المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل صار التحليل التاريخي كَلَأً مُسْتباحًا؟



أهــل الحـديث
16-01-2014, 06:30 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


هل صار التحليل التاريخي كَلَأً مُسْتباحًا؟

حسام الحفناوي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.



وبعد:

محاسن علم التاريخ:

فلا يخفى عظيم أثر سماع القصص على نفوس بني آدم، وكبير دوره في تهذيب أخلاقهم، ووضوحمفعوله في إنْضاج عقولهم، وعميق بَصْمته في صَقْل تجاربهم.
ومن وعى التاريخ في صدره
أضاف أعمارًا إلى عمره



ولاغَرْو أن يُكثر الله تعالى في كتابه من قصص الماضين؛ تثبيتًا لأفئدة المؤمنين، وتذكيرًا بما حَوَته من العِبَر والعِظات، قال تعالى: ﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120]، وقال عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، وقال سبحانه: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف:176].



عناية علماء المسلمين بالتاريخ:

ولا عجب بعد هذا البيان القرآني الناصع لفوائد القصص: أن يعتني علماء الإسلام منذ عصور التدوين الأولى أشد الاعتناء بالتصنيف في تواريخ الأمم، وسير الرجال، ويبدعوا أيَّما إبداع في طَرْق أبواب من التأليف التاريخي لم يُسْبَقوا إليها، ويَتَفَنَّنوا إلى الغاية في تقسيماتها المُبْتَكَرة، ويسابقوا عصورهم في ترتيباتها المُخْتَرَعة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيْرُ المَجامِعُ



توظيف الدرس التاريخي في خدمة اليقظة الإسلامية المعاصرة:

ولقد كان من أمارات البعث الإسلامي المُتَصاعد، وعلامات مَدِّه المتنامي: أن وَلَّت طلائعُه الظافرة الوجوه شَطْر تاريخ الأمة المجيد، مُسْتَلْهِمة من صفحاته المُشْرِقة نورًا يُضيء جَنَبات سبيلها المشقوق وسط الأمواج المُتَلاطِمة من التغريب الفكري، والهجمات الشرسة من الغزو الثقافي، والرياح العاتية من الفساد الخلقي، مُسْتَحِثَّةً الخُطى صَوْب بلوغ آمالها اللامحدودة في صنع مستقبل ملؤه العز والفَخار، قد عَمَّت بشائرُه مَشارقَ الأرض ومَغاربَها، فلله الحمد والفضل والمِنَّة.



وما أن انْكَبَّ دعاةُ الإسلام على تراجم الأَسْلاف الكرام، وأَوْغَلوا في بُطون التَّواليف التأريخية تفتيشًا عن مآثرهم، وارْتَوَوا من مَعِيْن سِيَرهم العذب حتى تَضَلَّعوا، إلا وسارعوا إلى إبراز الدروس العَقَدِيَّة المستخرجة، والقيم التربوية المُسْتَقاة، والمُثُل الخلقية المُسْتَنْبَطة، والتوجيهات السياسية المُسْتَفادَة، والحِكَم العقلية المأثورة.



حاجة إلى التقويم:

وكعادة كل جهد في الخير مَبْذول، وسَعْيٍ في نُصْرة الحق مَشْكور، وطاقة لنشر العدل مُسْتَفْرَغَة؛ فقد اعْترى الجهودَ المبذولة في توظيف التاريخ لخدمة الشرع بعضُ الخَلل، وشابَ المَساعي الحميدة لتسخير القصص في تشكيل عقول وقلوب الأجيال الناشئة شيءٌ من الكَدَر، واعْتَور الطاقات الموجهة لتطويع الدرس التاريخي القَصَصي للأغراض التربوية قدرٌ من السَّقَطات.



