المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القنوت في الفجر



أهــل الحـديث
01-04-2014, 10:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله في الاستذكار

وَأَمَّا القُنوتُ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ فَاخْتَلَفَتِ الآثارُ المُسْنَدَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ عَنْ أبي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيرِهِم.
فَرُوِيَ عَنْهُم القُنوتُ وَتَرْكُ القُنوتِ مِنَ الفَجْرِ.

وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ عَنْهُم فِي القُنوتِ قَبْلَ الرَّكُوعِ وَبَعْدَهُ.

وَقَدْ أَكْثَرَ فِي ذَلِكَ المُصَنِّفُونَ: ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُ.

وَالأَكْثَرُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَّصِلَةٍ صِحَاحٍ.

وَأمَّا ابْنُ عُمَرَ فكَانَ لا يَقنُتُ. لَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ.

وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نجيحٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: صَحبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلى المَدِينَة فَهَلْ رَأيتُه يَقنُتُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: وَلقيتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْنُتُ؟ قَالَ: لاَ إِنَّمَا هُوَ شَيءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ.

سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ أبِي نجيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحمنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطَّابِ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ.

وَسُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُريحٍ، عَنْ عطاءٍ، عن عُبيدِ بْنِ عُميرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخطَّابِ يقنُتُ فِي الصُّبْحِ هَا هُنَا بِمَكَّةَ.

وَسُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُريحٍ، عَنْ عطاءٍ، عن عُبيدِ بْنِ عُميرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخطَّابِ يقنُتُ فِي الصُّبْحِ هَا هُنَا بِمَكَّةَ.

وَسُفْيَانُ، عَنْ مخارق: أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ طَارقٍ، قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ ابْنِ الخطَّابِ الصُّبْحَ فقنتَ.

وَقَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لابْنِ طَاووسٍ: مَا كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ فِي القُنُوتِ؟ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: القُنوتُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَكَانَ لاَ يَرَاهُ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَانَ الشَّعبيُّ لاَ يَرى القُنوتَ.

وَسُئل ابْنُ شبرمَةَ عَنْهُ، فَقَالَ: الصَّلاةُ كُلُّهَا قُنوتٌ.

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَيْسَ قنتَ عَلِيٌّ يَدْعُو عَلى رِجَالٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكْتُم حِينَ دَعَا بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ.

ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شبرمَةَ.

وَأَمَّا الفُقَهَاء الَّذِينَ دَارَتْ عَلَيْهم الفُتْيَا فِي الأَمْصَارِ فكَانَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلى، وَالحَسَنُ بْنُ حي، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنبلٍ، وَدَاوُدُ، يَرونَ القُنوت فِي الفَجْرِ.


قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: بَعْدَ الرُّكُوعِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: قَبْلَ الرُّكُوعِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ خَيَّرَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الرَّكُوعِ وَبَعْدَهُ.

وَقَالَ ابْنُ شبرمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوريُّ فِي رِوَايَةٍ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لاَ قُنُوتَ فِي الفَجْرِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: إِنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يقنُتُ سَكَتَ.
وَهُوَ قَولُ الثَّورِيِّ فِي رِوَايَةٍ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقنُتُ وَيتبعُ الإِمَامَ.

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنِ احتَاجَ الإِمَامُ عِنْدَ نَائِبَةٍ تَنزلُ بِالمُسْلِمِينَ قَنَتَ فِي الصَّلاةِ كُلِّهَا؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيرِهِ فِي قُنُوتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْراً يدْعُو عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الآثَارِ.

وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ وَكِيعاً يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفيَانَ يَقُولُ: مَنْ قَنَتَ فَحَسَنٌ وَمَنْ لَمْ يَقْنُتْ فَحَسَنٌ، وَمَنْ قَنَتَ فَإِنَّمَا القُنُوتُ عَلَى الإِمَامِ وَلَيْسَ عَلى مَنْ وَرَاءَهُ قُنُوت.


حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهريِّ، عَنْ سَعِيد بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ قَالَ: اللَّهُمَّ اَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمةَ بْنَ هشامٍ، وعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، والمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ عَلى مُضرَ وَاجْعَلْها عَلَيْهِم سِنينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسَدداً يَقُولُ: كَانَ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: يَجِبُ الدُّعَاءُ إِذَا وَغَلتِ الجُيوشُ فِي بِلاد العَدُوِّ، يَعْنِي القُنوتَ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَتِ الأئِمَةُ تَفْعَلُ.
قَالَ: وَكَانَ مُسددٌ يَجْهَرُ
قَالَ أبُو حَنِيفَةَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ القنُوتِ فَقَالَ: مَا شَهْدْتُ وَلاَ رَأَيْتُ.

