المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محاضرة الثلاثاء :: عبده الراجحي



أهــل الحـديث
06-03-2014, 04:50 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


بسم الله الرحمن الرحيم

** محاضرة الثلاثاء **

(عبده الراجحي)

• الفصل الدراسي الأول، 1957، بعيد العدوان الثلاثي على مصر 1956، عاد العشماوي إلى الإسكندرية احتجاجا على العدوان، وكان منتدبا للعمل في الإذاعة البريطانية.
محاضرة الثلاثاء هذه كانت بعد العصر، مبنى كلية الآداب القديم، قاعة متوسطة، ذات نوافذ واسعة تطل على البحر مباشرة، وكان شارع الكورنيش آنذاك ضيقا، فكان رذاذ البحر يكاد يصل إلى وجوهنا، أما "يود" البحر الذي كاد يختفي الآن بفعل التلوث، فكان يملأ نفوسنا بالحيوية والنضارة... على أن العشماوي كان أكثرنا شبابا وتدفقا... كان - في أعيننا - مختلفا اختلافا كبيرا.. والحق أن علاقتنا بأساتذتنا آنذاك كانت حميمة وعميقة، لكن علاقتنا بالعشماوي - بسبب محاضرة الثلاثاء هذه - كانت شيئا آخر - لا تستطيع أن تسلكها في علاقة أستاذ بطلابه.. ولا بعلاقة الطلاب أنفسهم بعضهم ببعض.. لكنها نمط ثالث لا أستطيع أن أصفه لك وصفا دقيقا، ولا أن أصنفه فيما نعهده من علاقات..
• كانت المحاضرة في مادة النصوص الأوروبية والترجمة.. وكان يقرأ لنا نصوصا عالية من النقد الإنجليزي.. أذكر منها مقالين لهازلت والدوس هكسلي.. لم أقرأهما منذ ذلك التاريخ لكن النصين بقيا حتى اليوم كأني لا أزال أسمعهما بصوت العشماوي في تلك القاعة البحرية المتوسطة المعبقة بيود البحر في الخريف..
كان المقال الأول عن: The Wholetruthful Art
والثاثي عن: On the Knocking on the gate in Macpeth
في هذه المحاضرة تعرفنا إلى لون جديد من الإيقاع الصوتي.. وكنا قد أنعم علينا بإيقاع سابق تحمله نبرات أستاذنا العظيم محمد خلف الله أحمد.. لكن إيقاع العشماوي كان مختلفا.. كان إيقاع خلف الله يحمل وقار السن وحكمة المرحلة ومهابة المنصب... لم يكن عميدا فحسب بل كان هو العميد... أما إيقاع العشماوي فكان يحمل التدفق والتجدد والصداقة التي تشعرك أنها هي التي تلاحقك.. وقد استقر عندي فيما بعد أن هذا الإيقاع لم يكن انسجاما صوتيا لكنه يجاوز ذلك طبقات وطبقات... كان إيقاعا في الحركة الفيزيقية كما تبدو جلية في ملامحه المتميزة والتناسق الموهوب بين صداقة النظرة وإشراقة الوجه والابتسامة المتجددة في كل القسمات، ثم ما أوتي من بسطة في الجسم واعتدال في القامة..
ثم كان إيقاعا في حركة العقل، فلم نعرف عنه منذ يوم الثلاثاء هذا تناقضا في الفكر ولا اضطرابا في الرأي.. ذلك أن هذا الإيقاع وضعه حيث هو دائما على معيار الاعتدال والانفتاح وهما مفتاحا التناسق الداخلي حيث كان...
ثم كان إيقاعا في الآصرة الإنسانية العميقة، فهو الذي يبدأ بالاتصال، وهو الذي يبدأ بالتحية وبالسؤال وبالتشجيع وبالمتابعة في غير سرف ولا تصنع.. وهذا كله - عندي - ثمرة من ثمرات الإيقاع الداخلي الذي يفرض على صاحبه الحركة في هذا الاتجاه...
• ولا تنتهي محاضرة الثلاثاء هذه بالتفرق... بل نخرج إلى الكورنيش نمشي مع الأستاذ الصديق القريب إلى محطة الرمل... ثم نعطف إلى شارع صفية زغلول إلى ميدان محطة مصر إلى إحدى الجمعيات النوبية "جمعية إبريم" ونعود إلى بيوتنا وقد تمثلت في قلوبنا الــ Wholetruthful Art على صورة أكثر حيوية ربما أعمق مما قصد الكاتب.. إذ تحول الصدق الكامل إلى ممارسة طبيعية...
• وعلى ذكر "جمعية إبريم" كانت الجمعيات النوبية هي المكان المثالي أمام جيلي لممارسة نشاطنا الأدبي.. كل جمعية تجمع أهل قرية نوبية، وتفتح صدرها لكل وافد نوبي تقدم له شيئا من المال وفرصة للعمل إلى أن يصل إلى الاستقرار فينخرط في مجموع هذا السلوك...
والنوبيون يتّسمون بالأمانة والنظافة والبساطة والود... يلتقون بعد كل مغرب في هذه الجمعيات على شاي بالحليب... وكانوا يستقبلوننا كأننا نعمة وهبهم الله إياها.. ففي إبريم، وجمعية توشكا وغيرهما، ثم النادي النوبي العام كنا نلتقي كل أسبوع... نقيم ندوة... وندعو شعراء الإسكندرية... بعضهم كان قد استوى على عوده مثل السمرة وعبد العليم القباني... وبعضهم كان على أول الطريق.. مثل عبد المنعم الأنصاري وأمل دنقل.. وكان العشماوي يتركنا نحن المبتدئين ندعو هؤلاء الشعراء و"نقيّم" شعرهم، يتابعنا مرة من بعيد، ومرة من قريب... لكنه ظلّ "الموئل" الذي يجمع هؤلاء ومن جاء بعدهم، يفرح بكل شاعر جديد كأنه ابنه الذي يضع فيه آماله...
• وكان العشماوي - وقتذاك - ممثلا مسرحيا موهوبا.. ويبدو أنه كان يراقبنا وقت الدرس وخارجه، فاختار منا من رآه صالحا للتمثيل، وكون فرقة مسرحية بالكلية شهدت نشاطا عظيما أسهم فيه شباب المخرجين حينذاك - نور الدمرداش - وحمدي غيث – في تقديم بعض من روائع المسرح العالمي، يوليوس قيصر ومرتفعات وذرنج، وكانت هذه الفرقة تمثل جامعة الإسكندرية وتضمن كل سنة الميدالية الذهبية في أسابيع الجامعات.. والعجيب أن لقاءنا التدريبي الأسبوعي كان يوم الثلاثاء..
• ومنذ محاضرة النصوص الأوروبية هذه عام 1957 صحبت العشماوي هذه الفترة المباركة التي تقترب من نصف قرن.. لم يتغير شيء.. نقلنا المشي إلى كورنيش الحمام العسكري... وكثرت حلقات الشعر في أمسيات الحرب الأهلية في بيروت.. وهو في كل الأحوال ظل يجسد عندي جوهر "الإيقاع" في ظواهره البادية والخافية يجعل من التناغم الفيزيقي والروحي مسلكا سديدا في الحياة.

عبده الراجحي