المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حارسٌ متفيْقِه .. !



أهــل الحـديث
14-03-2014, 09:10 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



يقصُّ الدكتور عبد العزيز القارئ ـ بارك الله فيه ـ حادثةً غريبة شهِدَها، يقول:

" رجلٌ من العوام ، كان يعمل بواباً على باب (كلية الشريعة) بالمدينة النبوية ، التي درسنا بها أيام الصبا والشباب ، وكان هذا البواب رجلاً صالحاً محباً لحلقات العلم مداوماً على مجالسة المشايخ ، ولكن دون أن يتفقه ، وإنما هو مستمع فقط .


وكان مما سمعه من بعض المشايخ أهل ذلك المسلك العجيب أن على كل مسلم أن يـجـتـهـد على قدر طاقته في تبليغ العلم ، وأن الشروط التي اشترطها الفقهاء مـا أنـزل الله بـهـا مـن سلطان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : »بلغوا عني ولو آية«، وفهم صاحبنا من هذا الكلام أن هناك تفويضاً شرعياً لمثله أن يفتي حسب علمه وطاقته ، فجلس بين العوام يُذكِّر ويفتي .


إذا وعظهم ربما أفادهم ، لكنه حين يفتي كان يأتي بالعظائم ، وسمـعـت بذلك فأنكرته في نفـسـي ، فـكـنـت إذا رأيـته على باب (كليتنا) أداعبه ببعض غوامض المـسـائـل، ثم أقول له:يا أبا فلان إياك أن تفتي فتهلك الناس ، فالعلم كما ترى يحتاج إلى التعلم أولاً.


وحضرت يوماً مع صديق لي من طلاب العلم عشاءً في بيت من بيوت البدو القاطنين في شرق المدينة النبوية، وكانت جلسة بدوية، في فناء واسع مكشوف ، وفي ظلمة الليل البهيم ، لا يهتك ستر ذلك الظلام إلا خيوط من ضوء الحطب الذي كان يشتعل وسط حلقة الضيوف ، وعلى جوانبه أدوات (القهوة) ، لكن تلك الأشعة الضئيلة المنبعثة على استحياء من شعلة النار المتصاعدة من حول (دلال الـقـهـوة) لم تكن كافـيـة لأن نتبـين الجالسين ونحن نأخذ مجلسنا بينهم ، إلا أن صوت المتكلم الذي كانوا جميعاً يصـغـون إليه وهو يفتيهم ويجيب على أسئلتهم كان يشبه صوت بواب (كلية الشريعة)... عجباً أبو فلان لا يزال يفتي الناس ؟!.


قال له سائل بدوي :

-أنا يا مطوع إذا كنت ماشياً في أرض منقطة موحشة لا أنيس بها ولا أحـد ولا أثـر لحـياة ولا لأحياء ، ثم وجدت فتاة كلها فتنة جالسة في ذلك الـقـفـر المـوحـش ، واستنجدت بي وطلبت مني أن آخذها معي لأوصلها إلى أهلها فهي ضائعة، وأنا شاب أخشى الفتنة ، ولو أمنت على نفسي الفتنة لم آمن من كلام الناس وتهمتهم لي إن أنا أقبلت بها عليهم . فماذا أفعل ؟ أأتركها فتهلك ، أم آخذها مع خوفي من نفسي وخوفي على نفسـي وطـربـت لـهـذا السؤال، وعجبت من فصاحة هذا البدوي في صياغته وإلقائه مع أن موضوع السؤال يعد من الواقعات التي يصادفها البدو أحياناً ، فهي ليست صورة خيالية ، وقلت في نفسي : الآن نسمع العجائب من فقه بواب (كلية الشريعة) .

قال البواب المفتي :

- تتركها ولا تأخذها لأن العلماء قالوا: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .

وضحكـنـا أنا وصديقي من هـذا الـجـواب ، وبـيـنما كان السائل البدوي يناقش هذا المفتي العجيب ، ويراوده عله يغير فتواه كأنما الفتاة التي تصورها في السؤال ملقاة فعلاً في الفلاة تنتظر الفتوى ، قال لي صديقي : لا يحل لنا السكوت .


قلت: يا أبا فلان ، هذه الواقعة فيها دليل من السنة .


فلما سمع صوتي قال: ها.. هنا بعض المشايخ إذن هم أولى بالفتوى مني اسمعوا منهم .

وأكملت تعليقي على فتواه :

لما مر صفوان بن المعطل السلـمي ووجد أم المؤمنـيـن عـائـشـة -رضي الله عنها- في الفلاة، وكان الركب قد مضوا إلى المدينة النبـوية وحملوا هودجها ولم ينتبهوا إلى خلوه منها لخفة وزنها، فجلست أم المؤمنين مـتـلـفعة بجلـبابها حتى مـر بـهـا صـفـوان، فلما رآها وعرفها استرجع، ولكنه لم يتركها، بل أناخ جـمـلـه ثـم تـنحى عنها حتى ركـبـت، وأخذها إلى المدينة دون أن يلقي بالاً لما يمكن أن يقوله المنافقون ، وفعلاً هذه الواقعة هي التي استغلها المنافقون فرموا أم المؤمنين عائشة بالإفك ، ثم أنزل الله براءتها من فوق سبع سموات قرآناً يتلى إلى يوم الدين...

فلا يحل إذن للسائل أن يترك تلك الفتاة مـعـرضـة لـلهلاك أو حتى للفساد إذ قد يمر بها فاسق، وذلك من أجل مفسدة متوهمة، بل يتوكل على الله ويأخذها معه ويوصلها إلى أهلها وأجره على الله "اهـ.

مجلة البيان، ع (21)، صفر، 1410هـ.