المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السر وحقائق أخرى ........



omar_moosa
21-05-2007, 05:04 PM
حين انزلقت من بطن أمي صرخت على امتداد فمي

الضوء يفضحني بعيون ثاقبة حاقدة ، والهواء من حولي سياط جليدية آثمة .

أغمضت عيني وكوّرت جسمي . خيل لي أن الأشياء تتظاهر ضد وجودي ، حتى النساء ، أولئك اللواتي

أشرفن على ميلادي أنكرن قدومي . لم أسمع زغرودة واحدة ، بل بكاء ونشيجا .

وتناهى إلي صراخ امرأة تولول : تبا لك .. عليك اللعنة .

وقالت أخرى : ليتك لم تولد .

وقالت ثالثة : لولاك لم تمت .. أيها الشيطان أنت السبب .

هكذا إذن ، شيطان يولد ، وأم تموت ، وأنا السبب .

الأغبياء ؟ لماذا لا يكون أبي السبب ؟

أبي ؟ كم كان بودي أن ألمح وجهه ، أن يواسيني .. علّه يبدّد ضباب حزني ، ويذود عني ما ألم بي من كرب وشعور قاهر .

لكن اليوم مضى دون أن يمّر بي .

حين هبط الليل ، كان البيت يجثم في صمت مفزع ، إلا من زفرات وحشرجات رجل يصول حولي .

لا بد أن يكون أبي ، فليس من سواه في المنزل ، حاولت أن أتبين ملامحه ، لكن عينيّ مغمضتان بإحكام

والظلام يبتلع المنزل .

عبثا أحاول أن أتميزه ، .. شعرت بدفء أنفاسه تكتم أنفاسي ، ثم أحسست بساعدين صلبتين تسحبانني

من على السرير . لم أحرك ساكنا ، كان الفزع يلقي بي في قفار واجم .

انطلق الرجل بي يا إلهي : ماذا يريد بي ؟

أحاول أن أتظاهر وكأن الأمر لا يعنيني ، لكن صفع الريح يجلدني ، فأرتجف بشدة

كان الوقت يمر بطيئا ثقيلا ، والرجل يشق ركام الليل حتى تجاوز أطراف القرية 0

توقف أمام كومة من النفايات . هناك .. ألقى بي ، وعاد أدراجه دون أن ينبس ببنت شفة

هذا ما أذكره من يوم ميلادي ، لكن تساؤلين ما برحا وجداني .

الأول : كيف أكون أنا السبب في موت أمي ؟

والثاني: لم يقذف بي في القمامة ؟

حاولت أن أقنع نفسي بأن لا حول لي في أمر أمي ، بل حاولت أن أجد من يشاركني ذات الشعور .

حين أصبحت في الخامسة من عمري ، سألت المرأة التي كانت قد أنقذتني من القمامة ، وأودعتني منزلها:

استحلفك بالله : هل كنت أنا السبب في موتها ؟

قالت بنبرة تستحوذ العطف والإشفاق : يا بنيّ : كان ذلك أمرا مقضّيا .

أمرا مقضيا.. ما أروع ذلك . كنت أدرك أني لست جانيا ، أيا كان السبب ، فلست أنا المذنب .

أما التساؤل الثاني فأرقني وأقض مضجعي . وبسبب ذلك ، وحتى ينجلي لي أمري ، فإني أتغمد

سكينا ، مترصدا باب بيته .. سوف أرغمه على قول ما تكتّم عليه .

لا بد أن أفض سّره .. فأنا ما كنت أحمل سكينا لأبي إلا ليقيني بأنه الوحيد الذّي يمكن أن يفسّر لي

ما يعتّل في نفسي .

كم تساءلت وسألت : لكن أحدا لم يجبني .

المرأة التي كانت قد ذادت عني شبح الموت ، حين سألتها لاذت بالصمت ، حتى رفاقي كنت أقرأ في

ملامحهم سخرية واستنكارا .

يا للسخف ، من ينكر عليّ أن أستجلي همي ؟ لماذا يحدجونني بنظرات غامضة .. لا بد أنهم يعرفون السر

.. لا ..لا .. هو الوحيد الذي يكظم أمر حالي .. ولذلك فإني أحمل له سكينا .

طالما حاولت فيما مضى أن أستعطفه ، أن أسترضيه ، علّه يصغي إليّ .. لكنه آثر أن يردعني .

