المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طلبة العلم الشرعي وتفعيل محصولهم العلمي في معالجة قضايا المسلمين



أهــل الحـديث
15-01-2014, 10:10 AM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


طلبة العلم الشرعي وتفعيل محصولهم العلمي في معالجة قضايا المسلمين

حسام الحفناوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،

وبعد؛

لقد أَثْلَجَت أَوْبَة كثير من المسلمين إلى دينهم - على تَفاوتهم فيها - نَفْس كل مُوَحِّد، وأَحْرَقَت قلوب المُتَرَبِّصين بالإسلام الدوائر، وانْشَرَح لها صَدْر كل مؤمن، وصار صَدْر كل كافر ضَيِّقًا حَرَجًا، وطاب لها خاطِر كل مُحِب لله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وانكسرت بها خَواطِر المُنافِقين، ولَذَّ بها عَيْشُ كل مُبْتَغٍ لرِفْعَة الحق، وعُلُو كلمة الله تعالى، وتَكَدَّرَت مَعايِش المُرْجِفين، وأهل الرِّيَب.



وقد زَيَّن تلك الأَوْبَة وجَمَّلَها: وَفْرَة العُنْصُر الشَّبابِي بين صُفوفها، وما تَحْمِله تلك السِّمَة المُبْهِجَة من عَظيم البَشائِر، وتُؤذِن به من جَذْرِيِّ التَّغْييرات.



ومن أَبْهَج البَشائِر وأَثْلَجها للنُّفوس، وأَجْمَل إرْهاصات التغيير وأَشْرَحها للصُّدُور: اقْتِران انْجِفال الشَّباب قِبَل الدين، وانْثِيالهم عليه، بتَشَوُّفهم لطلب العلم الشرعي، واسْتِشْرافهم للنَّهَل من تصانيف العلماء، وطُمُوحهم في اللَّحاق برَكْبهم، وإدراك قافِلَتهم، والدخول في جُمْلة طائفتهم.



ومن البَدَهِي ألا تَسْلَم ظواهر العافية - والمذكورة منها بلا شك - من اعْتِراء بعض الأسْقام والعِلَل؛ إذ لا يَخْفى على مُتَأمِّل قابِلِيَّة الظواهر الإيجابية لطُروء بعض العَوارِض السَّلْبِيَّة، من قِبَل طائفة من المُتَلَبِّسين بها، لا من قِبَلها هي في نفسها؛ لجهل المُتَلَبِّس، أو تقصيره، أو سوء فهمه، أو فساد تأويله.



ولا يَتَوَكَأ على العَوارِض المذكورة للتَّشْغيب على أصل الظاهرة إلا مُتَصَيِّد عاجز؛ إذ العُدُول عن نقد الأفكار والمناهج والأُطْروحات، عن طريق سَبْر أصولها النظرية، وغَرْبَلَة دعائمها الفكرية، ووَضْع طَرائِقها في الاستدلال تحت المِجْهَر، إلى التَغْبير في وجوه حامِليها بما قد يقع من بعضهم عند التطبيق العملي لما أَصَّلوه، والتفعيل الواقعي لما نَظَّرُوا له، حَيْدَةٌ أَلِفْناها من المُفْلِسِين، وشِنْشِنَة عَرَفْناها من المُعْوِزِين.



وما الظاهرة المُتَحَدَّث عنها سوى نِتاج مَنْهَج أصيل، بل رَكيزة أساسية من ركائزه، ولازِمَة رئيسية[1] من لَوازِمه.



وأُذَكِّر القارئ الكريم قبل الشُّروع في المُراد: بوجوب إحسان الظن بالمسلمين، وحَمْل كلامهم على أحسن مَحامِله؛ لما يوهِمُه مَضْمون النَّقْد الآتي قريبًا من وجود بعض القَواسِم المشتركة بينه وبين نَقْد طائفة من أهل الأهواء، قد دَرَجَتْ على غَمْز حَمَلَة نَهْج أهل القُرون المُفَضَّلَة.



