المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا ينتكس البعض بعد الاستقامة؟!



أهــل الحـديث
06-02-2014, 07:40 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (حفظه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.


لماذا ينتكس البعض بعد الاستقامة؟!

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد وعلى آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن الله جل وعلا العلام قد منَّ على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى أيها الكرام،وإن من أهمها ما تفضل به على بعض الأنام بأن هداهم للإسلام وجعلهم من أتباع سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام،يقول تعالى:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[المائدة :3]
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله-:"هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم،فلا يحتاجون إلى دين غيره،ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه،ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن...".تفسير ابن كثير( 2/ 13)
ويقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها،ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى...".اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 3)
وإن من هؤلاء العباد أيها الأفاضل من زادهم الله تعالى من فضله وأنعم عليهم بجوده وكرمه ووفقهم لأمر هو أساس الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة ألا هو "الاستقامة على دينه"،فجعلهم سبحانه ممن امتثلوا ما به أمر واجتنبوا ما نهى عنه جل وعلا وزجر،وجعل قلوبهم متعلقة في الحياة الباقية،وزهدهم في هذه الدنيا الفانية!!،يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:"أعظم الكرامة لزوم الاستقامة ".مدارج السالكين لابن القيم (2/105)
ويقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، فالاستقامة فيها:وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله".مدارج السالكين ( 2/105)
وهذا أيها الأحبة دليل على محبة الباري سبحانه لهم،فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب،و لا يعطي الإيمان إلا من أحب". رواه الحاكم في المستدرك (1/88)،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (2714)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :"ليس كل من أعطى مالا أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعا له عند الله، منجيا له من عذابه، فإن الله يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطى الإيمان إلا من يحب ".مجموع الفتاوى( 22/447)
أيها الأفاضل الكرام إن مما ينبغي أن نعلمه أن بالشكر والإيمان تدوم وتكثر النعم،وبالجحود والعصيان تَحل وتزداد النقم، قال تعالى:(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)[إبراهيم :7].
يقول الشيخ الشنقيطي-رحمه الله-:"وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفراداً وجماعات،أن يقابلوا نعم الله بالشكر،وأن يشكروها بالطاعة والعبادة للَّه،وأن يحذروا كفران النعم". أضواء البيان (9/112)
أيها الأحبة والإخوان إن نعمة الاستقامة والتمسك بدين الرحمن ينبغي على كل من وُفق إليها وذاق طعمها أن يشكر عليها المنان بالقلب واللسان والأركان،يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده:ثناء واعترافا وعلى قلبه: شهودا ومحبة وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة،والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور،وحبه له،واعترافه بنعمته،وثناؤه عليه بها،وأن لا يستعملها فيما يكره.
فهذه الخمس هي أساس الشكر وبناؤه عليها،فمتى عدم منها واحدة اختل من قواعد الشكر قاعدة،وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور".مدارج السالكين (2/244)
ويقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:"الواجب على الخلق إضافة النعم إلى الله قولا واعترافا كما تقدم وبذلك يتم التوحيد,فمن أنكر نعم الله بقلبه ولسانه فذلك كافر ليس معه من الدين شيء .
ومن أقر بقلبه أن النعم كلها من الله وحده وهو بلسانه تارة يضيفها إلى الله, وتارة يضيفها إلى نفسه وعمله وإلى سعي غيره كما هو جار على ألسنة كثير من الناس,فهذا يجب على العبد أن يتوب منه,وأن لا يضيف النعم إلا إلى موليها وأن يجاهد نفسه على ذلك,ولا يتحقق الإيمان والتوحيد إلا بإضافة النعم إلى الله قولا واعترافا , فإن الشكر الذي هو رأس الإيمان مبني على ثلاثة أركان:اعتراف القلب بنعم الله كلها عليه وعلى غيره والتحدث بها والثناء على الله بها والاستعانة بها على طاعة المنعم وعبادته، والله أعلم" . القول السديد في مقاصد التوحيد (ص36)
إن بسبب ضياع هذا الأصل العظيم عند بعض من ذاق طعم الاستقامة!نتج عن ذلك ما يُحزن قلب كل مؤمن محب للخير مبغض للشر ألا وهو وقوعهم في الانتكاسة بعد أن كانوا في طريق الهداية والاستقامة،ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المستقيم على دين الله جل وعلا، اعلم -سددك الله- أنه ليس لك غنى عن ربك سبحانه وتعالى مهما علت مكانتك وارتفعت منزلتك، فقد قال خالقك جل جلاله لنبيك صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلق وسيد البشر: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)[الإسراء:74].
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :"النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق،قال الله له:(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) فكيف بغيره ؟!" .تفسير السعدي ( ص 464)
