أهــل الحـديث
19-01-2014, 04:00 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
القُُبُورُ وعبادتُهَا
للشّيخ بدر الدّين النّعساني الحلبيّ
منقول من موقع مصابيح العلم للأستاذ سمير سمراد الجزائري
هذا مقالٌ وقفتُ عليهِ في جريدة «صدى الصّحراء» التّي كانت تصدُرُ بمدينة «بسكرة» لصاحبها الشّيخ أحمد بن العابد العُقبيّ، وكان مِن مُحَرِّرِيها الشّيخ الزَّعيم الطّيّب العقبيّ، أنقُلُهُ للقرّاء الكرام ليُفيدُوا منهُ، وهو حاشية الشّيخ بدر الدّين النّعسانيّ على كتاب «الدّرّ النّضيد»، وإنٍّي لم أَهْتَدِ أوّلاً إلى معرفةِ هذا الكتاب، ثمَّ يسَّرَ اللهُ لي معرفتُهُ والوقوف عليهِ، ومنهُ صحَّحتُ الأغلاط المطبعيّة الواردة في الجريدة، وبعض الكلمات التي لم أستطع قراءتها لقِدَمِ النّسخة ورداءةِ تصويرها.
أمّا الكتاب، فهُوَ: «الدّرّ النّضيد لمجموعة ابن الحفيد» لمؤلّفه: سيف الدّين [أحمد] بن يحيى ابن سعد الدّين مسعود بن عمر التفتازانيّ؛ المعروف بابن الحفيد. انظر: ترجمته في «الأعلام» للزّركلي(1/270) و«معجم المؤلفّين» لكحّالة (2/205-206).
والطّبعة التي قابلتُ عليها هي طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1400هـ= 1980م.
أمّا صاحبُ الحاشية، فهو الشّيخ بدر الدّين، محمّد بن مصطفى بن رسلان النّعسانيّ الحَلَبيّ، وُلد في حلب سنة (1298هـ=1881م)، أقام في الأزهر ثماني سنين (1310- 1318هـ)، قام برحلةٍ إلى الهند سنة 1319هـ، وعاد إلى مصر بعد عام ونصف، فعمل في تصحيح بعض الكُتُب «وظلّ إلى جانب عمله الصّحفي، يُصحّح الكتب التراثيّة، وقد تهافت عليه النّاشرون، يعتمدونه في تصحيح الكتب قبل نشرها، وقد مكّنته هذه المهمّة أن يقرأ الكثير من الذّخائر، وأن يعيد قراءتها أكثر من مرّة حتّى أصبح –إلى جانب ثقافته الأدبيّة- من المبرّزين في فهم النّصوص القديمة وشرحها. وممّا صحّحه ونشره بعد أن شرح غريبه: «ديوان زهير»، و«شواهد المفصّل» للزّمخشريّ و«ذيله»، و«المعلّقات العشر»، و«الحيوان» للجاحظ و«العمدة» لابن رشيق القيروانيّ، وساعد في تأليف «منجم العمران» وهو ذيل «معجم البلدان» لياقوت الحمويّ، كما شرح «مفضّليّات» الضّبّي، وشواهد «همع الهوامع» للسّيوطيّ».
ورحل إلى تونس والجزائر وطرابلس الغرب سنة (1326هـ=1908م)، ثمّ إلى الأستانة، وعاد إلى حَلَب مدرّسًا للّغة العربيّة في المدرسة السُّلطانيّة،انتُخب عضوًا بالمجمع العلميّ العربيّ بدمشق، توفّي (رحمه الله) سنة: (1362هـ=1943م). انظر: «الأعلام» (7/102) و«معجم المؤلفّين» (12/29)، ومقدّمة الطّبعة الجديدة لـ «كتاب التّعليم والإرشاد لمحمّد بدر الدّين النّعسانيّ» بعناية حسن السّماحي سويدان[دار القادريّ، ط1/1429هـ-2008م] و«الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية» لزكي محمد مجاهد(1/366-367).
قال مُحَرِّرُ جريدة «صدى الصّحراء» [ السّنة الأولى، العدد (5)، بسكرة: جمادى الثّانية 1344هـ الموافق لـ: 4 جانفي 1925م، (ص2-3)]:
«تقدّم لنا في العدد السّابق أن وعدنا القُرّاء بنقل حاشية السّيّد بدر الدّين النّعساني وكلامه النّفيس الّذي علّق به على قولِ مُؤلّف «الدّرّ النّضيد»، وها نحنُ لهم بالوعد مُوفُون»:
قال صاحب «الدّرّ» في العقد الثّاني من المطلب الأوّل في جواهر علم الحديث صحيفة (65):
«فائدة ـ في الحديث: «لعنةُ الله على اليهود والنّصارى اتّخذوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد». فيه إشكال...» إلخ انتهى ممّا به الحاجةُ ممّا ذكره صاحبُ «الدّرّ».
قال المُحشِّي:
«قولُهُ: «لعنةُ الله على اليهود..»إلخ، أقول: جاء الحديثُ في الصِّحاح بلفظِ: «لَعَنَ اللهُ اليهود والنّصارى اتّخذوا قُبُور أنبيائهم مساجد. يُحَذِّرُ ما فَعَلُوا». وقد تكلّم المصنِّفُ على هذا الحديث الجليل بما لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي، وهو أصلٌ [كبيرٌ][1] مِن أصول الدّين، وفي معناهُ أحاديثُ كثيرةٌ [صحيحةٌ][2]، نُورِدُ بعضها إن شاء الله تعالى.