ومن أبرز العَوارض السَّلْبية المُعاصِرة - وقد وقع لها نظائر في فترات تاريخية سابقة - المُصاحِبة لانْبِعاث الهِمَم في تَحْصيل العلوم الشرعية، والمُقْتَرِنة بتَوْلية الوجوه شَطْر مصادرها الأصلية:

ما يَعُوزُ شَرِيحة واسعة من طلبة العلم، من تنمية مَلَكة تَوْظِيف حَصائِلهم العلمية في مُعالَجَة ما يَنْزِل بالمسلمين من نوازِل عَصيبة، ومُكافحة ما يُسْتَحْدَث من مَذاهِب هَدَّامَة، وتَيَّارات مُنْحَرِفة، ومُكابَدَة ما يُرَمَّم من قَديم الضَّلالات، وتَلِيد الشُّبُهات.



البُحوث الحَديثية أُنْموذَجًا:

لقد حَفِظ الله تعالى كتابه الكريم من التحريف، وصان سُنَّة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم - المُبَيِّنة للكتاب - من دَسائِس الكذَّابين، وأَغْلاط الواهِمِين، فقَيَّض لها جَهابِذَة أَفْذاذًًا، أَفْنَوا في تَصْفِيَتها من الدَّخيل الأعمار، وأنفقوا في جَمْعها الطَّارِف والتِّلاد، و ساكَنوا تفتيشًا عن أحوال رُواتها الأحْراش والقِفار، واسْتَعْذَبوا نَشْرًا لها كل مَرير، واسْتَسْهَلوا رَفْعًا للوائها كل عَسير، وأَحْكَموا قواعد نَقْدها، وأَبْدَعوا ضَبْط مَوازِينها، فشَهِد لهم المُوافِق والمُخالِف، ولم يُخْفِ مَنْ أُوتِيَ نَصيبًا من الإنصاف من المُسْتَشْرِقين إعجابهم بأَسْبَقِيَّة قواعدهم في الضَّبْط، وأَقَرُّوا بتَفَرُّدهم في إحْكام مَوازين النَّقْد.



فما رفع مُبْتَدِع رأسه إلا قطعوه بالأدلة السُّنِّيَّة، ولا أخرج صاحب نِحْلَة فاسدة قَرْنَه إلا كسروه بالحُجَج النَّبَويَّة، ولا رامَ زِنْدِيق طَعْنًا في المِلَّة إلا مَزَّقوا أحْشاءه بالبراهين المُصْطَفَوِيَّة.



فدَحَضوا أباطيل المُبْتَدِعة، وكشفوا شُبهات الزَّنادِقة، وحَجَروا أهل الضلال والإلحاد في أقْماع السِّمْسِم.



وقد كان للدراسات الحديثية نصيب وافر من ظاهرة الإقبال الشَّبابِي على البحث العلمي المذكورة آنفًا، فثَنَى شُبَّانُ الإسلام عند مشايخ الحديث الرُّكَب، وقَدَرُوا - ادِّخارًا لقِيمَة المُصَنَّفات الحديثية - على أنفسهم في الشَّهَوات المُباحَة، وضَنُّوا برأس مالهم - أعني الوقت - عن الذِّهاب هَدَرًا في المُفاكَهَة والمِراء، وفُضُول الكلام، فشاركوا في إحياء ما مات من فَنِّ الحديث، وأَسْهَموا في انْبِعاث ما انْدَثَر من آثاره، فقَرَّتْ بهم عُيون أهل السُّنَّة والاتِّباع، وغَصَّتْ بهم حُلُوق أهل الزَّيْغ والابْتِداع.



وقد اعْتَرَى طائفة غير قليلة من فُرسان الحديث ما اعْتَرَى سواهم من طَلَبة العلم، من قُصور في تَوظِيف المَلَكَات، وضُمور في اسْتِغْلال الطَّاقات؛ فلم يَضَعوا ما حَباهُم الله تعالى به من مَهَارات في خِدْمة قضايا الأمة الكبرى، ولم يُناوِلوا سِهام الحَقِّ لأكثر الرُّماة نِكايَةً في أعداء الأمة، وأعظمهم إثْخانًا في أكابِر مُجْرِميهم.