وَوَجْهُ ذلِكَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لاَ يَتَخَلَّفُ عَنْ جَيْشٍ وَلاَ سَرِيَّة أيَّامَ أَبِي بَكْرٍ وَأَيَّامَ عُمَرَ فَكَانَ لاَ يَشْهدُ القُنُوتَ لِذَلِكَ قَالَ أبُو حَنِيفَةَ: وَالعَمَلُ عِنْدَنَا عَلَى ذَلِكَ

وَهُوَ قَولُ مالِكٍ فِي القنُوتِ إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ فإذَا شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ )) وقال ابن القيم في زاد المعاد

فإذا قلنا: لم يكن مِن هديه المداومةُ على القنوت في الفجر، ولا الجهرُ بالبسملة، لم يدلَّ ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديُه أكملُ الهدي وأفضلُه، والله المستعان.
وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس قال: ما زالَ رسولُ الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في «المسند» والترمذي وغيرهما، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره. وقال ابن المديني: كان يخلط. وقال أبو زرعة: كان يهم كثيراً. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.
وقال لي شيخنا ابن تيمية قدَّس الله روحه: وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورِهِمْ} (الأعراف: 172). حديث أبي بن كعب الطويل، وفيه: وكان روحُ عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهدَ والميثاقَ في زمن آدم، فأَرسلَ تلك الروحَ إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشراً سوياً، قال: فحملت الذي يخاطبها، فدخل مِن فيها، وهذا غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِياً} (مريم: 19) ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم، هذا محال.

والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحبُ مناكير، لا يَحتج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صح، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوتَ هذا الدعاءُ، فإن القنوتَ يُطلق على القيام،
والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلُّ لَهُ قَانِتُون} (الروم: 26)، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} (الزمر: 9)، وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التحريم: 12)، وقال : «أَفْضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القُنُوتِ». وقال زيد بن أرقم: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238) أمرنا بالسُّكُوتِ، ونُهينا عَنِ الكَلامِ. وأنس رضي الله عنه لم يقل: لم يزل يقنُت بعد الركوع رافعاً صوته «اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت...» إلى آخره ويؤمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله: ربَّنا ولكَ الحمدُ، مِلءَ السماواتِ، وَمِلءَ الأرضِ، ومِلءَ ما شئت من شيء بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ... إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله، قنوتٌ، وتطويلُ هذا الركن قنوتٌ، وتطويلُ القراءة قنوت، وهذا الدعاءُ المعيَّن قنوت، فمن أين لكم أن أنساً إِنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت؟!

ولا يقال: تخصيصُه القنوتَ بالفجر دونَ غيرها مِن الصلواتِ دليل على إرادة الدعاء المعين، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترَك بين الفجر وغيرها، وأنس خصَّ الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يُقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للسمتضعفين من المؤمنين، لأن أنساً قد أخبر أنه كان قنت شهراً ثم تركَه، فتعيَّن أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوتَ المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك وغيرهم.
والجواب من وجوه.
أحدُها: أن أنساً قد أخبر أنه كان يقنُت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء، فما بالُ القنوت اختص بالفجر؟!
فإن قلتم: قنوتُ المغرب منسوخ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوتُ الفجر سواء، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلاً على نسخ قنوت الفجر سواء، ولا يُمكنُكم أبداً أن تُقيموا دليلاً على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوتِ الفجر.
فإن قلتم: قُنوتُ المغرب كان قنوتاً للنوازل، لا قنوتاً راتباً،
قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو، وكذلك قنوتُ الفجر سواء، وما الفرق؟ قالوا: ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوتَ نازلة، لا قنوتاً راتباً أن أنساً نفسه أخبر بذلك، وَعُمدَتُكم في القنوت الراتب إنما هو أنس، وأنس أخبر أنه كان قنوتَ نازلة ثم تركه، ففي «الصحيحين» عن أنس قال: قنَتَ رسولُ الله شهراً يدعو على حي مِن أحياءِ العرب، ثم تركه.
الثاني: أن شَبابة روى عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان قال: قلنا لأنس بن مالك: إن قوماً يزعمُون أن النبي لم يزل يقنُت بالفجر، قال: كذبوا، وإنما قَنتَ رسول الله شهراً واحداً يدعو على حيٍّ من أحياء العرب، وقيس بن الربيع وإن كان يحيـى بن معين ضعفه، فقد وثقه غيره، وليس بدون أبي جعفر الرازي، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله: لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا. وقيس ليس بحجة في هذا الحديث، وهو أوثقُ منه أو مثلُه، والذين ضعفوا أبا جعفر أكثرُ من الذين ضعفوا قيساً، فإنما يعرف تضعيفُ قيس عن يحيـى، وذكر سببَ تضعيفه، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سألت يحيـى عن قيس بن الربيع، فقال: ضعيف لا يُكتب حديثه، كان يحدِّث بالحديث عن عبيدة، وهو عنده عن منصور، ومثل هذا لا يُوجب رد حديث الراوي، لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور، ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين؟

