أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قراءة جديدة لمرض القولون وعلاجه
قبل أيام ناقشني بعض طلبتي عن سبب وفاة الإمامين الشافعي (ت: 204هـ ) وابن حجر(ت: 852هـ ) رحمهما الله تعالى ، وعلاقة مرضهما بِعلة القولون ، فانقدح في ذهني تأصيل هذه المسألة بإجمال.


لاحظتُ من خلال إستقراء ما كُتب حول مرض القولون أن ما دُوِّن عنه لم يفِ بالغرض من الوجهة الشرعية ، وقد يكون مستوفىً من الوجهة الطبية العلاجية ، وفوق كلِّ ذي علم عليم .


تكمن أهمية هذا المقال في التعرُّف على مهمات الأحكام الشرعية المتعلِّقة بهذا المرض ، والوقوف على موارد الأدلة وقواعدها المؤدِّية إلى التعافي منه .


وقد تقرر عند الأصوليين أن بعض المأمورات لا يصح فيها التخييِّر وتكلُّف الطلب . ومن ذلك التجربة على المرضى وتخيُّر الأدوية بدون ضابط من الشرع ، كما هو حال مرضى القولون ، فبعضهم له عشرون سنة يتنقل بين الأدوية وعلاجه الناجع أقرب إليه من شسع نعله ! .


كثير من الناس أسرفوا في الإقبال على تناول أغدية مُحدَّدة وامتنعوا عن أغذية أُخرى طلبًا للشفاء من هذا المرض ، لكن دون جدوى .


وفي نفس الوقت تم إهمال كثير من الأوامر الشرعية المتعلِّقة بالمرض ، فاستفحل الداء وطال زمنه ، وأضحى كثيرٌ من الناس يخرجون من الباب الذي دخل المرض منه ، فلا المرض تم علاجه ، ولا أسبابه عُرفت وتم اجتنابها .


بعض الأمراض التي يطول أمدها مع الإنسان يكون سببها مخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام والشراب ، أو مخالفة قاعدة نبوية في الغذاء ، أو إيذاء البدن بهواء أو بغذاء لم يعتد عليه ، أو بطاعة النفس في التهام كُّل شهيِّ ولذيذ ، دون مراعاة ضرره على البدن ، ونحو ذلك من المخالفات . وقد تقرر عند الأصوليين أن الاستطاعة الموجبة للفعل يأثم صاحبها إن فرَّط فيها وهو عالم بحدودها . وقد قال الله تعالى : " ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون " ( هود : 20 ) .


قواعد علم الطب الحديث التي تُسمَّى بنظريات العلم التجريبي هي التي أفسدت كثيراً من عافية الناس ، فأضحت الأبدان ضعيفة تُؤذيها نسمة الهواء العليلة ويُؤرِّقها جريان الماء في عروق النبات ، ولهذا باتت الأبدان لا تعرف طعم العافية إلا بتناول العقاقير الكيمائية الحديثة .
ومما زاد الطين بِلة تنافس الشركات الطبية الحديثة في الترويج لكل عقار جديد خُلط بالمواد المصنعة لإدمان الأبدان على تناولها كل حين.


وقد حدثني بعض الأطباء أن سُموم الأدوية تُؤثِّر في البدن ولو بعد عشرات السنين.

والمعضلة أنه لا يمكن الإستغناء عن العقاقير الحديثة ، لأنها اختلطت بدم الإنسان وعظامه وأصبحت ضرورة شرعية وعادة طبية للتداوي ، لكن الخطأ في الإسراف في تناولها ووصفها لكل مريض ومعتلِّ ، وكأن المرضى شربوا من كأسٍ واحد .


يبدأ مرض القولون من الناحية الشرعية بسبب اعتلالات نفسية : حزن وقلق وخوف وهموم متراكمة في الصدر وساوس ، وتستحيل هذه العِلل مع الوقت لإحداث آلام مزمنة ومتقطِّعة في الجهاز الهضمي مع اصفرار الوجه وشحوبه .