فقد اشْتَغَل كثير منهم بَجْمع طُرُق أحاديث قد بَذَل أَساطِين العلماء غاية الجُهْد في جَمْع طُرُقها، وانْخَرَطَتْ طائفة كبيرة منهم في تَحْرير قَواعِد سَبَق وأن أَفْرَغ جَهابِذَة الأَثَرِيِّين الوُسْع في تَحْرِيرِها، وانْهَمَكَتْ شَريحة واسعة منهم في العِناية بالأُصول الخَطِّيَّة لتَصانِيف اعْتَنى بها سَلَفًا غيرُ واحد من فُحول المُحَقِّقين، وأَنْفَق العديد منهم الأوقات الطِّوال سَعْيًا للفَصْل في أحاديث اخْتَلَف فيها حُذَّاق المُحَدِّثين، وتلاهم في ابْتِغاء البَتِّ فيها طَبَقاتٌ وطَبَقَاتٌ من مَهَرَة النُّقَّاد، وفُقهاء العِلَل، وجافَى جَمْعٌ منهم عن المَضاجِع جُنُوْبَهُم تَقْرِيرًا لضَعْف حديث قد ثَبَت مَدْلُولُه في أحاديثَ أُخَر، وصَحَّ مَفْهُومُه فيما جاء من إجماع الصحابة، وقَضى قِسْم منهم الأيام والليالي يُقَلِّب التَّصانيف في أحوال الرِّجال، ويُبْحِر بين كُتُب السّؤالات والتَّواريخ، رَوْمًا للقَطْع في حال راوٍ سَبَر حُفَّاظ الحديث مَرْوِيَّاته منذ قُرون مُتَطاوِلة، وسَطَر أئمتُهم مُحَصِّلة بَحْثهم في شأنه في كَرارِيس ودَفاتِر، وأَمْعَن صِنْفٌ منهم في ضَبْط أَسْماء رِجال ضُبِطَتْ أَسْماؤهم في عشرات المُصَنَّفات، وأَوْغَل نَوْعٌ منهم في فَضِّ نِزاع المُتَنازِعِين حول ما اشْتَبَه من أسْماء رُواة أَنْعَم النَّظَر في فَضِّ النِّزاع حولهم خَرارِتُ[2] المُصَنِّفين في مُشْتَبِه أسماء الرجال.



أَضِفْ إلى ما تَقَدَّم طُولُ النَّفَس في نَقْد تحقيق كتاب لا تُخْطِئ عَيْنُ مُطالِعِه ما بُذِل فيه من جُهْد، ووُفُور النَّشاط في تَخْطِئة تَقْوِيَة حديث مُحْتَمِل للتَّصْحيح أو التَّحْسين، وعُلُو الهِمَّة في سَرْد ما وقع من إخْلال في اخْتِصار كتاب، وكَمال الشِّرَّة في تَعَقُّب أخطاء الطَّبَعات.



ولا إخالُنِي مُحْتاجًا لتَذْكِير القارئ الكريم بما ذَكَّرْتُه به من قبل[3]، ولكن أَحْسَبُنِي مُطالَبًا بإعانته على ذلك، بالإبانة عن أسباب النَّقْد في المواضع الفائِتة، والإفْصاح عن عِلَل المآخِذ في المواطن الماضية.



فأقول مُسْتَعِينًا بالله تعالى:

لا يَعِيب ما تَقَدَّم ذِكْرُه من صُوَر البَحْث العِلْمي دون قَيْد إلا جاهِلٌ بعَظيم فوائدها، ولا يَذُمُّ المُتَلَبِّسين بتلك الصُوَر بإطلاقٍ سوى غافِلٍ عن جَليل ثِمارها، ولا يُعارِض الدَّعْوة إلى تَوْجِيه العِناية إليها إجْمالًا غَيْر مُتَعامٍ عن حَمِيْد آثارها؛ فإن التَّفْرِيط في تَحْرير العُلُوم مُؤذِنٌ بضياعها رَأسًا، والفُتُور عن تَنْقِيحها سَبيلٌ إلى ذِهابها جُمْلَةً، والتَّثْبيط عن تَهْذِيبها إتْيانٌ عليها من قواعدها، والحَط على القائمين على تَدْقِيقها من أَوْسَع أبواب الإجْهاز عليها.



فلا يُنْقَدُ على أحد من طَلَبة الحديث إفْراغ الوُسْع في جَمْع طُرُق حديث لم تُجْمَع طُرُقُه، وإنما يُنْقَدُ تَكْرار الجُهود في غير كبير طائل يُذْكَر، ولا يُنْكَر على فَرْد من أفْرادِهم العناية بالأُصول الخَطِّيَّة لكتاب لم يُعْطَ حَقَّه من التَّحْقيق العِلْمِي الرَّصِين، وإنما يُنْكَرُ مُعاوَدَة المُبْتَدِئِين تَدْقِيق مُصَنِّفات تُراثِيَّة أَكَبَّ الأَلْمَعِيِّون على تَدْقِيقها دون إضافات عِلْمِيَّة مُعْتَبَرَة، ولا يُذَمُّ التَّوْلِيف في تَحْرِير قاعدة حَدِيثِيَّة قد شاع الغَلَط في فَهْمِها، وذاع الخَطَأ في تَطْبيقها، وإنما يُذَمُّ الإكْثار المُفْرِط من التَّصْنيف في تَقْرير القواعِد الحَدِيثِيَّة عَبْر القَصِّ واللَّصْق، المُجَرَّد من أَهْلِيَّة التَّرْجِيح، وكَفاءة التَّنْقِيح، ولا يُعابُ بَذْلُ الجُهْد في تَخْريج حَدِيث لم يُخَرَّج تَخْرِيجا وافيًا، وإنما يُعابُ تَسْوِيد عَشَرات الصَّفحات، وإثْقال حَواشِي المُصَنَّفات بالنُّقول الخالية من مَزِيد فائدة، المُرَتَّبَة تَرْتِيْبًا مُغايِرًا للمَصادِر المَنْقول منها؛ إيهامًا للقارِئ بالمَجِيء بجَديد، وفِرارًا من وَصْف السَّرِقة العِلْمِيَّة مَشْؤوم المَغَبَّة، ولا يُنْتَقَصُ من قَدْر المُتَرَبِّصِين للعابِثِين بالتُّراث العِلْمِي للأُمَّة، النَّقَدة لتَشْوِيه الأَصاغِر له، وإنما يُنْقِصُ المَرْءُ قَدْرَ نَفْسِه - بل ويَخْرِم مُروءَتَه بيَدِه - إن تَصَيَّد أخطاء حُذَّاق المُحَقِّقِين، ممن كابَدوا المَشَاقَّ في سَبِيل نَشْر إِرْث الأَسْلاف الأَماجِد، وأَظْمَؤوا نَهارَهم صِيانَةً له، وأَسْهَروا لَيْلَهم ذَوْدًا عنه.



وعلى مِثْل التَّعْلِيلات السَّابِقة لنَقْد بعض صُوَر البَحْث المَحْسُوبة على العِلْم، فَلْيُقَسْ تَعْلِيلُ نَقْد أشْباهِها، وليُعْلَم في ضَوْء أَسْباب الإنْكار على الواقعين فيها سَبَب النَّكير على السَّالِكين دَرْبَهم، النَّاحِين نَحْوَهم.



وقد عَرَّجْتُ على الصور المُنْتَقَدَة آنفًا؛ رَجاء تَقْويم ما أعتقده فيها - وفيما يُماثِلُها - من خَلَل في إدارة الوقت، ومُخالَفة الأولى في تَوْظِيف مَلَكات البَحْث، والأعمار قصيرة، وشَواغِل الحياة في عَصْرنا كثيرة؛ فالحِرْص على التَّوْظِيف الأَمْثَل للأوقات والمَلَكات مَطْلَب عظيم يَرْنُو له أصحاب الهِمَم العالية، وعُرْوَة وُثْقى يَسْتَمْسِك بها أَرْباب العَزائم السَّامِية.



والمَرْجُو من طَلَبَة الحديث الكرام أن يَسْتَمْسِكوا بهذه العُرْوَة الوُثْقى، وأن يُوْلُوا ذلك المَطْلَب كَبير اهتمامهم، ويَصْرِفُوا إليه عَظيم اعْتِنائِهم.



