المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإيمان والرجوع إلى الفطرة



أهــل الحـديث
03-04-2014, 04:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم


إنَّ العبادةَ أمانةٌ الإنسانُ مؤتمنٌ عليها، قال تعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) (الأحزاب: 72)، فهنالك من يحفظها وهو المؤمن وهنالك من يخونها ويُضيعها وهو الكافر، والأمانة لها وجهان: الأول: أنَّ اللهَ أخذَ العهدَ على الإنسانِ أن يَعبُدَ اللهَ ولا يُشرك به شيئاً في عالمِ الذرِ، قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)، ثم قَدَّر سبحانه وتعالى خلقَ روحِه وجسدِه إلى أجلٍ مُسمى في رحمِ أمهاتِهم في الحياة الدنيا، ليأتمنَه اللهُ على روحِه المتصلةِ بجسدهِ بحفظ العهدِ الذي قطعه وأخذه على نفسه في عالمِ الذرِ بأن يحفظَ أمانةَ عبادةِ اللهِ عزوجل وتوحيده وطاعته إلى أن يستردَ اللهُ أمانته عند أمره بقبضِ روحِ عبده، قال تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 156). فالمؤتمنُ واجبٌ عليه أن يَرُدَ الأمانةَ إلى صاحبها سالمةً من أي تغييرٍ أو تبديلٍ مثلما كانت عندما أُؤتمن عليها، فإذا رجعت نفسُ المؤمنِ إلى خالقِها ومالكِها وربِها وهي على دين التوحيد أثابهُ اللهُ عزوجل الجنةَ لأنه حفظ الأمانةَ بتثبيت نفسه على فطرة التوحيد والإسلام والإيمان، قال تعالى ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر: 27-30 ). أما إذا خان الأمانةَ بتبديل وتغيير فطرةَ الإسلام والإيمان التي فطره اللهُ عليها بإضلال الكافرُ نَفسَهُ، أي روحَهُ المتصلةُ بجسده، إلى ظلماتِ الكُفرِ فيعاقبهُ اللهُ عزوجل بالخلودِ في جهنم جزاءاً وعدلاً على خيانته للأمانة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم :(ما من مولودٍ إلَّا يولَدُ على الفطرةِ ، فأبواهُ يُهَوِّدانِهِ وينصِّرانِهِ ويمجِّسانِهِ ، كما تُنتِجُ البَهيمةُ بَهيمةً جمعاءَ ، هل تحسُّونَ فيها من جدعاءَ ؟ ثمَّ يقولُ : أبو هُرَيْرةَ : واقرؤا إن شئتُمْ : فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ : (الروم: 30). ( الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2658 خلاصة حكم المحدث: صحيح).

أما الوجه الثاني: أن لا ينبغي للمؤتمنُ التصرفُ بالأمانةِ إلاَّ كما يريدُ صاحبها. ما يعني أن الإنسانَ لا يجوزُ أن يتصرفَ بجسده وروحهِ إلا بما يُرضي اللهَ عزوجل بطاعته وعدم مُخالفةِ أمره، فلا يكسبُ المالَ إلا حلالاً ولا يحبُ النساءَ إلا كما شرع اللهُ له ولا يَقتلُ الناسَ إلا بما أمَره اللهُ كالجهادِ في سبيل الله أو كقتلِ من وجب عليه حدُ القتلِ وأن لا يسعى في الأرضِ إلا إصلاحاً لا فساداً ولا يعتدي على عبادِ اللهِ فيتقي الله عزوجل في باطنه وظاهره. فإذا لزم ذلك وتقرب إلى اللهِ عزوجل بأحبِ ما يُحبُ سبحانه وتعالى، أثابهُ اللهُ الدرجاتِ العُلى في جناتِ النعيم والخلود على قدر إيمانه وعمله، قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13 )، وقال تعالى (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ) (طه:75-76)، وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا *أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) (الكهف: 30-31).