والمرادُ مِن الحديث النَّهيُ عن الغُلُوّ في الأنبياء (عليهم الصلاّة والسّلام)، وإِنزالهم فوق مراتبهم الّتي أَنزلهم اللهُ بها، واتّخاذ قبورهم (عليهم الصّلاة والسّلام) مساجد، وعبادتهم دون ربّ العالمين، والاِلتجاء إليهم في جَلْبِ المصالح ودَفْعِ المضارّ.
واعلم أنّ تعظيم القبور والبناء عليها واتّخاذها مساجد والطّواف حولها[3] كما يطوف الحاجُّ بالبيت العتيق الّذي شرع الله لعباده الطّواف حوله لحكمةٍ يعلمها جلّ شأنه مفتاحُ بابِ الشِّركِ باللهِ تعالى، فقد كان قومُ نوحٍ (عليه السّلام) على عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، لا يُشركون به شيئًا، ثمّ نشأ فيهم قومٌ ذَوُو صلاحٍ وتُقى، فلمّا مات هؤلاء الصّالحون عَكَفُوا على قبورهم، ثمّ جعلوا لهم تماثيل يَذكرونهم بها ويتبرّكون بها، فلمّا طَالَ عليهم الأَمَدُ عبدوهم وجعلوهم شُركاء لله، حتّى ما تنفعهم دعوةُ داعٍ إلى هدى ورشاد ورجوعٍ إلى الحقّ والسَّدَاد، كما حكى اللهُ جلّ شأنه ذلك عنهم في جوابهم لنوحٍ (عليه السّلام) بقوله: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾[الجنّ: 23]. وكذلك كان العربُ على دين إسماعيل (عليه السّلام)، حتّى أدخل عليهم إبليس لَعَنَهُ الله وخَذَلَهُ الشِّركَ مِن هذا الباب، وانتشر ذلك فيهم حتَّى لم يَبْقَ على دينِ إسماعيل غيرُ نَفَرٍ يسيرٍ، فلمّا بعثَ اللهُ سيِّدنا محمّدًا (صلّى الله عليه وسلّم) ونَصَرَ به أولياءه الموحِّدين وخَذَلَ به أعداءه المشركين، وتقلَّصَ ظِلُّ الشِّرك مِن أرض العرب إلاَّ يسيرًا، خافَ (صلّى الله عليه وسلّم) على أُمَّتِهِ أن يَدخل عليهم إبليسُ مِن الباب الَّذي دَخَلَ به على مَن سبقهم مِن الأُمم، فيُفسِدَ عليهم التَّوحيد ويُوقِعهم في الشِّرك مِن حيثُ لا يشعرون، فحَذَّرَهُم (عليه السّلام) مِن ذلك، وبَيَّنَ لهم ذلك الباب الَّذي يدخلُ منه إبليس لإغوائهم، وبالَغَ في ذلك (عليه السَّلام)، فقالَ: «لَعَنَ اللهُ اليهود والنّصارى اتّخذوا قُبور أنبيائهم مساجد».
وقال قَبْلَ أن يَمُوتَ بخمسٍ: «إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخَّذون القبور مساجد، أَلاَ فلا تتّخذوا القبور مساجد، فإنِّي أنهاكُم عن ذلك». رواه مسلم.
وفي «صحيح ابن حبان» عنه (عليه الصّلاة والسّلام) أنّه قالَ: «إِنَّ مِن شِرَارِ النّاسِ مَن تُدركُهُ السَّاعةُ وهُم أحياء، والّذين يَتّخذون القبور مساجد».
وروى مالكٌ في «الموطّأ» عنه (عليه الصّلاة والسّلام)، أنّه قال: «اللّهمّ لا تَجْعَلْ قبري وَثَنُا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غضبُ اللهِ على قومٍ اتّخذُوا قُبور أنبيائهم مساجد»اهـ.
وخَصَّ نفسَه (عليه الصّلاة والسّلام) والأنبياء بالذِّكر في النَّهيِ عن اتّخاذ قُبورهم مساجد، ليُعلم [أنّه] إذا لم يَجُزْ اتِّخاذ قُبور الأنبياء مساجد، وهُم أكرمُ النَّاسِ على الله وحُجَّتُهُ على خَلْقِه، فلَأَنْ لا يجوز اتِّخاذ قُبور غيرِهم مساجد مِن باب أولى.
