المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من الزندقة إلى الرمزية!



أهــل الحـديث
18-01-2014, 09:00 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


من الزندقة إلى الرمزية!

حسام الحفناوي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد؛

فقد أَشْرَقَتْ شَمْسُ الحَضارة الإسلامية على رُبُوع العالم قُرُونًا طويلة، فبَدَّدَتْ ما فَشا في أَرْجائه من ظَلام الجَهْل، وأَضاءَتْ جَنَباتِه بمَشاعِل النُّور، وأَزالَتْ ما تَراكم على العُقُول البَشَرِيَّة من حُجُب، وَلَّدَتْها المُعْتَقَداتُ الوَثَنِيَّة، وطَهَّرَتْ ما تَكاثَف عليها من أَدْران، أَحْدَثَتْها السُّلطاتُ الكَهْنُوْتِيَّة.



ولا يُقْصَدُ من الحَدِيْث عن سُطُوع تلك الشَّمْس: الاقْتِصارُ على ما قد يَتَبادَرُ إلى أَذْهان كثير من القُرَّاء الكِرام، من بَيان فَضْل الحَضارة الإسلامية على الحَضارة الغَرْبِيَّة المُتَأَخِّرة والمُعاصِرة في مَجالات العُلُوم الطَّبِيْعِيَّة، والاجْتِماعِيَّة، والفَنِّيَّة، ونَحْوها؛ إذْ يَسْتَوْلِي الحديثُ عن دَوْر عُلماء المسلمين في تَطْوِيْر تلك العُلُوم، والإبْداع فيها على جُلِّ الكِتابات المُتَناوِلِة للحَضارة الإسلامية في هذه الأَعْصار - وقَبْلها بقليل- اسْتِيْلاءً تامًّا.



وإنما يُرادُ به في المَقام الأول: إظْهارُ فَضْل الحَضارة الإسلامية على مُخْتَلف بِقاع الأَرْض في تَحْرِيْر عُقُول أَهْلِها من نَيْر اسْتِبْداد كَهَنَة الأَدْيان الوَثَنِيَّة بَشَرِيَّة الوَضْع، وكَسْر قُيود نُفُوْسِهم من تَسَلُّط أَحْبار ورُهْبان الأَدْيان المُحَرَّفَة عن أَصْل رسالتها السَّماوِيَّة؛ فهذا والله هو الفَضْلُ المُبِيْنُ لحَضارة المسلمين على شَتَّى الأَرْجاء التي وَصَلَتْها أَنْوارُها من المَعْمُوْرَة، بل هو المُحَرِّكُ الأَساسُ لكثير من جَوانِب الإبْداع العِلْمِي المادِّيِّ التي بَلَغَتْها حَضارةُ المسلمين، والباعِثُ الرَّئيسُ على المُضِيِّ قُدُمًا في تَطْوِيْرها.[1]



ولئنْ كان الحَديثُ عن تَطْوِيْر العُلُوم، والإبْداع فيها قد غَطَّى على الكتابات حَول الحَضارَة الإسلامية كما سَبَق؛ فإنه قد اعْتَرَى أَكْثَرَ المُتَناوِلِيْن له - فوق ذلك - تَخْلِيْطٌ فاحِشٌ بين ما يَسْتَحِقُّ المَدْحَ من العُلُوم، وما يَسْتَوْجِبُ الذَّم، وغَلَبَ على أَدَبِيَّات المُبْرِزِيْن لمَحاسِنه الْتِباسٌ شديد بين المُسْتَأْهِلِيْن للفَخار من الرُّمُوز العِلْمِيَّة، وضِدِّهم.



فقد جَعَل كثيٌر من مُتَأَخِّرِي المُثَقَّفِيْن ومُعاصِرِيْهم بعضَ الزَّنادِقة رُمُوزًا إسْلامِيَّة عِلْمِيَّة كُبْرى، أَضْفَوا عليها ما خَلَت عنه من المَناقِب، ومَدَحُوها بما تَعُدُّه الشَّرِيْعةُ المُطَهَّرة من المَثالِب، ووَضَعُوا العَدِيْد من أَهْل الضَّلال والزَّيْغ في مَصافِّ أَعْلام المسلمين الذين يُعْتَزُّ بتُراثِهم، ويُحَضُّ على تَرَسُّم خُطاهم، وصَوْن نِتاج أَقْلامِهم.



