أشياؤك الصغيرة، أحلامك، أفراحك أحزانك، أحبابك، أصدقاؤك..
لأماكن غبت فيها وغابت فيك، القصائد التي كنت تحفظها، لتلقنها للحبيبة الوارفة بابتسامة الخل الوفي، مشاهد وصور وأحداث، وصعاليك مروا على حياتك، ورموز عشقتها حتى الكمد، وظننت أنه عشق الأبد، مشاغبات الطفولة، عنفوان الصبا، وصبابة العمر المتعافي، مدرسون أحببتهم، وآخرون تمنيت لهم الموت، وهم يلهبون يديك الصغيرتين بسياط القسوة، رجال كانوا يقفون على شاطئ البحر، يطاردون فراشات النهار، مهددين متوعدين محذرين من غدر البحر وشغب أمواجه، الهاربة من بطش الريح، الطبيب البدائي وهو أول من جرحك ليطهرك بهوس الحكايات الصارمة، المرأة التي عشقتها وأنت الأصغر سناً، والأكثر لوعة، بتفاصيل كانت أشبه بتضاريس مخملية في أرض بكر، الصفعة الأولى التي داهمتك في منامك، مؤذنة في أذنيك بأنك العصي على الطاعة، الوافر حظاً في المعصية، والناس يفزون من منامهم لأجل صلاة الفجر.

الدمعة اللامعة، في عيني أمك وهي تعاتبك لتأخرك عن الدوام المدرسي، *** جارك الذي كان يوقظ في رأسك بغضك للنباح والنواح، القطة السوداء التي كانت ترتبط بخرافات الليل الدامس الموحش، كانت أمك تروغها وتبسمل وأنت تتحاشاها مجلوداً برعشة جناح الطير الرهيف في صدرك جهة الشمال، وجوه مرت على الذاكرة، أصبحت الآن مرايا مغشية بغبار وطفح السنين العجاف، وجوه حاولت أن تستدعيها، وأخرى تكافح لأن تلحفها بملاءة النسيان، ووجوه تباغتك كأنها البرق، فتلبسك القشعريرة، تهرب أنت، تتسرب، تفرك جفنيك، وتضع السبابة في صدغك، تفكر بأي معجزة مذهلة هذه التي تسوق الآثار البابلية إلى حيث يجف ريق السواحل، وتعجف الأشجار، وتنشف البحار، وتخطف الأوراق خضرتها من اليباب، وتقطف الورود رائحتها من الخراب.. وجوه تبدو كأنها، مساحة الضوء الخافت، تتسلق إليك حابية، خابية، خائبة، ذائبة في تجاويف الوقت، ذاهبة في تلافيف الوحشة، وجوه تصعد على سلم العمر، شائخة دائخة تسقط على عينيك، كأنها محتال فاشل لا يجيد الاحتيال.
كل هذا يأتي ويمضي، إنما الزمن الواحد، المتحد، الممتد، المتمدد، المتوعد المتجدد، يحيطك، يشملك، يحتويك، ليستولي على عمرك، يحتل مساحة شاسعة واسعة من قارات العمر، يحتال على الذاكرة بمهارة النجباء الأذكياء، ليس لديه مقاييس للقديم أو الجديد، فهو الكائن العابث بعقارب الساعة، المتغطرس الشرس، المفترس، المحترس، المتوجس، الهاجس، النابس، القابس، يحصي ولا يُحصى، يُعصي ولا يُعصى، يحيط بالأشياء ولا يحيط به جدار ولا إطار ولا حوار ولا دوار.. الزمن وحده، الأشياء من حوله وفية تذبل ولا يذبل، ترسل رسائل الوداع الأخير ولا يُودع، ولا يُودِع محفظته إلا في جيبه.. الزمن يتكون من تفاصيله الغامضة، ويستمر في تصوير الوجوه والمشاهد، ولا يصوره أحد لأنه فوق الصورة.. فوق المشهد.