الثالث: أن أنساً أخبر أنهم لم يكونوا يقنُتون، وأن بدء القنوت هو قنوتُ النبي يدعو على رِعل وذَكوان، ففي «الصحيحين» من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: بعثَ رسولُ الله سبعين رجلاً لحاجة يقال لهم: القُرَّاءُ، فعرض لهم حَيَّانِ من بني سليم رِعل وذَكوان عند بئر يقال له: بئر مَعونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله ، فقتلوهم، فدعا رسولُ الله عليهم شهراً في صلاة الغداة، فذلك بدءُ القنوت، وما كنا نقنُت.
فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه القنوت دائماً، وقول أنس: فذلك بدءُ القنوتُ، مع قوله: قنت شهراً، ثم تركه، دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوتَ النوازل، وهو الذي وقَّته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهراً، كما في «الصحيحين» عن يحيـى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله قنت في صلاة العَتَمَة شهراً يقول في قنوته: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَام، اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،
اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِني يُوسُف». قال أبو هريرة: وأصبح ذاتَ يوم فلم يدعُ لهم، فذكرتُ ذلك له، فقال: أو ما تراهم قد قَدِمُوا، فقنوتُه في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة، ولذلك وقَّته أنس بشهر.
وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضاً في الفجر شهراً، وكلاهما صحيح، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس: قنت رسول الله : شهراً متتابعاً في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ورواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح.
وقد ذكر الطبراني في «معجمه» من حديث محمد بن أنس: حدثنا مُطرِّف بن طريف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب، أن النبي كان لا يُصليِّ صلاةً مكتوبة إلا قنت فيها.
قال الطبراني: لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس. انتهى.
وهذا الإسناد وإن كان لا تقوم به حُجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى، لأن القنوت هو الدعاء، ومعلوم أن رسول الله لم يُصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك، وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا.
الوجه الرابع: أن طرق أحاديث أنس تُبين المراد، ويصدق بعضُها بعضاً، ولا تتناقض. وفي «الصحيحين» من حديث عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلتُ: كان قبلَ الركوع أو بعده؟ قال: قبله؟ قلتُ: وإن فلاناً أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعدَه. قال: كذب، إنما قلت: قنتَ رسول الله بعد الركوع شهراً. وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم، وسائر الرواة عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جداً، غيرَ أنه خالف أصحابَ أنس في موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثُر، وحكوا عن الإمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله ــ يعني أحمد بن حنبل ــ: أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول الله قنت قبل الركوع غيرَ عاصم الأحول؟ فقال: ما علمتُ أحداً يقوله غيرُه. قال أبو عبد الله: خالفهم عاصم كُلَّهم، هشام عن قتادة عن أنس، والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبي : قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمد بن سيرين قال: سألت أنساً وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه. وأما عاصم فقال: قلت له؟

فقال: كذبوا، إنما قنتَ بعد الركوع شهراً. قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره، قيل لأبي عبد الله: وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفاف بن إيماء بنِ رَحْضَة، وأبي هريرة.
قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذاً في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديثُ بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبي واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.
فيقال: من العجب تعليلُ هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقل من تحمَّل مذهباً، وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك.

فنقول وبالله التوفيق: أحاديث أنس كلها صحاح، يُصدِّق بعضُها بعضاً، ولا تتناقضُ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غيرُ القنوت الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالةُ القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي : «أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ القُنُوتِ» والذي ذكره بعده، هو إطالةُ القيام للدعاء، فعله شهراً يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرَّ يُطيل هذا الركنَ للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، كما في «الصحيحين» عن ثابت، عن أنس قال: إني لا أزال أُصلي بكم كما كان رسولُ الله يُصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائلُ: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكُث، حتى يقول القائلُ: قد نسي. فهذا هو القنوتُ الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.
ومعلوم أنه لم يكن يسكُت في مثل هذا الوقوف الطويل، بل كان يُثني على ربه، ويُمجِّده، ويدعوه، وهذا غيرُ القنوتِ الموقَّت بشهر، فإن ذلك دعاء على رِعل وذَكوان وعُصيَّة وبني لِحيان، ودُعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة. وأما تخصيصُ هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه. وأيضاً، فإنه كان يُطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب: ركُوعُه، واعتدالُه، وسجودُه، وقيامُه متقارباً. وكان يظهرُ مِن تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك. ومعلوم أنه كان يدعو ربه،
ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوتٌ منه لا ريبَ، فنحن لا نشكُّ ولا نرتابُ أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.

