيها ولا يهدي من لا يحبُ الهدايةَ ويُعرض عنها ويحبُ الضلالَ لأنه لا إكراه في الدين، وكذلك لقوله تعالى ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات: 7)، فسبحانه وتعالى يُيسر الأقدار أو المقاديرَ التي تَبعَثُ محبةَ الإيمانِ وكراهيةَ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ في قلب المؤمن وروعه لِعلمِ اللهِ السابق بمحبة المؤمن للإيمان، قال عليه الصلاة والسلام (قلبُ ابنِ آدمَ بينَ إصبَعينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ ، إن شاءَ أن يُقيمَهُ أقامَهُ وإن شاءَ أن يُزيغَهُ أزاغَهُ) ( الراوي: سبرة بن الفاكه المخزومي الأسدي المحدث: الألباني - المصدر: تخريج كتاب السنة - الصفحة أو الرقم: 220 خلاصة حكم المحدث: صحيح). فيختارُ المؤمنُ الإيمانَ ويتركُ الكفرَ والعصيانَ فيهديه ويُوَفِقُهُ ويُرشِدُهُ سبحانه و تعالى إلى طريق الحق والهداية ويَصرِفَهُ عن طرق الباطل والضلال، وفي المقابل فإنه سبحانه وتعالى يُيسر الأقدار أو المقادير التي تجعلُ الكافرَ يُحبُ الكفرَ والعصيانَ ويَكرهُ الإيمانَ والطاعةَ لِعلمِ اللهِ السابق بمحبة الكافر للكفر والعصيان فيختمُ اللهُ على قلبه وسمعه ويَجعلُ على بصره غشاوةً فيختارُ الكافرُ الكفرَ والعصيانَ والفسوقَ ويُعرضُ عن الإيمانِ فيُضله عزوجل إلى طرق الضلال المتعددة. قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ) (الرعد: 11) فهذه الآية الكريمة تُشير إلى أن الله عزوجل لا يُغير حالَ الإنسانِ من هدايةٍ أو ضلالٍ حتى يقوم الإنسانُ بنفسِهِ بتغيير نيتِه وقلبِه وروحهِ المُتصلةِ بجسدهِ، أي نَفسِه، بالعزم على طلب الهداية أو بالعزم على الإعراض عنها فإذا طلب الهداية ورغب فيها عندئذ سوف يُوفقه اللهُ عزوجل ويُرشدهُ إلى الهدايةِ بتهيئةِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ بمختلف أنواعها، أما إذا أعرض وإستكبر عن الهداية وأضل نفسه فعندئذ الله عزوجل سوف يتركه في ضلاله، قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (القلم: 7). فمن يختارُ الإهتداءَ إلى الإيمانِ والتصديقِ والإعتقادِ بألوهية ووحدانية وعظمة الله الملك العظيم الواحد مالك الملك فعندئذ سوف يهدي اللهُ قلبَهُ ويُوفقهُ إلى الإيمانِ والإذعانِ والإنقيادِ إلى اللهِ عزوجل بعبادته وطاعته في أوامره ونواهيه وبالتقرب إليه بأحبِ ما يُحبُ سبحانه وتعالى بأسبابِ الهداية الدنيوية بمختلف أنواعها من إرشادٍ وعلمٍ وعملٍ صالحٍ وغيرها، فالله عزوجل عليم بحال المرء وحال جميع ما يحيط به من الأسباب الدنيوية. لقوله تعالى (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (التغابن: 11). ثم يزيد اللهُ المؤمنين المهتدين هدايةً لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (محمد: 17)، وقوله تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) (مريم: 76). وفي المقابل نجد في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (الصف: 5) أنه عندما يَميلُ ويَنحرفُ الإنسان عن طريق الهداية المستقيم ويَختارُ الضلالةَ فعندئذ يُضِلُ اللهُ قلبَهُ فلا يُوفقهُ اللهُ إلى إختيار الهداية ويَتْرُكهُ في ضلالهِ لأنه أعرضَ عن طريق الهداية وأضلَ نفسه وبالتالي سوف ينتج عن ذلك نتيجة حتمية بسلوك الإنسان الضال لطرق الضلالة المتعددة فليس هنالك خيار ثالث، وهذا ما يُعتبر بمثابة تمهيد وتهيئة الله عزوجل للضال أسباب الضلال الدنيوية المتعددة.

