أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



[هذه الحلقة تابعة للمبحث الرابع "شبهة شيطانية"

[تابع للمبحث الرابع: شبهة شيطانية الحلقة (030) عبارة فاسدة "ما عبدتُ الله خشيةً من عذابه، ولا طمعاً في جنته".. ]

وقال تعالى، مرغباً عباده في الجنة ومشوقاً لهم إليهاـ : {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ(221}[البقرة].

وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)}[آل عمران].

وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}[الحديد].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ(111)}[التوبة].

وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ(15)}[محمد] وفي سورة الرحمن أوصاف عظيمة مشوقة للجنة.

تخويف الله عباده من نار جهنم:

وأنذر سبحانه من كفر به وعصاه بعذاب نار جهنم في آيات كثيرة من كتابه، تخويفاً لهم من كفرهم وعصيانهم.

قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ(206)}[البقرة].

وقال تعالى: {أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(162)}[آل عمران].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)}[النساء].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275)}[البقرة].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10)}[النساء].

وأثنى سبحانه على عباده الذين يطلبون منه المغفرة والوقاية من النار، قال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16)}[آل عمران].

وأمر عباده المؤمنين بأن يتقوا النار بترك معصيته، ويرجوا رحمته بطاعته وطاعة رسوله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)}[آل عمران].

وقال تعالى عن أنبيائه وعن جندهم الذين قاتلوا أعداءهم في سبيله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)}[آل عمران].

3 ـ وفي السنة تخويف الرسول عليه الصلاة والسلام، أمته من عذاب الله، وترغيبهم في جنته وثوابه:
أما الأحاديث الدالة على الترغيب في الجنة، ورغبة عباد الله الصالحين فيها، فهي كثيرة، نذكر شيئاً منها، ومنها حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه، بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل) [اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان (ص: 491) رقم الحديث: 1229. جمع محمد فؤاد عبد الباقي.].

في هذا الحديث عدة دلالات:

أولاها: أن الرجل إذا خرج للجهاد في سبيل الله، لا يخرجه إلا إيمان بالله وتصديق برسله - أي إنه مخلص لله في خروجه - فإنه قد يجمع الله له بين الأجر والغنيمة، إذا قدر له الرجوع إلى أهله، وأن الغنيمة التي كتبها الله له لا تنافي إخلاصه ولا تنقص من أجره؛ لأن الله تعالى قد أذن له في ذلك، وذكر الأجر فيه تشويق للجهاد في سبيل الله وليس فيه منافاة للإخلاص الذي ذكر معناه في أول الحديث (لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي)؛ لأنه لم يخرج من أجل الغنيمة فقط بل حرج للجهاد في سبيله والغنيمة تابعة وليست هي المقصودة أساساً.

ثانيتها: فيه وعد لمن كانت تلك حاله أن يدخله الله الجنة إذا استشهد في سبيل الله. وفي ذلك ترغيب للمجاهد بذلك الوعد، ولو كان ينافي الإخلاص لما رغب فيه.

ثالثتها: تعقيب الرسول عليه الصلاة والسلام، على وعد الله هذا، بتمنيه أن تتكرر حياته و يتكرر قتله في سبيل الله، وكأنه عليه الصلاة والسلام، يقول لأصحابه إن هذا الوعد من الله يستحق العناية والحرص، ليناله المجاهد في سبيل الله.

وكما أظهر الرسول عليه الصلاة والسلام، تمنيه تكرار الحياة والشهادة في سبيل الله فقد أخبر أن الذي يدخل الجنة من المؤمنين لا يحب مفارقتها ليرجع إلى الدنيا، لما رأى فيها من النعيم الذي لا يطمع في سواه، ما عدا الشهيد فإنه لعظم ما رأى من الكرامة على استشهاده يحب أن يرجع إلى الدنيا ليذوق طعم تكرار الشهادة في سبيل الله.