وما زال بابُ هذه الفتنة مُقْفَلاً بين المسلمين حتَّى ظهرت فِرقةُ الرَّافِضة فَغَلَوْا في الرُّسُل وفي أئمّتهم حتَّى اتّخذوهم أربابًا مِن دُونِ الله، كما غََلَتْ النَّصارى في المسيح (عليه السّلام)، وبَالَغُوا في تعظيمه ورَفْعِهِ حتَّى وقعوا في الشِّرك، وشَيَّدُوا المَشَاهد على القبور وزَخْرَفُوهَا وجَصَّصُوها وعَكَفُوا عليها وعَطَّلُوا مساجدَ الله وشَدُّوا الرِّحَالَ إليها، كما تُشَدُّ إلى البيت العتيق. وبعضهم يَرَى أنَّ زيارتها أفضلُ مِن زيارة مكَّةَ شرَّفها الله، وأنَّ الطّواف بتلك القبور أفضل [مِن] الطّواف بالكعبة، ثمّ سَرَى شيءٌ مِن هذا الخَبَث والغُلُوّ والإفراط إلى بعض المسلمين مِن غيرِ الرّافضة ففَعَلُوا كما يفعلُ أولئك مِن جَعْلِ القبور مساجد، وبناء القبور، والتّبرّك بها والإِفضاء بالحوائج إليها، وشَدّ الرِّحال إليها، وزعموا أنّ لهؤلاء الأموات تَصَرُّفاتٍ روحيّة بعد مماتهم مثل تصرّفاتهم الجسميّة في حياتهم، وزاد قومٌ فزعموا –افتراءً على اللهِ وعليهم- أنّ اللهَ قد وَكَلَ إليهم تدبير العالم والتّصرّف فيه برغبتهم ومشيئتهم لا برغبته ومشيئته، فنَذَرُوا لهم النُّذُور، وقَرَّبُوا لهم القَرَابين، وسألوهم ما لا يَقدرُ عليه [أحدٌ][4]إلاّ الله تعالى مثل الرّزق وشفاء الأمراض ونحو ذلك، وخافُوهم أشدّ الخوف وفوق ما يخافون مِن الله؟ فترى الواحِدَ مِن هؤلاء يُهْمِلُ فريضة الحجّ الّتي افترضها ربُّ العزّة عليه، فلا يُؤَدِّيها طُول حياته مع غايةِ التّمكّن منها والقدرة عليها، ولا يتأخّر عن زيارة الوليّ في الوقت الّذي اعتاد النّاسُ زيارته فيه، أو الوقت الّذي جعل على نفسِه الزّيارة [زيارتَهُ] فيه، وإذا فاته ذلك لمانعٍ مِن مرضٍ أو غيره ممّا يُباح معه تركُ الحجّ تألّم وعَضَّ على أصابعه نَدَمًا، ثمّ كلّ ما يَنالُهُ مِن الشّرور بعد ذلك أضافه إلى غضبِ المقبور عليه لتأخّره عن زيارته. وترى الآخرين[5] مِن هؤلاء الحمقاء يُعطّل فريضة الزّكاة فلا يُؤدِّيها وهو على سَعَةٍ تامّةٍ وبَسْطٍ في المعيشة كامل، ويَبْسُطُ يديه بالنُّذُور للأموات وذبحِ الذّبائح لهم وإنفاقِ الأموال الكثيرة في زيارتهم، فإن فَاتَهُ [6]ذلك ولو سهوًا بَادَرَ بتقديمِ أضعافه لهم خِيفَةً منهم على نفسِهِ وأهله وماله، ولا يُبالي مِن ربّ العزّة ولا يحسِب له حسابًا.
هذا ولولا أنّ أصحاب هذه المعتقدات الباطلة بين ظَهْرَانِينَا لم نُصَدِّق أنَّ مُسلمًا يقولُ مثل هذا القول والأمرُ لله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم!
والطّريقُ المستقيم لمن يرجو الله واليوم الآخر ويطلُبُ لنفسه طريقًا إلى الجنّة، أن يَعتقد أنّ الله واحدٌ لا شريك له في مُلكه، ولا خالق غيره، ولا ربّ سواه، وأنّه لا يُعطي ولا يَمنع ولا يَخفِض ولا يرفع إلاّ هو، وأنّه لم يُوكل ولن يُوكل أحدًا مِن مخلوقاته في التّصرّف في مُلكه، وإنّما يَفعل مثل هذا مَن يعجز عن القيام بشؤون نفسه، وأنّه يفعلُ بمجرّد مَشيئته واختياره لا بأمرِ امرئٍ، ولا بعدَ استشارةِ أحدٍ لحكمةٍ يعلمُها هو، لا لرغبةِ فلان ولا فلان، وأنّه لن يَجْسُرَ أحدٌ مِن خَلْقِه ولا الملائكة المقرَّبُون ولا الأنبياء المرسلون على تغييرِ شيءٍ مِن خَلْقِهِ، وأنّ الأنبياءَ عبادٌ مُكْرَمُون جعلهُمُ اللهُ سُفَرَاءَ بينه وبين خَلْقِهِ في دعوتهم إليه والإقرارِ له بالوحدانيّة، لئلاَّ يكون للنّاسِ على اللهِ حُجَّةٌ بعد الرُّسل، وأنّهم لا يَملكون لأنفسهم ضَرًّا ولا نفعًا ولا لغيرِهم مِن سائر خَلْقِ الله، وأنَّ اللهَ عَصَمَهُم عمَّا يُخِلُّ بشَرَفِ الرّسالة، لئلاّ يَفُوتَ الغرضُ المطلوب مِن هذه الرّسالة، وأنّهم لا يَزيدون على ذلك قَدْرَ حبّةٍ، فمَن قال فيهم غيرَ هذا فهو مبتدعٌ إن لم يَنسب لهم مِن الأفعال ما هو للهِ جلّ شأنه، وإلاّ فهو كافرٌ، وإنّ الأولياءَ عبادٌ أطاعُوا اللهَ فأَحَبَّهُم ورفع منزلتهم لديه، ولكنّهم كغيرهم مِن النّاس ليس لهم مِن أَمْرِ اللهِ شيءٌ، واللهُ لا يحتاجُ إلى وَساطةِ أحدٍ منهم في جَلْبِ منفعةٍ لأحدٍ أو دفعِ مَضَرَّةٍ عنه، وأنّ اللهَ يفعلُ ما يفعلُ مِن ذلك بمحضِ اختياره.
وإنّ جَعْلَ القُبور مساجدَ أيَّ قبرٍ كانَ مَنهيٌّ عنه مَلعونٌ فاعلُهُ، كما سَبَقَ في الأحاديث الّتي ذكرناها، وإنّ تَشْيِيدَ القبور ونَصْبَ شُبَّاكِ النُّحاسِ عليها [و]إِلْقَاءَ السَّتَائِر فوقها وتعليقَ القَنَادِيل [حواليها] مَنهيٌّ عنه مَلعُونٌ فاعله: قالَ (صلّى الله عليه وسلّم) في الحديث الصّحيح: «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ القُبُور، والمتَّخِذِينَ عليها السُّرُج»[7]، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هَيَّاجٍ الأسديّ قال: قال لي عليُّ بن أبي طالب (رضي الله عنه): «أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى ما بَعَثَنِي عليهِ رسولُ الله (صلّى الله عليه وسلّم)؛ أَلاَّ أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّيْتَهُ، ولاَ تِمْثَالاً إلاَّ طَمَسْتَهُ»، فقَرَنَ بين تَسويةِ القبرِ وطَمْسِ التِّمثال، وفي «الصّحيحين»: أن أُمّ سلمة وأُمّ حبيبة ذَكَرَتَا للنّبيِّ (صلّى الله عليه وسلّم) كَنِيسَةً بأرضِ الحَبَشَة، وذَكَرتَاَ مَا مِن حُسْنِهَا وتَصَاوِير فيها، فقال (عليه الصّلاة والسّلام): «إنَّ أولئكِ إذا مَاتَ فيهم الرّجُلُ الصَّالح بَنَوْا على قَبْرِهِ مسجدًا وصَوَّرُوا فيه تلك التّصاوير، أولئكِ شِرَارُ الخَلْقِ عندَ اللهِ يوم القيامة». وإنَّ تسويةَ هذه القبور المشيَّدة أمرٌ واجبٌ، لا يُنازع فيه إلاّ ضَالٌّ مبتدِعٌ لا يرجو لله حسابًا، قبرَ مَن كان؛ مِن كبيرٍ أو صغيرٍ أو عالمٍ أو جاهلٍ أو صالحٍ، وليس في هذا إِيذَاءُ أحدٍ مِن الأولياء ولا مِن غيرهم، فإنّ هذا حُكْمٌ مِن أحكام الدِّين يجبُ إقامتُهُ، ومَن لم يَرْضَ به وتَأَذَّى بإقامته، فهو كافرٌ ملعونٌ ليس مِن عبادِ اللهِ الصّالحين، وحاشا أولياءَ اللهِ أن يَتَأَذَّوا مِن إقامةِ أحكامه الّتي شرعها لعباده وكلَّفهم بها، وهُم (رضي الله عنهم) أشدُّ النّاسِ حِرْصًا على إقامةِ حدودِ اللهِ وأبعدُهم عن مُقَارَفَةِ الإثم، وما أَوْقَعَ النَّاسَ في هذا المنكر إلاَّ التّقليد وقِلَّةُ مَن يُبَصِّرُ النَّاسَ مِن العلماء ويُرشدهم إلى طريق الحقّ ويُعرّفهم الحلال مِن الحرام، وفسادُ قلوب العامّة وغِلَظُ أكبادهم، فتراهم إذا ناظرتَهُم على إتيانِ هذه المنكرات احتجُّوا بأنّ العلماء يَأْتُونَها، وليس فِعْلُ أحدٍ حُجَّةٌ في الدّين بعد النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، فإذا رَوَيْتَ لهم حديثَ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وسلّم) الصّحيح الصّريح على خلافِ مَا [يَرَاهُ] ويفعلُهُ نَفَرَ أَشَدَّ النُّفُور، وهذا مُنكرٌ عَمَّ بلاؤُهُ ومَرَضٌ تَعَذَّرَ على الأطبّاء شفاؤُهُ، والأَمْرُ للهِ العليِّ الكبير».
«صدى الصّحراء»: «انتهى هذا الكلام الّذي هُوَ لعالِمٍ شرقيٍّ كتبهُ كشرحٍ على ما تقدّم مِن حديثِ لَعْنِ القُبُوريّين وهو كما يرى المنصِفُ مُدَعَّمٌ بالحُجَج القاطعة والبراهين السَّاطعة، وقد نقلناهُ برُمَّتِهِ ليَطَّلِعَ عليه مَن لم يَسْبِقُ لهُ رُؤيتُهُ، وينطبِقُ ما فيهِ على قصيدةِ «إلى الدّين الخالص...»[8]، فمَنْ لم تُرْضِهِ تلكَ القصيدة ولا هذا الكلام فَلْيَأْتِنَا بحديثٍ غيرِهِ يكونُ أحسنَ مِن هذا كُلِّهِ، ونحنُ نَتَعَهَّدُ لهُ بنَشْرِهِ مَتَى كان في هذهِ الدَّائِرة (دائرةِ العِلم والإنصاف والمُحَاجَجَة والبُرهان)، واللهُ وليُّ التَّوفيق».
[1] - غير موجودة في الجريدة، واستدركتُها من كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي.
[2] - غير موجودة في الجريدة، واستدركتُها من كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي.
[3] - قُلتُ(سمير): الطّوافُ حولَ القبرِ مِن الشّرك بالله تعالى كما بيّنهُ المحقِّقون.
[4] - غير موجودة في الجريدة، واستدركتُها من كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي.
[5] - في كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي: «وترى الآخر».
[6] - في جريدة «صدى الصحراء»: «فاتهم».
[7] - جملةُ «المتّخذين عليها السُّرُج» ضعيفةٌ، كما بيّنهُ العلاّمةُ الألبانيّ في «أحكام الجنائز».
[8] - هي قصيدةُ خَطِيبِ السَّلفيِّين وشاعرهم وكاتبهم: الزَّعيم الشّيخ الطّيّب العُقبيّ (رحمه الله تعالى).
القُُبُورُ وعبادتُهَا
للشّيخ بدر الدّين النّعساني الحلبيّ
منقول من موقع مصابيح العلم للأستاذ سمير سمراد الجزائري
هذا مقالٌ وقفتُ عليهِ في جريدة «صدى الصّحراء» التّي كانت تصدُرُ بمدينة «بسكرة» لصاحبها الشّيخ أحمد بن العابد العُقبيّ، وكان مِن مُحَرِّرِيها الشّيخ الزَّعيم الطّيّب العقبيّ، أنقُلُهُ للقرّاء الكرام ليُفيدُوا منهُ، وهو حاشية الشّيخ بدر الدّين النّعسانيّ على كتاب «الدّرّ النّضيد»، وإنٍّي لم أَهْتَدِ أوّلاً إلى معرفةِ هذا الكتاب، ثمَّ يسَّرَ اللهُ لي معرفتُهُ والوقوف عليهِ، ومنهُ صحَّحتُ الأغلاط المطبعيّة الواردة في الجريدة، وبعض الكلمات التي لم أستطع قراءتها لقِدَمِ النّسخة ورداءةِ تصويرها.
أمّا الكتاب، فهُوَ: «الدّرّ النّضيد لمجموعة ابن الحفيد» لمؤلّفه: سيف الدّين [أحمد] بن يحيى ابن سعد الدّين مسعود بن عمر التفتازانيّ؛ المعروف بابن الحفيد. انظر: ترجمته في «الأعلام» للزّركلي(1/270) و«معجم المؤلفّين» لكحّالة (2/205-206).
والطّبعة التي قابلتُ عليها هي طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 1400هـ= 1980م.
أمّا صاحبُ الحاشية، فهو الشّيخ بدر الدّين، محمّد بن مصطفى بن رسلان النّعسانيّ الحَلَبيّ، وُلد في حلب سنة (1298هـ=1881م)، أقام في الأزهر ثماني سنين (1310- 1318هـ)، قام برحلةٍ إلى الهند سنة 1319هـ، وعاد إلى مصر بعد عام ونصف، فعمل في تصحيح بعض الكُتُب «وظلّ إلى جانب عمله الصّحفي، يُصحّح الكتب التراثيّة، وقد تهافت عليه النّاشرون، يعتمدونه في تصحيح الكتب قبل نشرها، وقد مكّنته هذه المهمّة أن يقرأ الكثير من الذّخائر، وأن يعيد قراءتها أكثر من مرّة حتّى أصبح –إلى جانب ثقافته الأدبيّة- من المبرّزين في فهم النّصوص القديمة وشرحها. وممّا صحّحه ونشره بعد أن شرح غريبه: «ديوان زهير»، و«شواهد المفصّل» للزّمخشريّ و«ذيله»، و«المعلّقات العشر»، و«الحيوان» للجاحظ و«العمدة» لابن رشيق القيروانيّ، وساعد في تأليف «منجم العمران» وهو ذيل «معجم البلدان» لياقوت الحمويّ، كما شرح «مفضّليّات» الضّبّي، وشواهد «همع الهوامع» للسّيوطيّ».
ورحل إلى تونس والجزائر وطرابلس الغرب سنة (1326هـ=1908م)، ثمّ إلى الأستانة، وعاد إلى حَلَب مدرّسًا للّغة العربيّة في المدرسة السُّلطانيّة،انتُخب عضوًا بالمجمع العلميّ العربيّ بدمشق، توفّي (رحمه الله) سنة: (1362هـ=1943م). انظر: «الأعلام» (7/102) و«معجم المؤلفّين» (12/29)، ومقدّمة الطّبعة الجديدة لـ «كتاب التّعليم والإرشاد لمحمّد بدر الدّين النّعسانيّ» بعناية حسن السّماحي سويدان[دار القادريّ، ط1/1429هـ-2008م] و«الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية» لزكي محمد مجاهد(1/366-367).
قال مُحَرِّرُ جريدة «صدى الصّحراء» [ السّنة الأولى، العدد (5)، بسكرة: جمادى الثّانية 1344هـ الموافق لـ: 4 جانفي 1925م، (ص2-3)]:
«تقدّم لنا في العدد السّابق أن وعدنا القُرّاء بنقل حاشية السّيّد بدر الدّين النّعساني وكلامه النّفيس الّذي علّق به على قولِ مُؤلّف «الدّرّ النّضيد»، وها نحنُ لهم بالوعد مُوفُون»:
قال صاحب «الدّرّ» في العقد الثّاني من المطلب الأوّل في جواهر علم الحديث صحيفة (65):
«فائدة ـ في الحديث: «لعنةُ الله على اليهود والنّصارى اتّخذوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد». فيه إشكال...» إلخ انتهى ممّا به الحاجةُ ممّا ذكره صاحبُ «الدّرّ».
قال المُحشِّي:
«قولُهُ: «لعنةُ الله على اليهود..»إلخ، أقول: جاء الحديثُ في الصِّحاح بلفظِ: «لَعَنَ اللهُ اليهود والنّصارى اتّخذوا قُبُور أنبيائهم مساجد. يُحَذِّرُ ما فَعَلُوا». وقد تكلّم المصنِّفُ على هذا الحديث الجليل بما لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي، وهو أصلٌ [كبيرٌ][1] مِن أصول الدّين، وفي معناهُ أحاديثُ كثيرةٌ [صحيحةٌ][2]، نُورِدُ بعضها إن شاء الله تعالى.
والمرادُ مِن الحديث النَّهيُ عن الغُلُوّ في الأنبياء (عليهم الصلاّة والسّلام)، وإِنزالهم فوق مراتبهم الّتي أَنزلهم اللهُ بها، واتّخاذ قبورهم (عليهم الصّلاة والسّلام) مساجد، وعبادتهم دون ربّ العالمين، والاِلتجاء إليهم في جَلْبِ المصالح ودَفْعِ المضارّ.
واعلم أنّ تعظيم القبور والبناء عليها واتّخاذها مساجد والطّواف حولها[3] كما يطوف الحاجُّ بالبيت العتيق الّذي شرع الله لعباده الطّواف حوله لحكمةٍ يعلمها جلّ شأنه مفتاحُ بابِ الشِّركِ باللهِ تعالى، فقد كان قومُ نوحٍ (عليه السّلام) على عبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده، لا يُشركون به شيئًا، ثمّ نشأ فيهم قومٌ ذَوُو صلاحٍ وتُقى، فلمّا مات هؤلاء الصّالحون عَكَفُوا على قبورهم، ثمّ جعلوا لهم تماثيل يَذكرونهم بها ويتبرّكون بها، فلمّا طَالَ عليهم الأَمَدُ عبدوهم وجعلوهم شُركاء لله، حتّى ما تنفعهم دعوةُ داعٍ إلى هدى ورشاد ورجوعٍ إلى الحقّ والسَّدَاد، كما حكى اللهُ جلّ شأنه ذلك عنهم في جوابهم لنوحٍ (عليه السّلام) بقوله: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾[الجنّ: 23]. وكذلك كان العربُ على دين إسماعيل (عليه السّلام)، حتّى أدخل عليهم إبليس لَعَنَهُ الله وخَذَلَهُ الشِّركَ مِن هذا الباب، وانتشر ذلك فيهم حتَّى لم يَبْقَ على دينِ إسماعيل غيرُ نَفَرٍ يسيرٍ، فلمّا بعثَ اللهُ سيِّدنا محمّدًا (صلّى الله عليه وسلّم) ونَصَرَ به أولياءه الموحِّدين وخَذَلَ به أعداءه المشركين، وتقلَّصَ ظِلُّ الشِّرك مِن أرض العرب إلاَّ يسيرًا، خافَ (صلّى الله عليه وسلّم) على أُمَّتِهِ أن يَدخل عليهم إبليسُ مِن الباب الَّذي دَخَلَ به على مَن سبقهم مِن الأُمم، فيُفسِدَ عليهم التَّوحيد ويُوقِعهم في الشِّرك مِن حيثُ لا يشعرون، فحَذَّرَهُم (عليه السّلام) مِن ذلك، وبَيَّنَ لهم ذلك الباب الَّذي يدخلُ منه إبليس لإغوائهم، وبالَغَ في ذلك (عليه السَّلام)، فقالَ: «لَعَنَ اللهُ اليهود والنّصارى اتّخذوا قُبور أنبيائهم مساجد».
وقال قَبْلَ أن يَمُوتَ بخمسٍ: «إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخَّذون القبور مساجد، أَلاَ فلا تتّخذوا القبور مساجد، فإنِّي أنهاكُم عن ذلك». رواه مسلم.
وفي «صحيح ابن حبان» عنه (عليه الصّلاة والسّلام) أنّه قالَ: «إِنَّ مِن شِرَارِ النّاسِ مَن تُدركُهُ السَّاعةُ وهُم أحياء، والّذين يَتّخذون القبور مساجد».
وروى مالكٌ في «الموطّأ» عنه (عليه الصّلاة والسّلام)، أنّه قال: «اللّهمّ لا تَجْعَلْ قبري وَثَنُا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غضبُ اللهِ على قومٍ اتّخذُوا قُبور أنبيائهم مساجد»اهـ.
وخَصَّ نفسَه (عليه الصّلاة والسّلام) والأنبياء بالذِّكر في النَّهيِ عن اتّخاذ قُبورهم مساجد، ليُعلم [أنّه] إذا لم يَجُزْ اتِّخاذ قُبور الأنبياء مساجد، وهُم أكرمُ النَّاسِ على الله وحُجَّتُهُ على خَلْقِه، فلَأَنْ لا يجوز اتِّخاذ قُبور غيرِهم مساجد مِن باب أولى.
