أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


(وأتوا البيوت من أبوابها)
قراءة هادئة لكتابة الشيخ حاتم العوني عن تهنئة الكفار بأعيادهم

بقلم:مشاري الشثري

بسم الله الرحمن الرحيم

إن صيانة القرآن والسنة لرابطة الإسلام الجامعةِ بين المسلمين من أبينِ ما يكون دلالةً وبرهانًا، جاء هذا في سياق الأمر الصريح، كقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا)، وقوله: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)، وجاء في سياق الخبر - وهو أبلغ من الإنشاء - كقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)، وقوله: (إنما المؤمنون إخوة) ..
ثمَّ تواردت نصوصٌ تسوِّر هذه الرابطة بسوار متين يمنع غائلة الكفر وأهله، وذلك لتُحفظ تلك الرابطة من أيِّ خدش يعرِّضُها من بعدُ للتلف، فجاء النهي عن موالاة أهل الكفر، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)، وقوله: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، وجاء النهي عن المشابهة في نحو قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)، وقوله: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)، فتأمل كيف أن الله تعالى لم يزجر عن قسوة القلب فحسب، بل بين بشاعة ذلك بأنْ نسب هذا الفعل إلى أهل الكتاب ..
هذه بضع شواهد من كتاب الله، وفي السنة أضعاف ذلك، واستعراضُ نصوص الوحيين المقررة لهذه الرابطة حفظًا وصيانةً مما يطول بحثه، غير أني في هذه العجالة أحب أن أعلق بعض التقييدات على ما جرى تداوله هذه الأيام من الحديث عن تهنئة الكفار بأعيادهم، وأخصُّ بالحديث بعضَ ما كتبه الشيخ البحَّاثة حاتم العوني سدَّده الله، فقد طالعت له كلاما منشورا في الشبكة عن حكم تهنئة الكفار بأعيادهم، وقد كنت أنوي الإعراض صفحًا عنه لأجمع همَّتي بعد أمد لاستيفاء تناول المسألة من جميع جوانبها، غير أني لم أطق ذلك لما حوته كتابته مما أزعمه خلطًا وصدوفًا عن سبيل المنهج العلمي، بلهَ العبارات التي تنطوي على إسفاف بالمخالف .. ومن حقِّ الشيخ عليَّ أن أدفع له ببعض ما أخذت على كلامه، وهو أهل لأن يسمع ذلك ممن يقِرُّ في طبقة تلاميذه ..

******

من نعوت (الأصل) في أبواب الفقه استعلاؤُه على الفروع استعلاءَ حاكِميَّةٍ، إذ تُجرى الفروع تحت مَشرَحته وتُحاكَم في ضوئه، ولذا ضمَّن الشيخ كتابته تقريرَ أصلٍ زعمه حاكما على المسألة بجعله صدرًا لكتابته، فقال: ( الأصل في حكم التعامل مع الكافر غير المعتدي هو الإحسان ) ..
وهذا الأصلُ - على فرض التسليم به - غيرُ منساق هنا، والشيخ يتغيَّا بتصديره مع نفيه دليل تحريم التهنئة مطالبةَ المخالف له بإقامة الدليل على خلاف النتيجة التي يزِفُّ إليها، وهي إباحة تهنئة الكفار بأعيادهم ..
والحال بخلاف ذلك، فإن مسألة تهنئة الكفار بأعيادهم حفَّتها مناطاتٌ تجعل من وضعها في سياق تقرير هذا الأصل حيدةً عن اعتبار الأوصاف المؤثرة، وهو أشبه بمن يستحضر الإجماع في محالِّ الخلاف .. ومجمل القول أن الأصل الذي ينبغي تحريره وتسليطه على هذه المسألة ما يتعلق بشأن (التعامل مع الكفار في ما اختصُّوا به) بحيث لا تُتَّصور فيه الشركة بين الكافر وغيره، ومن ذلك ما يصدق عليه أنه من (أعياد الكفار) .. وحين نقول: (أعياد الكفار) فلسنا نريد أعياد الكفر، بمعنى أن الأمر ليس منوطا باحتواء العيد على شعبة من شعب الكفر، بل بكونه منعقدا على رابطة تجمع أهل الكفر، بغض النظر عن ماهية المحتَفَل به وتقريرِ كونه كفرا من عدمه، وهذا كما نقرره هنا نسوقه في الحكم على كل رابطة تجمع أهل الباطل، مبتدعةً كانوا أم كفارا ..

