تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : حكم بيع التقسيط مع زيادة الثمن.للشيخ الفاضل: أبي عبد الباري عبد الحميد العربي الجزائري، نزيل المدينة النبوية، ودولة الإمارات....



أهــل الحـديث
14-01-2014, 04:20 PM
أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




حكم بيع التقسيط مع زيادة الثمن.
للشيخ الفاضل: أبي عبد الباري عبد الحميد العربي الجزائري، نزيل المدينة النبوية، ودولة الإمارات سابقا:





إنَّ الحمدَ لله، نحمَدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا، ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي لـه.
وأشهـدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبدُه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد:
إنّ العِلمَ الشرعيَ المبنيَ على نُصوصِ الكتاب والسُّنة، وعلى الفهم السّلف الصّالح نورٌ يُستثمر لتبصير المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وطهرٌ لأنفسهم من الوساوس والشكوك، وبُعدٌ لهم عن الجدال العقيم، ونصرة لهم على أعدائهم من الكفار والمنافقين، يعرف قيمة العلم الشرعي في إصلاح أحوال الناس من كابد الليالي للتفقه فيه، وحرق البنُّ الأسود صدره لجمع نكت العلماء من بطون مصنفاتهم، ثم قرع الطنابيب، وشمّّر عن ساعد الجد لنشره بين النّاس سيرا على طريقة الأنبياء والرسل، فَطَلَبُ العلمِ الشرعي نعمةٌ عظيمة بعد الإيمان بالله تعالى، حلاوتُها لا تقدر بثمن.
فأين أنت يا من أضعت عمرك في الجدال العقيم، وأهدرت وقتك الثمين في تتبع عثرات أهل الحديث والأثر، وقسَّوت قلبك بقال وقيل من مسيرة السلف في عمارة الأرض بالعلم النافع والعمل الصالح؟
وأين أنت يا من انسقت وراء علماء الكلام وأهل الفكر المنحرف من العكوف على إرث السلف حفظا وتحقيقا ونشرا؟.
إنّ العودة إلى طريقة السّلف الكرام في باب التحصيل والتفقه، ومعرفة آداب الخلاف والتحديث والدعوة إلى الله؛ هو السبيل الأنجع والأنفع لبناء حضارة عريقة قائمة على العدل ونفع البشرية، ولا يتحقق هذا الأمر إلا بالجد في باب التحصيل، والاعتناء بالنوابغ من أبناء الأمة كفالة وتفريغا لطلب العلم، فالعِلم جداول وفنون، وشعب وأبواب، والعمر على تحصيله قصير، فكلما استثمر طالب العلم أكبر وقت من عمره في تحصيل العلم مع الصبر والجلد كان أقرب إلى مشابهة السلف في منهجية الطلب.
فالله نسأل أن يوفقنا للسير على طريق السلف في مدارج التحصيل، وأن يميتنا على التوحيد والسنة، وأن يطهر قلوبنا من كل شبهة وبدعة ومحنة، إنه ربي تعالى ولي ذلك والقادر عليه.
وقد وجدت نفسي مدفوعا للكتابة في بيان حكم البيع بالتقسيط مع زيادة الثمن، في مجتمع يشهد تطورا اقتصاديا ملحوظا، وتنوعا في المعاملات التجارية، مع التّباين الجلي والواضح بين قيمة المعروض في الأسواق والقدرة الشرائية عند الفرد، وانتخبت القول عن البيع بالتقسيط، والفهم الصّحيح لحديث أبي هريرة (من باع بيعتين في بيعة..)، للسؤال المتكرر من أبناء الوطن العزيز عن صحة هذا البيع، ولانتشاره في عصرنا انتشارا كبيرا، ولكثرة التعامل به، واحتياج النّاس إليه في شراء مراكبهم، وتأثيث منازلهم.
وصورتُه: أن يشتري السّلعة من التاجر بثمن مؤجل مُقسَّط، زائد على ثمنها لو عجِّل الثمن حال الشراء.
وهناك سبب آخر جعلني أعمد إلى الحديث عن هذا النّوع من البيع بالخصوص مع شيء من الإيجاز السائغ، وأطرح مادته بين يدي القراء، وإن كان سبقني للتأليف فيه كثر منهم العلامة محمد علي الشوكاني رحمه الله دون أن أقف على جزئه، ومعالي الشيخ الدكتور عمر بن عبد العزيز المترك (م: 1405) ضمن بحثه الذي سمَّاه "الرِّبا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية تحت الباب الثاني: مسائل بين الحظر والإباحة "، وقد اعتنى بإخراجه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، وممن ألّف في الموضوع كذلك الأخ الفاضل حمد بن عتيق، وقد وصلني جزءه "تنبيه المتورعين" عبر بعض الإخوة الفضلاء؛ وأناس آخرون كتبوا في الموضوع لا أحبِّذ ذكر أسمائهم لعور وفساد منهجهم.