وما زال بابُ هذه الفتنة مُقْفَلاً بين المسلمين حتَّى ظهرت فِرقةُ الرَّافِضة فَغَلَوْا في الرُّسُل وفي أئمّتهم حتَّى اتّخذوهم أربابًا مِن دُونِ الله، كما غََلَتْ النَّصارى في المسيح (عليه السّلام)، وبَالَغُوا في تعظيمه ورَفْعِهِ حتَّى وقعوا في الشِّرك، وشَيَّدُوا المَشَاهد على القبور وزَخْرَفُوهَا وجَصَّصُوها وعَكَفُوا عليها وعَطَّلُوا مساجدَ الله وشَدُّوا الرِّحَالَ إليها، كما تُشَدُّ إلى البيت العتيق. وبعضهم يَرَى أنَّ زيارتها أفضلُ مِن زيارة مكَّةَ شرَّفها الله، وأنَّ الطّواف بتلك القبور أفضل [مِن] الطّواف بالكعبة، ثمّ سَرَى شيءٌ مِن هذا الخَبَث والغُلُوّ والإفراط إلى بعض المسلمين مِن غيرِ الرّافضة ففَعَلُوا كما يفعلُ أولئك مِن جَعْلِ القبور مساجد، وبناء القبور، والتّبرّك بها والإِفضاء بالحوائج إليها، وشَدّ الرِّحال إليها، وزعموا أنّ لهؤلاء الأموات تَصَرُّفاتٍ روحيّة بعد مماتهم مثل تصرّفاتهم الجسميّة في حياتهم، وزاد قومٌ فزعموا –افتراءً على اللهِ وعليهم- أنّ اللهَ قد وَكَلَ إليهم تدبير العالم والتّصرّف فيه برغبتهم ومشيئتهم لا برغبته ومشيئته، فنَذَرُوا لهم النُّذُور، وقَرَّبُوا لهم القَرَابين، وسألوهم ما لا يَقدرُ عليه [أحدٌ][4]إلاّ الله تعالى مثل الرّزق وشفاء الأمراض ونحو ذلك، وخافُوهم أشدّ الخوف وفوق ما يخافون مِن الله؟ فترى الواحِدَ مِن هؤلاء يُهْمِلُ فريضة الحجّ الّتي افترضها ربُّ العزّة عليه، فلا يُؤَدِّيها طُول حياته مع غايةِ التّمكّن منها والقدرة عليها، ولا يتأخّر عن زيارة الوليّ في الوقت الّذي اعتاد النّاسُ زيارته فيه، أو الوقت الّذي جعل على نفسِه الزّيارة [زيارتَهُ] فيه، وإذا فاته ذلك لمانعٍ مِن مرضٍ أو غيره ممّا يُباح معه تركُ الحجّ تألّم وعَضَّ على أصابعه نَدَمًا، ثمّ كلّ ما يَنالُهُ مِن الشّرور بعد ذلك أضافه إلى غضبِ المقبور عليه لتأخّره عن زيارته. وترى الآخرين[5] مِن هؤلاء الحمقاء يُعطّل فريضة الزّكاة فلا يُؤدِّيها وهو على سَعَةٍ تامّةٍ وبَسْطٍ في المعيشة كامل، ويَبْسُطُ يديه بالنُّذُور للأموات وذبحِ الذّبائح لهم وإنفاقِ الأموال الكثيرة في زيارتهم، فإن فَاتَهُ [6]ذلك ولو سهوًا بَادَرَ بتقديمِ أضعافه لهم خِيفَةً منهم على نفسِهِ وأهله وماله، ولا يُبالي مِن ربّ العزّة ولا يحسِب له حسابًا.
هذا ولولا أنّ أصحاب هذه المعتقدات الباطلة بين ظَهْرَانِينَا لم نُصَدِّق أنَّ مُسلمًا يقولُ مثل هذا القول والأمرُ لله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم!
والطّريقُ المستقيم لمن يرجو الله واليوم الآخر ويطلُبُ لنفسه طريقًا إلى الجنّة، أن يَعتقد أنّ الله واحدٌ لا شريك له في مُلكه، ولا خالق غيره، ولا ربّ سواه، وأنّه لا يُعطي ولا يَمنع ولا يَخفِض ولا يرفع إلاّ هو، وأنّه لم يُوكل ولن يُوكل أحدًا مِن مخلوقاته في التّصرّف في مُلكه، وإنّما يَفعل مثل هذا مَن يعجز عن القيام بشؤون نفسه، وأنّه يفعلُ بمجرّد مَشيئته واختياره لا بأمرِ امرئٍ، ولا بعدَ استشارةِ أحدٍ لحكمةٍ يعلمُها هو، لا لرغبةِ فلان ولا فلان، وأنّه لن يَجْسُرَ أحدٌ مِن خَلْقِه ولا الملائكة المقرَّبُون ولا الأنبياء المرسلون على تغييرِ شيءٍ مِن خَلْقِهِ، وأنّ الأنبياءَ عبادٌ مُكْرَمُون جعلهُمُ اللهُ سُفَرَاءَ بينه وبين خَلْقِهِ في دعوتهم إليه والإقرارِ له بالوحدانيّة، لئلاَّ يكون للنّاسِ على اللهِ حُجَّةٌ بعد الرُّسل، وأنّهم لا يَملكون لأنفسهم ضَرًّا ولا نفعًا ولا لغيرِهم مِن سائر خَلْقِ الله، وأنَّ اللهَ عَصَمَهُم عمَّا يُخِلُّ بشَرَفِ الرّسالة، لئلاّ يَفُوتَ الغرضُ المطلوب مِن هذه الرّسالة، وأنّهم لا يَزيدون على ذلك قَدْرَ حبّةٍ، فمَن قال فيهم غيرَ هذا فهو مبتدعٌ إن لم يَنسب لهم مِن الأفعال ما هو للهِ جلّ شأنه، وإلاّ فهو كافرٌ، وإنّ الأولياءَ عبادٌ أطاعُوا اللهَ فأَحَبَّهُم ورفع منزلتهم لديه، ولكنّهم كغيرهم مِن النّاس ليس لهم مِن أَمْرِ اللهِ شيءٌ، واللهُ لا يحتاجُ إلى وَساطةِ أحدٍ منهم في جَلْبِ منفعةٍ لأحدٍ أو دفعِ مَضَرَّةٍ عنه، وأنّ اللهَ يفعلُ ما يفعلُ مِن ذلك بمحضِ اختياره.