ولما صار القنوتُ في لِسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنُت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاءُ الراشدون وغيرُهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَن لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشك أن رسول الله وأصحابَه كانوا مداومين عليه كلَّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبُت عنه أنه فعله.
وغاية ما رُوي عنه في هذا القنوت، أنه علمه للحسن بن علي، كما في «المسند» و «السنن» الأربع عنه قال: علَّمني رسولُ الله كلماتٍ أقولهن في قُنوت الوترِ: «اللَّهُمَّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّه لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعرف في القنوت عن النبي شيئاً أحسنَ من هذا، وزاد البيهقي بعد «وَلاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ»، «وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ».
وممّا يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيامُ للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا أبو هلال، حدثنا حنظلة إمامُ مسجد قتادة، قلت: هو السدوسي، قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت، أنا: بعد الركوع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال: أتيتُ النبي في صلاة الفجر، فكبر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة ثم وقع ساجداً. وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يُبين مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلاً لمن قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو كان مرادَ أنس، فاتفقت أحاديثُه كلُّها، وبالله التوفيق.

ووأما المروي عن الصحابة، فنوعان:
أحدُهما: قنوت عند النوازل، كقنوتِ الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلِمة، وعِند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر، وقنوتُ علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.
الثاني: مطلَق، مرادُ من حكاه عنهم به تطويلُ هذا الركن للدعاء والثناء، والله أعلم

وقال الزيلعلي في نصب الراية

قال الحازمي في ”كتابه الناسخ والمنسوخ (26)”: اختلف الناس في قنوت الفجر، فذهب إليه أكثر الصحابة. والتابعين، فمن بعدهم من علماء الأمصار، إلى يومنا، فروى ذلك عن الخلفاء الأربعة. وغيرهم من الصحابة، مثل: عمار بن ياسر. وأبيّ بن كعب. وأبي موسى الأشعري. وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وعبد اللّه بن عباس. وأبي هريرة. والبراء بن عازب. وأنس بن مالك. وسهيل بن سعد الساعدي. ومعاوية بن أبي سفيان. وعائشة، ومن المخضرمين: أبو رجاء العطاردي. وسويد بن غفلة. وأبو عثمان النهدي. وأبو رافع الصانع، ومن التابعين: سعيد بن المسِّيب. والحسن. ومحمد بن سيرين. وأبان بن عثمان. وقتادة. وطاوس. وعبيد بن عمير. والربيع بن خيثم. وأيوب السختياني. وعبيدة السلماني. وعروة بن الزبير. وزياد بن عثمان. وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وعمر بن عبد العزيز. وحميد الطويل، وذكر جماعة من الفقهاء، ثم قال: وخالفهم طائفة من الفقهاء، وأهل العلم، فمنعوه، وزعموا أنه منسوخ، محتجين بأحاديث:
منها: حديث أبي حمزة القصاب عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه، قال: لم يقنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده، وقال: تابعه أبان بن أبي عياش عن إبراهيم، فقال في حديثه: لم يقنت في الفجر قط، ورواه محمد بن جابر اليمامي عن حماد عن إبراهيم، وقال في حديثه: ما قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شيء من الصلوات إلا في الوتر، كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلها، يدعو على المشركين.
ومنها حديث أم سلمة: رواه محمد بن يعلى زنبور عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن نافع عن أبيه عن أم سلمة، قالت: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن القنوت في صلاة الصبح.
ومنها حديث ابن عمر أنه ذكر القنوت، فقال: إنه لبدعة، ما قنت غير شهر واحد، ثم تركه، رواه بشر بن حرب عنه، قال: وأجاب القائلون به عن حديث ابن مسعود، بأنه معلول بأبي حمزة، كان يحيى بن سعيد القطان لايحدث عنه،
وقال أحمد: متروك الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: ليس بالقوي، وقال السعدي. وإسحاق بن راهويه: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، وأبان بن أبي عياش، فقد قيل فيه أكثر مما قيل في أبي حمزة. ومحمد بن جابر، فقد ضعفه يحيى بن معين. وعمرو بن علي الفلاس. وأبو حاتم. وغيرهم. وقد روى من عدة طرق، كلها واهية لا يجوز الاحتجاج بها، ومثل هذا لا يمكن أن يكون رافعاً لحكم ثابت بطرق صحاح.
وأما حديث أم سلمة: فمعلول أيضاً، قال ابن أبي حاتم: قال أبي. ويحيى بن معين: كان عنبسة بن عبد الرحمن يضع الحديث، وعبد اللّه بن نافع ضعيف جداً، ضعفه ابن المديني. ويحيى. وأبو حاتم. والساجي. وغيرهم، وقال الدارقطني: عبد اللّه بن نافع عن أبيه عن أم سلمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن القنوت، مرسل، لأن نافعاً لم يلق أم سلمة، ولا يصح سماعه منها، ومحمد بن يعلى زنبور، وعبد اللّه بن نافع. وعنبسة، كلهم ضعفاء.
وأما حديث ابن عمر: فمعلول أيضاً، لأن بشر بن حرب، ويقال له: أبو عمرو الندلي مطعون فيه، قال البخاري: رأيت ابن المديني يضعفه. وكان يحيى القطان لا يروي عنه، وقال أحمد: ليس بقوي، وقال إسحاق: متروك، ليس بشيء، وقال السعدي: لا يحمل حديثه، وقال النسائي. وابن أبي حاتم: ضعيف، قالوا: وعلى تقدير صحة هذا الحديث، فيكون المراد بالبدعة ههنا، القنوت قبل الركوع، لأنه روى عنه في ”الصحيح” من طرق إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قنت بعد الركوع، فدل على أنه إنما أنكر القنوت قبل الركوع، أو يكون ابن عمر نسي، بدليل ما أخبرنا، وأسند عن ابن سيرين أن سعيد بن المسيب ذكر له قول ابن عمر في ”القنوت”، فقال: أما إنه قد قنت مع أبيه، ولكنه نسي، قال: وروى عنه أنه كان يقول: كبرنا ونسينا، ائتوا سعيد بن المسيب فاسألوه، قالوا: وعلى تقدير صحة هذه الأخبار، فهي محمولة على دعائه عليه السلام على أولئك القوم، ويبقى ما عداه من الثناء. والدعاء، وهذا أوْلى، لأن فيه الجمع بين الأحاديث. قال: والدليل على أن المراد بالنهي عن القنوت في حديث أم سلمة، فإنه بدعة في حديث ابن عمر، القنوت قبل الركوع، لا الذي بعد الركوع، ما أخبرنا - وأسند من طريق الطبراني - حدثنا إسحاق الديري حدثنا عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي عن عاصم عن أنس، قال: قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الصبح بعد الركوع، يدعو على أحياء من العرب، وكان قنوته قبل ذلك، وبعده قبل الركوع، انتهى. وقال: إسناده متصل، ورواته ثقات، وأبو جعفر الرازي، قال فيه ابن المديني: ثقة، وكذلك قال ابن معين، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال أحمد: صالح الحديث، وأخرج حديثه في ”مسنده”، ثم أخرج من طريق أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول عن أنس، قال: سألته عن القنوت، أَقبْل الركوع، أو بعده فقال: قبل الركوع، قال: قلت: فإنهم يزعمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قنت بعد الركوع، فقال: كذبوا، إنما قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهراً يدعو على أناس، قتلوا أناساً من أصحابه، يقال لهم: القراء، انتهى. هكذا أخرجه البخاري (27)، ومسلم. وفي حديثهم: إنما قنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الركوع شهراً، ألا تراه فصل بين القنوت المنزول. والقنوت الملزوم، ثم لم يطلق اللفظ حتى أكده بقوله: بعد الركوع، فدل على مشروعية القنوت - بعد الانتهاء عن الدعاء - على الأعداء.