ومِنْ أَرْجى ما يُؤَمِّلُه فيهم المُؤمِّلون في مَجال إتْقان إدارة الوقت، وأَحْرى ما ينصحهم به النَّاصحون بشأن تَوْظيف مَلَكات البَحْث:

ما ذكرناه آنِفًا من: مُعالجة النَّوازِل العَصيبة، ومُكافَحَة المَذاهِب الهَدَّامَة المُسْتَحْدَثَة، ومُناجَزَة التَّيَّارات المُنْحَرِفَة النَّاشِئة، ومُكابَدَة الضَّلالات القديمة التي يَسْعى أهل البدع جاهِدِين في تَرْمِيمها، ومُصاوَلَة الشُّبُهات التَّلِيدة التي يَجْهَد رُؤوس الضَّلال في إحْياء مَواتها.



وقد كتبتُ المَقال أَصالَةً حَثًّا لإخواني على الاضْطِلاع بتلك المَهامِّ الجِسام، وحَبَّرْتُ ما مَضى من سُطُوره تَمْهِيدًا بين يدي تِيْك الأهداف السَّوامِق.



وهاؤُمْ بعضُ صُوَر التَّوْظِيف الأَمْثَل المَرْجُوَّة، ونماذِج التَّفْعِيل الأَكْمَل المُتَشَوَّفَة، ضَرْبًا للمِثال، وتَفْصِيلًا للإجْمال:

ففي مَجال تَوْظِيف العُلوم الحَدِيثِيَّة في خِدْمة الدِّراسات العَقَدِيَّة: يَظْهَر بجَلاء دَوْرُ المُشْتَغِلِين بعلم الحديث الشريف - إنْ أَحْسَنوا تَوْظِيف مَلَكاتهم - في التَّصَدِّي لما يُثِيرُه أَئِمَّة الكُفْر من شُبُهات حَول السُّنَّة النَّبَوِيَّة المُطَهَّرَة، ودَحْض ما يُلْقُونه من أَراجِيف حَول السِّيرة المُحَمَّدِيَّة العَطِرَة، فيَكْشِفُون كَذِب دَجاجِلَة المُنَصِّرِين، وحَقَدَة المُسْتَشْرِقين، ومَنْ نَحا نَحْوَهم مِنْ أَعْداء المِلَّة الصُّرَحاء في الاتِّكاء على المَوْضوعات، والمَناكِير؛ تَشْوِيْهًا، وتَنْفِيرًا، ويَدْمَغُون أَباطِيل شَياطين الرَّوافِض، ومَخابِيل الطُّرُقِيِّين، وأَشْباهِهم من زَنادِقَة الباطِنِيَّة المتدثرين بالإسلام في بَتْرِهم للألفاظ النَّبَوِيَّة من سِياقاتِها؛ تحريفًا لمَعانِيها، ويُلْقِمون العَلْمانِيِّين الأَحْجار إنْ راموا تَضْليل المسلمين بالتَّفْريق بين نُصوص السُّنَّة، وضَرْب بَعْضِها ببَعْض، ويَفْلِقُون هَامَ المُبْتَدِعَة والضُّلَّال إذا نَسَبوا إلى كُتُب الصِّحاح ما ليس منها؛ تَلْبِيسًا، أو وَضَعوا أحكام الحُفَّاظ على الأحاديث في غير مَوْضِعها، وحَمَّلوا اصْطِلاحاتهم ما لا تَحْتَمِلُه تَدْلِيسًا.



وفي مَجال الدِّراسات الفِقْهِيَّة والفَتاوى الشَّرْعِيَّة: يَبْرُز بوضوح عِظَم المَسْؤولية المُلْقاة على عَواتِق فُرْسان الحديث - إن أَجادُوا الاسْتِفادة من مَحْصُولهم الحَدِيثِي - إزاء ما تَدْفَعُه أَرْحام المَطابِع، وتَضُخُّه مَواقِع الشَّبَكَة العَنْكَبُوتِيَّة مع بُزُوغ فَجْر كل يوم، وحُلُول مَساء كل لَيْلَة، من تَحْليل الحَرام، وتَحْرِيم الحَلال، وإبْطال المَشْرُوع، وإضْفاء الشَّرْعِيَّة على الباطِل.