قلت: لقد طََرَقْتُ هذا الموضوع بسبب غموض حكمِه في مجتمعنا الجزائري، وغيّابِ قول القائلين من أهل العلم بجواز هذا النوع من البيع عن الساحة العلمية، والانتشار الواسع لقول المانعين بين بعض طلبة العلم البارزين وأبناء المسلمين في الجزائر، الذي مفاده أن البيع بالتقسيط على الصورة السالفة نوع من أنواع الربا، معتمدين في فتواهم على ما حرره الشيخ العلاّمة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله عند كلامه عن حديث أبي هريرة (من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا)، الذي أورده في الصحيحة (5/419 برقم2326)، والإرواء (5/150)، وعلى حاشية صحيح موارد الظمآن إلى زائد ابن حبان (1/456)، أو ما قلّدوا فيه عبد الرحمن عبد الخالق المصري في جزئه "القول الفصل في بيع الأجل"، وجزء هذا الأخير لم أقف عليه، ولم أجتهد في البحث عنه، وما أظن هذا يضرني إن شاء الله، بل يكفيني تكحيل العينين بنكت العلامة الألباني رحمه الله المبثوثة في الإرواء والصحيحة وباقي مؤلفاته الأمينة.
وإن كنت أخالف الشيخ رفع الله منزلته يوم الدين في الحكم الذي توصّل إليه في مسألتنا -البيع بالتقسيط مع زيادة الثمن-، فإنّه لزام على هذا عبد الفقير الذي لا يبلغ شأو حامل الإبريق للعلامة الألباني أن يفصح عن قلة بضاعته، ومدى استفادته من العلامة الألباني طيّب الله ثراه في باب البحث والنقاش، وعن كثرة ارتوائه من أدبه الرفيع في ترجيح المسائل، وعن صدره الرحب في الاحتفاء بطلبة العلم والاهتمام بهم، أدركت هذا كلّه حين جالسته رحمه الله في مدينة عمان البلقاء سنة 1994 ميلادية، فوجدت عالما بحرا في العلم، ووالدا رحيما وشفيقا بطلبته، وصبورا على طيشهم، وموجها لسيرهم التعليمي والدعوي، فرحمه الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه.
عَالِمٌ كبير وفذٌّ لو أنفقت جميع عمري في مدح معاليه، وشكر أياديه:
لما كنت أقضي بعض واجب حقه****ولا كنت أحصي من صنائعه عُشرا.
وقد نهجت لجَوْس فصول المسألة الخطوات التالية تقريبا للمعنى وتسهيلا على القرّاء، وبعدا عن الأسلوب الأدبي.
الخطوة الأولي: الكلام عن حديث أبي هريرة من حيث الصحةُ والضَعفُ، والجمعُ لطرقه، وشواهده ليتضح معناه جليا.
الخطوة الثانية: ذكر فهوم أهل العلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطوة الثالثة: ذكر أدلة وأقوال المجيزين لهذا النوع من البيوع.
الخطوة الرابعة: مناقشة أدلة القائلين بالمنع وعلى رأسهم من المعاصرين العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
الخطوة الخامسة: ذكر الراجح في المسألة وفق الفهم الصحيح لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المحفوظ.
وأبدأ مستعينا بالله تعالى فمِنْهُ التوفيق ومنه السداد، ثم مستنيرا بما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الصفدية (1/295): (وقد يشكل الشيء ويشتبه أمره في الابتداء، فإذا حصل الاستعانة بالله، واستهداؤه ودعاؤه والافتقار إليه، أو سلوك الطريق الذي أمر بسلوكها؛ هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى (4/39): (وحقيقة الأمر؛ أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى، طالبٌ سائلٌ، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه ويدلّه، كما قال: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم).
وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى (5/118): (فإذا افتقر العبد إلى الله، وأدمن النظر في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين انفتح له طريق الهدى).
أقول وبالله التوفيق:
الخطوة الأولى:
حديث أبي هريرة: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة).
أخرجه الإمام الترمذي (برقم 1231)، وابن حبان (11/347 برقم 4973) من طريق عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة به.
