أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102] {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: ا]

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب: 70 – 71].

منزلة الجهاد والمجاهدين

فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وناشر لوائه، وحامي حماه. [إشارة إلى ما رواه الترمذي في سننه من حديث معاذ بن جبل، وفيه: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح كتاب الإيمان، الباب الثامن، رقم 2616 (ج 5 ص 11)]

بل لا قيام لهذا الدين في الأرض بدون الجهاد في سبيل الله، وإن المجاهدين في سبيل الله هم صفوة الخلق، وسادتهم، والناصحون لهم، والباذلون نفوسهم ومهجهم لإسعادهم في الدنيا بالتمتع بهذا الدين الذي لا سعادة لهم بدونه، وفي الآخرة بنيل رضوان الله ودخول جناته.

قوم باعوا نفوسهم وأموالهم لله، ورغبوا في عاجل لقائه؛ لينالوا الحياة الآجلة الأبدية التي لا يصطفي الله لها من خلقه، إلا خيارهم الذين يتخذهم شهداء.

قوم ندبهم الله لإعلاء كلمته فانتدبوا، وأمرهم بالدعوة إليه وبذل طاقتهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فأسرعوا ملبين أمره، مشفقين على خلقه، داعين إلى عبادته ونبذ عبادة غيره، يقيمون على دعوتهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله، فيضمُّون من اهتدى بذلك إلى صفِّهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.

ويرفعون السيف على رقاب من جحد وعاند وحارب الله ورسوله، حتى يدخل في دين الله، أو يخضع لسلطانه مقيماً الدليل على خضوعه، بأداء الجزية والصَّغار.

قوم يختارون الجوع والعطش والخوف على الشبع والري والأمن في الحياة الدنيا، ليسبقوا إلى نعيم الله الدائم في دار كرامته.

ينام الناس وهم يسهرون، ويتمتع الناس بملذات الدنيا وطيباتها وهم منها محرومون، إذا تغطى القاعدون على سررهم بأنواع الثياب وافترشوا أجود الزرابي وتوسدوا ألين النمارق؛ كان غطاء المجاهدين نقع غبار التحامهم بالأعداء، وكان فرشهم الحصى والشوك، وكانت وسائدهم أسلحتهم التي بها يقارعون الكفار.

لذلك يكرمهم الله إذا انتقلوا إلى دار كرامته، بما يتمنون أن يحييهم الله من أجله مرات ليقتلوا في سبيله، بل هذا ما تمناه الرسول عليه الصلاة والسلام، وما ذلك إلا لمكان المجاهد الشهيد الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله.

وتلك التجارة الرابحة التي تتضاءل أمامها كل أنواع التجارات، وتصغر بجانبها كل أنواع الأرباح:{يا أيها الذين آمنوا، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين} [الصف: 10 –13].

قوم رفع الله منزلتهم في الدنيا على أعدائهم، وجعلهم قادة البشر ومعلميهم جزاء رفعهم لواء الإسلام ونصرهم دين الله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110].

ولقد علم السلف الصالح منزلة الجهاد في سبيل الله، فشمروا عن سواعدهم صاعدين إليها غير راضين بالوقوف على ما سفل من درج سلمها، بل طامعين في الوصول إلى ما علا منه، حتى كان أحدهم يرمي التمرات من يده مسرعاً إلى الله بنفسه، وكان المجاهد يشم ريح الجنة قبل أن يلقى ربه شهيداً.

فأنالهم الله من العز والتمكين في الأرض ما كانوا به سادة الدنيا وقادة العالم، ففتحوا قلوب البشر بالقرآن والسنة والإيمان، وأزاحوا طغاة الكفر وجبابرته بالسيف والسنان، حتى دان لهم العالم في وقت قصير، فما بقي في أغلب الأرض إلا مسلم أو خاضع لحكم الإسلام.