******

ليس من شكٍّ في ضرورة حفظ هُويَّة المسلم من أيِّ خبث يعكِّر صفوَها، وما دامت رابطة الكفر هي الجامعةَ للكفار في أعيادهم، فالأصل في حقِّ المسلم مجانبتها وقطع جميع العلائق عنها، ومن ذلك تهنئتهم بها، فالمطالبة ينبغي أن تكون ماثلة أمام من يجيز إباحتها، لا من قرَّر حرمتها، وحتى لا يكون ذلك دفعًا بالصَّدْر أبيِّن وجه ذلك بما يلي :
- كلُّ عيد لم يأت في شرعنا إقرارُه = باطلٌ، ومعنى كونه باطلا أنه معصية تحرم مقارفتها، فهذا العيد الذي أقامَ الكفارُ شخوصَه من جملة ما حرمه الله تعالى -والكفار مخاطبون بفروع الشريعة- وحكم التهنئة والحضور والمشاركة فرعٌ عن ذلك، فما دام العيد محرَّمًا في أصله فكيف يُهنَّأ العاصي بمعصيته، وهذا كافٍ في إقامة الدليل على حرمة التهنئة بأعياد الكفار، وهو بقدر وضوحه فإن الكَتَبة المجيزين قد انصرفوا عن رعايته وفحصه، ولا أملك لذلك تفسيرا ..
- إن مدلول التهنئة لا يخلو من الرضا بوجه من الوجوه، وخذ هذا في جانب السَّلب فأنت لا تهنِّئ رجلا على ما لا ترضاه بداهةً، بل ربما كان في التهنئة معنى يزيد على الرضا، وهو الفرح، ولذا تجد في كتب اللغة تعريف التهنئة بأنها: (خلاف التعزية)، وعليه فتفصيل القول في ألفاظ تهنئة الكفار بأعيادهم من حيثُ الرضا بما هم عليه وعدمُه غيرُ واردٍ من جهة تحريم بعض وإباحة بعض، بل واردٌ في بيان مراتب الحرمة وما يكون من تلك الألفاظ كفرا وما هو دون ذلك ..
إذا تقرر هذا، والمخالف يمنع ما فيه معنى الرضا فيلزمه تحريم تهنئة الكفار بأعيادهم، وليس للتهنئة معنًى إلا ما تقدم، وإلا فليُبيَّن، مع التنبيه إلى أن ألفاظ التهنئة بابُها العرف، فقول (كل عام وأنت بخير) من جمل التهنئة، ومباشرة الكافر بها في عيده تهنئة له، وليست مجردَ دعاء له بالهداية، ولا تهنئته بــ ( عيد سعيد) مجردَ دعاءٍ له بأن تكون حياته خالية من المنغصات !