كم أنت غريب الأطوار يا أبي ؟ أعترف أني حائر بك جاهل لأمرك .

كل ما أعرف أنك .. بعد رحيل أمي تزوجت من امرأة أخرى .. أتراها كانت السبب ؟

كلّا .. لا أظن ذلك . فإن من حاول وأدي لا يحتاج إلى تحريض من أحد .

كان لا بد لي من أن أبحث عمن يمد لي يد العون .

لم أتردد ، سألتها ، فإنها أدنى الناس إلى نفسي .. بنت الجيران ، أجل : تلك التي كنت قد اختلست منها

قبلة ، فعاهدتني على صفاء الود حتى الموت .

: أتعرفين لماذا ألقى بي في القمامة ؟

ضحكت حتى لمعت نواجذها .. حدجتني باستنكار ..: ما دهاك ؟ قالت متسائلة .

: أتوسل إليك ، ألا تعلمين السبب ؟

قالت وهي تداري ابتسامة حرصت أن تكتمها : متى كان ذلك ؟

قلت : يوم ميلادي .

قذفتني بنظرة ساخرة ، لكنها تداركت نفسها ، وهمست لي برفق لا يخلو من الكلفة : من فعل بك ذلك ؟

قلت : أبي .

سحبت ناظريها عن وجهي .. استدارت وهي تتمتم : أنت مخبول .

القذرة .. هجرتني ولم أرها بعد ذلك ، تنكرت لي ومضت .

هكذا هم : بعضهم يرفض أن يصغي إلي ، وبعضهم ينكر عليّ قولي .

ليس أمامي سوى أبي : إنه الوحيد الذي يتسنى لي أن أرغمه على الاعتراف ، علّني أتحرر من لعنتي.

ما زلت أتحين فرصة علّني أنقض عليه ، تشتد يدي على مقبض السكين .. الغرفة التي يرقد فيها كأنها

موصدة .

سوف أنتظر .. وفي الوقت المناسب …..

تناهت إلى أذني تمتمات غير واضحة ، حشرجات وسعال خافت .

سمعت أكرة الباب تدور ، ينبلج الباب قليلا ، أخيرا أتيحت لي الفرصة .. إنه يرقد على السرير ،

بضع خطوات تفصلني عنه ، حان وقت الحساب يا أبي . سوف أنقض عليك ، وأشهر السكين

في وجهك ، لا تخف .. فأنا لا أروم منك سوى الحقيقة .. وإلا ..

كنت منغمسا في أفكاري إذ دوّى صراخ ارتجت له أركان الغرفة .. مات .. مات

مات : أبي مات .. تيار بارد كان يسري في أوصالي ، وخدر غريب ينساب في عروقي

يممت شطري نحو السرير .. تجاهلت نظرات المرأة الواجمة .

تفرست ملامحه بإمعان ، شفتاه مطبقتان بإحكام ، وقسمات وجهه متقبضا جامدا .

شعرت بيتم كافر . تمتمت وأنا ألقي عليه نظرة أخيرة :

أبي .. إني حزين حتى الموت .

omar_moosa
22-05-2007, 04:31 PM
كان لا بد لي من أن أبحث عمن يمد لي يد العون .


لم أتردد ، سألتها ، فإنها أدنى الناس إلى نفسي .. بنت الجيران ، أجل : تلك التي كنت قد اختلست منها

قبلة ، فعاهدتني على صفاء الود حتى الموت

omar_moosa
22-05-2007, 04:35 PM
: أتعرفين لماذا ألقى بي في القمامة ؟

ضحكت حتى لمعت نواجذها .. حدجتني باستنكار ..: ما دهاك ؟ قالت متسائلة .

: أتوسل إليك ، ألا تعلمين السبب ؟

قالت وهي تداري ابتسامة حرصت أن تكتمها : متى كان ذلك ؟

أمل عبدالعزيز
31-05-2007, 07:44 AM
,
,
,
الرائع / عمر موسى

واصل سردك الرائع ...
متابعون لك

دمت بخيــــر

omar_moosa
03-06-2007, 10:05 PM
أمل عبد العزيز .........


لك في كل ركن ....... بهجة وائتلاق ......

حيث أجدك .. أطمئن لسلامة موضوعي

وجودة ما نزفت ...

لك الغيث والخير