أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





-استقبال المجاهدين والترحيب بهم.

ومن حق المجاهدين في سبيل الله على من بقي من المسلمين في البلد، أن يستقبلوهم ويرحبوا بهم ويشعروهم بالاحترام والتقدير، لما نالوه من مشقة في سبيل الله تعالى وما واجهوا من عناء في الحروب، من الجوع والعطش ومفارقة المضاجع والظلال، ولكونهم أدوا الفرض وأسقطوه عن غيرهم.

وهكذا كان السلف يعملون وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وقد بوب لذلك البخاري رحمه الله فقال: "باب استقبال الغزاة" وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث السائب بن زيد رَضي الله عنه، قال: "ذهبنا نتلقى رسول الله صَلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع" [صحيح البخاري رقم: 3083، فتح الباري (6/191)].

وبينت رواية الترمذي لنفس الحديث أن ذلك كان عند قدومه من غزوة تبوك، وفيه توضيح أكثر للمتلقين (الناس) وهو يدل على كثرتهم.

وهذا نصه: "لما قدم رسول الله صَلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، قال السائب: فخرجت مع الناس وأنا غلام" [الترمذي رقم الحديث: 2772، تحفة الأحوذي (5/281)].

وقال ابن القيم رحمه الله: "فلما دنا رسول الله صَلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولدان يقلن:

طلع البـدر علينـا،،،،،،،،،،،،،،،،،،، من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا،،،،،،،،،،،،،،،،،،ما دعـا لله داع

وبعض الرواة يَهِمُ في هذا، ويقول: إنما كان عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام... [زاد المعاد (3/12)].

هكذا كان السلف الصالح يعاملون المجاهدين في سبيل الله، يودعونهم عند سفرهم داعين لهم بالنصر والشهادة، ويكرمونهم عند قدومهم بالاستقبال والترحيب، لأن المقياس عندهم هو سبيل الله.

وكانوا إذا رجعت طائفة من الجيش الإسلامي وتركته ورجعت إلى المدينة، بسبب ما رأت تلك الطائفة، من كثرة العدو وغلبة ضعفها البشري عن التحمل والثبات، كانوا يستقبلون تلك الطائفة بالتأنيب ويَحْثُون التراب عليهم، ويعيرونهم بقولهم لهم: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله. [السيرة النبوية لابن هشام (2/18) والبداية والنهاية لابن كثير (4/248)].

فهل بقي هذا المقياس للتكريم أو التأنيب عند المسلمين؟

لقد انعكست الأمور وانقلبت الموازين واختلت المقاييس، وأصبح الخونة الجبناء الذين يبيعون الدين والأرض والشعوب للأعداء الكافرين، هم موضع التكريم وإذا خضع أحدهم لعدو المسلمين فركع له واستسلم وتآمر على شعبه ودينه وأرضه، ثم رجع إلي ذلك الشعب، رأيت غوغاء الناس وهم يركضون لاستقبال الزعيم والتصفيق له كأنهم قطعان من الحيوان، يهتفون بحياته ويثنون على خطواته، ويلقبونه بألقاب الفاتحين الأبطال، وقليل هم الذين يدركون الخيانة ويعرفون الخونة، فتراهم ينظرون إلى تلك الجموع الضائعة متعجبين مشفقين، يدعون لها بالهداية والإنابة إلى الله.

وهؤلاء القليل مغلبون على أمرهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، محاصرون من كل جانب، لا يملكون أن يوصلوا إلى تلك الجموع الضائعة الخاسرة كلمة الحق عن طريق أقل وسيلة للإعلام، وإذا تجرءوا فقالوا كلمة حق بأي وسيلة، اتهموا بالشذوذ والتآمر على مصالح الشعب والخروج عن الصف، وقيل فيهم ما قال أعداء الله من قبل في ذوي الصلاح والهدى والدعوة إلى الله، إنهم خارجون على النظام مفسدون، يريدون القضاء على مكاسب الشعب التي حققها له القادة الأبطال.

{قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبان بطريقتكم المُثْلى} [طه:63].

وبمقدار ما تُسلط أجهزة الإعلام على أولئك الصالحين، لتصفهم بكل أوصاف الذم، حتى يظهروا أمام الجموع الضائعة بمظهر الشذاذ المفسدين، الذين يجب نبذهم وعدم الإصغاء إلى آرائهم، بمقدار ذلك أو أكثر تكيل تلك الأجهزة، المديح والثناء للأبطال المتآمرين، حتى يصبحوا هم الملائكة الأبرار، الذين لا يريدون إلا الحق ولا يسلكون إلا سبيل الهداية والرشد، فيرتسم في أذهان الغوغاء أن هؤلاء الضالين المفسدين هم الهداة المهتدون، وأن أولئك المجاهدين الأبرار، هم أهل الغواية والضلال.

وقد سبق هؤلاء الذين يقلبون الحقائق، فيظهرون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، سبقهم إخوانهم الذين سجل التاريخ عليهم كل تصرفاتهم، فلحقتهم لعائن الله في الأرض وتنتظرهم نقمته في الآخرة. {وقال فرعون ذروني أقتلْ موسى ولْيَدْعُ ربَّه، إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26]. قال الله تعالى في قصة فرعون: {ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد} [غافر: 29]

وليت الأمر يقف عند هذا الحد فقط، ولا يتعداه إلى التعذيب والإهانة والقتل والتشريد، وسيأتي مزيد بيان لهذا في الباب الثالث، إن شاء الله عند الكلام على الابتلاء وأنواعه.