******

جاء في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبتدئوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها) .. وجاء في سنن أبي داود أن سهيلَ بن أبي صالح قال: خرجت مع أبي إلى الشام، فجعلوا يمرُّون بصوامع فيها نصارى فيُسِّلمون، فقال أبي: لا تبدءوهم بالسلام، فإن أبا هريرة حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق) ..
هذا الحديث من الأصول المقرِّرة لصنفٍ من صنوف التعامل مع الكفار، وجمهور العلماء وعامة السلف قرروا حرمة بداءة أهل الكتاب بالسلام استنادًا على هذا الحديث .. قال الإمام أحمد: ( المصير إلى هذا الحديث أولى مما خالفه )، وكذا هو أولى من تأويله بأن المراد: ليس عليكم أن تبدءوهم بالسلام، وأولى من جعله خاصًّا بطائفة ما، كما لا يحسن إهداره بعموم الأحاديث الدالة على إفشاء السلام، وفي ذلك يقول النووي رحمه الله: (وهي حجة باطلة، لأنه عام بخصوص بحديث: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ...")، وقد روى البخاري في الأدب المفرد أن ابنَ عمر مرَّ بنصراني فسلم عليه، فرد عليه، فأُخبِر أنه نصراني، فلما علم رجع إليه فقال: رُدَّ علي سلامي . وهذا المنقول عن ابن عمر التزمه جمعٌ من أهل العلم، ومعتمد مذهب الإمام أحمد أن من سلَّم على من ظنه مسلما ثم علم أنه ذمِّي، استحب له أن يقول له: ردَّ علي سلامي .
ولن أقول هنا مثل قول الشيخ وفقه الله: ( يكفيني هنا: أن هذا هو فقه أحد فقهاء الصحابة) ، ولن أقول: ( فهل هذا كله من [التنفير عن] الدين ؟!! وهل كنا سنحترم هذا الاجتهاد الجليل فيما لو ذكرته دون ذكر الصحابة القائلين به ؟!) قياسا على قول الشيخ، بل أحفظ للمخالف في هذه المسألة قولَه .. وليس غرضي بيان حرمة ابتداء السلام، بل ما أريد قوله هنا أنْ ليس لمعاني السلام والرحمة والبركة عُلْقَة بجنس الكفر الذي تلبس به أهل الكتاب، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بداءتهم بلفظ يتضمن هذه المعاني، ومما يعضده ما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي موسى قال: كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه و سلم رجاءَ أن يقول لهم: يرحمكم الله، فكان يقول: ( يهديكم الله ويصلح بالكم )، فلم يقل لهم إلا ما فيه دعاءٌ بأوبتهم إلى الإسلام، ولم يطلق عليهم ما فيه معنى شمول الرحمة لهم، وهو تبيان منه عليه الصلاة والسلام لحقيقة العلاقة مع الكفار .. إذا تقرَّر ذلك فأولى أن يحرم ما فيه مَساس بباطلهم، من نحو تهنئتهم بأعيادهم، ولئن كان في بداءة الكفار بالسلام خلافٌ، فهذا مما لا ينبغي الخلاف فيه، إذ كيف يُقال بجواز تهنئة أهل الكفر بأعيادٍ حرمها الله ورسوله جمعهم عليها كفرهم بالله تعالى ! وذات التهنئة ليست مجردَ تحية، وفكُّها عن الرضا عسير جدا، وإن لم تكن بمنزلة الصريح منه، ولم يُنقل عن واحدٍ من السلف جوازها - وما كان أبعدهم رحمهم الله من ذلك - .. فلسنا بحاجة إلى استجلاب نصٍّ من أحدهم - فضلا عن نصوص الوحيين - لندُلَّ بها على الحرمة، بل نحن نطالب بنصٍّ فيه إباحة ذلك .. وقد كان الفقهاء يبحثون حكم تهنئة الكفار بمحض أمور الدنيا من الزوجة والولد، ولأحمد في ذلك روايات، ومعتمد مذهبه في ذلك الحرمة، أما ما يتعلق بأعيادهم التي يختصون بها فأظهر من أن تسكب المداد في حلِّها، وليس من شأن أحمد أن يكون له في أشباه هذه المسائل روايات، وهو الذي كان يحجز عينيه عن النظر إلى النصارى ويقول: ( لا تأخذوا عني هذا، فإني لم أجده عن أحد ممن تقدم، ولكني لا أستطيع أن أرى من كذب على الله) !
وبينا نحن نعالج رَهَقًا من أهل الكفر، ونرى أفواج المسلمين تتوافد على موائدهم المتلطِّخة بمحادَّة الله ورسوله نأتي بمثل هذه الأقوال التي تزلزل الصروح الحاجزة بين الإسلام والكفر، فالله حسيبنا على ما نقول ونفتي ..
وقد قلَّب الشيخ حاتمٌ المطالبةَ بنصٍّ فيه حرمةُ التهنئة على غير ما وجه، فقال في سياق الخبر: ( فلا ورد في القرآن ولا جاء في السنة دليل خاص يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية )، ثم قال في سياق التمنِّي: (أتمنى أن يذكر لي المتعصبون للتحريم سلفهم عليه من الصحابة والتابعين وتابعيهم , حتى ننظر هل هناك قول صحيح ومشتهر لهم في المسألة , مع عدم العلم بمخالفهم ؟) ، ثم ظنَّ سبق التحدي منه - والحال أنه قد تمنَّى - فقال: ( أعيد التحدي بصورة واضحة: بعد الاتفاق على عدم وجود نص صريح في الكتاب والسنة يدل على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم, هل هناك آثار عن الصحابة أو التابعين أو تابعيهم تدل على تحريم هذه التهنئة )، ثم قال في سياق التبكيت: (أما المطالبة بإيجاد نص عن السلف بالإباحة مع عدم وجود نص عنهم على التحريم, فهو جهل بطرائق الاستدلال) ..
وليس يخفى أن هذه المطالبة بسياقاتها البلاغية مفرعةٌ عن الأصل الذي قرَّره الشيخ أولا، وهذه المطالبة فيما أزعم (جهلٌ بطرائق الاستدلال) وغفلة عن صورة المسألة والتكييف اللائق بها، وقد تقدم بيان طرفٍ من ذلك .. والذي أريد التنبيه عليه هنا ما تقدم من أنَّ القول في التهنئة وحكمها فرعٌ عن حكم هذه الأعياد، فإذا كنا نقرر بطلانها فأنى لنا الحكم بجواز تهنئة أهلها بها ..

******

قال ابن القيم رحمه الله في كتاب (أحكام أهل الذمة) :
( فصلٌ في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك .. وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فأباحها مرة، ومنعها أخرى، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا فرق بينهما .. ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه، كما يقول أحدهم: "متعك الله بدينك" أو: "نيحك فيه"، أو يقول له: "أعزك الله"، أو: "أكرمك"، إلا أن يقول: "أكرمك الله بالإسلام" و: "أعزك به" ونحو ذلك .. فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة ..
وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرامٌ بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: "عيد مبارك عليك" أو: "تهنأ بهذا العيد" ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه ..
وكثيرٌ ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق) انتهى كلامه رحمه الله .. وائذن لي ببيان جُمَلِ كلامه، فأقول مستعينًا بالله :
عقد ابن القيم رحمه الله هذا الفصل لبيان حكم تهنئة أهل الذمة في الأمور المشتركة بينهم وبين غيرهم من الزوجة والولد وقدوم الغائب ونحو ذلك ..
بيَّن اختلاف الروايات عن أحمد في ذلك، وأنه أباحها مرة، ومنعها أخرى، وبين أن القول في هذه التهنئة بالأمور المشتركة من نحو الزوجة والولد كالقول في عيادتهم وتعزيتهم ..
بما أن في الأمر سعةً وأن إباحةَ التهنئة بالأمور المشتركة منقولٌ عن أحمد، أرشَدَ ابن القيم مَن أراد التهنئة - فيما لو اعتمد القول بإباحتها - إلى ضرورة التحرز من الألفاظ المتضمنة لرضاه بدين الكفار .. ثم قال: ( إلا أن يقول: "أكرمك الله بالإسلام" و: "أعزك به" ونحو ذلك) فما دام المرء هنَّأه، فليقل نحو: "أكرمك الله بالإسلام" ففيه مع التهنئة الدعوة إلى دين الله ..
ثم قال رحمه الله: ( فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة ) .. أي: فهذا القول المتقدم إنما هو في التهنئة بالأمور المشتركة، وهي التي عقد لها الفصل من التهنئة بالزوجة والولد وقدوم الغائب ونحوها ..
ثم قال: ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرامٌ بالاتفاق ) ..
وهنا تأمل أن لكلامه سياقين، سياق يتعلق بالأمور المشتركة (الزوجة والولد ...) وسياق يتعلق بشعائر الكفر المختصة به، ففي الأول جاء عن بعض أهل العلم إباحته فنبه ابن القيم إلى أن القول بإباحته ربما أفضى ببعضهم إلى الوقوع في المنكر كأن يهنئ بما فيه لفظ الرضا بدين الكفار، أما ما يتعلق بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، فلا يرد فيه التفصيل المتقدم، إذ إن ذات التهنئة محرمة، فلا حاجة إلى التفصيل في ألفاظها .. هذا بيِّنٌ من كلام ابن القيم، لكني أطلت بيانه لما سترى قريبًا ..
ثم مثل ابن القيم لشعائر الكفر المختصة به بأمرين: أعياد الكفر، وصومهم ..