القعود عن الجهاد وآثاره على الأمة

ولكن الخلف أخذ يبتعد عن دين الله رويداً رويداً، ويفرط في الدعوة إلى الله شيئاً فشيئا، ويقعد عن الجهاد في سبيل الله قليلاً قليلا، حتى أضاع الأمانة التي حملها، ففقد العزة التي كانت تصاحبها، ترك طاعة ربه فوكله إلى نفسه، وقعد عن نصر دينه فخذله وأذله لعدوه، فعاد الكفر يصول ويجول، وعاد الإسلام غريباً كما بدأ.

فأصبح المسلمون كقطعان الأغنام التي لا راعي لها، تتخطفها الذئاب في الشعاب، ويقتلها الظمأ وهي تسعى إلى ما تظنه ماء وهو سراب، وتداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها.

وأصبحوا - مع كثرتهم - غثاء كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائهم ووضعها في قلوبهم.

ولكن الأرض لم تخل من شموس الهدى الذين يضيئون للناس الدرب، ويهدونهم إلى الصراط المستقيم، ويحدون بهم إلى التمسك بهذا الدين والدعوة إليه وجهاد أعدائه، متخذين من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والتطبيق العملي من سلفنا الصالح ما يعطي الناس التصور الصحيح لهذا الدين وللجهاد في سبيل إعلائه.

ولما كان هؤلاء الرواد قليلا عددهم، محصورة وسائلهم التي يبلغون بها ما عندهم لغيرهم؛ وجب على غيرهم ممن ضعفت همته وكلت عزيمته، فلم يلحق بهم ركابه، أن يسهم معهم بنقل ما تصوروا، وما به بشروا وأنذروا إلى الناس من مسلمين وكفارا، حتى يمهد لجهادهم السبيل، ويقيم على العالَم الحجة والدليل، ولا يثبطه قِصَر الباع وقلة العلم والاطلاع، عن أن يدلي بدلوه مع الدلاء، تشبها بمن دعا إلى الله وحرض على الجهاد في سبيل الله، ومن تشبه بقوم فهو منهم وإن بعدت المسافة بينه وبينهم.

منهج البحث ومصادره

ولقد بدا لي أن من أهم ما يدفع المسلمين للقيام بالجهاد في سبيل الله تجلية حقيقته لهم، وبيان الغاية العليا منه، وما تفرع عنها من أهداف، والسعي لإعادة الروح الجهادية في نفوسهم، وتبصيرهم بثمرات إقامته الطيبة التي تعود إليهم وإلى العالم كله بالخير، وبأضرار القعود عنه التي تشقي العالم كله في الدنيا والآخرة.

كما بدا لي أن غالب هذه المعاني غير واضحة في أذهان أكثر المسلمين، وأن الضرورة تقتضي إيضاحها وبيانها، فدفعني ذلك إلى اختيار هذا الموضوع الذي أطلقت عليه: "الجهاد في سبيل الله: حقيقته، وغايته".

ولعل القارئ لهذا الموضوع يتصور حقيقة الجهاد في سبيل الله وثمرات القيام به، كما يتصور أضرار القعود عنه، فيدفعه ذلك إلى السعي الحثيث لإقامة هذه الفريضة العظيمة.
وقد حاولت أن أجمع مادة هذا البحث من المصدرين الأساسيين، وهما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حسب طاقتي واطلاعي الضيق وفهمي القاصر، وحسبي أنني أعملت فكري وأجهدت عقلي عند قراءة النص، لأخرج منه بحكم أو فائدة في الموضوع الذي يكون فيه البحث.

كما حرصت على قراءة ما ذكره العلماء في تفسير النص القرآني أو شرح الحديث النبوي، وقد لا أجد - فيما قرأت - من ينص على ما فهمته من النصوص، ولا أتردد في إثبات ما فهمته، لوضوح معناه من حيث اللغة وعدم تعارضه مع قواعد الإسلام ونصوصه الأخرى.