وحيث تَقَرَّر أن الماء إذا بلغ قُلَّتَيْن لم يَحْمِل الخَبَث، وأن قَطَرات السيئات تذوب في بحار الحَسَنات؛ فلا يَتَّكِأ على وقوع الخلل تنقيصًا من جهود الباذلين للخير صادقٌ في النُّصح، ولا يَتَعَلَّل بالشَّوائب البادِية تقليلًا من مَساعي الناصرين للحق مُخْلِصٌ في التقويم، ولا يحتج بالسَّقَطات الحادثة جحدًا لأَيادِي مُفْرِغي الطاقات في نشر العدل أمينًا على ضبط مَسار النهضة؛ فتلك من أخلاق الفاجرين في الخصومة، وطبائع الحائدين عن طَرائق الإنصاف.



ومن ثم؛ فإن شكر الجهود مع تقويم الخلل العالق بها هو المطلوب، ومدح المَساعي بمحاذاة تصفية شوائبها هو المَنْشود، وتقدير الطاقات إلى جانب تَحاشِي السَّقَطات هو المُبْتَغى.



وإذا كان الخطأ - مقصودًا كان أو غير مقصود - ملازمًا للجنس البشري، فإن التسديد والمُقارَبة شأنٌ دائم للمؤمنين، والحرص على التطوير والتنمية شِيْمة لا انْفِكاك لها عن نفوس أولي الهِمَم العالية.



مَنْشأ الغَلط:

تشمل جُلُّ العلوم - بما فيها التاريخ - بين جزئياتها أفرادًا من القَطْعِيَّات، وأخرى من الظَّنِّيَّات، ولئن كان وقوعُ التنازع غير مقبول فيما يَخُصُّ القَطْعِيَّ منها؛ فمن غير المُسْتَنْكَر تَطارُحُ الآراء حول ما يَنْدَرِج تحت الظَّنِّيِّ، أو يُلْحَق بقِسْمه.



بَيْدَ أن الالتحاق بالأخير بمُجَرَّده لا يُعْفِي أولئك المُتَطارِحِيْن من النَّكِيْر على كل الأحوال؛ فلا بد أن يَحُوز المتكلم قدرًا وافرًا من المَحْصول العلمي من جهة، وألا تناقض أُطْروحاتُه ثوابتَ الشريعة الإسلامية من جهة أخرى.



وقد حَرَّض تَبَنِّي الكثير من الأكاديميين المشتغلين بالتاريخ الإسلامي للنظريات الغربية في التوثيق والتحليل نفرًا من الدعاة إلى الله تعالى أشد التحريض على التَّصَدُّر للحديث في التاريخ الإسلامي؛ دَفْعًا للشبه المُثارة حول رجالاته، وكشفًا للغَبَش المُكْتَنِف لجوانب أَحْقابه، ودَحْضًا للأَراجِيْف المُشاعة عن أحداثه ووقائعه.



ولو أن أولئك الأفاضل من المُتَصَدِّرِيْن اقتصروا على النقل عن ثقات المؤرخين قديمًا وحديثًا، واكتفوا بحَمْل ما وجدوه في تصانيفهم إلى الناس، وصولًا إلى الأهداف المذكورة آنفًا؛ لعَظُمَت بَرَكةُ صنيعهم، ونَدُرَ خطؤهم، ولما اتَّسع الخَرْق على الرَّاقع.



ولكن مجاوزة النقل من المصادر المُوَثَّقة إلى الترجيح بين المَرْويات يضيف إلى العبث بتاريخ الأمة نوعًا جديدًا من العبث، وتَخَطِّي منزلة حامل العلم إلى مرتبة المُحَلِّل النَّاقد يزيد إلى أزمات فهم المَسار التاريخي أزمة حديثة؛ فالأول بحاجة ماسَّة إلى التمكن من الأدوات العلمية التي تؤهل صاحبها لمعرفة المقبول من المردود، والثاني يفتقر بشدة إلى مَحْصول مَعْرِفي كبير، ووَعْي بالسنن الربانية التي تحكم حياة الأمم والشعوب، وقَدْر من الاستيعاب لأحكام الشريعة الإسلامية، المرجع الرئيس للأمم المسلمة على مدار تاريخها، والباعث الأساس لأفعالها، والمُحَرِّك الأكبر لهِمَمها، والمُصِيْغ الأول لتصوراتها، ومفاهيمها، وطموحاتها، واستراتيجياتها.