فالكافرُ هو من يختارُ الضلالةَ ويستحبها على الهدايةِ، لقوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (فصلت: 17)، ولقوله تعالى ( اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) (إبراهيم: 2-3 )، وليس اللهُ من يجَعلُهُ يختارُ الضلالةَ كما قال المشركون في قوله تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام: 148)، لأن سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكُفرَ وإنما يرضى لهم الإيمانَ، لقوله تعالى (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الزمر: 7)، وكذلك لقوله تعالى (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء: 147). ففعلُ استحب لُغةً: فضل واختار، ما يعني أن الكافرَ هو من يختارُ الهدايةَ و الضلالَ طواعيةً من غيرِ إكراهٍ، وكذلك يعني أن ليسَ جميعُ الكافرين كارهين للهدايةَ، قال تعالى عن الكافرين (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (الزخرف: 77-78 )، فالآية الكريمة تُشير إلى أنَّ أكثرَ الكافرين كارهون للحق وليس جميعهم. لأن من يختار بين أمرين ويُفضلُ إحداهما على الآخرِ هو ليسَ بالضرورةِ كارهٌ لما أعرض عنه فقد يكون مُحباً لما أعرض عنه أو يميلُ إليه ولكنَّ حُبَهُ وميلَهُ لِما اختارهُ أكبرَ، وهذا يُفسرُ حقيقةَ أن الإنسانَ خُلِقَ من خيرٍ وشرٍ كلاهما معاً ولم يُخلقْ من شرٍ محض كما هو الشيطانُ وذريتُهُ. فوجودُ الخيرُ في الإنسانِ الكافرِ هو سببٌ لهدايته إذا شاء هو ذلكَ بعد مشيئةِ اللهِ عزوجل، قال تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة: 13)، وقال تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (النحل: 93 ). ولِذلِكَ لا أحدٌ يعلمُ خاتمةَ الإنسانِ إلا خالقَهُ اللهُ عزوجل فمن عَلِمَ اللهُ أن خيرَهُ أعظمَ مِن شَرِهِ ختم اللهُ له بالإيمان، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (النور: 21)، ومن عَلِمَ اللهُ أن شرَهُ أشَدَّ من خيرِهِ خَتمَ لهُ بالكُفرِ، قال تعالى عن الكافرين (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ) (المؤمنون: 106) أو أنَّ شَرَهُ إستحوذ عليه خَتمَ له بالنفاقِ أو بالكُفرِ، قال تعالى عن المنافقين (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المُجادلة: 19).

ولكن هنا قد يظهر تناقضٌ ظاهري، فيقول قائل: كيف يستقيم أن الله عزوجل لا يمهد ولا يهيء أسباب الهداية أو الضلال للإنسان إلا عندما يختار بنفسه الهداية أو الضلال حسب ما ذُكر أعلاه، بينما تَمَ ذِكرَ أن اللهَ عزوجل مهد وهيأ أسباب الهداية للإنسان الضال رغم أنه ليس مهتدي وأنه على ضلالة ثم إستجاب لنداء الهداية واهتدى، وكذلك أن الله عزوجل مهد وهيأ أسباب الهداية للإنسان الضال رغم عدم رغبته وطلبه للهداية فكانت النتيجة أنه إستكبر ولم يستجب لنداء الهداية. فالجواب هنا أنه ليس هنالك أي تناقض، لأنه بما أنَّ الإنسانَ الضالَ قد اهتدى ولبى نداءَ الهدايةِ واستجاب لهُ فهذا يعني أنه عزم على الهداية ورغب فيها في نيته وقلبه وروحه المتصلة في جسده، أي نفسه، وهو ما لا يزال في الظاهر ضالٌ لكن الله الملك العظيم العليم علام الغيوب علم ما في قلبه لأنه سبحانه وتعالى يعلمُ السرَ وأخفى فيعلم اللهُ بعلمه السابق متى سوف يعزمُ العبدُ على الهداية في قلبه بإختياره وعندما يغير ويبدل نيته وحال قلبه ونفسه فعندئذ يبدل الله عزوجل حاله لقوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ) (الرعد: 11)، فيوفقه إلى الهدايةِ بقلبهِ ثم يرشدهُ إليها بتهيئةِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ بمختلف أنواعها فيستجيب ذلك الإنسان الضال لنداء الهداية لأنه طلب الهدايةَ في قلبه بإختياره فوفقه اللهُ إلى ذلك ثم أرشدهُ اللهُ إلى الهدايةِ بتهيئةِ أسبابَ الهدايةِ الدنيويةِ التي تُعينهُ على الهداية. أما بما يتعلق بأن الله عزوجل يهيء أسباب الهداية الدنيوية لإنسان لا يرغب ولا يطلب الهداية وبالتالي لا يستجيب لنداء الهداية ويستكبر عنه، فإن تفسير ذلك هو أن الله عزوجل يهيء أسباب الهداية الدنيوية لذلك الشخص من أجل أن يقيم الحجة عليه لقوله تعالى (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) (الإسراء: 15)، فالآية الكريمة تشير إلى أن الله الملك العظيم هو العزيز الغني فمن إهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها فلن يضرُ اللهَ عزوجل إعراضُ وإستكبارُ بعضُ الناسِ عن الإستجابةِ لنداءِ الهدايةِ، ولكن الله الملك العظيم هو العدل المقسط فلا يُعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بتبليغه دعوة الهداية سواء عن طريق رسول أو عن طريق نبي أو عن طريق من سار على نهجهم من الدعاة.

وكذلكَ رُغمَ أنَّ السعادةَ والشقاوةَ هي مقدرة ومفروغ منها في علم الله السابق لخلق الإنسان في الحياة الدنيا، فإنَّ الإنسانَ هو من يختار لنفسه الشقاوة والسعادة. كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في جنازَةٍ ، فأخذَ شيئًا فجعلَ يَنْكُتُ بهِ الأرضَ ، فقالَ : ( ما منكمْ من أحدٍ ، إلا وقدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ من النارِ ومقْعَدُهُ من الجنةِ. قالوا : يا رسولَ اللهِ ، أفلا نَتَّكِلُ على كتَابِنَا ونَدَعُ العملَ ؟ قالَ : اعمَلوا فكلٌ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لهُ ، أمَّا من كانَ من أهلِ السعادةِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ السعادَةِ ، وأمَّا من كانَ من أهلِ الشقاءِ فَيُيَسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوَةِ . ثم قرأَ : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى } ) . الآية .( الراوي: علي بن أبي طالب المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : : 4949 خلاصة حكم المحدث: صحيح ). فتفسير هذا الحديث هو أن الله عزوجل خلق الكافرين والمنافقين ليكونوا من أهل النار في علمه سبحانه وتعالى السابق لكل شيء فيَسَر لهم عمل أهل النار لكي يستحقوا دخولها جزاءاً وعدلاً على عملِهم الذي إختاروا فعلَهُ، وكذلك خلق المؤمنين ليكونوا من أهل الجنة فيَسَر وهيأ لهم عمل أهل الجنة لكي يستحقوا دخولها رحمةً ومنةً من اللهِ سبحانه وتعالى على هدايته لهم لِعملِ أهل الجنةِ الذي إختاروا فِعلَهُ لقوله عليه الصلاة والسلام عن الله عزوجل (... يا عبادي ! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه ...) (الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2577 خلاصة حكم المحدث: صحيح) وذلك متوافقٌ مع قوله تعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (الأحزاب: 72-73)، فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن الله عزوجل خلق الإنسان وقدر عليه حمل أمانة عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده من أجل أن يعذب المنافقين والمشركين في النار جزاءا وعدلا على أعمالهم وينعم ويتوب على المؤمنين بالجنة رحمةً وِمنَةً من الله سبحانه وتعالى على هدايتهم لهم، فمن كان من أهل السعادة لحبه للهداية وإختياره لها وخُتِمَ له بذلكَ لقوله عليه الصلاة والسلام (الأعمالُ بالخَواتيمِ) ( الراوي: سهل بن سعد الساعدي- المحدث: الزرقاني - المصدر: مختصر المقاصد - الصفحة أو الرقم: 116 خلاصة حكم المحدث: صحيح ) وكذلك لقوله عليه الصلاة والسلام (إنَّ الرَّجلَ ليعملُ الزَّمنَ الطَّويلَ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ ، ثمَّ يُختمُ عملَهُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجلَ ليعملُ الزَّمنَ الطَّويلَ بعملِ أَهْلِ النَّارِ ثمَّ يختمُ لَهُ عملَهُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ. ) ( الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2651 خلاصة حكم المحدث: صحيح ). فإنَّ اللهَ عزوجل يُوَفقه ويُرشِدُه بأسبابِ الهدايةِ الدنيويةِ بمختلف أنواعها لعملِ أهلِ السعادةِ أو عملِ أهلِ الجنةِ من عمل القلب بالنية الصالحة وعمل اللسان بالقول الصالح وعمل الجوارح بالطاعات التي عزم القلب على عملها، بينما من كان من أهل الشقاوة وخُتِمَ له بِذلكَ يَترُكْهُ الله في ضلاله ولا يوفقهُ إلى الهداية لِكُرهِهِ لها وإعراضهِ عنها و وبالتالي يضلُ في طرق الضلالة المتعددة أيها شاء لِيعملَ بعمل أهل الشقاوة أو عمل أهل النار من عمل القلب بالنية الفاسدة وعمل اللسان بالقول السيء وعمل الجوارح بإرتكاب المعاصي والآثام التي عزم القلب على عملها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المؤلف: خالد صالح أبودياك.