وممن ينالون التكريم والتعظيم تلك العجول البشرية، الذين لا يذكرون الله إلا قليلا، بل ربما لو سألت الكثير منهم عن جهة القبلة ما دلك عليها، لعدم اتجاهه إليها، أولئك هم نجوم الرياضة وأبطالها الذين أصبحوا شغل الناس الشاغل في كل البلدان الإسلامية، قبل المباراة بالإعلانات عنها في جميع أجهزة الإعلام، وفي وقت المباراة بمراقبتها وتحمس كل طائفة لفريق منها، وبعد المباراة بالحديث عن البطولة والنصر أو الإخفاق ولخسارة، ورفع بيارق النصر والرقص في الشوارع والتصفيق وإزعاج الناس بأبواق السيارات وترديد علم المنتصر الذي يعرف به.

ومما يؤسف له أن يطلق على تلك الفرق أسماء غزوات، كانت غرة في جبين التاريخ حقق المسلمون فيها انتصارات رائعة على أعدائهم، والآن تطلق على فرق عمد إلى إلهائها باللعب وتلهية الناس بها، حتى أصبحت مثل ثيران أسبانيا تتصارع ليتلهى بها الجمهور. [راجع على سبيل المثال جريدة المدينة المنورة، عدد (4620) الصادرة بتاريخ 23 رجب سنة 1399هـ وعدد (4258) بتاريخ 11 رجب سنة 1399هـ وعدد (4615) بتاريخ 17 رجب سنة 1399 هـ].

وهكذا تجد التكريم والتعظيم للراقصات والمومسات اللاتي تتألق أسماؤهن وأشباههن من الرجال، ويلقبون بالألقاب الرفيعة: النجوم، الرواد العظماء، المبتكرون... وتفتح لهم أبواب الظهور، حتى يصبحوا أئمة الشعوب وقادتها في تحطيم الأخلاق والمعنويات والقضاء على الرجولة الشرف، وهكذا.

والسبب في ذلك أن المقياس عند عامة الناس، انقلب من سبيل الله إلى سبيل الشيطان، فكان السلف يكرم أهل سبيل الله، لأنه مقياس التكريم عندهم، وأصبح المنتسبون إلى الإسلام الآن يكرمون أهل سبيل الشيطان لأنه المقياس عندهم.

-إشعار قادة البلاد المفتوحة بالتكريم تأليفاً لقلوبهم.

وينبغي أن يُشعِر المجاهدون في سبيل الله، أهلَ البلاد التي يتغلبون عليها ويفتحونها، بأنهم لم يفتحوا بلادهم ليذلوهم ويهينوهم، وإنما جاهدوهم لإعلاء كلمة الله تعالى، التي فيها سعادتهم واطمئنانهم، واستظلالهم بظل الإسلام الذي ينالون فيه العدل والمساواة، ويأمنون من الظلم والعدوان، وفي ذلك بركة وخير لهم.

ومن مظاهر ذلك التكريم، احترام قادة البلاد، بما يجعلهم يطمئنون للفاتحين ويألفونهم ويرحبون بهم، كما فعل الرسول صَلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة، فإنه أشعر أهلها بأنه لم يأت للقضاء عليهم وتدمير بيوتهم، على رغم ما مما عملوه معه صَلى الله عليه وسلم ومع أصحابه قبل الهجرة وبعدها، من الإيذاء والفتنة والتآمر.

لذلك أمر صَلى الله عليه وسلم أن ينادى في القوم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن) [مسلم (3/1480) رقم الحديث: 1780].

وفي رواية: فقال أبو سفيان: أَدارِي؟ فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (نعم) [المصنف (5/376) رقم الحديث: 9739].

وفي أخرى، قال له العباس – أي للرسول صَلى الله عليه وسلم –: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئاً قال: (نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق على نفسه الباب فهو آمن) [أبو داود (3/416) رقم الحديث: 3021، وانظر المبسوط للسرخسي (10/38)].


وأنت ترى أن هذا الأمر الذي أعطاه صَلى الله عليه وسلم أبا سفيان، لا يختلف عن أي دار من دور مكة، لأن من دخل داره أو دار غيره وأغلق الباب، مشيراً بذلك إلى عدم مقاومة الرسول صَلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو آمن، ولكن ذكر أبي سفيان باسمه في ذلك الموقف طيَّب نفسَه، وجعله يتعجب ويستفهم: أداري، أداري؟ ثم إن الرسول صَلى الله عليه وسلم لم يعطه هذا الحق إلا بعد أن أسلم، كما في رواية أبي داود: (فأسلم بمر الظهران، فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر...) الخ.

ولما كان الرسول صَلى الله عليه وسلم، قد عزم على قتل بعض المشركين وعدم تأمينهم والعفو عنهم، وخشي أن يدخلوا في لفظه العام في قوله: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن...) استثناهم وأمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة وهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خطل، فأُدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فقتل، وأما مقيس بن صبابة فأدركوه وهو في السوق فقتلوه أيضاً، وأما عكرمة فقد فر في سفينة في البحر، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه.

وأما عبد الله بن أبي السرح، فقد اختبأ عند عثمان بن عفان رَضي الله عنه، فلما دعا الرسول صَلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به إلى النبي صَلى الله عليه وسلم وطلب منه النبي أن يبايعه وهو ينظر إليه ولم يبايعه ثلاث مرات، وفي الرابعة بايعه وهو غير راض عنه. ثم أقبل صَلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: (ما كان منكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) [انظر مضمون هذه القصة في صحيح البخاري رقم: 4286، فتح الباري (8/15)، وصحيح مسلم (2/989) رقم: 1357، وسنن أبي داود (3/134) رقم: 2685، وجامع الأصول (8/373) وما بعدها رقم: 6148، 6149، والمبسوط (10/38-39)].