قلت: فظاهر من كلامه إطلاق القول في أعياد الكفار، وأن ليس ثمَّة فرق عنده بين ما كان دينيا أو غيره ! ثم قال: (فيقول: "عيد مبارك عليك" أو: "تهنأ بهذا العيد" ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ) .. فتلحظ أن هذين اللفظين عاريان عن التصريح بالرضا بدين الكفار، ومع ذلك قال: (فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات) .. فليس في كلامه في هذا المقام أيُّ تفريق بين ألفاظ التهنئة بعيد الكفار، فهي في أصلها محرمة مهما كان لفظها، أما التصريح بالرضا بدين الكفار فكفر لا محالة، لكن نبه إلى أن التهنئة مع خلوها عن هذا التصريح فيقرب أن يكون المهنئ متلبسا بالكفر ..
ثم بين أن تهنئة الكفار بشعائرهم المختصة بهم - ومنها أعيادهم - تشبه تهنئة الذمِّيَّ بسجوده للصليب ..
وذلك لأن الرابطة التي جمعتهم على هذا العيد رابطة الكفر، ليست أيَّ رابطة أخرى ..
ثم قال: (بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه ) ..
وهذا من عظيم فقهه رحمه الله، فإن شرب الخمر وقتل النفس ونحوها مما يقع فيه المسلم والكافر، فاقترافها ليس لوجه اختصاص أهل الكفر بها، بخلاف الأعياد التي يقيمونها، فتهنئتهم بها تهنئة بما جمعهم عليه كفرهم بالله تعالى، فمن هنا كانت التهنئة أشد من تهنئتهم بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج المحرم ..
ثم قال: ( فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه )
وهذا الأصل الذي ينبغي أن يُستحضر عند قراءة كلام ابن القيم، بل عند قراءة المسألة برمَّتها، فالتهنئة فرعٌ عن حكم المهنَّأ عليه، فإن كان معصيةً أو بدعةً أو كفرا، فلا مناص من الحكم بحرمة التهنئة، ثم هي على مراتب، تغلظ بقدر غِلَظِ المهنَّأ عليه ..
وإنما وقع الخلاف في تهنئة أهل الذمة بالأمور المشتركة من نحو الزوجة والولد لخلوِّ المهنَّأ عليه من كونه معصية أو بدعة أو كفرا، فمنا هنا قال من قال بإباحة التهنئة على ذلك، ولحظ جمعٌ حال المهنَّأ - بصرف النظر عن المهنأ عليه - فقال بحرمته، أما أعياد الكفر فليست من هذا الباب ..
هذا حاصل كلام ابن القيم، ولم أجد لي مناصًا من تفصيل القول فيه، وذلك أن الشيخ حاتـمًا قد قرأ النص بقراءةٍ أخرى تمامًا، وقد كنت حين قراءتي لسِفره: (اختلاف المفتين) مفتونًا بقراءته لجملة من نصوص العلماء التي أوردها، ذاكرًا عمقَها لمن أرى من صحبي، غير أني ذهلت حين قرأت تفسيره لكلام ابن القيم المتقدم، فقد رأيت فيه صدوفًا ظاهرا عن مراده، وأنا أدعو القارئ إلى إعادة قراءة كلامه، ثم ليقرأ نص كلام الشيخ حاتم، وأن أسوقه بتمامه، ومابين [ ] من وضعي.. قال وفقه الله لكل هدى:
( انتهى كلامه (رحمه الله), وهو صحيح لا إشكال فيه, لمن وفقه الله في فهمه .
فأولا : تنبه لتفريق ابن القيم بين اللفظ الدال على الرضا بالدين والدال على عدم الرضا, وتفصيله بناء عليه حكم المسألة في التهنئة بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك . مما يدل على صحة هذا الأصل في حكم تهنئة الكفار , وأنه ليس تفصيلا مبتدعا ولا مبتورا عن أصول الدين .
[التفصيل المبتدع واقع في التهنئة بأعياد الكفار، ولم يذكر ابن القيم تفصيلا في ذلك كما تقدم، ولكن لما نُقِلت إباحةُ التهنئة في الأمور المشتركة عن بعض أهل العلم حذر ابن القيم من أراد التهنئة من التلفظ بما فيه الرضا بالكفر]