وإنّ جَعْلَ القُبور مساجدَ أيَّ قبرٍ كانَ مَنهيٌّ عنه مَلعونٌ فاعلُهُ، كما سَبَقَ في الأحاديث الّتي ذكرناها، وإنّ تَشْيِيدَ القبور ونَصْبَ شُبَّاكِ النُّحاسِ عليها [و]إِلْقَاءَ السَّتَائِر فوقها وتعليقَ القَنَادِيل [حواليها] مَنهيٌّ عنه مَلعُونٌ فاعله: قالَ (صلّى الله عليه وسلّم) في الحديث الصّحيح: «لَعَنَ اللهُ زَوَّارَاتِ القُبُور، والمتَّخِذِينَ عليها السُّرُج»[7]، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هَيَّاجٍ الأسديّ قال: قال لي عليُّ بن أبي طالب (رضي الله عنه): «أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى ما بَعَثَنِي عليهِ رسولُ الله (صلّى الله عليه وسلّم)؛ أَلاَّ أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إلاَّ سَوَّيْتَهُ، ولاَ تِمْثَالاً إلاَّ طَمَسْتَهُ»، فقَرَنَ بين تَسويةِ القبرِ وطَمْسِ التِّمثال، وفي «الصّحيحين»: أن أُمّ سلمة وأُمّ حبيبة ذَكَرَتَا للنّبيِّ (صلّى الله عليه وسلّم) كَنِيسَةً بأرضِ الحَبَشَة، وذَكَرتَاَ مَا مِن حُسْنِهَا وتَصَاوِير فيها، فقال (عليه الصّلاة والسّلام): «إنَّ أولئكِ إذا مَاتَ فيهم الرّجُلُ الصَّالح بَنَوْا على قَبْرِهِ مسجدًا وصَوَّرُوا فيه تلك التّصاوير، أولئكِ شِرَارُ الخَلْقِ عندَ اللهِ يوم القيامة». وإنَّ تسويةَ هذه القبور المشيَّدة أمرٌ واجبٌ، لا يُنازع فيه إلاّ ضَالٌّ مبتدِعٌ لا يرجو لله حسابًا، قبرَ مَن كان؛ مِن كبيرٍ أو صغيرٍ أو عالمٍ أو جاهلٍ أو صالحٍ، وليس في هذا إِيذَاءُ أحدٍ مِن الأولياء ولا مِن غيرهم، فإنّ هذا حُكْمٌ مِن أحكام الدِّين يجبُ إقامتُهُ، ومَن لم يَرْضَ به وتَأَذَّى بإقامته، فهو كافرٌ ملعونٌ ليس مِن عبادِ اللهِ الصّالحين، وحاشا أولياءَ اللهِ أن يَتَأَذَّوا مِن إقامةِ أحكامه الّتي شرعها لعباده وكلَّفهم بها، وهُم (رضي الله عنهم) أشدُّ النّاسِ حِرْصًا على إقامةِ حدودِ اللهِ وأبعدُهم عن مُقَارَفَةِ الإثم، وما أَوْقَعَ النَّاسَ في هذا المنكر إلاَّ التّقليد وقِلَّةُ مَن يُبَصِّرُ النَّاسَ مِن العلماء ويُرشدهم إلى طريق الحقّ ويُعرّفهم الحلال مِن الحرام، وفسادُ قلوب العامّة وغِلَظُ أكبادهم، فتراهم إذا ناظرتَهُم على إتيانِ هذه المنكرات احتجُّوا بأنّ العلماء يَأْتُونَها، وليس فِعْلُ أحدٍ حُجَّةٌ في الدّين بعد النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، فإذا رَوَيْتَ لهم حديثَ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وسلّم) الصّحيح الصّريح على خلافِ مَا [يَرَاهُ] ويفعلُهُ نَفَرَ أَشَدَّ النُّفُور، وهذا مُنكرٌ عَمَّ بلاؤُهُ ومَرَضٌ تَعَذَّرَ على الأطبّاء شفاؤُهُ، والأَمْرُ للهِ العليِّ الكبير».
«صدى الصّحراء»: «انتهى هذا الكلام الّذي هُوَ لعالِمٍ شرقيٍّ كتبهُ كشرحٍ على ما تقدّم مِن حديثِ لَعْنِ القُبُوريّين وهو كما يرى المنصِفُ مُدَعَّمٌ بالحُجَج القاطعة والبراهين السَّاطعة، وقد نقلناهُ برُمَّتِهِ ليَطَّلِعَ عليه مَن لم يَسْبِقُ لهُ رُؤيتُهُ، وينطبِقُ ما فيهِ على قصيدةِ «إلى الدّين الخالص...»[8]، فمَنْ لم تُرْضِهِ تلكَ القصيدة ولا هذا الكلام فَلْيَأْتِنَا بحديثٍ غيرِهِ يكونُ أحسنَ مِن هذا كُلِّهِ، ونحنُ نَتَعَهَّدُ لهُ بنَشْرِهِ مَتَى كان في هذهِ الدَّائِرة (دائرةِ العِلم والإنصاف والمُحَاجَجَة والبُرهان)، واللهُ وليُّ التَّوفيق».
[1] - غير موجودة في الجريدة، واستدركتُها من كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي.
[2] - غير موجودة في الجريدة، واستدركتُها من كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي.
[3] - قُلتُ(سمير): الطّوافُ حولَ القبرِ مِن الشّرك بالله تعالى كما بيّنهُ المحقِّقون.
[4] - غير موجودة في الجريدة، واستدركتُها من كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي.
[5] - في كتاب «الدّر النّضيد»، طبعة دار الكتاب العربي: «وترى الآخر».
[6] - في جريدة «صدى الصحراء»: «فاتهم».
[7] - جملةُ «المتّخذين عليها السُّرُج» ضعيفةٌ، كما بيّنهُ العلاّمةُ الألبانيّ في «أحكام الجنائز».
[8] - هي قصيدةُ خَطِيبِ السَّلفيِّين وشاعرهم وكاتبهم: الزَّعيم الشّيخ الطّيّب العُقبيّ (رحمه الله تعالى).