فإذا عَوَّل غيرُ أهل الشأن التاريخي في تَنْقِيح مصادره، وتحليل أخباره على المصادر الوسيطة، والمصنفات التثقيفية؛ فقد خلطوا عملًا صالحًا، وآخر سيئًا؛ إذ المُتَطَبِّب دون معرفة بالطب ضامِن، وإن حُسَنت نِيَّتُه في مُداواة المسلمين، والمُبِيْح لنفسه الخَوْضَ في دقائق فن من الفنون قبل إتقانه مُتَجَنٍّ عليه، وعلى أهله، وإن خَلُص قَصْدُه في تصفيته من الشَّوائب، والمُسْتَرْوِح للحديث في التحليل التاريخي من غير تَبَحُّر عميق؛ تهاونًا بمآلات ذلك، مُزْرٍ على صفحاته، وإن صَحَّ عَزْمُه على نفي التزوير عنه، والنية الصالحة لا تُصلح العمل الفاسد، والمتكلم في غير فنه آتٍ بالعجائب ولا بد.



فإن كان ولا بد لغير المتخصص من الحديث أو الكتابة، فلا أقل من أن يوسع مجال البحث والاطلاع بصورة شافية، ولا يَسُوغ له الاقتصار على عدد محدود من المراجع الوسيطة، والمصادر المختصرة، بل يَجْرُد المُطَوَّلات المُرَتَّبة على السِّنين، ويَدْأَبُ ساهرًا بين يدي الموسوعات الموضوعة في تراجم الأعلام، ويُفَتِّش في المكتبات عن الدراسات الأكاديمية الحديثة.



فمَنْ ضَنَّ بوقته عن النصائح المذكورة؛ فأَوْلى له أن يُنْعِم على المسلمين بالكَفِّ عن الكتابة فيما لا يُحْسِن، أو الحديث عما لا يعرف.



بعض الآثار السلبية:

ولو أردنا التعرض للآثار السلبية الناتجة عن تَقَحُّم غير المؤهلين من دعاة الخير لمَباحث التاريخ المتخصصة، فيمكننا إيراد بعضهاعلى وجه الإجمال والاختصار فيما يلي:

1- المبالغة في رَفْع رجال استنادًا إلى بعض مناقبهم.



2- الغُلو في الحَطِّ على آخرين اعتمادًا على شيء من مَثالبهم.



3- الخَلْط في أنساب القبائل.



4- الجهل بأصول الأمم والشعوب.



5- تَوَهُّم الارتباطالجغرافي بين الممالك القديمة وسَمِيَّاتُها من الدول الحديثة.



6- تَخَيُّل دخول أقاليم وأَصْقاع في ممتلكات دول لم تَطَأْها جيوشُها.



7- الظن الخاطئ بفَتْح مدن أَحْكَم المسلمون حصارها، ثم رجعوا بعد أن شَرَطوا الشُّروط على أهلها.



8- التأويل المُتَكَلَّف لأحداث السيرة النبوية الشريفة، وسِيَر السلف الصالح؛ نُصْرةً للمناهج الدعوية الاجتهادية المعاصرة.



9- تفسير الأقوال والأفعال وَفْق مفاهيم لم يكن لمضمونها وجود البتة في عصور القائلين والفاعلين.



10- المُطابَقة المُفْتَعَلة بين سِيَر القدماء من ظَلَمة ملوك المسلمين والمعاصرين من الطواغيت اللادينيين.



11- وضع عباقرة العلوم المدنية من الزنادقة المنتسبين لأمة الإسلام في مَصافِّ رموز المسلمين وأعلامهم.



12- إدْراج بعض مَحاسن الدول في عِلل سقوطها.



إلى غير ذلك من السلبيات التي يَجْدُر السَّعْيُ في تَلافيها؛ توقيرًا لأمانة الإرث العظيم، وتقويمًا لمَسار البعث العلمي الحضاري، ولا يَسُوغ التغافل عنها؛ تعللًا بسُمُو غايات المُتَلَبِّسِين بها، واعتذارًا بجَليل جهودهم في خدمة التاريخ الإسلامي.

المصدر الأصلي: شبكة الألوكة