ثانيا : تنبه أن ابن القيم لما نقل الاتفاق على تحريم التهنئة بأعياد الكفار الدينية علل ذلك بأنه يدل على التهنئة على الكفر, ومعنى ذلك أن هذا هو سبب التحريم عنده .
[ليس في كلام ابن القيم تعليل ذلك بأنه يدل على التهنئة على الكفر، وسبب التحريم عنده ظاهرٌ في قوله: ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرامٌ بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم) فالمناط اختصاص الكفار بشعيرة ما، ومنها أعيادهم التي اختصوا بها دون المسلمين ]
والحق أن هذا التعليل حتى لو لم يذكره ابن القيم للزم أن نذكره نحن دليلا لصحة قوله؛ لأنه لا دليل على التحريم سواه أصلا, كما سبق !
وحينئذ أقول: لا يقول قائل إن قول المسلم للكافر في عيده الديني: (أسعدك الله، ومتعك بالعافية، وهداك للتصديق بالإسلام)، فيه تهنئة له بالكفر ويدل على الرضا عن دينه .
[قارن هذا بقول ابن القيم: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرامٌ بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: "عيد مبارك عليك" أو: "تهنأ بهذا العيد" ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات) فليس في هذه الألفاظ تصريح برضا المهنِّئ بالكفر، ومع ذلك يقول ابن القيم: (فهذا إن سلم قائله من الكفر ...)]
ولا يقول عاقل أيضا: إن هذه العبارات ليست تهنئة, فقد قال ابن القيم (الذي احتجوا بكلامه على مطلق التحريم): (إلا أن يقول أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك , فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة) .
[ لا يُعقل أن يكون قول القائل لمن رُزق ولدا: (أكرمك الله بالإسلام) تهنئةً، ولم يرد ابن القيم ذلك، وقوله: (فهذا في التهنئة ...) يعني ما تقدم من الأحكام، لا خصوص (أكرمك الله وأعزك به) فهذه ألفاظ فيها الدعاء للمهنَّأ بالإسلام، وليست تهنئة له، وهذا بيِّنٌ، لكن الشيخ أخذ يتعلق بكل حبل ولو كان واهيا]
ثالثا : تعليل ابن القيم بذلك التعليل يجعل التهنئة التي لا تدل على الرضا بالدين غير داخلة أصلا في كلامه , ولا فيما نقل الإجماع عليه
[ بل الذي غير داخل في كلامه تفصيلُ القول فيما حرمت فيه التهنئة، وهي شعائر الكفر المختصة به كأعياد الكفار، والإجماع الذي حكاه إنما هو على حرمة التهنئة بشعائر الكفر المختصة به مطلقا، سواء كان بلفظ دال على الرضا أم لا ])


******

ختامًا أحب التنبيه على أن من المهم رعايةَ الباحثِ لمنطلَق المسألة التي يريد كشفَها، لئلا تختلط عليه الفصول ويُجريَ الأدلة في غير مضمارها، وخاصةً (دليل الأصل)، فالعبث به (تأشيرةُ) فسادِ الفروع المبنية عليه، وقد أمَّلت من هذه الكتابة توجيهَ النظر إلى أمور رأيت الشيخ حاتما قد قصَّر في بيانها، من أخصِّها: تحريرُ (الأصل) في هذه المسألة، وبيانُ كلام ابن القيم في تهنئة الكفار بأعيادهم، وأرجو أن يكون هذا الذي ذكرت معينًا على قصد الحق وتلمُّس أماراته ..

( وعلى الله قصد السبيل .. ومنها جائر .. ولو شاء لهداكم أجمعين )