مِحور الداء يبدأ من هذه العِلل الخمسة ، وإن طالت هدمت أعلى الجهاز الهضمي وأسفله ، فأحدثت نزيفاً وصديداً مزمناً.
والطب الحديث فشل في رصد علاج لهذه العِلل ، فيجب على المريض التفطُّن لمولِّداتها والحذر من استفحالها ومجاهدة النفس على التقليل منها أو قطع أسبابها . فمعرفة الداء نصف العلاج كما يقال .
المستحضرات العشبية التي تُوصف لمريض القولون تُخفِّف من الداء لكن الألم الرئيس لا يزول إلا بزوال سببه .


ولهذا فإن أنجع وسيلة للقضاء على هذا الداء يكون بتسلية المريض وادخال السرور على نفسه والترويح عنه بالكلام المباح والمزاح الذي يجلب السرور ، وتطييِّب خاطره بما يفرحه ، مع الإستغفار في السَّحر .


ولهذا فإن الطفل إنما ينشأ وتستقيم طباعه على ما عوَّده أهله وبيئته في الخِلال الخمس المُتقدِّمة ، والعكس بالعكس .


وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل من نبَّه على هذا المسلك في علاج الإعتلالات النفسية وما تُسِّببه من أدواء مزمنة كالحزن والإحباط وكراهية الناس ، ونحو ذلك .


فقد كان المعصوم يصف للمرضى ما يُسمَّى بالتلبينة كما في المرفوع ": التلبينة مُجمَّة لفؤاد المريض ، تُذهب ببعض الحزن" متفق عليه .
والتلبينة هي الدقيق مع العسل.ويسمى عندنا في قريتنا " المعفوس " !


تهيجات القولون وما تُسبِّبه من إفرازات للجهاز الهضمي هي أثر الحزن والخوف والقلق والتفكير في الماضي والحاضر والمستقبل .


ولن تزول هذه الأعراض ومخلَّفاتها إلا بالثقة بالله تعالى وحسن الظن به والتوكل عليه والإبتهال إليه وعدم التفكير في مدح الناس وذمِّهم .
ومن تأمل قصة يعقوب عليه السلام في حُزنه على يوسف عليه السلام أدرك كيف يكون أثر التفكير الإضطراري على بدن الإنسان ومشاعره وأعضائه .


من أعظم أسباب الشفاء من القولون تربية النفس على الرضا وعدم الغضب والكره ، إلا ما لا طاقة للإنسان على دفعه .


ومن تأمل تعلُّق الأحكام بمراعاة حال البدن ، كحكم طلاق الغضبان وحكم قضاء الحاكم حال غضبه ، وصلاة مدافع الأخبثين ونحوها ، عرف دقة الشرع الحكيم في مراعاة حفظ المشاعر ، لحفظ البدن من الإختلال .
ومما يُنفِّس على المريض داءه أن هذا المرض خيرٌ لصاحبه، إفهامه أن وجعه من آثار الهِمم السامقة والعزائم الصلبة .


فمن قرأ سيرة بعض العلماء كابن حزم ( ت: 456هـ) والعز بن عبد السلام( ت: 660هـ ) وابن تيمية (ت: 728هـ ) وأحمد شاكر( ت: 1377هـ ) ومحمود شاكر(ت: 1418هـ ) والألباني(ت: 1420هـ) وابن عثيمين (ت: 1421هـ) رحمهم الله تعالى، وغيرهم من النبهاء ، يلحظ عوارض هذا الأمر في هِممهم وأبدانهم من خلال سيرتهم وتأريخهم ، فقد كانت تعتريهم حِدَّة في الأخلاق بسبب طول البحث والنظر في المسائل والتصدُّر للنوازل ، ولن يخلو الجسد من آثار ذلك ولله في خلقه شؤون .