وأخرجه البيهقي (برقم10878)، والنسائي في الكبرى (6/67 برقم6183)، وابن الجارود في المنتقى (2/181 برقم 600)، والإمام أحمد (2/432)، وابن عبد البر في التمهيد (12/198 طبعة دار الفاروق) من طريق يحي بن سعيد القطان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
وأخرجه الإمام أحمد (2/503)، والبغوي (8/142 برقم2111) من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
وأخرجه البيهقي (برقم 10878) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
قال العلاّمة البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى: (وكذلك رواه إسماعيل بن جعفر، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومعاذ بن معاذ؛ عن محمد بن عمرو).
قلت: وهذا إسناد حسن، محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاس الليثي المدني حسن الحديث كما قال الذهبي رحمه الله.
وقد خالف يحي بنُ زكريا بن أبي زائدة الحفاظَ السالفةَ أسماؤهم ورواه عن محمد بن عمرو بلفظ: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الرِّبا).
أخرجه الإمام أبو داود (برقم 3455 ط/ عوامة)، والبيهقي (برقم 10879)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/313 برقم 20454 ط/ دار الكتب العلمية باعتناء محمد شاهين)، وابن حبان (11/347 برقم 4974)، والحاكم (2/56 برقم 2347 ط/ مقبل بن هادي الوادعي).
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
قال العلامة المحدث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في تعليقه على مستدرك الحاكم النيسابوري: (لم يعتمد مسلم على محمد بن عمرو بن علقمة، ثم الحديث شاذ، فقد خالف يحي بن زكريا عبدَ العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وإسماعيل بن جعفر، ومعاذ بن معاذ، وعبد الوهاب بن عطاء، وعبدة بن سليمان، ويحي بن سعيد؛ كلهم يروونه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيعتين في بيعة) انتهى مختصرا من عون المعبود)اهـ.
قلت: وكلام العظيم آبادي في العون (9/261): (..وبهذا يُعرف أن رواية يحي بن زكريا فيها شذوذ كما لا يخفى).
وقد حَمِل بعضُ أهل العلم على محمد بن عمرو بن علقمة.
قال العلامة الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري (م656هـ) في مختصر سنن أبي داود (5/98 –ومعه معالم السنن للخطابي): (في إسناده: محمد بن عمرو بن علقمة، وقد تكلم فيه غير واحد.
والمشهور عن محمد بن عمرو من رواية الدّراوردي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري؛ أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيعتين في بيعة)اهـ.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في النيل (5/173): (محمد بن عمرو بن علقمة تكلم فيه غير واحد).
وقال الحافظ أبو العلا محمد عبد الرحمن المباركفوري (م:1353هـ) في تحفة الأحوذي (4/488): (وقد تفرد هو بهذا اللفظ، وقد روي هذا الحديث عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم من طرق ليس في واحد منها هذا اللفظ؛ فالظاهر: أن هذه الرواية بهذا اللفظ ليست صالحة للاحتجاج، والله تعالى أعلم)اهـ.
قلت: وإن جاء لرواية يحي بن زكريا شاهدٌ من طريق ابن سرين، عن أنس؛ أخرجه ابن عدي في الكامل (1/282) فلا يمكن أن يفرح به لمجيئه من طريق إسماعيل بن مسلم المكي.
انظر ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي (1/ برقم 945).
إنّ المحفوظ من الحديث أبي هريرة رواية الجماعة عن محمد بن عمرو (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة).
وجاء هذا الحرف من حديث عبد الله بن عمر فيما أخرج الإمام أحمد (2/71)، وابن الجارود في المنتقى (2/181 برقم 599)، والترمذي في الجامع (برقم 1309) من طريق هشيم، أخبرنا يونس بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم، وإذا أُحِلْتَ على مليء فاتبعه، ولا بيعتين في بيعة).
وهذا سند منقطع فإن يونس بن عبيد لم يسمع هذا الحديث بالخصوص من نافع، قال الإمام أحمد في العلل (1/387 برقم762): (لم سمع يونس من نافع شيئا، وإنما سمع من ابن نافع عن أبيه).
قلت: وابن نافع هو عبد الله بن نافع القرشي العدوي المدني، مولى عبد الله بن عمر، قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث، وقال مرة: يخالف في حديثه، وقال مرة: فيه نظر.