قال: فإن قيل: فقوله في الحديث: ثم تركه، ليس فيه دلالة على النسخ، لأنه يجوز أن يكون تركه، وعاد إليه قلنا: هذا مدفوع بما أخبرنا، وأسند من طريق أبي يعلى الموصلي بسنده عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد اللّه بن كعب عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعد ما يقول: سمع اللّه لمن حمده، يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار من قريش، فأنزل اللّه تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}، فما عاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو على أحد بعد، انتهى. وقال: حديث غريب من هذا الوجه، ويؤكده ما أخرجه البخاري (28). ومسلم عن سعيد. وأبي سلمة عن أبي هريرة، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يدعو على أحد، أو لأحد، قنت بعد الركوع، وربما قال: سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، اللّهم أنج الوليد بن الوليد. وسلمة بن هشام. والمستضعفين من المؤمنين. اللّه اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، يجهر بذلك، حتى كان يقول (29) في بعض صلاة الفجر: اللّهم العن فلاناً، وفلاناً، لأحياء من العرب، حتى أنزل اللّه تعالى {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} الآية، قال: وأخرج أبو داود في ”المراسيل” عن معاوية ابن صالح عن عبد القاهر عن خالد بن أبي عمران، قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو على مضر، إذ جاءه جبرئيل عليه السلام، فأومأ إليه أن اسكن، فسكت، فقال: ”يا محمد، إن اللّه لم يبعثك سباباً ولا لعاناً، وإنما بعثك رحمة” {ليس لك من الأمر شيء} الآية، ثم علمه القنوت: اللّهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع، ونترك من يكفرك، اللّهم إياك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، وإليك نسعى، ونحفِد، ونرجوا رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك الجِد، بالكفار ملحق، انتهى. ثم ساق من طريق الدارقطني (30): حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبيد اللّه بن موسى حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قنت شهراً يدعو عليهم، ثم ترك، وأما في الصبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، انتهى.

قال: فهذه الأخبار كلها دالة على أن المتروك هو الدعاء على الكفار، واللّه أعلم، انتهى.