ثم أذكر ما تيسر لي من نصوص الفقهاء من كتب المذاهب المعتمدة أو غيرها، وكتب السيرة والتاريخ الإسلامي من مراجعها الأصلية، وبذلت جهدي في أن أورد لكل حكم أو فكرة دليلاً من الكتاب والسنة، أو ما يؤيد ذلك من استنباط العلماء الأجلاء.
ولما كان منهج البحث مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بهذا العصر الذي كتب فيه البحث، فإنني جلت في بعض كتب العلماء المعاصرين، لاسيما رجال الدعوة إلى الله ممن جاهدوا في سبيل الله، واستفدت منها أفكاراً ونصوصاً رأيت أن الفائدة تقتضي أخذها كاملة أو مختصرة بلفظها، وقد أصوغ معناها اختصاراً.

وفي كل حال أشير إلى مراجعي ولا أهملها، إلا إذا حصل مني سهوا أو غفلة، حرصاً مني على الاعتراف بحق السابق والدلالة على المرجع، ليستفيد منه القارئ إذا أراد.

وقد أجد نصاً في كتب علماء غير مسلمين مناسباً للموضوع فاذكره، وإذا كان يستحق النقد نقدته.


أسلوب البحث وهدفه

أما أسلوب البحث فقد آثرت أن يكون سهل التناول لجميع طبقات الناس، لأن الموضوع يعنيهم جميعاً، وتناوله بأسلوب طبقة معينة، كعلماء الفقه -مثلا- يحرم غيرهم من الاستفادة المطلوبة، وغالب شباب المسلمين يدرسون دراسات بعيدة عن التخصصات المتصلة بالدراسات الإسلامية، وكثير منهم عنده رغبة شديدة في هذه الدراسات، ولكن الأساليب المعقدة بالنسبة لهم تجعلهم ينصرفون عن كثير من الكتب التي تقع بين أيديهم.
وقد بعث الله كل نبي بلسان قومه ليتم البيان وتقوم الحجة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون" [صحيح البخاري، رقم الباب 49 في كتاب العلم فتح الباري (1/235)]. ولم يكن ذلك إلا حرصاً على إقامة الحجة وقبول الناس ما يعرض عليهم.
ولكن هذا الأسلوب السهل لا يحط من قيمة البحث العلمي؛ لأن المهم أن تكون الأحكام والأفكار مسندة بأدلتها من مصادر معتمدة ومراجع موثقة، وحسب الباحث أن يكون بحثه قائماً على الدليل مدعما بالحجة.
وهنا أود أن أنبه على ما جرى عليه علماء الفقه في كتبهم، وهو إيراد الأحكام المستنبطة إما بالدليل كمغني ابن قدامة الحنبلي ومبسوط السرخسي الحنفي وما ماثلهما، وإما بدونه، وكلها تخلو من العاطفة في أسلوبها، لذلك نرى بعض كتاب العصر يؤكدون في مقدمات كتبهم التي موضوعها فقهي على خلو أسلوبهم من العاطفة. [راجع آثار الحرب في الفقه الإسلامي، لوهبة الزحيلي ص 22]. بحجة أن الكتاب علمي يقوم على الحجة وليس على العاطفة.
أما أنا فأعترف أن عاطفتي كانت ترافقني في كل موضوع، ولكنها عاطفة المؤمن بالحكم أو الفكرة القائمة على الدليل والبرهان، وعاطفة من يدعو إلى تطبيق الحكم أو الفكرة القائمة على الدليل والبرهان، ولم أذكر أحكاماً أو أفكاراً مبنية على العاطفة المجردة.

ولقد كانت خطة البحث تستهدف إقناع المسلمين بضرورة الجهاد وكل ما يدفع إلى القيام به ويحققه، لذلك تجد كل موضوع يدور على هذا المحور، وإن اختلف مضمونه عن الموضوعات الأخرى، فالكلام على أنواع الجهاد يؤكد ضرورة تحقيقها كلها، والكلام على صفات المجاهدين يحض على توافر تلك الصفات كلها، والكلام على عوامل النصر والهزيمة يدعو إلى السعي لتحقيق الأولى والبعد عن الثانية وهكذا... دواليك.

ولعلي قد بلغت ما قصدت من إقناع المسلمين بضرورة الجهاد في سبيل الله مع توضيح حقيقته وغايته.