تنبيه: قال بعض المحققين إنّ حديث ابن عمر لم يخرجه الترمذي، ولا وجود له في الأصول الخطية، ولهذا لم يذكره ابن عساكر في الأطراف، كما أن المزي لم يذكره في التحفة، ولا استدركه عليه الحافظان العراقي وابن الحجر في النكت، وبسط المسألة حُرِّر في غير هذا المكان، فقول أبي إسحاق الحويني المصري هداه الله في غوث المكدود (2/181): (وهذا الحديث مما فات المزي في تحفة الأشراف (6/253) أن يعزوَه للترمذي وهو فيه كما ترى) يحتاج إلى شيء من الإتقان والعلم عند الله الرحمن.
وجاء اللفظ كذلك من مسند عبد الله بن عمرو بن عاص، فقد أخرج الإمام أحمد (2/175-205)، والبغوي في شرح السنة (8/144 برقم 2112)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/561 برقم 10880)، والدارمي (2/253)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/46)، وغيرهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة).
وهذا إسناد حسن.
وجاء كذلك عن عبد الله بن مسعود موقوفا عليه أنّه قال: (لا تصح صفقتان في صفقة).
أخرجه الإمام أحمد (1/393) من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله يحدِّث عن ابن مسعود أنه قال:
وأخرجه ابن حبان (3/331 برقم 1053)، والبزار (برقم 1278)، وابن خزيمة (1/90برقم 176)، والطبراني في الكبير (برقم 9609)، وابن أبي شيبة (4/312 برقم 20448) من طريق سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود موقوفا عليه.
وأخرجه عبد الرزاق (برقم 14633)، و(برقم14636) من طريق إسرائيل عن سماك موقوفا على ابن مسعود.
وخالف الحفاظَ الثلاثةَ شريكُ بنُ عبد الله النخعي فرواه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج الإمام أحمد (1/398)، والشاشي في مسنده ( برقم 291)، والبزار (برقم 1277) من طريق شريك، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة).
جاء في مسند الإمام أحمد، قال الأسود بن عامر: قال شريك: قال سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو بنسيئة بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.
قلت: وهذا الإسناد منكر من حيث الرفعُ، والحمل فيه على شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة، فهو وإن كان حسن الحديث عند المتابعة فهو يخطأ أحيانا، فقد قال الدارقطني: ليس بالقوي فيما يتفرد به.
وجاء في سؤالات أبي عبد الرحمن السلمي للدارقطني (158)، قال الدارقطني رحمه الله: سماك بن حرب إذا حدث عنه شعبة، والثوري، وأبو الأحوص فأحاديثهم عنه سليمة، وما كان من شريك بن عبد الله، وحفص بن جُمَيْع ونظرائهم ففي بعضها نكارة.
قلت: وهذا من رواية شريك.
ورواه العقيلي في كتاب الضعفاء (3/1004 برقم1290 ط: حمدي السلفي، وهي ليست بتلك الطبعة!) من طريق عمرو بن عثمان الثقفي، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصفقتان ربا).
قال العقيلي: عمرو بن عثمان عن سفيان لا يتابع عليه.
ثم رواه موقوفا من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه قال: (صفقتان في صفقة ربا).
ثم قال عقب الأثر: موقوف، هذا أولى.
انظر لسان الميزان للحافظ ابن حجر (5/359 ترجمة برقم 6376)، ونصب الراية لعبد الله بن يوسف الزيلعي (م:762هـ) (4/20 ط: مؤسسة الريان).
وقال الزيلعي في نصب الراية: وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام؛ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان به موقوفا.
قلت: وقد جاء عن عبد الله بن مسود بلفظ: (صفقتان في صفقة ربا).
أخرج ابن خزيمة في صحيحه (1/90 برقم176)، وابن حبان في صحيحه (3/331 برقم1053) وعبد الرزاق في المصنف (8/138 برقم 14636)، وابن أبي شيبة (4/312 برقم 20449) وغيرهم من طريق سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: (صفقتان في صفقة ربا).
قال سفيان كما عند عبد الرزاق في المصنف: يقول: أن باعه بيعا، فقال: أبيعك هذا بعشرة دنانير، تعطيني بها صرف دراهمك.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/312 برقم20447) من طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن أبي عبيدة، أو عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن عبد الله بن مسعود قال: (صفقتان في صفقة ربا؛ أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة فبكذا).
وأخرجه العقيلي في كتاب الضعفاء (3/1004 ترجمة عمرو بن عثمان الثقفي) من طريق محمد بن عبيد، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: سفيان، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، قال: (صفقتان في صفقة ربا).