فقلبك أيها المستقيم-ثبتك الله-وقلوب العباد أجمعين هي بيد رب العالمين،فاحذر من اغترارك بنفسك والعجب بعملك، وعليك أن تسأل دائما أرحم الراحمين أن يثبتك على الاستقامة في الدين كما كان يفعل أفضل الأنبياء وخير المرسلين، فعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكْثِرُ أن يقول:"يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دِينِكَ"، فقلت:يا رسول الله آمَنَّا بك وبما جئت به فهل تَخَافُ علينا؟! قال:"نعم إِنَّ الْقُلُوبَ بين إصبعين من أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ. رواه الترمذي (2140)، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول المناوي-رحمه الله-:"قال الحليمي –رحمه الله-:هذا تعليم منه لأمته أن يكونوا ملازمين لمقام الخوف مشفقين من سلب التوفيق غير آمنين من تضييع الطاعات،وتتبع الشهوات".فيض القدير (5/139)
ويقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب،وأنه يحول بين المرء وقلبه،وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء،ويحكم ما يريد،وأنه يهدي من يشاء،ويضل من يشاء،ويرفع من يشاء، ويَخفض من يشاء،فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه،ويزيغه بعد إقامته،وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم:(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)[آل عمران:8]،فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم".طريق الهجرتين(ص 431)
أيها المستقيم إن مع سؤالك للباري جل وعلا واللجوء إليه، عليك أن تبذل الأسباب التي تعينك على المحافظة على هذه النعمة العظيمة،وذلك بإخلاص العبادات لرب البريات،والإتيان بالطاعات والحرص على فعل الواجبات والإكثار من النوافل والمستحبات،والمسارعة إلى أنواع البر والخيرات.
واعلم – زادك الله حرصا- أن من أهم الوسائل التي تعينك على الثبات حتى الممات بإذن رب الأرض والسموات، أن تحرص على طلب العلم الشرعي على يد العلماء الربانيين وطلبة العلم المجتهدين، فإن العلم الشرعي من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه سبحانه،ومن أهم الوسائل المعينة على تقوية الإيمان بالله جل وعلا الرحمن.
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله- :"وبحسب معرفته- أي العبد-بربه يكون إيمانه،فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه،وكلما نقص نقص،وأقرب طريق يوصله إلى ذلك:تدبر صفاته و أسمائه من القرآن". تفسير السعدي(1/24)
وعليك -وفقك الله- أن تحرص على الرفقة الصالحة التي تعينك على طاعة ربك جل وعلا، وإياك من مجالسة أصحاب السوء،فالصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وفساده،فمعاشرة الأخيار تورث الفلاح والنجاح، ومصاحبة الأشرار تورث الحرمان والخسران،وقد قال نبيك صلى الله عليه وسلم:"مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجليس السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ -يُعطيك- وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ منه،وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً".رواه البخاري(5214)،ومسلم(2628)من حديث أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-.
يقول الإمام النووي –رحمه الله- :"فيه تمثيله صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح بحامل المسك والجليس السوء بنافخ الكير،وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب،والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع،ومن يغتاب الناس،أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة".الشرح على صحيح مسلم ( 16/ 178)
وعليك- حفظك الله- أن تجتنب المحرمات وتبتعد عن الشبهات والمنكرات سواء كانت في الجلوات أو الخلوات، فالذنوب مهما كان حجمهما فهي تؤدي إلى الانتكاسات!،ولذتها مهما حصلت تبقى للحظات!! ثم يَعقبها الندم والحسرات.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله-:"اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها،مثمرة للألم بعد انقضائها، فإذا اشتدت الداعية منك إليها، ففكر في انقطاعها وبقاء قبحها وألمها". الفوائد (ص 192)
وإياك أن تحتقر شيئا من المعاصي والمحرمات فإنه ذلك من المهلكات!،فعن سهل بن سعد الساعدي-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا في بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ،وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ،حتى انضجوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بها صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ".رواه الإمام أحمد في المسند(5/331) وصححه الشيخ الألباني–رحمه الله-في السلسلة الصحيحة(389)
يقول الإمام ابن القيم–رحمه الله-:"إن العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه،وذلك علامة الهلاك فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله".الجواب الكافي(ص 38)
وإن راودتك نفسك على الذنب بعد أن هجرته!فضعفت!وارتكبته من جديد!فراجع نفسك!وابحث عن الأسباب!فلعله بقي عندك بعض الشوائب!التي جعلتك تعصي العزيز الوهاب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "فإن العبد إنما يعود إلى الذَّنب؛ لبقايا في نفسه، فمَن خرج مِن قلبه الشبهة والشهوة، لم يعد إلى الذنب".مجموع الفتاوى (16 / 58)
فجاهد نفسك-وفقك الله- وتخلص من هذه الشوائب قبل أن تزداد!فتجرك إلى ما ستندم عليه يوم الميعاد!يوم الوقوف بين يدي رب العباد،يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه".عدة الصابرين(ص 50)
فلا تيأس من رحمة العزيز الغفار ولا تمل من التوبة والاستغفار وإن أكثرت من معصية العلي الجبار ،مادامت نفسك بين جنبيك!وأبواب التوبة ولله الحمد مفتوحة!،ولتحذر أشد الحذر من تلبيس وتيئيس إبليس ،فإنه يسعى جاهدا ليُقنط العباد من رحمة رب الأشهاد،قيل للإمام الحسن البصري –رحمه الله-: "ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟!فقال -رحمه الله-:"ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا!،فلا تملوا من الاستغفار".جامع العلوم والحكم لابن رجب(1/165)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يهدي كل المسلمين لما يحبه ويرضاه،وأن يصرف عنهم كيد الفجار ومكر الأشرار،وأن يثبت أهل الاستقامة على دينهم ويجعلهم لغيرهم هداة مهتدين، فهو سبحانه ولي ذلك ورب العالمين.


وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


أبو عبد الله حمزة النايلي