ففي حديث أنس بن مالك، رضي الله الله تعالى عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (ما أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة) [المصدر السابق (ص 492) رقم الحديث: 1232.].

فإخبار الرسول عليه الصلاة والسلام، أصحابه بهذه الكرامة في الآخرة وهو يحثهم بها على الجهاد في سبيل الله واضح الدلالة على تشويقهم إلى الجنة، ولو كان ذلك ينافي الإخلاص لما شوقهم هذا التشويق.

بل إن بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، استعجل الشهادة في سبيل الله، وهو في وسط حلبة القتال من أجل أن يدخل الجنة في تلك اللحظة، وأقره الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كان ذلك ينافي الإخلاص لما أقره على ذلك.
كما في حديث جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام ، يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: (في الجنة)، فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل [نفس المصدر (ص 495) رقم الحديث: 1241.].

هذا وقد وصف الرسول عليه الصلاة والسلام الجنة، مرغباً لهم فيها بالعمل الصالح، كما وصف لهم النار محذراً لهم بها من العمل السيء، وما ذلك إلا من أجل الرجاء والخوف، الذين هما من صفات عباد الله الصالحين، كما مضى.

فقد روى أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: (قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم): {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17، المصدر السابق (ص 794) رقم الحديث: 1797. والآية ذكر منها إلى قوله {قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقد أكملتها لما في آخرها من كون ذلك جزاء بعملهم، وذلك دليل على عدم منافاته للإخلاص.].

وأحاديث أخرى تحذر من النار:

وذكر عليه الصلاة والسلام الجنة والنار، في كلمتين جامعتين للترغيب في الجنة بتعاطي الأعمال الصالحة ولو كرهتها النفس، وللتحذير من النار التي تكون الشهوات المغرية بالمعاصي سبباً في دخولها.

ففي حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام ، قال: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) [نفس المصدر (ص 794) رقم الحديث: 1797. ومعنى الحديث أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكروه، ولا يوصل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات.].

4 - الحق أحق أن يتبع:
فهل يجوز بعد الاطلاع على هذه النصوص، من القرآن والسنة الصحيحة الدالة دلالة واضحة، على أن الله تعالى تعبد خلقه - تعبداً - بخشيته والخوف منه، وبخشية عقابه في اليوم الآخر، والخوف من النار، كما تعبدهم برجائه، ورجاء ثوابه ومغفرته وجنته، وأن عباده الصالحين من الأنبياء والرسل ومن تبعهم عبدوا الله بذلك، هل يجوز بعد هذا أن يقال: "ما عبدته خوفاً من ناره، ولا حباً لجنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له، وشوقاً إليه؟" أو يقال: "تعظيم الأمر والنهي، لا خوفاً من العقوبة، ولا طلباً للمثوبة؟!".

إن غاية ما يمكن أن يعتذر به لمن قال هذه العبارات وأمثالها أنهم أرادوا الخير، وهو هنا الاجتهاد في الإخلاص لله تعالى، والتجرد من شوائب حظوظ النفس غير المشروعة، ولكنهم بالغوا في ذلك مبالغة أنستهم ما دلت عليه هذه النصوص، فأدخلوا حظوظ النفس المشروعة التي تعبدها الله بها، في حظوظها غير المشروعة، وهذا اجتهاد أخطأوا فيه، نسأل الله أن يغفر لهم خطأهم، ويثيبهم على اجتهادهم إلا أن ذلك لا يسوغ لمن اطلع على هذه النصوص وغيرها مما في معناها أن يقلدهم فيما ذهبوا إليه فالحق أحق أن يتبع، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى.

5 ـ تعليق بعض العلماء على هذه العبارات:

( أ ) قال ابن تيمية، رحمه الله: "ومن قال من هؤلاء: لم أعبدك شوقاً إلى جنتك، ولا خوفاً من نارك، فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم، في فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته، قال: "إني أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ"، فقال: (حولها ندندن) [مجموع الفتاوى (10/240). والحديث رواه أحمد (3/474) مؤسسة قرطبة، مصر، و أبو داود في سننه (1/210) دار الفكر بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، وابن خزيمة في صحيحه (1/358) المكتب الإسلامي ـ بيروت. وصححه النووي في الأذكار، دار المنهاج للدراسات والنشر، ص:138 ـ بيروت.].

وقال في موضع آخر: "وقد علم بالاضطرار أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين والنبيين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجباً، أو مستحباً، وطريق أولياء الله التي يسلكونها، لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات، إذ ما سوى ذلك محرم أو مكروه أو مباح، لا منفعة فيه في الدين" [نفس المرجع (10/714).].

(ب) وقال ابن القيم، رحمه الله ـ معلقاً على قول الهروي رحمه الله: "الرجاء أضعف منازل المريدين..." ـ : "شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم، عليه الصلاة والسلام، فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبين ما فيه"، وبعد أن حمل كلامه على أحسن محامله، كما قال، قال: "فأما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين، فليس كذلك، بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله، وقد مدح الله تعالى أهله، وأثنى عليهم، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً(21)}[الأحزاب].

وفي الحديث الصحيح الإلهي، عن النبي عليه الصلاة والسلام ، فيما يروي عن ربه عزوجل: (يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي ..) ، إلى أن قال : "وبالجملة فالرجاء ضروري للمريد السالك، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها، فكيف يكون الرجاء من اضعف منازله وهذا حاله؟!" [اتهى كلام ابن القيم من كتاب: مدارج السالكين باختصار شديد (2/37) وما بعدها.].

(ج ) وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله، رداً على من زعم منافاة قصد الجزاء على الأعمال الصالحة للإخلاص: "فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيوياً أو أخروياً، فإن كان أخروياً فقد أثبته الشرع، حسبما تقدم، وإذا ثبت شرعاً، فطلبه من حيث أثبته صحيح، إذ لم يتعد ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته، إذ قد فهم من الشارع، حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملاً لله وحده على مقتضى العلم الشرعي، وذلك غير قادح في إخلاصه؛ لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره؛ لأنه U يقول: {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(43)}[الصافات].

فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص - ومعنى كونه مخلصاً لا يشرك معه في العبادة غيره - فهذا قد عمل على وفق ذلك، وطلب الحظ ليس بشرك، إذ لا يعبد الحظ نفسه، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب، وهو الله تعالى، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد، فهذا هو الذي أشرك، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل، والله لا يقبل عملاً فيه شرك.

وليست مسألتنا من هذا.. فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي، في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها، بل إذا كان العبد عالماً بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى، فذلك باعث له على الإخلاص قوي، لعلمه أن غيره لا يملك ذلك" [الموافقات (2/215) وما بعدها.].

هذا هو الأثر الأول الذي ترتب على هذه العبارات، وهو مخالفتها لنصوص القرآن والسنة، وهو واضح، وقد تبين ما يمكن أن يعتذر به لأصحابها، مع عدم جواز تقليدهم في ذلك.

الأثر الثاني: - وهو مترتب على الأثر الأول - أن بعض المنتسبين إلى الإسلام، ممن كانوا قبل دخولهم في الإسلام ينكرون اليوم الآخر، ولم يهتموا بالتفقه في الدين على من هو أهل لتفقيههم فيه، فهموا من هذه العبارات غير مراد أصحابها - وهو المبالغة في إخلاص العمل لله تعالى من شوائب حظوظ النفس - حتى ولو كانت هي الرغبة في الفوز بالجنة والخوف من عذاب النار، كما سبق ، فحملوا تلك العبارات على معنى أنه لا يوجد يوم آخر، وليس هناك جنة ولا نار، وأن الذي يعمل العمل الصالح رغبة في دخول الجنة فهو عبد شهواني، لم يعبد الله وإنما عبد شهواته، كرغبته في النساء الجميلات ذات العيون الواسعة - يقصد الحور العين - وشرب الخمر، وغيرها، وأن خشية الله، ليس معناها الخوف من أنه يعاقبنا، كما يخاف المذنب من الضرب.

