هذا المقال نشر بعكاظ اليوم الثلاثاء 4/4/1430 ,,,, يرجى التمعن بما ورد به من دلالات ووقائع مدعومة بأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ... فقط يرجى قرآءة الموضوع بغض النظر عن تقبلكم للكاتب من رفضكم له ,,, فالذي يهمنا ما تم تسطيره فقط ...!
( بعيداً عن المصطلحات الجديدة ... ليبرالي , علماني , سلفي .... ,,,, )
____________________________________
تاب ومقالات...
نجيب عصام يماني
الســـتر
اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله في وليد الجارية زمعة وحملها من عتبة بن أبي وقاص، فقال سعد هذا ابن خالي أوصاني بأخذه وقال عبد بن زمعة هذا أخي وُلد على فراش أبي، فقضى رسول الله بينهما بقولته المشهورة « الولد للفراش» بمعنى أن نسب الولد يلحق صاحب الفراش أي من كانت المرأة فراشاً له إما بعقد نكاح أو مِلك يمين فقضى بالغلام أن يلحق بزمعة في النسب وإن كان عليه السلام قد علم أنه ليس من زمعة بل هو ابن لعتبة حقيقة وصدقاً يوضحه قوله عليه الصلاة والسلام «واحتجبي عنه يا سودة»، ومعنى ذلك أن هذا الغلام ليس بأخ لسودة حقيقة ولذلك أمرها أن تحتجب عنه وإن كان قد قضى أنه أخوها حكماً وقد ذكر البخاري أنه لم يرها حتّى توفيت.
ولا يخفى ما وراء هذا الحكم النبوي من الستر والصون للأعراض ومنعاً للقيل والقال وعدم شيوع الفاحشة وهو بخلاف ما يحدث من كشف للستر وإحراج العوائل وتتبّع لعوراتهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد.
فالحادثة تدل على مقصد الشريعة في الستر والصون ولو قضى رسول الله بالغلام لعتبة وهو ابنه حقيقة لانتشرت الفاحشة وشاعت. يقول ابن تيمية.. إن الفجور أمر باطن لا يُعلم ويجب ستره لا إظهاره كما قال عليه السلام «وللعاهر الحجر»، وكما يُقال (بفيك الكثلب وبفيك الأثلب) أي عليك أن تسكت عن إظهار الفجور فإن الله يبغض ذلك، ويقول أبو حنيفة: لا أرى بأساً إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها ويستر عليها والولد ولده، وأتى ماعز إلى الرسول في إقامة الحد عليه فأعرض عنه النبي حتّى قالها أربع فأمر به أن يُرجم فلمّا وجد مس الحجارة يشتد هرب فلقيه عبد الله بن أنيس فنزع بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي فذكر له ذلك فقال نبي الرحمة «هلاّ ترتكتموه لعلّه يتوب فيتوب الله عليه»، وفي هذا دلالة على أن الزاني بعظم جرمه إذا هرب أثناء الحد فإنه يُترك، فمن باب أولى في ما هو دون الزنا فلا يُطارد في الشوارع والطرقات وندعي بأنه تم الستر وسُلمت الفتاة إلى أهلها والفتى إلى الشرطة، فأين الستر وقد عمت الفاحشة وانتشرت. إن الزنا لا يتحقّق إلاّ بأربعة شهود وفي ذلك تحقيق لمعنى الستر المندوب إليه، يقول رسول الرحمة: «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة»، ويقول صلى الله عليه وسلم لهزال: «.. لو كنت سترته بثوبك..»، كما أنه يُستحب لمن بيده الأمر أن يلقّن المقر الرجوع عن اعترافه كقوله عليه السلام لماعز «لعلّك تزوجتها أو وطئتها بشبهة..» والمقصود أن يلّقنه ما يكون ذكره دارئاً للحد، وكما قال عليه السلام للسارق الذي جِيء به إليه: «أسرقت وما أخاله سرق».
في كل محفل يقف ملك عظيم يدعو إلى الوسطية مؤكداً أننا دولة مستمدة أحكامها من كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام التي حفظت كرامة الإنسان وسمعته فلا يجوز أن نهدرها باجتهادات بشرية. ففي فتح مكة يعلن رسول الله أن من دخل بيته فهو آمن. فللبيوت حرمتها بعيداً عن الفوضى والتدخل في خصوصيات الناس والتطفّل عليهم بل أوجب الحق طلب الإذن في الدخول ثم السلام ومن لم يُؤذن له فليرجع فهو خيرٌ له. فليس من شيم هذا الدين التجسّس وتتبع العورات فمن تبع عورة مسلم توعّده الله بالفضيحة والخذلان، ويقول رسول الله: «أيُّها الناس من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر الله».
فهتك ستر المسلم وفضحه وملاحقته والتشهير به يفقده كرامته وربما دفعته الفضيحة إلى حب الانتقام والتحدي والمعاودة فنخلق مجرماً جديداً في المجتمع متمرّساً على الإجرام. يأمرنا رسول الله بأن ندرأ الحدود بالشبهات فلأن نخطئ في العفو خيرٌ من أن نخطئ في العقوبة، يسمع سيدنا عمر صوتاً من أحد البيوت فيتسلّقه ليقيم الحد على أصحابه، ويذكّروه أنه هو الذي أخطأ بتجسّسه ودخوله المنزل بدون إذنهم فيعتذر ويعود من حيث أتى. صورٌ جميلةٌ من المفترض أن نسير على هديها ونحتذي بها في زمن ليس هو بالزمن الأنقى فقد ضعفت النفوس وتحتاج إلى جرعات إيمانية تذكّرها بالله في لين ورفق وبسيرة خير القرون، فالدين لا يهدمه شيء كما تهدمه قوة الغلو والتطرف والتعصب، يقول تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}. وقد عمّت الآية صور العفو كلها وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها. فالعفو يستر الجريمة والعقاب يعلنها وإعلان العقاب إعلان لها وإعلان الجريمة ولو بإعلان العقاب قد يكون فيه تحريض عليها لأن التسامح مع الجاني قد يؤدي إلى توبته وتآلف نفسه مع المجتمع وقد يخاف ولا يعود إليها أبداً أو يرتدع ويصلح من أمره فلنجرّب التسامح والعفو ونرمي بعصا الترهيب والتخويف جانباً، وتظل الهيئة صورة جميلة في حياة المجتمع بالقول اللين والوصول إلى القلوب.
رد مع اقتباس