ولم يَقْتَصِر الخَلْطُ بين الطَّيِّب والخَبِيْث على كَيْل أَنْواع المَدِيْح للمُتَلَبِّسِيْن بالطَّوامِّ العَقَدِيَّة الخطيرة، بل تَعَدَّاه إلى الثَّناء العَطِر على ذات العُلُوم الخَبِيْثة التي تَوَلَّدَتْ تلك الطَّوامُّ عن اشْتِغالهم بها.



ولا رَيْبَ أن الخَطْبَ لم يَعْظُم بما ذَكَرْناه؛ لِلَهَجِ كثير من المُسْتَشْرِقِيْن به، وأن المُصابَ لم يَجِلَّ؛ لدَنْدَنَة بعض رؤوس الضَّلال حَوله؛ لفُقْدان الأَوَّلِيْن لمَعايير التَّقْييم الشَّرْعِيَّة، واخْتِلال مَوازِيْن التَّقْييم لدى الآخِرِيْن.



ولكن البَلاء قد اشْتَدَّ بسَرَيان ذِكْره على أَلْسِنَة كثير من دُعاة الإسلام في العُصُور المُتَأَخِّرة والحاضِرة، وجَرَيان وُروده في نِتاج أَقْلام العَديد ممن كَتَبوا في الإسلاميات ابْتداء من أَواخر القَرْن الثالث عشر الهِجْرِي.[2]



فكيف يُجْعَلُ الزَّنادِقَة القائلون بقِدَم العالم من أَعْلام المسلمين الذين يُفْتَخَرُ بهم؟ وتحت أي ذَرِيْعة يُوْضَعُ المَلاحِدة المُنْكِرون للبَعْث والنُّشُور في مَصَافِّ الرُّمُوز الإسلامية العِلْمِيَّة التي يُعْتَزُّ بانْتِمائها إلى أُمَّتِنا المُسْلِمة؟ وأيُّ سُوْءٍ يُعُود على النَّاشِئة حين نُلَقِّنُهم تَوْقِيْر مَنْ يُفَضِّلُ الفَلاسِفة على الأَنْبِياء؟ وأَيُّ شَرٍّ يُتَوَقَّعُ حِيْن نَزْرَعُ في نُفُوسهم مَحَبَّة مَنْ يَجْعَلُ غايَةَ هَمِّه أن يَجْمَع بين أقوال أَرِسْطو، وسُقْراط، وأَفْلاطون، وغيرهم من فلاسفة اليونان، وبين الشَّرِيْعة المُطَهَّرَة التي نَزَل بها جِبْرِيْل عليه السلام من عند الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما المَرْدُودُ المُنْتَظَرُ منهم إذا شَبُّوا عن الطَّوْق وعَلِموا حقيقة حال أولئك القوم؟ هل عُدِمْنا الرُّمُوز وافْتَقَرْنا إلى القُدُوات حتى نَتِيْه شَرَفًا بمَنْ كان يَشْتَغِل بالسِّحْر والتَّنْجِيْم ويَتَّبِع مَذاهِبَ الصَّابِئة عَبَدَة الكَواكِب؟[3]



ولا يَقولَنَّ قائل: إنما نَمْدَح بَراعَتَهم في العُلُوم التي يُباح الاشْتِغال بها؛ فإنه مَدَح الأَفْراد، وأَثْنَى على ذَواتهم، بل جَعَلهم رُموزًا تُقْتَفَى، وأَعْلامًا يُهْتَدى بها.



ولو سَلَّمْنا جَواز مَدْح أهل الزَّنْدَقة والإلْحاد بأَعْيانهم؛ لبَراعَتهم في بعض العلوم النَّافعة؛ فإنه يَلْزَمُنا تَجْوِيْز مَدْح أَعْيان اليهود، والنَّصارى، وعَبَدة الأَوْثان، بل وإضْفاء الرَّمْزِيَّة عليهم أيضًا.



ففَرْقٌ بين الاسْتفادة من عُلوم أهل الكفر والضَّلال، وبين جَعْلِهم رُمُوزًا للأُمَّة، وأَعْلامًا لأَهْل المِلَّة، ومَفْخَرَة للأَجْيال النَّاشِئة.



ومَعْلُومٌ أن هذا الكلام قد لا يَرُوق لبعض الناس؛ فهو في ظَنِّهم يؤدِّي إلى هَدْم مَنْ يَحْسَبُوْنَهم رُمُوزًا للحَضارة الإسلامية، لاسِيَّما مَنْ لم يكن على اطِّلاع على المَقالات الشَّنِيْعة للفَلاسِفَة المُنْتَسِبِيْن إلى الإسلام، ولكنه مُوَجَّه في الأَساس لتَنْبِيْه مَنْ يعلمون حَقِيْقة أولئك القوم، وخُبْث مَقالاتهم في الله تعالى، ورُسُله عليهم الصلاة والسلام، ومَلائكته الكِرام، ويَغْفلون في ذات الوقت عن خُطُورة وَضْعِهم في مَصَافِّ رُمُوز الحَضارة الإسلامية.

[1] اختلف المفكرون اختلافًا كبيرًا في وضع تعريف للحضارة، وتوصيف لماهيتها، بما قد يتعذر معه وضع تعريف جامع مانع للمصطلح، كما تباينت آراؤهم في بيان الجمع والتفريق بين مصطلح الحضارة من جهة، وكل من مصطلحي المدنية والثقافة من جهة أخرى، ولكن الملاحظ أن بعض المفكرين - ومنهم الشرقي والغربي - قد وضع للكلمة تعريفًا يستفاد منه اندراج ما قررناه أعلاه في مضمون التعريفات الموضوعة لبيان معنى مصطلح الحضارة؛ حيث يقول مصطفى علم الدين في كتابه المجتمع الإسلاميّ في مرحلة التكوين (ص6): الحضارة هي نمط عيش مجموعة بشريّة معيَّنة، في بيئة معيَّنة، يتمثَّل في النظام الذي تعتمده المجموعة، وفي سُلَّم القيم الاجتماعيّة التي تحدِّدها لنفسها،انتهى. وجاء في كتاب [تاريخ الحضارات العام] الذي أشرف عليه موريس كروزيه، ونقله إلى العربيّة فريد داغر، وفؤاد أبو ريحان (1/17) أن الحضارة هي: مجموعة من الخطط والنظم، القمينة بإشاعة النظام، والسلام، والسعادة، وبتطور البشرية الفكري والأدبي، وبتأمين انتصار الأنوار،انتهى. والمراد بالأنوار في مفهوم المفكرين الأوربيين هنا: الثقافة الأوربية، والمفاهيم الجديدة التي أحدثتها الثورة الصناعية. وانظر كذلك: تعريف إدوارد تايلور الذي نقله دينكن متشل في كتاب [معجم علم الاجتماع] ترجمة ومراجعة : إحسان محمّد الحسن مادّة Culture، وتعريف كلايد كلوكهون الذي نقله الدكتور نصر محمّد عارف في كتابه [الحضارة، الثقافة، المدنيّة] (ص21)، وتعريف جميل صليبا في كتابه [المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية] مادة «الحضارة»، وتعريف صامويل هانتنغتون في كتابه [صدام الحضارات] (ص19،18). وما في هذه الحاشية من المعلومات مستفاد من بحث بعنوان [نشوء الحضارة الاسلامية] لكاتبه أحمد القصص، وهو بحث مفيد، فجزاه الله خيرًا.

[2] ويقاربه في التاريخ الميلادي النصراني: أواخر القرن التاسع عشر الميلادي؛ حيث يفرق بين التاريخين غالبًا نحو ستة قرون، تزيد أو تقل. ومن الملاحظ على هذه الحقبة التاريخية العصيبة: ظهور الكثير من الآراء الغريبة، الناشئة عن الهزيمة النفسية التي غطت سحبها في تلك الآونة على سماء العالم الإسلامي، ولا زالت آثارها ظاهرة حتى عصرنا الحالي، وإن كان تصاعد المد الإسلامي على الصعيدين الداخلي والخارجي قد بدأ منذ حين في إزاحة تلك السحب.

ولو ادعى مُدَّعٍ أن الحرص على التفاخر بالبارعين في بعض مجالات العلوم الطبيعية - وإن كانوا من الزائغين عقديًا المنحرفين خلقيًا - هو أثر من آثار تلك الهزيمة النفسية، لما أبعد النجعة؛ إذ يحرص المنهزم نفسيًا على حشد كل ما يمكنه حشده - وإن لم يكن على قناعة به - للتترس من هجمات خصمه الغالب له، ولو اكتفى أولئك المنهزمون ببيان فضل انتشار الإسلام على تحرير الخلق من الرق الحسي والمعنوي، وتعبيدهم لله تعالى وحده، وحثهم على الحرص على كل نافع ـ ولا يخالف أحكام الشرع شيء نافع - وأمرهم بالأخذ بأسباب القوة المادية أمرًا شاملًا لشتى أنواعها، وغير ذلك من الكليات التي تظهر فضل الحضارة الإسلامية على الأمم والشعوب، سواء تلك التي دخلت في دين الله تعالى - وهي أكثرهم نهلًا من هذا الفضل - أو التي انضوت تحت مظلة المسلمين، فتأثرت بمعايشتهم، ومساكنتهم، وإن لم تدخل في دين الله تعالى، أو تلك الشعوب التي اقتبست من أنوار هذه الحضارة مع بعدها عن أجوائها، كالأمم التي جاورت المسلمين، وتقلبت علاقتها بهم بين الحرب والسلم. ويندرج في طرق ذلك الاقتباس: طواف التجار، والرحالة، ونحوهم من غير بلاد المسلمين في أراضيهم، ونقلهم لمشاهداتهم فيها، وترجمة تصانيف علماء المسلمين الموضوعة بالعربية، أو الفارسية، أو التركية.

أقول: لو اقتصروا على ذكر ما قدمناه من كليات، ثم ضربوا الأمثلة بالعلماء المبدعين من أهل الديانة من المسلمين - وما أكثرهم - لما افتقروا إلى الثناء على الزنادقة والضلال، وجعلهم من رموز العلم في التاريخ الإسلامي.

[3] الأقوال التي ذكرناها جاءت في كلام المشتغلين بعلوم اليونان من المنتسبين إلى هذه الملة، كيعقوب بن إسحاق الكندي، وابن سينا، والفارابي، وابن رشد، وابن الهيثم، وغيرهم، وقد فضح مقالاتهم الخبيثة كثير من العلماء قديمًا وحديثًا، ولا يحتمل مثل هذا المقال التعرض لمقالاتهم، ولا الرد عليها، وإنما أردنا التذكير بخطر مسلك من يقرن ذكرهم بذكر الحضارة الإسلامية، فلا يكاد يذكر فضلها، إلا ويذكر هؤلاء الخبثاء وأمثالهم. ومن أراد الوقوف على زندقتهم، وإلحادهم؛ فعليه بالتصانيف التي وضعها العلماء في نقد مقالاتهم، كتهافت الفلاسفة، والمنقذ من الضلال، وكلاهما للغزالي، ودرء تعارض العقل والنقل للإمام ابن تيمية، وهو أشمل التصانيف في هذا الباب، وأضبطها.

ولو أن هؤلاء المذكورون ومن نحا نحوهم قصروا أخذهم من علوم اليونان على العلوم النافعة غير المحرمة، كالطب، والرياضيات، وعلوم الفلك الخالية من التعلق بالكواكب، وغيرها من العلوم النافعة، ونحوا جانبا الفلسفة، والمنطق، والكلام؛ لاستحق كثير منهم وصف الرمزية؛ لما برعوا فيه من العلوم، وأتقنوه من دقائقها، وأبدعوا فيه من تطويرها، ولكنهم أبوا إلا أن يخلطوا الطيب بالخبيث، والصالح بالطالح، والنافع بالضار.

وأي حاجة للمسلم في مباحث ما وراء الطبيعة، والأخلاق التي أفنى الفلاسفة أعمارهم يخبطون فيها يمينًا وشمالًا وبين يديه القرآن والسنة؟

المصدر الأصلي: شبكة الألوكة