هذا الفهم هو الذي فهمه واعتقده أوربي مشهور [هو بروفيسور رجاء جارودي.] أعلن إسلامه، وسُرَّ به المسلمون؛ لأنه مفكر عالمي، له اطلاع واسع على الفلسفات القديمة والحديثة، وكان ماركسياً، وعندما قابلتُه حاورته في هذا الموضوع، وقد سمعت أنه ينكر الإيمان باليوم الآخر، وكنت أظن أنه يبالغ في معنى الإخلاص، كما بالغت رابعة العدوية وغيرها، ولكن عندما ذكرت له كثرة الآيات الواردة في الإيمان باليوم الآخر، قال: هذا تمثيل وخيال، وليس بحقيقة، فليست هناك جنة ولا نار، والله ليس عنده يوم أول ويوم آخر. والجنة المذكورة في القرآن المقصود بها السعادة التي تحصل في القلب في الدنيا عندما يعمل المؤمن خيراً، والنار المذكورة في القرآن هي القلق النفسي الذي يحصل في قلب العاصي في الدنيا، وبعد نقاش طويل قال: لقد اختلفت مع يوسف القرضاوي [بلغني أن الشيخ القرضاوي لم يحاوره في ذلك، فلعل المترجم ذكره، أو أنا أخطأت في ذكره] ومحمد الغزالي وشيخ الأزهر، في هذه المسألة، وإذا صح أنه يوجد يوم آخر وتوجد جنة ونار فليدخلوا هم الجنة وهو ـ أي جارودي ـ يدخل النار.

قال هذا مبالغة في إنكار الإيمان باليوم الآخر واحتج على صحة اعتقاده هذا بما أورده حجة الإسلام الغزالي في "إحياء علوم الدين" عن رابعة العدوية وغيرها، ورفض رفضاً باتا التسليم لآيات القرآن الكريم بالمعنى الذي فهمته الأمة الإسلامية كلها من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى الآن.

وكان يهزأ بعلماء الإسلام الذين يثبتون الإيمان باليوم الآخر، ويرى أنهم لا يفهمون حقيقة المعنى الذي أراده الله في القرآن، وقال: كلامُ الله لا يجوز أن نفهمه فهما أدبياً ظاهرياً، وإنما نفهم روح معانيه، وضرب مثالاً للفهم الأدبي الظاهري، وهو ما فهمه بعض الصحابة من قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}، فقد فهم الصحابي الخيط على حقيقته، وهو فهم أدبي ظاهري غير صحيح، وقاس الرجل فهم الأمة الإسلامية لمعنى اليوم الآخر على هذا المثال، وأكد أن المقصود مجرد التمثيل والخيال، وليس الحقيقة التي فهمها علماء المسلمين، وقال:إن نابليون كان ملحداً وثنياً، ولكنه كان يقول: إذا وجد شعب لا توجد فيه عدالة اجتماعية، والناس يشكون ويتألمون من الظلم، فيجب أن يقال لهم: إنه يوجد عالمٌ آخر، ستكون فيه التعويضات وأداء الحقوق، حتى يهدءوا.

والظاهر أنه يقصد من ذلك مقولة الشيوعيين، وكان هو منهم ولا زال يحمل بعض أفكارهم: إن الرأسماليين يستعملون الدين لتخدير الشعوب، حتى لا تطالب بحقوقها، بل تخضع للظلم في الدنيا، لتنال الجزاء في الآخرة، وأرجو الله تعالى أن يكون قد رجع عن رأيه المخالف لما هو معلوم من الدين بالضرورة، قبل لقاء ربه.