أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


ولما أدرك السلف رحمهم الله تعالى هٰذا شمروا عن أيديهم في طاعة الله سبحانه وتعالى واجتهدوا فيها لأنهم يعلمون أن الدنيا آيلة إلى زوال، وأنهم منها إلى ارتحال، وامتثلوا قول علي رضي الله عنه الذي علقه البخاري في كتاب الرقاق ووصله أبو نعيم الأصبهاني في «الحلية» بسند صحيح قال: يا أيها الناس إن الدنيا ولت مدبرة وإن الاخرة جاءت مقبلة، وإن لكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا.

ومن رأى حال السلف وأدمن مطالعة أحوالهم هان عليه هٰذا الأمر، ولأجل ذلك ذكر جماعة من أهل المعرفة والإيمان كأبي الفرج ابن الجوزي وأبي عبد الله ابن القيم أن من الأسباب التي تحصل بها رقة القلب وتهوّن بها هٰذه الدنيا إدمان مطالعة أحوال السلف رحمهم الله تعالى وقراءة قصصهم وأخبارهم.

فينبغي أن يكون لطالب العلم حظ من قراءة سير أولئك، وأن يكثر من ذلك، وفيهم عظماء كما ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أفردهم بالتصنيف لما في أخبارهم وأحوالهم ما يزيد الإيمان ويرسّخ الإيقان منهم الحسن البصري وأحمد ابن حنبل وسعيد بن المسيب بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المرء إذا رأى أحوالهم وما هم عليه من الكمالات هانت عليه هٰذه الدنيا وحرص على التشبه بهم.

ومن طالع من بعدهم من أهل الإيمان والعمل قوي قلبه على ذلك كمن يقرأ سيرة عبد الغني المقدسي الحافظ، وقد أفردها الضياء في جزأين، ونقل كثيرا من كلامه الذهبي رحمه الله تعالى في «سير أعلام النبلاء».

ومما يؤسف له أن كثيرا من طلبة العلم ينظر مثل هٰذه المآخذ الإيمانية بعين لا يأبه بها، فيرى أن القراءة في كتب الرقاق والسير والحكايات والأخبار إنما هي حظ الدّهماء أو الجهال أو عموم الناس أو المنسوبين إلى طريقة ضلال.

وهٰذا من جهله بحقيقة الديانة، فإن الفقه في الدين أصله كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتاب «المقاصد» شامل لهٰذا وغيره، ومن أعظم ما ينبغي أن يصوم الإنسان نفسه فيه حال قلبه ونفسه، وإذا أهمل ذلك تقلبت عليه، وأخطر ما يكون التقلب إذا اشتغل الإنسان بسبب يقربه إلى الله فكان سببا في تبعيده عن الله، كمن يعمل الصالحات فيرائي بها فإن عمله للصالحات على وجه المراءات آل به إلى تبعيده عن ربه عزوجل.

ومثل ذلك طالب العلم الذي يشتغل بتحصيل العلم؛ لكنه يقف مع صورته ولا يكون العلم حاملا له على التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

وهٰذا حال أكثر الناس كما قال أبو الفرج رحمه الله تعالى في «صيد الخاطر»: رأيت أكثر الناس واقفين مع صورة العلم لا حقيقته، فهم الواعظ كثرة الناس.. إلى آخر ما ذكر.

وله أيضا فصل في «صيد الخاطر» يقول فيه، تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة.

فأخبر رحمه الله تعالى أن العلم ربما يورث طالبه قساوة إذا وقف مع صورته، ولم يكن ذلك العلم حاملا له على العمل.

ثم قال بعد ذلك: ففهمت والحالة هٰذه أنه لا بد من تلذيع النفس بأنواع من المرققات تلذيعا لا يخرجها عن كمال التشاغل بالعلم . اهـ

فينبغي أن يشتغل طالب العلم بترقيق نفسه بالقراءة في كتب الرقاق وزيارة الصالحين وعيادة المرضى وزيارة القبور، فإن هٰذه المرققات تلين قسوة قلبه التي تعتريه بسبب وقوف أكثر الناس مع صورة العلم.