وقد يقول قائل: كيف يُمكن للإنسان الكافرِ الضالِ أن يهتديَ بقلبِه فيطلبَ الهدايةَ من الله الملك العظيم الهادي الكريم فيهيء ويمهد سبحانه وتعالى له أسباب الهداية كي يهتدي إلى نور الإسلام برحمة من الله عزوجل، فالجواب هنا هو الرجوع إلى الفطرة السليمة وهي، دين الإسلام. قال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (الزمر:9 )، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الذي يعلم هو في منزلة أفضل عند الله عزوجل من الذي لا يعلم لأنه كما هو معلوم العلم لا يأتي إلا من خلال المعرفة والدراية فالذي يهتدي إلى نور الحق بعد معرفته هو بمثابة العالم صاحب العقل الصالح بينما الذي يُضل نفسه عن نور الحق بعد معرفته وإقامة الحجة عليه وإعراضه عنه وإختيار ظلمات الضلال هو بمثابة الجاهل، الذي لا يعلم، والذي لا يعقل لأن عقله عاجز عن فقه وفهم كلام الحق وهذا مانجده ظاهر في المقطع ( إنما يتذكر أولو الألباب )، فالألباب هي جمع لُب وهو ما صلح من العقل، فالعقل موجود سواء عند المسلم أو الكافر ولكن المسألة هل هنالك من صلاح في العقل أم لا، لأنه إذا كان هنالك صلاحٌ في العقلِ فهذا يعني أنه يوجدُ خيرٌ في روح صاحب هذا العقل لأنه كما هو معلوم الروح هي التي تعقل فإذا صَلَحت الروحُ صَلِحَ العقلُ لأن العقلَ أداةٌ تستعملها الروح فيما تُريد وتطلُب. وبالتالي هنالك فرصة أو أملٌ في إهتدائه إلى نور الحق، وهو نور الإسلام، أما بالنسبة لمقطع ( إنما يتذكر )، فإنما هي كافة ومكفوفة تفيد هنا التوكيد ويتذكر تعني من يستحضر معرفة الحق بعد نسيانه، قال تعالى ( وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين ) (الأعراف: 172)، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الله عزوجل خلق بني آدم جميعهم من ظهر أبوهم آدم عليه السلام ثم من ظهر التالي فالتالي وهكذا على نحو ما يتوالد من الآباء في الترتيب وصولا إلى ما هو كائن من البشر إلى يوم القيامة، فأخذَ سبحانه وتعالى منهم العهد والإقرار والإعتراف على وحدانية وربوبية وعظمة الله الملك العظيم وذلك وهم في عالم الذر، ومن بعد ذلك يُخبر الله الملك العظيم العليم علام الغيوب البشرية جمعاء بأنهم سوف يكونوا في عالم الدنيا غافلين عن هذا العهد وعن هذه الشهادة، أي سوف ينسون ذلك، وهنا يجب الإنتباه إلى هذا التعبير القرآني الدقيق والعظيم، فلغوياً غفل الشيء: معناها ترك الشيء إهمالا من غير نسيان، بينما غفل عن الشيء: معناها نسي الشيء. وبالتالي المقطع ( أنا كنا عن هذا غافلين ) يشير بكل وضوح ودقة بأن الله سبحانه وتعالى بمشيئته وإرادته وحكمته أنسى بني آدم هذا العهد، أي جعلهم ينسوه، وذلك بعد أن أشهدهم على أنفسهم بهذا العهد في عالم الذر وحينما خلقهم في عالم الدنيا، وقال تعالى (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) (الأنبياء: 97) فهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه عندما تحصل الأهوال العظيمة من زلازل وبلابل وغيرها قُبيل يوم القيامة، ثم عندما يقع يوم القيامة ويرى الكافرون ويشاهدون الأمور العظام فعندئذ يعترفون بظلمهم لأنفسهم عندما كفروا بالله عزوجل في الحياة الدنيا ولكن ذلك لن ينفعهم، ويقرون ويعترفون بأنهم كانوا في غفلة من هذا في الحياة الدنيا، أي نسوا عهد وميثاق عبادة وتوحيد الله عزوجل،وهنا كذلك يجب الإنتباه إلى هذا التعبير القرآني الدقيق والعظيم، فلغوياً غفل الشيء: معناها ترك الشيء إهمالا من غير نسيان، بينما غفل من الشيء: معناها نسي الشيء. و طبعا هذا النسيان هو لحكمة أساسية وعظيمة حيث يُبنى عليها جوهر الإسلام كله وهو عبادةُ اللهِ عزوجل بالغيب، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (المُلك: 12) فمن مقتضيات أو متطلبات عبادة الله عزوجل بالغيب هو أن يُنسينا سبحانه وتعالى ويحجب عنا حقيقة هذا العهد، لأنه ببساطة إذا ما تذكروا بني آدم هذا العهد في عالم الدنيا فإنه لن يبقى أحد من البشر كافراً والجميعُ سوف يصبحوا مؤمنين وهذا يتنافى مع حكمة عبادة الله عزوجل بالغيب وذلك من أجل أن يميز الخبيث من الطيب أي المؤمن من الكافر فيكون مصير المؤمن الخلود في جنة النعيم بينما مصير الكافر هو الخلود في نار جهنم، وبئس المصير، لقوله تعالى ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (هود: 118-119). أيضاً المقطع القرآني ( أنا كنا عن هذا غافلين ) يفيد بأن الله عزوجل جعلنا ننسى ولم ننسى بإرادتنا وهذا يتوافق تماما مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من مولودٍ إلَّا يولَدُ على الفطرةِ ، فأبواهُ يُهَوِّدانِهِ وينصِّرانِهِ ويمجِّسانِهِ ، كما تُنتِجُ البَهيمةُ بَهيمةً جمعاءَ ، هل تحسُّونَ فيها من جدعاءَ ؟ )، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام (ما بالُ أقوامٍ جاوزَ بهمُ القتلُ اليومَ حتى قتلوا الذرِّيَّةَ ؟ ألَا إِنَّ خيارَكم أبناءُ المشركينَ ، ألَا لَا تقتُلُوا ذُرِّيَةً ، ألَا لَا تقتُلُوا ذُرِّيَّةً ، كُلُّنَسَمَةٍ تُولَدُ علَى الفِطْرَةِ ، فما يزالُ عليها حتى يُعْرِبَ عنها لسانُها ، فأبواها يهوِّدانِها ، أوْ يُنَصِّرانِها ) ( الراوي: الأسود بن سريع المحدث : الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 5571 خلاصة حكم المحدث: صحيح ). فهذه الأحاديث النبوية الشريفة تشير وبكل وضوح أنه عندما يخلق الله عزوجل الإنسانَ على هيئة جنين في رحم أمه، فإنه سبحانه وتعالى يزرع فيه الفطرة السليمة، وهي دين الإسلام الحنيف، عندما يأمر سبحانه وتعالى بنفخ الروح في الجنين. ومن بعد ذلك فإن الله عزوجل يأتمن الأبوين على المولود فإذا كانا على دين الإسلام فعندئذ المعرفة المكتسبة التي سوف يمنحاها إلى طفلهما سوف توافق الفطرة السليمة ألا وهي الإسلام طبعا ذلك عندما يبلغ الطفل مرحلة النطق ومرحلة إكتساب المعرفة والسلوك. أما إذا كانا على دين الكفر سواء نصرانية أو يهودية أو أي دين وثني آخر، فإن المعرفة المكتسبة التي سوف يكتسبها الطفل سوف تُخالف فطرة الإسلام، وهنا يجب الإنتباه إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن فطرة الإسلام التي تُزرع في كل مولود لا يمكن نسخُها أو إزالتها وإنما هي باقية مع الإنسان إلى يوم القيامة لأنه سوف يتذكرها في يوم القيامة عندما يُكشف عنه الحجاب ولكن المعرفة المكتسبة التي يكتسبها المولود بواسطة والديه هي إما أن توافق فطرة الإسلام أو أن تُخالفها. ومن أجل ذلك أخبرنا الله عزوجل في الآيات الكريمة المذكورة أعلاه بأن الإنسان في الحياة الدنيا هو غافل عن أو من حقيقة العهد الذي إلتزم به في عالم الذر أي أنه ينسى الفطرة السليمة ولكنها تبقى موجودة في قلبه ونفسه، والنسيان كما هو معلوم هو غياب شيء ما عن ذهن الإنسان، أي عقله أو فهمه، وكذلك عدم تَذكُره لهذا الشيء وبالتالي يُصبح هذا الشيء محجوبا عن إدراك ووعي الإنسان وهذا ما يتوافق مع حقيقة أن الإنسان يعبد الله الملك العظيم بالغيب، قال تعالى (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) (السجدة: 12) ففي هذه الآية نجد الكافرين يوم القيامة وعند الحساب يعترفوا ويقروا بأنهم الآن صلُحت عقولهم بعد أن زالت الغشاوة التي كانت على قلوبهم فأصبحت أرواحهم قادرة على التفكير السليم والصحيح بسماعِ صوتَ الحقِ وبإبصارِ نورَ الحقِ، ثم يعترفوا بأنهم الآن موقنون بوحدانية وعظمة الله الملك العظيم الواحد القهار بعد أن عاينوا بكل حواسهم جزءا من قدرة وعظمة الله عزوجل، وكما هو معلوم فإن اليقين لا يأتي إلا بالمعرفة وبالعلم فلا يمكن لأحد أن يوقن بشيء لم يعهده أو يعلمه من قبل، وهذا ما يتوافق مع حقيقة أنهم وقعوا في الحياة الدنيا تحت نسيان إقرارهم بوحدانية وربوبية وعظمة الله الملك العظيم الذي قطعوه على أنفسهم في عالم الذر، لأن نسيان الأمر هو يعني غيابه عن ذاكرتهم وعلمهم وعقلهم، وهذا ما حصل معهم في الحياة الدنيا، ولكن نسيان الأمر لا يعني إنعدامه في ذاكرتهم وعلمهم وعقلهم وبالتالي عندما يكشف الله عزوجل عنهم الغشاوة التي كانت تُغطي عقولهم وسمعهم وبصرهم يصبح بإستطاعتهم تذكر العهد الذي قطعوه على أنفسهم في عالم الذر بالإقرار بوحدانية وربوبية الله عزوجل عندما يُخلقون في الدار الدنيا، ما يعني أنهم سوف يُوقنوا بالعهد عندما يتذكروه، وشاهدُ ذلِكَ قوله تعالى ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (ق: 22)، وكذلك ما يؤكد حقيقة نسيانهم لذلك العهد هو المقطع ( فارجعنا نعمل صالحا ) فبعد أن يتيقنوا من ربوبية ووحدانية وعظمة الله عزوجل يطلبوا من الله عزوجل فقط الرجوع ويجزموا بأنهم إذا ما رجعوا إلى الدنيا مرة أخرى فإنهم سوف يعملون صالحا وهذا يفيد بأنهم سوف يتذكروا يوم القيامة ويوم الحساب ما نسوه في الحياة الدنيا من عبادة الله عزوجل وتوحيده ومن أجل ذلك يطلبوا الرجوع فقط ولا يطلبوا الهداية أو الإرشاد والتوجيه وتهيئة أسباب الهداية التي يهيئها الله عزوجل لمن يطلب الهداية فعلى سبيل المثال لا يقولوا في الآية الكريمة ( فارجعنا نُصدق رُسلك ونعمل صالحا )، بالرغم من أن الإهتداء إلى العمل الصالح كما هو معلوم يتطلب العلم والمعرفة به قبل القيام به لقوله تعالى ( اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم*علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق: 3-5 )، وكذلك يمكن الإستدلال بدليل آخر وهو قوله تعالى (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) (إبراهيم: 44)، فالمقطع (يوم يأتيهم العذاب) يشير إلى يوم القيامة ويوم الحساب لأنه في المقطع ( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) تجد أن اللهَ عزوجل يُقرعَ الكافرين لإنكارهم زوالهم من دار الدنيا إلى دار الآخرة وإلى يوم الحساب، ويبدو بشكل واضح أن هذا التقريع يكون حاصل في