وإنما عَظُمَتْ المَسْؤولِيَة المُناطَة بهم في إيقاف ذلك العَبَث بالأحكام الشرعية؛ لما يقوم به أولئك العابِثون من اسْتِدْلال بضِعاف الرّوايات، وإعْراضٍ عن صِحاحِها، بل تَصْحِيح لضَعِيفِها، وتَضْعِيف لصَحِيحها، دُون قَواعِد عِلْمِيَّة مُعْتَبَرَة، ولا مَناهِج حَدِيثِيَّة مُقَرَّرة، فما قَبِلَتْه عُقُولُهم السَّقِيمة صَحَّحوه بالهوى المُفْرَد، وما مَجَّتْه أَدْمِغَتُهم السَّخِيفة ضَعَّفوه بالتَّشَهِّي المُجَرَّد، ولا مُتَّكَأ لهم في هذا وذاك سوى مُطْلَق الحِرْص على انْتِقاء النُّصوص الشَّرْعِيَّة المواكبة لرُوْح العَصْر - على حَدِّ زَعْمِهم - وتَخَيُّر المُتُون النَّبَوِيَّة المُوائِمة لأَمْزِجة أَهْل كُل مِصْر وأَعْرافِهم - على حَدْ وَصْفِهم - فجَعَلُوا سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم عِضِين، يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



وأما في مجال الدراسات التاريخية، فلا يَخْفى على مُطَّلِع ما تَغَصُّ به كتابات الدُّعاة إلى مِلَل الكفر من الاستشهادات التاريخية، وما تَطْفَح به أَدَبِيَّات المُبَشِّرين بنِحَل الضَّلال من الرُّكون إلى حكايات الأَخْبارِيين، ومَرْوِيَّات أصحاب المُلَح والنَّوادِر والأَسْمار؛ حيث تُعَدُّ كُتُب التَّوارِيخ - على اختلاف مَناهِج مؤلِّفيها ومَشارِبهم - في مَنْظور تلك الطوائف بمَثابة تُرْبَة شديدة الخُصُوبة، تُثْرَى بحوادثها الأُطْرُوحات الأَيْديولوجِيَّة، ويُتَّكَأ على الوقائِع المَبْثُوثة في ثَناياها تَوْطِيْدًا لدَعائِم المَذاهِب الفِكْرية، اسْتِنادًا إلى غَيْر ثابت من الأخبار، أو اعتمادًا على غير صالح منها للاسْتِدْلال، أو تحريفًا لمَدْلول ما يَصْلُح من الوقائِع الثابتة، أو جَمْعًا بين هذه الدَّواهِي الثلاث، فتُحَرَّف دَلالَة ما لا يَصْلُح للاسْتِدْلال من الأخبار غير الثابتة، وكثيرًا ما يُغَبَّر في وُجوه أهل الحق بمثل هذا التَّخْليط المُرَكَّب، ويُدْفَع في نُحُورِهم بنحو تلك الأَغالِيط المُتَداخِلة.



فهل يُمارِي في مَسِيس حاجة البحوث التاريخية إلى قواعد المُحَدِّثين في الضَّبْط والتَّثَبُّت عاقل؟



وإن كان التَّقَيُّد بقواعد الضَّبْط والتَّحَرِّي في التاريخ دُوْن نَظِيره في الحديث النبوي الشريف، الذي وُضِعَتْ تلك القواعد صِيانةً له من الدَّخِيل أَصالَةً.



فهذه نَماذِج من جِسام المَهامِّ المُلْقاة على عَواتِق فُرْسان الحديث في عصرنا، وهم بدَوْرِهم نَمَوْذَج لشَريحة من الشَّرائح العلمية التي يُرْجَى حُسْن تَوظِيفها لمَلَكاتها العلمية، حِفْظًا للجهود من التَّشَتُّت، وصَوْنًا للطاقات من التَّشَعُّب، وصَرْفًا للهِمَم في مَعالي المَطالِب، والحمد لله رب العالمين.



[1] جاء في قرارات مجمع اللغة العربية: يستعمل بعض الكتاب: العضو الرئيسيّ، أو الشخصيات الرئيسية، وينكر ذلك كثيرون. وترى اللجنة تسويغ هذا الاستعمال بشرط أن يكون المنسوب إليه أمراً من شأنه أن يندرج تحته أفراد متعددة،انتهى.

[2] جمع خِرِّيت، وهو الماهر الحاذق.

[3] أعني وجوب إحسان الظن بالمسلمين، وحمل كلامهم على أحسن محامله.

المصدر: شبكة الألوكة