ثم قال الزيلعي

وقال ابن الجوزي في ”التحقيق”: أحاديث الشافعية على أربعة أقسام: منها ما هو مطلق، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قنت، وهذا لا نزاع فيه، لأنه ثبت أنه قنت. والثاني: مقيد بأنه قنت في صلاة الصبح، فيحمله على فعله شهراً بأدلتنا. الثالث: ما روى عن البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقنت في صلاة الصبح. والمغرب، رواه مسلم (31). وأبو داود. والترمذي. والنسائي. وأحمد، وقال أحمد: لا يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قنت في المغرب، إلا في هذا الحديث (32). والرابع: ما هو صريح في حجتهم، نحو ما رواه عبد الرزاق في ”مصنفه” أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك، قال: ما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، ومن طريق عبد الرزاق، رواه أحمد في ”مسنده (33)”، والدارقطني في ”سننه”، قال: وقد أورد الخطيب في ”كتابه” الذي صنفه في القنوت أحاديث، أظهر فيها تعصبه: فمنها: ما أخرجه عن دينار بن عبد اللّه، خادم أنس بن مالك، عن أنس، قال: ما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح حتى مات، انتهى. قال: وسكوته عن القدح في هذا الحديث، واحتجاجه به، وقاحة عظيمة، وعصبية باردة، وقلة دين، لأنه يعلم أنه باطل، قال ابن حبان: دينار يروي عن أنس آثاراً موضوعةٌ، لا يحل ذكرها في الكتب، إلا على سبيل القدح فيه، فواعجباً للخطيب، أما سمع في الصحيح: ”من حدث عني حديثاً، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين”، وهل مثله إلا كمثل من أنفق نبهرجا ودلسه، فإن أكثر الناس لا يعرفون الصحيح من السقيم،
وإنما يظهر ذلك للنقاد، فإذا أورد الحديث محدث، واحتج به حافظ لم يقع في النفوس إلا أنه صحيح، ولكن عصبية، ومن نظر في ”كتابه” الذي صنفه في القنوت، و”كتابه” الذي صنفه في الجهر، ومسألة الغيم، واحتجاجه بالأحاديث التي يعلم بطلانها، اطلع على فرط عصبيته، وقلة دينه، ثم ذكر له أحاديث أخرى، كلها عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح حتى مات، وطعن في أسانيدها.)انتهى.

تنبيه:
وينبغي التنبه لكلام ابن الحوزي في الخطيب البغدادي فقد أفرط في ذلك حتى في كتابه المنتظم وغيره

وفي المجلد الثالث والعشرون من مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية رحمه الله

هل قنوت الصبح دائماً سنة‏؟‏ ومن يقول‏:‏ إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود، وما يجبر إلا الناقص‏.‏ والحديث ‏(‏ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الحياة‏)‏‏:‏ فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح‏؟‏ وهل هو هذا القنوت‏؟‏ وما أقوال العلماء في ذلك‏؟‏ وما حجة كل منهم‏؟‏ وإن قنت لنازلة‏:‏ فهل يتعين قوله، أو يدعو بما شاء‏؟‏