يوم القيامة لأن الله عزوجل يقول لهم ( أقسمتم من قبل ) أي لما أقسمتم وأنتم في دار الدنيا، ومن بعد ذلك يطلب الكافرون من الله عزوجل ويقولون ( ربنا أخرنا إلى أجل قريب ) ما يعني بأن وقت الحوار هذا يحدث قبل وقت الحوار المُشار إليه أعلاه في المقطع ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا ) لأنه كما هو معلوم بأن طلب التأخير أو الإمهال يُطلب في العادة قُبيل النهاية أو بُعيدها، أي على سبيل المثال عندما يحضر الإنسان الموت ويكون هذا الإنسان عاصي أو مُقصر في طاعة الله عزوجل فإنه عندئذ يطلب الإمهال أو التأخير كي يؤدي الطاعات ويقوم بالأعمال الصالحة، لقوله تعالى (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (المنافقون: 10)، بينما طلب الرجوع في العادة يكون بعد إنقضاء مدة أطول من حدوث النهاية. ما يعني أنهم عندما يطلبوا من الله عزوجل في يوم القيامة الإمهال أوالتأخير لم يكن بعد قد تم الكشف عن الغشاوة التي تغطي عقلهم وسمعهم وبصرهم وبالتالي هم ما زالوا واقعين تحت فعل نسيان العهد الذي قطعوه على أنفسهم في عالم الذر بالإقرار بوحدانية وربوبية وعظمة الله عزوجل عندما يُخلقون في عالم الدنيا وما يؤكد ذلك هو طلبهم أسباب الهداية من بعثة الرسل لقولهم ( نُجب دعوتك ونتبع الرسل )، بينما عندما يطلبوا الإرجاع إلى دار الدنيا يكون قد تم الكشف عن الغشاوة التي تُغطي عقولهم وسمعهم وأبصارهم، ما يعني تذكرهم للعهد الذي قطعوه على أنفسهم في عالم الذر كما قد تم الإشارة إليه سابقا وما يؤكد ذلك هو عدم طلبهم لأسباب الهداية والإرشاد من بعثة الرسل وإنما يعلنون يقينهم بوحدانية وربوبية وعظمة الله الملك العظيم.

أيضا من جانب آخر، يمكننا القول بأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على فطرة الإسلام رحمة ورأفة في عباده لأنه إذا ما أراد الإنسان الضال أن يهتدي فإنه يجب عليه أن يعزم في قلبه ونفسه على الهداية وهنا يظهر تساؤلٌ مهمٌ جدا، ماهو مصدر النية الصالحة والقلب الصالح والنفس الصالحة عند الإنسان؟ والجواب هو الفطرة السليمة ما يعني أنه ليس على الإنسان هو سوى الرجوع إلى فطرته السليمة وهو دين الإسلام وذلك من خلال تَذكُر العقل الصالح، أي اللب، للحق أي إستحضاره للفطرة السليمة بعد نسيانها، قال تعالى (إنما يتذكر أولو الألباب)، لأنه عندما يولد الإنسان ويبدأ مرحلة النطق وإكتساب المعرفة فإن فطرته السليمة التي وُلد عليها تكون منسية بالنسبة له وبالتالي المعرفة التي يكتسبها الإنسان إما أن تكون متوافقة أو مخالفة لهذه الفطرة فإذا كان كافراً فإن معرفته المكتسبة سوف تكون مخالفة للفطرة السليمة بينما إذا كان مؤمناً فإن المعرفة التي يكتسبها بالعلم والمعرفة والتصديق والإيمان تكون متوافقة مع فطرته، وهذا يُعتبر بمثابة إستراجعه للفطرة السليمة لأنه يكتسب عقيدة إيمانية موافقة أو منسجمة مع فطرته التي جُبل عليها وكأن فطرته السليمة تعود إليه من جديد مع الإشارة إلى أن فطرة دين التوحيد هي متفاوتة في نقائها وفي طهارتها فالأنبياء هم الأنقى والأطهر فطرةً، فكُلَما طَهُرَت الفطرة في الإنسان كلما صَلُحَ إيمانه أكثرُ لأن الطهارة الحسيةَ والمعنويةَ تُطهر كلا بدنِه و روحِه، وكُلَما اقترب إيمانُ وعِلمُ المُسلمِ المُكتسب من فطرته التي جُبِلَ عليها زاد إيمانه رسوخاً وثباتاً لإقترابِ تجانسُ المتماثلين. ومن أجل ذلك تجد المؤمن مطمئن بإيمانه أي نفسه تكون مرتاحة وساكنة لأن الإيمان والعلم الذي إكتسبه متوافق مع الفطرة السليمة التي وُلد عليها، قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، بينما الكافرُ تجد نفسهُ غيرَ مُرتاحةٍ وفي ضيقٍ وشقاءٍ دائمٍ رُغم جميعُ أنواعِ متاعِ الدنيا التي تتمتع وتلهو ولا تَسعدْ بها فتجدها محتاجةٌ إلى السعادةِ الحقيقية لأن ما اكتسبته من عقيدةٍ كافرةٍ غير متوافقة ومنسجمة مع فطرة الإسلام التي جبلها اللهُ وخلقها وفطرها عليها، قال تعالى (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) (طه: 123-124). وبالتالي فإن إسترجاع وإستحضار الفطرة السليمة بالمعرفة المكتسبة عندما يرغب هو في ذلك بإذن الله عزوجل يكون سبب في إصلاح نيته وقلبه ونفسه وفي عزمه على الهداية لأن إصلاح القلب لا يأتي من الخارج وإنما يأتي من الداخل مع الإشارة إلى أن إصلاح النية والقلب والنفس وكذلك الرجوع إلى الفطرة السليمة لا يمكن أن يتم بمعزل عن أسباب الهداية المحيطة بالإنسان لأنه ليس ممكنٌ أن تجد إنساناً مخيرٌ بشكل مطلق ولكن يمكننا القول بأن الرجوع إلى الفطرة وعمل إصلاح النية والقلب والنفس هي أعمال يكون فيها التخيير للإنسان راجحا على التسيير له بأقصى درجات الترجيح. أيضاً لو افترضنا على سبيل الإفتراض فقط، أن فطرة الإسلام هي غير موجودة في الإنسان عند خلقه وولادته فكيف يمكن له أن يستحضر هذه الفطرة بإكتساب معرفة موافقة لهذه الفطرة وبالتالي كيف يمكن له أن يهتدي في قلبه وروحه المتصلة بجسده،أي بنفسه ما يعني أن الله عزوجل أيضا لن يهيء له أسباب الهداية لأنه لا يوجد في قلبه أي نية للهداية لإنعدام الفطرة السليمة وهذا يقودنا إلى نتيجة مستحيلة أن يكون الإنسان بدون فطرة وبالتالي بدون أي إرشادٍ أو توفيقٍ للهداية وحاشى لله الملك العظيم الهادي الكريم أن يترك عباده دون هدايةِ من يطلبُ منهم الهدايةَ أو حاشى للهِ الملك العظيم الحق المقسط أن لا يهيء أسباب الهداية للضالين الذين يتكبرون عن الهداية ويعرضون عنها من أجل أن يقيم عليهم الحجة وأن لا يكون لديهم عذراً لكفرهم، وفي هذا كله تظهر وتتجلى رحمة الله الملك العظيم الرؤوف الرحيم بعباده.

إذاً الخلاصة هو أنه ليس على العبد سواءٌ مسلمٌ أو كافرٌ سوى الرجوع إلى فطرته السليمة التي خلقها الله عزوجل فيه فالمسلم يمكن أن يستزيد من التقرب إلى الله عزوجل كلما إقترب من الفطرة النقية بينما الكافر يهتدي إلى طريق الحق المستقيم، وهو طريق الإسلام، عند رجوعه إلى فطرة الإسلام. فيبدو جلياً وواضحاً بشكلٍ لا لُبس فيه بأنه نحن بني آدم بالفعل قد أخذنا على أنفسنا في عالم الذر عهد الإقرار بربوبية ووحدانية وعظمة الله الملك العظيم وبالإلتزام بما يقتضيه هذا العهد من متطلبات العبادة والطاعة والإنقياد وتسليم النفس إلى مالكها سبحانه وتعالى عند خلقنا في الدار الدنيا، ولكن نحن في هذه الحياة الدنيا غافلون عن هذا العهد لحكمة إبتلاءِ اللهِ الحكيم لنا في عبادته سبحانه و تعالى في الدار الدنيا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المؤلف: خالد صالح أبودياك.