المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أطوار خلق الإنسان في القرآن بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي



الاهلي الراقي
15-02-2014, 08:30 PM
المصدر : شبكة الألوكة الإسلامية

محمد سلامة الغنيمي

أطوار خلق الإنسان في القرآن


بين الإعجاز التربوي والإعجاز العلمي

أطوار خلق الإنسان:

ولعله من الأسباب التي دعتني أن أتحدَّث عن أطوار الإنسان في هذا البحث ما قاله الإمام ابن كثير في تفسيره لآية الخلق في سورة الحج، ما ذكره من أطوار خلق الإنسان أمر كل مكلَّف أن ينظر فيه، والأمر المطلق يقتضى الوجوب إلا لدليلٍ صارف عنه، كما أوضحناه مرارًا، وذلك في قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 5، 6].


يعدُّ خلق الإنسان من آيات الله العظيمة، خاصة إذا علِمنا أن كل طور من هذه الأطوار يعدُّ آية في ذاته، كما أن إخبار الله - سبحانه - عن هذه الأطوار والمراحل في القرآن الكريم يعتبر من الإعجاز العلمي، لا سيما وأن العلم الحديث لم يتوصَّل إلى هذه الأطوار إلا منذ سنوات قليلة، ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].


ومن الواضح أنه قبل عملية خلق الإنسان قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه الإنسان مذكورًا كما في قوله - تعالى -: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].

أولاً عناصر خلق الإنسان الأول:

1- الماء:

يعبر الماء هو العنصرَ الأول الذي خلق الله منه كل شيء حي سوى الملائكة والجن مما هو حي؛ لأن الملائكة خُلِقوا من النور، والجانُّ خُلِق من النار، قال - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30].



ويدخل في قوله - تعالى -: ﴿ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول: وقد خلقه الله - تعالى - من الماء، يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54][1].

2- التراب:

التراب هو العنصر الثاني من عناصر خلق أبي البشر آدم - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، والتراب عنصر أساسي من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم - عليه السلام - إذ من الترابِ النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين، قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [فاطر: 11].


وقال - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [غافر: 67].


وقال - تعالى -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾ [الروم: 20].


وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5].


هناك تحقيقٌ آخر للعلماء حول خلق الله الناس من تراب، وهو أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجَه، ثم خلقهم منها عن طريق التناسل، فلما كان أصلُهم الأول من ترابٍ، أطلق عليهم أنه خلقهم من ترابٍ؛ لأن الفروع تبع الأصل، وقد توصَّل العلم الحديث إلى أن كل العناصر المكوِّنة للإنسان هي عناصر التراب.

ثانيًا: مراحل خلق الإنسان الأول:

1- الطين:

وهذا الطين ناتجٌ من امتزاج عنصرَي الماء والتراب كما وضحنا آنفًا، ولذلك فالطين هو المركَّب الذي يتكوَّن منه خلق جسد الإنسان، قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 6 - 9].


ويصف الله - سبحانه وتعالى - هذا الطين بأنه كان طينًا لازبًا؛ أي: لزج لاصقًا متماسكًا يشدُّ بعضه ببعض، قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ﴾ [الصافات: 11].


ومما هو جديرٌ بالذِّكر أن سببَ اختلاف البشر في صفاتهم وأشكالهم وأخلاقهم يرجع إلى المادة التي خلق الله منها آدم؛ حيث جمعها من جميع الأرض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم من قبضة قبضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدرِ الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك والسهل والحزن، وبين ذلك والخبيث والطيِّب، وبين ذلك))[2].


2- الحمأ المسنون:

ترك الله - تعالى - هذا الطين بعد أن مزج عنصريه حتى صار حمأً مسنونًا، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26]، والحمأ هو الطِّين الأسود المتغيِّر، كما عليه أقوال المفسرين، أما المسنون ففيه خلاف بين المفسِّرين، قيل: المصوَّر من سُنَّة الوجه وهى صورته، ومنه قول ذي الرمة:

تُرِيكَ سُنَّةَ وَجهٍ غَيرِ مُقرِفَةٍ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مَلْسَاءَ لَيسَ بِهَا خَالٌ وَلا نَدَبُ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه لما سأله نافعُ بن الأزرق عن معنى المسنون، وأجابه بأن معناه المصوَّر، قال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال له ابن عباس: نعم، أما سمعت قول حمزةَ بنِ عبدالمطلب - رضى الله عنه - وهو يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:


أغرٌّ كأنَّ البدرَ سنةَ وجهِه http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
جلا الغيمُ عنه ضوءَه فتبدَّدا http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وقيل: المسنون المصبوب المفرغ؛ أي: أفرغ صورة الإنسان كما تفرغ الصور من الجوهر في أمثلتها.


وقيل المسنون في رواية لابن عباس ومجاهد والضحاك: إنه المنتن، وقال ابن كثير: المسنون الأملس، كما قال الشاعر:


ثم خاصرتُها إلى القبَّةِ الخضراء http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تمشي في مرمرٍ مَسنونِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ويرجِّح الشنقيطي الرأي الأول بدليل قوله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26][3]؛ أي بعد أن مزَج الخالق - تبارك وتعالى - عنصرَي التراب والماء صار المزيج طينًا لازبًا لاصقًا، ثم بعد ذلك صار هذا الطين حمأ أسودًا مسنونًا مصورًا.


3- مرحلة كونه صلصالاً:

بعد أن صار الطين حمأً مسنونًا في صورة آدم صار صلصالاً كالفخار، قال - تعالى -: ﴿ خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ﴾ [الرحمن: 14، 15]، والصلصال هو: الطين اليابس الذي له صلصلة؛ أي يصوت من يُبْسه إذا ضربه شيء، ما دام لم تمسه النار، فإذا مسَّته النار فهو حينئذٍ فخَّار، وهذا قول أكثر المفسرين.

وهذا الصلصال يشبه الفخار إلا أنه ليس بالفخَّار؛ لأن الله لم يُدخِل آدم النار، حتى يكون فخارًا، قال - تعالى -: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ [الرحمن: 14].

والحاصل أن الله - سبحانه وتعالى - لما مزَج عنصرَي التراب والماء صار طينًا، فلمَّا أنتن الطينُ صار حمأً مسنونًا مصورًَّا على هيئته، فلمَّا يبِس صار صلصالاً، وإلى هذه المرحلة لم يبدأ آدم في الحياة.

أما بخصوص المدة الزمنية التي بينَ مرحلة الطين والحمأ المسنون والصلصال، لم يُحدِّدها الله - سبحانه - في القرآن الكريم، وكذلك لم يرِدْ بشأنها حديث نبوي صحيح يُستَدلُّ به، ومن الأحاديث التي تُبيِّن هذه المرحلة ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه حتى إذا كان حمأً مسنونًا خلقه وصوَّره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخَّار، قال: فكان إبليس يمرُّ به فيقول له: لقد خُلِقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطَس، فلقَّاه الله حمد ربه، فقال الله: يرحمك ربك...))[4].


يتبع