/فأجاب‏:‏


الحمد للَّه رب العالمين، قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قنت شهراً يدعو على رَعْل وذَكْوان وعصية، ثم تركه‏.‏ وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة‏.‏
وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية، وفتح خيبر، يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة‏.‏ ويقول في قنوته‏:‏ ‏(‏اللهم، انج الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين‏.‏ اللهم، اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏‏.‏ وكان يقنت يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار، وكان قنوته في الفجر‏.‏
وثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب والعشاء، وفي الظهر، وفي السنن أنه قنت في العصر ـ أيضاً?‏.‏ فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال‏:‏
أحدها‏:‏ أنه منسوخ، فلا يشرع بحال، بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت، ثم ترك، والترك نسخ للفعل، كما أنه لما كان يقوم للجنازة، ثم قعد‏.‏ جعل القعود ناسخاً للقيام، وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره‏.‏
/والثاني‏:‏ أن القنوت مشروع دائماً، وأن المداومة عليه سنة، وأن ذلك يكون في الفجر‏.‏
ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سراً، وألا يقنت بسوي‏:‏ اللهم، إنا نستعينك‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخرها، واللهم، إياك نعبد، إلى آخرها، كما يقول‏:‏ مالك‏.‏
ومنهم من يقول‏:‏ السنة أن يكون بعد الركوع جهراً‏.‏ ويستحب أن يقنت بدعاء الحسن بن على الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم قي قنوته‏:‏ ‏(‏اللهم اهدني فيمن هديت‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى آخره‏.‏ وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد‏.‏ وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، ويقولون‏:‏ الوسطى‏:‏ هي الفجر، والقنوت فيها‏.‏ وكلتا المقدمتين ضعيفة‏:‏
أما الأولى‏:‏ فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطي هي العصر، وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة‏.‏ ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم‏.‏ وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة، فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم‏.‏
/وأما الثانية‏:‏ فالقنوت هو المداومة على الطاعة، وهذا يكون في القيام، والسجود‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ولو أريد به إدامة القيام كما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 43‏]‏، فحمل ذلك على إطالته القيام للدعاء، دون غيره، لا يجوز؛ لأن الله أمر بالقيام له قانتين، والأمر يقتضي الوجوب، وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالإجماع؛ ولأن القائم في حال قراءته هو قانت للَّه ـ أيضاً ـ ولأنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت، ونهوا عن الكلام‏.‏ فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به‏.‏
ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام؛ ولأن قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، لا يختص بالصلاة الوسطي‏.‏ سواء كانت الفجر أو العصر؛ بل هو معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ على الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏، فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة، والمحافظة تتناول الجميع، فالقيام يتناول الجميع‏.‏
واحتجوا ـ أيضاً ـ بما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في صحيحه، عــن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا قالوا‏:‏ وقوله في الحديث الآخر‏:‏ ثم تركه، أراد ترك الدعاء على تلك / القبائل، لم يترك نفس القنوت‏.‏
وهذا ـ بمجرده ـ لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة، وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي‏.‏ وكثيراً ما يصحح الموضوعات، فإنه معروف بالتسامح في ذلك، ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده، فقال‏:‏ ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهراً ?، فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً، فبطل ذلك التأويل‏.‏
والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع، سواء كان هناك دعاء زائد، أو لم يكن‏.‏ فحينئذ، فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء، وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس، محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض، وهذا قول شاذ‏.‏
والقول الثالث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به، فيكون القنوت مسنوناً عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم‏.‏
فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ لما حارب النصاري قنت عليهم القنوت/ المشهور‏:‏ اللهم عذب كفرة أهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏ وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان، وليس هذا القنوت سنة راتبة، لا في رمضان ولا غيره، بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده‏.‏ فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه،ليس بسنة دائمة في الصلاة‏.‏
الثاني‏:‏ أن الدعاء فيه ليس دعاء راتباً، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولا، وثانياً‏.‏ وكما دعا عمر‏.‏ وعلى ـ رضي الله عنهم ـ لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده، والذي يبين هذا أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائماً، ويدعو بدعاء راتب، لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم، فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه، وليس بسنة راتبة، كدعائه على الذين قتلوا أصحابه، ودعائه للمستضعفين من/ أصحابه، ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم‏.‏
فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما في الفجر أو غيرها، ويدعو بدعاء راتب، ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح، ولا ضعيف‏؟‏‏!‏ بل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الناس بسنته، وأرغب الناس في اتباعها، كابن عمر وغيره، أنكروا، حتى قال ابن عمر‏:‏ ما رأينا ولا سمعنا‏.‏ وفي رواية‏:‏ أرأيتكم قيامكم هذا‏:‏ تدَّعون‏.‏ ما رأينا ولا سمعنا‏.‏ أفيقول مسلم‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت دائما‏؟‏‏!‏ وابن عمر يقول‏:‏ ما رأينا، ولا سمعنا‏.‏ وكذلك غير ابن عمر من الصحابة، عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة‏.‏
ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب، علم علماً يقيناً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت دائماً في شيءٍ من الصلوات، كما يعلم علماً يقينياً أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب، فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاهلين له في الفجر سنة راتبة‏.‏ ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في هذه الصلوات؛ لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به، والسبب الذي قنت له، وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود، نقلوا ذلك في / قنوت الفجر، وفي قنوت العشاء ـ أيضاً‏.‏
والذي يوضح ذلك، أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائماً بقنوت الحسن بن على، أو بسورتي أُبي، ليس معهم إلا دعاء عارض، والقنوت فيها إذا كان مشروعاً، كان مشروعاً للإمام والمأموم والمنفرد، بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن، أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء، لكان حاله شبيهاً بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر؛ إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض، ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا، كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء‏.‏ وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر؛ لأن القنوت فيها كان أكثر، وهي أطول‏.‏ والقنوت يتبع الصلاة، وبلغهم أنه داوم عليه، فظنوا أن السنة المداومة عليه، ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه‏.‏ فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر، مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر‏.‏
وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة‏:‏ فكثيراً ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم لسبب، فيجعله بعض الناس سنة، ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة‏.‏ وبعض الناس يري أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات، فيراه بدعة، ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصاً أو منسوخا، إن كان قد بلغه ذلك، مثل صلاة التطوع في جماعة‏.‏ فإنه قد ثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه صلى بالليل وخلفه ابن / عباس مرة، وحذيفة بن اليمان مرة، وكذلك غيرهما‏.‏ وكذلك صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة، وصلى بأنس ابن مالك وأمه واليتيم في داره، فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من ‏[‏صلاة الألفية‏]‏ ليلة نصف شعبان، والرغائب، ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات‏.‏
ومن الناس من يكره التطوع؛ لأنه رأي أن الجماعة إنما سنت في الخمس، كما أن الأذان إنما سن في الخمس‏.‏ ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة، فلا يكره أن يتطوع في جماعة‏.‏ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولا يجعل ذلك سنة راتبة‏.‏ كمن يقيم للمسجد إمامًا راتباً يصلي بالناس بين العشائين، أو في جوف الليل، كما يصلي بهم الصلوات الخمس، كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذاناً كأذان الخمس؛ ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك‏.‏
ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث‏.‏ فرأي كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر‏.‏ واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة؛ بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم‏.‏
/وقال طائفة‏:‏ قد ثبت في الصحيح عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، واضطرب قوم في هذا الأصل، لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين، وعمل المسلمين‏.‏
والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً‏.‏ وحينئذ، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره‏.‏
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام بالليل، حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة، والنساء، وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات‏.‏ وأبي بن كعب لما قام بهم ـ وهم جماعة واحدة ـ لم يمكن أن يطيل بهم القيام‏.‏ فكثر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته، فإنه كان يقوم بالليل إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين‏.‏
/وممـا يناسب هـذا أن الله ـ تعالى ـ لمـا فـرض الصلـوات الخمس بمكـة، فرضها ركعتيــن ركعتين، ثم أقرت في السفر، وزيـد في صلاة الحضر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة ـ رضـي الله عنها ـ أنها قالت‏:‏ لما هاجـر إلى المدينة زيد في صــلاة الحضر، وجعلت صــلاة المغرب ثلاثا؛ لأنهـا وتر النهار، وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها، فأغني ذلك عن تكثير الركعات‏.‏
وقد تنازع العلماء‏:‏ أيما أفضل‏:‏ إطالة القيام أم تكثير الركوع والسجود أم هما سواء‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏ وهي ثلاث روايات عن أحمد‏.‏
وقد ثبت عنه في الصحيح أي الصلاة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏طول القنوت‏]‏‏.‏ وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إنك لن تسجد للَّه سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة‏)‏‏.‏ وقال لربيعة بن كعب‏:‏ ‏(‏أعني على نفسك بكثرة السجود‏)‏‏.‏
ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام، ولكن ذكر القيام أفضل، وهو القراءة، وتحقيق الأمر أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة‏.‏ فإذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل، كما رواه حذيفة وغيره‏.‏ وهكذا / كانت صلاته الفريضة، وصلاة الكسوف، وغيرهما‏:‏ كانت صلاته معتدلة، فإن فضل مفضل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات، فهذان متقاربان‏.‏ وقد يكون هذا أفضل في حال، كما أنه لما صلى الضحي يوم الفتح صلى ثماني ركعات يخففهن، ولم يقتصر على ركعتين طويلتين‏.‏ وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام‏.‏
وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل، وأن الدعــاء في القنــوت ليــس شيئاً معيناً، ولا يدعو بما خطــر له، بل يدعو مــن الدعــاء المشـروع بما يناسب سبب القنوت، كما إنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناســب المقصــود، فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود، كما لو دعا خارج الصلاة لذلك الســبب؛ فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود، فهذا هو الذي جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين‏.‏
ومن قال‏:‏ إنه من أبعاض الصلاة التي يجبر بسجود السهو، فإنه بني ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه، بمنزلة التشهد الأول، ونحوه‏.‏ وقد تبين أن الأمر ليس كذلك، فليس بسنة راتبة، ولا يسجد له، لكن من اعتقد ذلك متأولاً في ذلك له تأويله، كسائر موارد الاجتهاد‏.‏
ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد، / فإذا قَنَتَ قَنَتَ معه، وإن ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا تختلفوا على أئمتكم‏)‏، وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏يُصَلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم‏)‏‏.‏ ألا تري أن الإمام لو قرأ في الأخيرتين بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين‏:‏ لوجبت متابعته في ذلك‏.‏ أما مسابقة الإمام، فإنها لا تجوز‏.‏
فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه، فلابد من متابعته، ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمني، ثم إنه صلى خلفه أربعاً، فقيل له‏:‏ في ذلك‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ الخلاف شر‏.‏ وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمي، فأخبره، ثم قال‏:‏ افعل كما يفعل إمامك‏.‏ والله أعلمذهب بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت قبل الركوع، وهو مذهب الحنفية، واستدلوا
بحديث رواه النسائي (2/235) ، وابن ماجه (1182) ، وغيرهما وسنده حسن من حديث أُبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُوتر فيقنت قبل الركوع.
وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قنت في آخر الوتر قبل الركوع. ذكر الحافظ ابن حجر أن في
إسناده عمرو بن شمر، وهو واهٍ.
والجمهور على أن محل القنوت في الوتر بعد رفع الرأس من الركوع لما رواه البخاري
ومسلم من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع. وعن
عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: «قد كان القنوت» . فقلت: قبل
الركوع؟ فقال: كذبت، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا. ورواية أبي هريرة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع.
وعليه فلو كبر ورفع يديه ثم قنت قبل الركوع جاز، والمستحب بعد الركوع وعليه جمهور العلماء، فأكثر الصحابة والتابعين وفقهاء الحديث كأحمد وغيره يختارون
القنوت بعد الركوع