أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


تعامل العلماء المجتهدين مع المذاهب الفقهية
-ابن تيمية نموذجا-

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى اله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد استقر الفقه في أطواره المتعددة، حيث مر بمراحل تمثل كل واحدة حاجة اقتضاها الواقع، فبعد انحصاره بمدرستين كبيرتين -هما مدرستا الحديث والرأي- مثلت كل واحدة منهما خطًا اجتهاديا فقهيا، ومنهجا بحثيا متميزًا خرجت من هاتين المدرستين مذاهبُ الأئمة المتبوعين، كالحسن البصري، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد ابن حنبل، وأبي ثور، وابن راهويه، وابن جرير... وغيرهم من الأئمة.

وهذه المذاهب من حيث أصولُ استمدادها، ومناهج أئمتها متقاربة جدًا، إلا أن عناصر البقاء والازدهار وجدت في بعضها دون بعض الآخر؛ لذلك انحصرت المذاهب في الأربعة المتبوعة، وانتشرت في البلدان على تفاوت بينها في ذلك.
ومن هنا أصبحت المذاهب الفقهية هي الطريق المسلوكة للعلماء فما عاد عالم إلا وله مذهب فقهي ينتمي إليه، إلا ما كان من بعض أهل العلم الذين انتسبوا إلى المذهب الظاهري.
ومع القول بانتساب العلماء الى المذاهب الأربعة المتبوعة إلا أن لهم في كل مذهب مرتبةً، فمنهم من بلغ مرتبة الاجتهاد، فكان المذهب بالنسبة له منهجًا بحثيا أكثر منه طريقا فقهيا، ومنهم من هو مجتهد مذهبي يعالج فروع الفقه من خلال أصوله وقواعده، ومنهم من هو دون ذلك كحافظ المذهب... هذا التنوع في درجات العلماء وتعدد مراتبهم ينبني عليه اختلاف في تعاملهم مع المذاهب، ومن هذا الباب اختلافهم في معالجة الواقع الذي يعيشونه، وهذا بدوره ينعكس على تراث كل عالم منهم فيكثر في تراث المجتهد المطلق ومجتهد المذهب الفتاوى والنوازل، وقد يكون في كثير منها خروجٌ عن أصول المذهب وإنما هي محض اجتهاد وتعامل مع النصوص.

ومن جهة أخرى فان لهؤلاء العلماء قدرة على تصحيح مذاهبهم بكل أنواع التصحيح التي من أعلاها التصحيح بالدليل، حيث يقوم العالم منهم -بعد استقرار الرواية ومعرفة مرتبتها الحكمية- بترجيحها عند الخلاف على غيرها بالنظر إلى قوة دليلها من عدمه، وهذا الفعل وإن كان مطلوبا على اعتباره جزءا من البناء المنهجي للمذهب الفقهي فهو كذلك تلبية لحاجة يفرضها الواقع، وفي مثل هذا قدر كبير من البواعث النفسية المؤثرة في طريقة الاستدلال ومعالجة المسائل.

شيخ الإسلام ابن تيمية والمذهب الحنبلي:
يعد شيخ الإسلام من العلماء المجتهدين، حتى عُد من أصحاب الاجتهاد المطلق، وهو سليل أسرة حنبلية عميقة الجذور وقد حوت جماعة من العلماء الكبار على رأسهم أبو البركات ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية، ومع القول باجتهاد شيخ الإسلام إلا انه كغيره من علماء عصره كان ينتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة، وبما أنه من عائلة حنبلية كان من الطبيعي أن ينتسب إلى المذهب الحنبلي، بل لا تستطيع أن تفهم كلام شيخ الإسلام إذا لم يكن لك معرفة بمذهب الحنابلة، ولكن قد يقول قائل كيف نفسر ما نجده في كتب شيخ الإسلام من خروجه عن المذهب واعتماده على الأدلة بصورة مباشرة بما يوحي بعدم تقيده بالمذهب؟
والجواب عن ذلك من وجوه:
أولا: لا بد لنا ان نستحضر أن الالتزام بالمذهب لا يعني الإلزام، فليس كل قول لازمًا للعالم، بل إن بدا له ما يدعو لتركه وعدم الالتزام به فله ذلك، على أن يكون باتباع أصول الاجتهاد ومعرفة الأدلة لا بالتشهي والبحث عن الرخص.
إن تبين لنا هذا فنعود لشيخ الإسلام ابن تيمية فهو من العلماء المجتهدين بل من المجددين، وقد وصل إلى أعلى مراتب الاجتهاد الممكنة، وهو معدود من المصححين في المذهب. وقد كان لهاتين القضيتين-الاجتهاد والتصحيح- عمق نظر في فكر شيخ الإسلام لم يكن لغيره.
فأما قضية الاجتهاد والتجديد في الفقه على وجه الخصوص، فهي مرتبطة بالواقع الذي عاشه شيخ الإسلام، حيث رأى قصورًا عند الفقهاء في عصره، فقد رأى الترخص قد دب في أوساطهم وأصبح للمنصب أثر في علمهم، هذا فضلا عن الالتزام المذهبي الذي أوصلهم الى الالزام الذي كان شيخ الإسلام لا يراه، بل إن من معالم الاجتهاد عنده رحمه الله أن المسألة التي يدل عليها الحديث لا تعد شاذة ولو لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة، إذا كانت قولا لأحد الأئمة الفقهاء[1]، وتقرير هذا الأمر يبدو غريبا ابتداءً، ولكن الذي كان سائدًا في عصرهم، بل وقبله أن الخروج عن المذاهب أمر لا يجوز وهو شذوذ، بل ذهب الوزير ابن هبيرة -رحمه الله- إلى أن الحق قد انحصر في المذاهب الأربعة[2]، وقد ألف الحافظ ابن رجب رسالة في الالتزام بالمذاهب الأربعة والمنع من الخروج عليها... إذن: هذا الأمر كان له أثر كبير ظهر جليا في فقه ابن تيمية رحمه الله.

