أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



إن أي مبدأ من المبادئ مهما سمت معانيه وقويت حججه وبراهينه، وحسنت صياغة نصوصه لا يكون له أثره الفعَّال ما دام غير مطبق عملاً في واقع الحياة.

وإن النصوص التي تضمنته لتُنسى ولو حُفظت معانيه، وإن معانيه لتضيع مهما فُهمت.. ولكن المبدأ الذي تحفظ ألفاظه فلا تنسى.. وتثبت معانيه فلا تضيع.. وينزل احترامه في القلوب فلا يهون.. هو المبدأ الذي يطبقه أهله عملاً في واقع لحياة.. فيراهم الناس يتحركون به، وتنقله عنهم الأجيال كما هو.. لا يحرف ولا يبدل..

لذلك كان حفظ هذا الدين فرضاً على المسلمين ليس في نصوصه وفقهها فحسب، وإنما في العمل به أيضاً.

ومن هنا أوجب الله تعالى الحد الأدنى الذي يحفظ به هذا الدين على كل فرد من أفراد المسلمين، وهو فرض العين الذي لا يسقط عن أحد ما دام قادراً على إقامته قدرة عقلية، وهى مناط التكليف، وقدرة فعلية يمكن بها التنفيذ.

وذلك مثل أصول الإسلام والإيمان وفرائضهما، فإن الله تعالى كلفها كل فرد من عباده لا يسقط شيء منها إلا لعذر، وما عدا فرض العين مما يجب الإتيان به بصرف النظر عمن يقوم به، فهو فرض الكفاية يجب على الأمة كلها حتى يقوم به من يكفي منها.

قال ابن تيمية رحمه الله: "والتحقيق أن النبي عليه الصة والسلام ذكر الدين - يعنى في حديث جبريل - الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله بها مخلصاً له الدين. وهذه هي الخمس ـ أي: الخمس الدعائم التي هي أركان الإسلام المذكورة في الحديث المذكور ـ وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث، وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق للآدميين يختص به من وجب له عليه" [مجموع الفتاوى (7/314).].

فالفرد مكلف من الله تعالى بإقامة دينه في نفسه، بحيث يقوم بما فرض عليه عيناً من عبادته تعالى ما دام أهلاً للتكليف، قادراً على الفعل الذي كلفه الله إياه، وهو أيضاً مكلفٌ أداءَ ما تعلق به من حقوق الآدميين.

والأمة كلها مكلفة الإتيانَ بما فرض الله عليها الإتيان به من فروض الكفاية، وتكون كلها آثمة، حتى يقوم به من يكفي منها.

هذا هو الحد الأدنى المفروض على الفرد والأمة القيام به لحفظ هذا الدين، وهو يتضمن كلاً من فروض العين وفروض الكفاية.

أما الحد الأعلى فهو أن يقوم الفرد - مع الفرائض - بسنن الدين العينية والنوافل التي هي مطلوبة شرعاً على سبيل الندب من كل فرد، كالسنن الراتبة قبل الصلوات المكتوبة أو بعدها، وكصوم النفل وحجه وعمرته والصدقة غير الواجبة، والذكر وقراءة القرآن الزائدة عما يجب منه وهكذا.

وكذلك السنن الكفائية التي يطلب الإتيان بها شرعاً، ولكن ليس على كل فرد، وإنما إذا قام بها بعض المجتمع كفى، كصلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وغيرهما.

وهناك حد أدنى من المحرمات، حظرها الله تعالى على كل فرد، فهي محرمات عينية مطلوب من كل فرد اجتنابها.

وهى المحرمات التي حظرت لذاتها لما يلحق الفرد والأمة من الضرر بسبب ارتكابها، كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس التي حرم الله بغير حق والزواج بالأقارب التي حرمها الله تعالى، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها.

فإنه يحرم على كل فرد من الأمة ارتكاب أي محرم منها، إلا ما اضطر إليه مما لا حياة له بدونه بما يمكن تناوله، كأكل الميتة.

وحد أعلى وهو المكروهات، فإن تركها مطلوب شرعاً لا على سبيل التحريم، وقد رتب الله تعالى الثواب على فعل الواجب والمندوب وعلى ترك المحرم والمكروه، فإن المندوب يخدم الواجب، والمكروه يخدم المحرم [راجع الموافقات للشاطبي (1/92-93) وكذا (3/205) وما بعدها.].

والقرآن الكريم إنما نزل للعمل بما فيه من أمر ونهي وتوجيه ولذلك رتب الله تعالى على امتثال أمره واجتناب نهيه السعادة في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، كما رتب على عصيانه الشقاء في الدنيا والآخرة.

كما قال تعالى: {وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [سورة العصر].

فالخسران ثابت في الدنيا والآخرة لكل من لم يتصف بالصفات الأربع المذكورة، وهى: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وإنما أثبت الله تعالى الفلاح لمن اتصف بالإيمان والعمل الصالح.

كما قال تعالى: {ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا ريْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يؤمنونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَمِمَّا رزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يؤمنونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ ربِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة].

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُروجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْر مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَراءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارثُونَ (10) الَّذِينَ يَرثُونَ الْفِردَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)} [المؤمنون].

ففي سورة: "العصر" أثبت سبحانه الخسران لمن لم يكن عنده الإيمان والعمل الصالح، ومنه التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وفي سورة البقرة وسورة المؤمنون أثبت الفلاح لمن آمن وعمل صالحاً. فلا يحفظ الدين الذي هو أهم الضرورات، إلا بالعمل الصالح، ويدل على ذلك أمر الله تعالى بكل عمل صالح مطلوب بذاته على حدة.

مثل: {وَأَقِيمُوا الصّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاركَعُوا مَعَ الراكِعِينَ(43)} [البقرة]. {وَالسَّارقُ وَالسَّارقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38} [المائدة]. {شَهْر رمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَريضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر ولا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْر وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّروا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ(185)} [البقرة].
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تؤمنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المؤمنين(2)} [النور]. {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرتُمْ فَمَا اسْتَيْسَر مِنَ الْهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَريضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَر مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِري الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(196)}[البقرة]. وكم غير ذلك كم أوامر الله في القرآن والسنة.


وكذلك نهيه عن المعاصي، حيث ينهى عن كل معصية على حدة. مثل قوله تعالى: {ولا تَقْربُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا(32)}[الإسراء]. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْركُوا بِهِ شَيْئًا(36)}[النساء]. {وَقَضَى ربُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَريمًا(32)} [الإسراء].
{ولا تَقْربُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ(152)} [الأنعام]. وكم من نهي في كتاب الله وسنة رسوله لعباده أفرادا وأسرا وجماعات وحكومات,

وكيف يمكن أن يحفظ هذا الدين مع عدم العمل بأوامره ونواهيه، أليس ذلك هو الضياع بعينه؟ وهذا ما يعانيه المسلمون في هذا الزمان من الشقاء والنكد بسبب تضييع دينهم لعدم عمل أكثرهم به، وفي القليل الذين يحاولون العمل به تقصير شديد، فكان جزاؤهم الخسران والضياع، حتى ليكادوا يذوبون في في مجتمعات غير مسلمة، حافظت على مبادئها التي اتبعتها وهي غير الإسلام.