إن للعلماء في هذا الإسناد قولين:
الأول: رواية عبد الرحمن عن أبيه، فقد أثبت له بعض أهل العلم السماع من أبيه ابن مسعود، ونفاها بعضهم بالكلية، وبعضهم أثبت له النزر اليسير، والبعض الآخر كابن المديني في العلل أثبت له حرفين، والبعض الآخر كالإمام أحمد بن عبد الله العجلي لم يثبت له إلا حرفا واحدا (محرّم الحلال كالمستحلّ الحرام). انظر تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر (2/526 ط: مؤسسة الرسالة)، والميزان للحافظ الذهبي (2/573 برقم 4902)، وتحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل لولي الدين أبي زرعة العراقي (ص:295 برقم 580 ط: مكتبة الخانجي).
الثاني: حالُ سِمَاك بن حَرْب بن أوس بن خالد الذُّهلي البَكْري أبي المغيرة، فقد قال ابن عدي الجرجاني في الكامل في الضعفاء (3/462): (ولسماك حديث كثير مستقيم إن شاء الله كلها، وقد حدّث عنه الأئمة وهو من كبار تابعي الكوفة، وأحاديثه حسان عن من روى عنه، وهو صدوق لا بأس به).
قلت: سِمَاك بن حرب سيئ الرواية عن عكرمة خاصة كان يلقّن، وحسن الحديث عن غيره ممن روى عنه قبل الاختلاط ما لم يضطرب، فإذا اضطرب فهو كما قال الدارقطني رحمه الله في العلل (13/184 ط: دار ابن الجوزي): (سيء الحفظ).
وقال الإمام النسائي: كان ربما لقِّن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجّة، لأنه كان يُلقّن فيتلقن.
وقال عنه ابن حبان في الثقات (4/339): يخطئ كثيرا.
وسئل عنه الإمام أحمد كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/279 برقم1203) هل هو مضطرب الحديث؟ فقال: نعم.
ينظر كتاب الضعفاء للعقيلي (2/553 تحقيق حمدي السلفي)، وتهذيب الكمال (12/115) للمزي ، وإكمال تهذيب الكمال (6/109) لعلاء الدين مُغلطاي، وتهذيب التهذيب (2/114) للحافظ ابن حجر، والثقات الذين ضُعِّفوا في بعض شيوخهم للأخ صالح بن حامد الرفاعي (ص:216 ط: دار الخضيري)، وإن كان وفقه الله لم يحرر الكلام جيدا عن سماك في رسالته.
فالحفاظ يروون عنه حرف (لا تصح صفقتان في صفقة)، وهي الموافقة لرواية أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن عاص، وأما لفظة (صفقتان في صفقة ربا) فقد اضطرب فيها في رواية أبي الأحوص، عنه، عن أبي عبيدة، عند ابن أبي شيبة في المصنف، ثم رحمه الله جعل تفسيرها مرة من قول عبد الله بن مسعود، ومرة من قول سفيان الثوري، ومرة من قوله، والذي أخشاه والعلم عند الله تعالى أن يكون هذا الحرف من تزين سماك رحمه الله فقد جاء في كتاب العلل ومعرفة الرجل للإمام أحمد من رواية علي بن محمد الصواف، عن عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه (3/321 برقم5428 تحقيق الشيخ الدكتور وصيّ الله بن محمد عباس): (وجدت في كتاب أبي بخطّ يده عن بعض مشيخة لم يُسمِّه، قال: قال لي ورقاء [بن عمير بن كليب]: عرضت على أبي الزناد، وعلى ابن أبي نجيح، قال: وسمعت شعبة يقول: كان سِماك بن حرب رجلا فصيحا، فكان يُزَيِّنُ الحديثَ بفصاحته ومنطقه).
وعلى تقدير صحة هذا الحرف عن عبد الله بن مسعود فإنه لا يخرج عن تفسير أهل العلم السابق، والذي يأتي بيانه أكثر وأكثر في نهاية هذا البحث.
والخلاصة القول: إنّ الحديث أبي هريرة رضي الله عنه ثابت بلفظ (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)، وأما الزيادة "فله أوكسها أو الرّبا" فقد انفرد بها يحي بن زكريا وإن كان حافظا من رجال الكتب الستة، فقد غمز في ثبوتها صاحب عون المعبود، والعلامة مقبل بن هادي رحمهما الله، وهو الصنيع نفسه الذي يفهم من كلام البيهقي في السنن الكبرى (5/560).
الخطوة الثانية:
ذكر تفسيرات أهل العلم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة).
قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (7/300 ط: مؤسسة النداء): (هذا الحديث يتصل متصلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وحديث ابن مسعود، وحديث أبي هريرة، وكلها صحاح من نقل العدول، وقد تلقاها أهل العلم بالقبول، إلا أنهم اتسعوا في تخريج وجوه هذا الحديث على معان كثيرة، وكلٌّ يتأول فيه على أصله ما يوافقه..).
-قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله (م179 هـ) في الموطأ برواية يحي بن يحي الليثي الأندلسي (م244هـ) (2/192 ط: بشار عواد) شارحا لحديث أبي هريرة "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة" الذي أورده بلاغا: (في رجل ابتاع سلعة من رجل بعشرة دنانير نقدا، أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل، قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين: إنه لا ينبغي ذلك، لأنه إن أخّر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن نقد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر التي إلى أجل.
قال مالك في رجل اشترى من رجل سلعة بدينار نقد، أو بشاة موصوفة إلى أجل، قد وجب عليه البيع، بأحد الثّمنين: إنّ ذلك مكروه لا ينبغي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهذه من بيعتين في بيعة.
قال مالك في رجل قال لرجل: أَشتري منك هذه العجوة خمسة عشر صاعا، أو الصّيحاني عشرة آصع، أو الحنطة المحمولة خمسة عشر صاعا، أو الشّامية عشرة آصع بدينار، قد وجبت ليَ إحداهما: إنّ ذلك مكروه لا يحلُّ؛ وذلك أنّه قد أوجب له عشرة آصع صيحانيا فهو يدعها ويأخذ خمسة عشر صاعا من العجوة، أو تجب عليه خمسة عشر صاعا من الحنطة المحمولة، فيدعها ويأخذ عشرة آصع من الشّامية، فهذا أيضا مكروه لا يحلّ، وهو أيضا يشبه ما نهي عنه من بيعتين في بيعة، وهو أيضا ممّا نُهي عنه أن يباع من صنف واحد من الطعام، اثنان بواحد)اهـ. انظر بداية المجتهد (3/1617 تحقيق عبد الله العبادي).
جاء في المدونة الكبرى للإمام عبد الرحمن بن القاسم (م: 191هـ) برواية سُحنون بن سعيد التنوخي (م: 240هـ) (5/1500 تحقيق حمدي الدمرداش محمّد): (قال ابن وهب، وقال يونس: سألت ربيعة ما صفة البيعتين تجيزهما الصفقة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة واحدة، فقلت: ما صفة ذلك؟
فقال ربيعة: يملك الرجل السلعة بالثمنين عاجل وآجل، وقد وجب عليه أحدهما كالدينار نقدا والدينارين إلى أجل، فكأنه إنما يبيع أحد الثمنين الآخر فهذا مما يقارب الربا.
قال مالك وعبد العزيز: وتفسير ما كره من ذلك أنّه ملكك ثوبه بدينار نقدا أو بدينارين إلى أجل تأخذهما بأيهما شئت، وقد وجب عليك أحدهما؛ فهذا كأنه وجب عليك بدينار نقدا فأجزته وجعلته بدينار إلى أجل، أو فكأنه وجب عليك بدينارين إلى أجل فجعلتهما بدينار نقدا، فكل شيء كره لك أن تعطي قليلا منه بكثير إلى أجل، فلا يصلح لك أن تملكهما بذلك يفسخ أحدهما بصاحبه، ومن ذلك أن كل شيء كان عليك فلم يصلح لك أن تفسخه في غيره وتؤخره فلا يصلح لك أن تملك ذلك للخيار فيه، (قال): وحدثني وكيع عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه في الرجل يشتري من الرجل الثوب بالنقد بكذا وكذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فقال: الصفقتان في صفقة ربا. (قال) ابن وهب: قال يونس: وكان أبو الزناد يقول مثل قول ربيعة في البيعتين بالثمنين المختلفين، (قال) مالك: ونهى عنه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أن يشتري بعشرة نقدا أو بخمسة عشر إلى شهر، (قال) ابن وهب: قال مخرمة عن أبيه: وكره ذلك سليمان بن يسار، والقاسم، وعبد الرحمن بن القاسم، ونافع، (قال) ابن وهب عن الليث بن أبي سعيد (قال) وقال يحي بن سعيد: البيعتان اللتان لا تختلف الناس فيهما ثم فسر من نحو ربيعة بن عبد الرحمن)اهـ.
قال أبو عمر بن عبد البر النَّمري الأندلسي (م463 هـ) في الاستذكار (7/302 ط: مؤسسة النداء): (وقد فسّر مالك مذهبه في معنى النهي عن بيعتين في بيعة واحدة، وأن ذلك عنده على ثلاثة أوجه:
أحدهما: العينة.
والثاني: أنّه يدخله مع الطعام من جنس واحد متفاضلا.
والثالث: أنّه من بيوع الغرر، وبنحو ذلك فسره ابنُ القاسم).
-وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي القرشي رحمه الله (م204هـ)، كما في جامع الترمذي (2/514) وغيره: (ومعنى نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجب لكَ داري، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدري كلّ واحد منهما على ما وقعت عليه صفقتُه).
-وقال الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي (م:279) في الجامع الكبير (2/514 ط/ دار الغرب تحقيق بشار عوّاد): (العمل على هذا عند أهل العلم، وقد فسّر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة؛ أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرةٍ، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما، فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدٍ منهما).
-وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحّاوي الحنفي (م321) في شرح معاني الآثار (4/47): (قالوا: فالبيع في نفسه شرط آخر، فكان هذا شرطين في بيع، فهذا هو الشرطان المنهى عنهما عندهم، المذكوران في هذا الحديث.
وقد خولفوا في ذلك فقيل: الشرطان في البيع؛ هو: أن يقع البيع على ألف درهم حال، أو على مائة دينار إلى سنة، فيقع البيع على أن يعطيه المشتري أيهما شاء، فالبيع فاسد، لأنه وقع بثمن مجهول)اهـ.
-وقال العلاّمة أبو سليمان حمد بن محمد البستي الخطابي (م 388هـ) في معالم السنن (5/97-98 ط: دار المعرفة بيروت): (لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل.
وإنما المشهور من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنّه نهى عن بيعتين في بيعة).
حدثنا الأصم، قال: حدثنا الربيع، قال: حدثنا الشافعي، قال: حدثنا الدّاروردي، عن محمد بن عمر.
وحدثونا عن محمد بن إدريس الحنظلي، حدثنا الأنصاري عن محمد بن عمرو.
فأما رواية يحي بن زكريا عن محمد بن عمرو، على الوجه الذي ذكره أبو داود: فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه؛ كأنه أسلفه دينارا في قفيزين إلى شهر، فلما حلّ الأجل وطالبه بالبُرّ، قال له: بعني الذي عليّ بقفزين إلى شهر، فهذا بيع ثان قد دخل في البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما، وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الأول الثاني قبل أن يتقابضا الأول كانا مربيين.
قال الخطابي: وتفسير ما نهى عنه من بيعتين في بيعة على وجهين:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بخمسة عشر، فهذا لا يجوز، لأنه لا يدرى أيهما الذي يختاره منهما فيقع به العقد، وإذا جهل الثمن بطل البيع.
والوجه الآخر: أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرين دينارا على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضا فاسد، لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا، وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه، وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن، وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولا)هـ.
-وقال العلامة الفقيه الحسين بن مسعود البغوي (م 516) في شرح السنة (8/143ط: المكتب الإسلامي): (وفسروا البيعتين في بيعة على وجهين:
أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشر نقدا، أو بعشرين نسيئة إلى شهر، فهو فاسد عند أكثر أهل العلم، لأنه لا يدرى الثمن، وجهالة الثمن تمنع صحة العقد......
والوجه الآخر من تفسير البيعتين في بيعة أن يقول: بعتك عبدي هذا بعشرين دينارا على أن تبيعني جاريتك فهذا فاسد، لأنه جعل ثمن العبد عشرين دينارا، وشرط بيع الجارية وذلك شرط لا يلزم، وإذا لم يلزم ذلك، بطل بعض الثمن، فيصير ما بقي من البيع في مقابلة الباقي مجهولا، ومن هذا الباب لو قال: بعتك هذا الثوب بدينار على أن تعطيني به دراهم لا يصح...)اهـ.
الخطوة الثالثة:
ذكر أدلة وأقوال المجيزين لهذا النوع من البيوع.
قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ﴾. وهذا نصّ عام في جميع البيوع حتى يقوم الدليل المحكم على التحريم البيع بالتقسيط مع زيادة الثمن، وما استدل به المانعون قد مرّ بك أن بعضه لا يصح، وما صحّ منه فسره العلماء على خلاف ما ذهب إليه المانعون.
وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾.