وأما قضية التصحيح، فهي تابعة لقضية الاجتهاد ومتعلقة بها، حيث عمل شيخ الإسلام على تعزيز مبدأ الاجتهاد الذي رأى فيه خلاصًا من كثير من أمراض العصر الذي عاشه، ولم يكن شيخ الإسلام بحاجة لتقرير أصول المذهب -وإن كانت له تحريرات- فقد سبقه من أهل العلم من قام بهذا، إلا أنه التفت إلى ما يناسب عصره فأكثر من التصحيح المذهبي من خلال الدليل -وهذا هو أعلى أنواع التصحيح كما تقدم- ومن هنا كثر في كلامه ذكر الأدلة وتقريرها حتى ظن كثير من الناس أن شيخ الإسلام خارج في فقهه عن المذهب الحنبلي، والأمر كما قدمت لا يعدو أن يكون تعزيزا لمبدأ الاجتهاد وإعمالا لقواعد التصحيح على وفق الأدلة الشرعية بما يناسب عصره، وقد بين بعض أهل العلم دوافع شيخ الإسلام التي فرضها عليه عصره كما تكلم الشيخ محمد بن ابراهيم عن هذا عند كلامه عن مسألة الطلاق الثلاث[3].

من أين جاء الخلل إذن ؟
من تأمل في تاريخ المذاهب يرى ان العمل بالمذاهب على سبيل التخريج وسائر أنواع الاجتهادات المذهبية قد ضعفت ان لم تكن غابت منذ سنين، وقد ظهر هذا الأمر جليا في أواخر أيام دولة الخلافة العثمانية، وقد ساعد على هذا الغياب عدد من العوامل منها:
1- ضعف الفقهاء المنتسبين إلى المذاهب، حيث عدم في تراثهم تجديد فقه مذاهبهم وتصحيحه وإنما اقتصروا على تراث الماضين فاعملوا مبدأ الإلزام المذهبي فاختزلت علومهم وشخصياتهم فيمن سبق ولم يظهر لهم أثر.
2- ظهور بعض الدعوات الإصلاحية التي قامت بعضها على سياسة التوفيق بين المذاهب مما أفقد كل مذهب خصوصياته الأصولية والفقهية، كدعوة الشيخ محمد عبده، وقد تمثلت فكرة هذه الدعوة عمليا في مسائل الفقه في كتاب "فقه السنة" لسيد سابق حيث عمل على تصيير المذاهب مذهبا واحدا من خلال الترجيح بالدليل، إلا أنه انتهج منهجا مغايرا لما كان عليه السابقون من أهل العلم فقد ظهر في طريقته تلفيقا أصوليا لم يكن يعرف عند الفقهاء فيما مضى، ومن عرف قصة التأليف وسببه بان له أصل ذلك وسببه.
3- البعد العقدي عند المتأخرين، حيث اثر في دراسة المذاهب الفقهية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في مقال مستقل ان شاء الله .
4- ضعف العلم بقضية الأصول المذهبية ومناهج بنائها وهذا الذي له تعلق مباشر بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث ظن ان اجتهاداته خروج عن المذهب أو نبذ له، وهذا كما تقدم غير صحيح.

هذه العوامل بمجموعها أثرت –كثيرًا- في فهم القضية المذهبية والمنهج المتبع فيها من جهة تصورها وبالتالي الحكم عليها، وهنا بدأنا نرى أحكاما مغايرة للواقع أدت إلى نبذ المذاهب او التقليل من العمل بها وفي أحسن الأحوال اعتبرت مخزونا فقهيا لمن أراد التفقه ومعرفة الأقوال.


كتبه:
الشيخ عصر بن محمد النصر الأردني
باحث شرعي في علوم السنة النبوية


[1] - ينظر النبوات لشيخ الاسلام .

[2] - ينظر المسودة لآل تيمية .

[3] مجموع فتاوى شيخ محمد بن ابراهيم 11/ 39.