وهٰذا حال الناس من قبل ومن بعد في العلم، فهم لا يرون من العلم إلا مسائله وأما حقائقه وأثره في النفوس فهٰذا قليل، حتى آل الحال إلى الناس إلى أن يقرأ الإنسان في كتب العقائد فيظنها تخاطب عقله ولا تخاطب وجدانه.

فيمر على عذاب القبر ويحفظ فيه خلاف المعتزلة ونسبة إنكار عذاب القبر إلى بعض فرقهم لا إلى جميعهم، وغير ذلك من المسائل؛ لٰـكِـن لا يثمر ذلك في قلبه شهود هٰذا الأمر العظيم، فتكون دراسته لهٰذه العلوم على وجه يقسي قلبه ولا يلينه.

ولو أن الإنسان كانت له بصيرة لرأى أن كل علم آليّ أو أصلي يُرشده إلى الله سبحانه وتعالى، فإن العلم ميراث النبوة، ونور العلم هو الهادي إلى صراط المستقيم، وكل قبس من الأقباس المنصوبة على ذلك الطريق هي هادية إلى مزيد من النور، ولو أن الناس تعاطوا العلوم بهذه الطريق لأثمر ذلك في قلوبهم الخير الكثير، سواء كان العلم الذي يتناوله الإنسان أو يتعاطاه علما أصليا أو علما آليا.

ومن صرْف القلوب عما ينفعها زهد كثير من طلبة العلم كما سلف في هٰذا الأمر وعدم قيامهم به، ولا رفع الراس إليه وقد كان يقرأ في حلق العلم فيما سلف في البلاد النجدية مثلًا كتاب «الزهد» للإمام أحمد وكان عامة الأشياخ الكبار لا يقطعون قراءته فإنهم إذا انتهوا منه قرؤوه مرة أخرى في حلقة الدرس وهكذا.

وأما طلبة العلم اليوم فإنهم يرون أن كتاب الزهد فيه كثير من الإسرائيليات والأحاديث الضعاف والحكايات المنكرة فلا يشتغل به ولا يضيع الوقت في مثله، والحقيقة أن الضياع في مقالتهم هٰذه التي انتحلوها وأخذوها من رؤوسهم ولم يأخذوها من العلماء؛ فزهدوا في مثل هٰذه الأشياء .

والمقصود من هٰذه الإلماعة أن يكون لك يا طالب العلم حظ من هٰذه المعاني التي ترشدك وتهديك، وأنك إذا خلوت منها فإنك على خطر شديد، فإن القرآن يهدي ناسا يقودهم إلى الجنة فيكون لهم إمام، ويأخذ به ناس فيزخ في أقفيتهم إلى نار جهنهم.

ومن شاهد أحوال الناس عرف ذلك، فينبغي أن يحذر طالب العلم أن لا يكون حظه من العلم اسمه ورسمه؛ بل يكون حظه من العلم حقيقته الإيمانية، وهدايته الربانية التي تجعله يأنس بالله عزوجل ويتلذذ بمناجاته، ويرى أن حبس نفسه في حلق التعليم قربة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى فتزيده إيمانا وليس المراد من جلوسه في حلق التعليم أن يحصل هٰذه المعلومات فيتقدم بها في منصب دنيوي أو شهادة أو رياسة أو جاه أو يجري بها وقتا أو يجامل بها صاحبا أو يرضي بها شيخا أو صديقا، وإنما المراد بها أنه منتصب فيها متقرب إلى الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عزوجل أن يرزقنا البصيرة في دينه.

من تعليق شيخنا على الرسالة المغنية في السُّكوت ولزوم البيوت للحافظ الحسن بن أحمد بن عبد الله البغدادي المقرئ، ابن البناء المتوفى 471