إذا كانت البضاعة نقدا بثمن، ونسيئة بثمن آخر أزيد، ووقع البيع على أحد الصورتين بالتراضي بينهما، فهذا ليس بيعتين في بيعة، وإنما هي بيعة واحدة بسعر واحد، فعرض الثمنين لسلعة واحدة لا يسمى بيعا حال العرض، إلا أن يشتري الزبون البضاعة، فإذا اشترى بأحد السعرين وافترقا، فهي بضاعة واحدة بسعر واحد، وإنما الإشكال إذا اشترى دون أن يعين أحد السعرين ثم افترقا فهذا الذي يقع عليه نص أبي هريرة، وأثر عبد الله بن مسعود.
-روى الحافظ الكبير أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني في مصنفه (8/136 برقم14626) قال: أخبرنا معمر عن الزهري، وعن ابن طاووس عن أبيه، وعن قتادة عن ابن المسيب، قالوا: لا بأس بأن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة إلى شهر، أو بعشرين إلى شهرين، فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به).
قلت: الأثر إلى الإمام الزهري صحيح، وإلى الإمام طاووس ثابت ويشهد له ما أخرج عبد الرزاق (برقم 14628)، وأبو بكر بن أبي شيبة الكوفي في المصنف (4/312 برقم20451) من طريق حفص بن غياث، عن ليث، عن طاوس أنّه سمعه قال: لا بأس به إذا أخذه على أحد النوعين.
وأثر سعيد بن المسيب فيه نظر فقد قال الإمام أحمد: أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب ما أدري كيف هي، قد أدخل بينه وبين سعيدا نحوا من عشرة رجال لا يعرفون. انظر تحفة التحصيل (ص: 420 ط: مكتبة الخانجي).
-وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (4/312 برقم 20452) قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن طاوس، وعن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عطاء قالا: لا بأس أن يقول هذا الثوب بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، ويذهب به على أحدهما.
والإسناد إلى طاووس صحيح كما مر، وإلى عطاء بن أبي رباح لا غبارة عليه.
-وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (4/313 برقم20453) قال: حدثنا يحي بن أبي زائدة، عن عبد الملك، عن عطاء في رجل اشترى مبيعا ثم قال: ليس عندي نقد هذا، أشتريه بالنسيئة، قال: إذا صار كالبيع اشتراه إن شاء.
قلت: هذا إسناد لا بأس به، وعبد الملك هو بن أبي سليمان العرزمي، وثقه طائفة من أهل العلم، ولم يتكلم فيه إلا شعبة بن حجاج الوردي من أجل حديث واحد تفرد به عن عطاء عن جابر مرفوعا: (الجار أحقّ بشفعته، ينتظر به وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحد).
وقد دافع الحفاظ عن عبد الملك ولم يعتمدوا قول شعبة فيه، فقول الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق له أوهام فيه نظر والله أعلم، وبسط الحديث عن عبد الملك، والشفعة للغائب يحرر في غير هذا الموطن والله الموفق.
-وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (4/312 برقم 20456) بإسناد صحيح قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت الحكم وحمادا عن الرجل يشتري من الرجل الشيء فيقول: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان إلى اجل فبكذا، [قالا]: لا بأس إذا انصرف على أحدهما، قال شعبة: فذكرت ذلك لمغيرة فقال: كان إبراهيم لا يرى بذلك بأسا إذا تفرقا على أحدهما.
-وأخرج عبد الرزاق (8/138 برقم 14632) بإسناد صحيح عن سفيان الثوري قال: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار ما لم يكن وقع بيعٌ على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا [أي دون تعين] فهذا مكروه، وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود، وهو الذي ينهى عنه، فإذا وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين.
-وأخرج عبد الرزاق في المصنف (8/137 برقم 14630) قال: أخبرنا معمر عن أيوب، عن ابن سرين أنه يكره أن يقول: أبيعك بعشرة دنانير نقدا، أو بخمسة عشر إلى أجل، قال معمر: وكان الزهري وقتادة لا يريان بذلك بأسا إذا فارقه على أحدهما.
وله شاهد أخرجه ابن أبي شيبة (4/312 برقم 20449) قال: حدثنا الثقفي، عن أيوب، عن محمد بن سرين أنه كان يكره أن يستام الرجل السلعة يقول: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا.
وجاء في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح المسألة (برقم 298) قلت: الرجل يبيع المتاع فيقول: أبيعك بالنقد بألف، وإلى شهر بألف ومائة، وإلى شهرين بألف ومائتين؟ قال: هذا مكروه إلا أن يفارقه على أحد البيوع.