وهذا مصداق قول الشاعر :
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مُرادها الأجسامُ
وقول الشاعر :
ولكل جسم في النحول بليٌة
وبلاء جسمي من تفاوت هِمتي

يغيب عن أذهان من ابتلوا بهذا الداء أن القولون لا يمكن التعافي منه إلا بالتوازن النفسي والغذائي ، بمعنى أن لا يُفكِّر الإنسان في تحقيق ما هو أعلى من قدراته وملكاته ، وأن لا يستغرق في محاولة إصلاح ما لا يستطيع إصلاحه ، فالمُدبِّر هو الله ، وكل شي يسير في الكون بتقدير الله ، وعلينا العمل وعلى الله التيسير .

فمحاولة تغيير سنن الله أو تبديلها تُفسد البدن وتوهن القُوى .
والرِّضا مع العمل هو الترياق الشافي بإذن الله .


والتوازن الغذائي يكون بعدم إرهاق البدن بالمأكولات دفعةً واحدة بشحومها ولحومها ، أو النوم بعد الشِّبع ، أو إدخال الطعام على الطعام ، مما يُسبِّب الأخلاط الفاسدة في جوف الإنسان ، وربما الوفاة .
يعاني بعض مرضى القولون من شدة تجمع الغازات في البطن وضغطها على البدن مما يفسد الطهارة والصلاة على صاحبها ، وقد جوَّز الشرع لهذه الحالة الوضوء عند وقت الشروع في الصلاة دفعاً للحرج ، والجمع بين الصلاتين ، ويكون حضور الجمعة والجماعة مُتعيِّناً حسب الإستطاعة .


وقد قال العلامة العيني (ت: 855هـ ) رحمه الله تعالى :" ويُلحق بالمستحاضة ما في معناها،كمن به سلس البول والمذي والودي ، ومن به جُرح يسيل" .

والقاعدة هنا : أن من كان به مرض يخاف معه تلف النَّفس أو تلف عضو، أو حدوث مرض يخاف معه تلف النَّفس أو تلف عضو أو فوات منفعة ، فهذا يجوز له التيمم لقول الله تعالى : "وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" )النِّساء: 29) .


ومن كان به مرض لا يقدر معه على الحركة ولا يجد من يناوله الماء جاز له التيمم .
أما إسهال وإمساك القولون فهما مما يُبيحا لصاحبها الترخُّص من أداء الواجب في وقته وصفته المعهودة ، فيتطهر بقدر طاقته ويُصلِّي حسب حاله .


ولهذا عُرف بين العامة والخاصة أن صاحب القولون مما يُطيل المكث في المستراح ، فتكون رخصته دفعاً لمشقته ، وعُرف أيضاً بعجزه عن الجلوس الطويل في المجلس على هيئة التربيع ، لأن هذه الجلسة تحدث آلامًا لصاحبها وعدم طمأنينة في البطن .


وقد اتفق أكثر الفقهاء على أنه يُباح الفطر – حال الصيام - للمريض الذي يتضرَّر بالقولون ، إذا كان يؤخِّر الصوم شفاءه أو يزيد في مرضه، ويلزمه أن يقضي عدد ما أفطر من أيام رمضان عند التمكُّن من ذلك، لقول الله تعالى: "فَمَن كَانَ مِنْكُم مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" (البقرة:184 ).
وإن قرَّر الطبيب الثقة بأن القولون لا يُرجى برؤه، فيلزم أن يخرج عن كل يوم كفارة، وهي إطعام مسكين مداً من طعام، وهو ما يعادل (750 جراماً ) تقريباً ، ولا قضاء عليه .


وفي الختام أُنبِّه على ما قرَّره الأصوليون من أن المندوب قد يُقدَّم على الواجب أحياناً . وعليه فيجب تقديم الأخذ بأسباب العافية السالفة على تناول العقاقير الطبية ، فقد يطول الداء وأسباب العافية معلومة لكنها مهجورة . ومقيِّد هذه السطور يعرف من تعافى من هذا المرض في أيام قليلة ، ومنهم من حُرم العافية إلى هذه الساعة . والحمد لله على ألطافه .

نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين . هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .


أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة