أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



تأصيل "نقد نسبة النصوص"
"هدى الساري لمقدمة فتح الباري" أنموذجاً

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد سطّر العلماء والباحثون عباراتٍ وأبحاثاً تُعنى بنسبة الكتب إلى مؤلفيها، وكذلك في تعيين الكتاب وأنه المراد. غير أنني لم أقف على ما يروي الغليل ويشفي العليل في التحقق من نسبة نص معين إلى من نسب إليه؛ فرغبت في تسطير ما يكون تأصيلاً لنقد نسبة النصوص؛ بتوظيف عنوان مشتهر تداوله المتعاقبون عبر خمسة قرون – إلا قليلاً- ؛ فجاء اسم "هدى الساري لمقدمة فتح البخاري" للحافظ ابن حجر (ت852هـ) ليكون أنموذجاً. وقد جاء المقصود في أربعة مباحث وخاتمة.
· المبحث الأول: تسمية الكتاب عند تلاميذ المؤلف:
· المطلب الأول: تسميته عندهم بـ"هدى الساري":
جاءت هذه التسمية عند ثلاثة منهم، وهم:
1. ابن فهد المكي (ت871هـ) فقال: "وسماها: هدى الساري" (لحظ الألحاظ).
2. السخاوي (ت902هـ) فقال: "المسماة: هدى الساري" (الجواهر والدرر).
3. السيوطي(ت911هـ) فقال: "والتي تسمّى: هدى الساري" (نظم العقيان).
وقد جاءت عباراتهم في سياق التعريف بمصنفات شيخهم، فتُذكَر المصنفات عادة في هذا السياق بشيئٍ من التفصيل والتوسّع في العبارة لغرض الإفادة بجميع ما وقع لهم في الباب.
وعباراتهم متفاوتة؛ فنسب ابن فهد التسمية إلى ابن حجر، بينما جاءت عبارة السخاوي والسيوطي بتسمية مالم يُسمَّ فاعله. وقولهما مقدَّم على قول ابن فهد، والذي إنما أخذ عن شيخه ابن حجر في رحلته إلى مكة، وسمع منه شيئاً من مسموعاته ومصنفاته (لحظ الألحاظ).
بينما اشتهر بلديُّه السخاوي بشدة الملازمة والاختصاص، وقد اجتمع له من مسموعات الحافظ ومصنفاته مالم يجتمع عند غيره، بل لم يَفتهُ من مجالسه إلا النادر (الضوء اللامع).
أما السيوطي فهو بلديُّه وكان أبوه يتردد به إلى مجلس الحافظ، وله منه إجازة عامة؛ فهو وإن لم يدرك عن شيخه ما أدركه غيره إلا أنه عايش آثاره في بلده وأدرك كبار تلاميذه (ذيل الطبقات).
· المطلب الثاني: تسميته عندهم في سياق الإحالة والأداء:
جاءت تسمية الكتاب في سياق الإحالة والأداء عند أربعة من تلاميذه، وهم:
1. ابن فهد المكي (ت871هـ)؛ فذكر أنه أخذ عن ابن حجر ترجمة البخاري من "المقدمة" (لحظ الألحاظ).
2. برهان الدين البقاعي(ت885هـ)؛ فذكر في كتابه "عنوان الزمان" - وهو من مؤلفاته في حياة ابن حجر، ثم مازال يتعهده بمزيد من الأحداث والمناسبات والفوائد- ما أخذه عنه من المصنفات وسمّى "المقدمة" في مواضع عديدة، ولم يذكر "هدى الساري" لا من قريب ولا من بعيد، مع ما اختصت به نسخته من الكتاب وانفرد به بين الأقران – كما سيأتي- . وكذا في "النكت الوفية" و "نظم الدرر" ؛ فقد أحال إلى "المقدمة" وإلى "مقدمة شرح البخاري".
3. السخاوي (902هـ) ؛ فذكر في "الضوء اللامع" مسموعاته وما أخذه عنه وسمّى " المقدمة". أما في إحالاته من بقية تصانيفه فإلى "المقدمة" و "مقدمة فتح الباري" و- أحياناً- "مقدمة شرح البخاري".
4. السيوطي(ت911هـ)؛ وقد أحال في "تدريب الراوي" إلى "مقدمة شرح البخاري".
وقد اتفقوا على الإحالة إلى "المقدمة" ، أو بالإضافة إلى "الفتح" أو "الشرح". كما لم يُحِل منهم أحدٌ ولو بالإشارة إلى "هدى الساري".
· المبحث الثاني: اسم الكتاب عند ابن حجر:
جاء في صدر كتابه وفي الخاتمة قوله: " المقدمة" ؛ كذا فيما وقفت عليه من النسخ و أرفعها نسختا البقاعي وابن الخيضري. كما أحال من كتبه الأخرى إلى "المقدمة" ، و" مقدمة فتح الباري" ، و – أحياناً- إلى "مقدمة شرح البخاري". ولم يَجرِ قلمُ ابن حجر بذكر "هدى الساري لمقدمة فتح الباري" في شيء مما وقفت عليه من مصنفاته.


· المبحث الثالث: منزلة نسختي البقاعي وابن الخيضري:
· المطلب الأول: منزلة نسخة البقاعي:
تميزت النسخة – الظاهرية- بمزايا تجعلها في أرفع مراتب نسخ الكتاب إن لم تكن أرفعها، وذلك للآتي:
1. صاحبها هو برهان الدين البقاعي (ت885هـ)، وهو من تلاميذ ابن حجر الملازمين (عنوان الزمان)، بل رافقه في بعض رحلاته العلمية (الضوء اللامع).
2. أن النسخة من أواخر ما قرئ على المؤلف، بل ربما تكون هي آخر عرضة تامة للكتاب؛ إذ سبقت وفاة ابن حجر بنحو تسعة أشهر، وتم الفراغ من قراءتها عليه في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
3. توقيع المؤلف عليها عقبه قيد فراغ النسخة؛ وفيه: "... أما بعد؛ فقد قرأ عليَّ جميع هذا الكتاب صاحبه الهمام العلامة ... الحافظ برهان الدين البقاعي من أوله إلى آخره، وأذنت له أن يرويه عني ويفيده لمن شاء وجميع ما يجوز عني روايته. قاله كاتبه: أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي العسقلاني الأصل الشافعي، الشهير بابن حجر حامداً مصلِّياً مسلِّماً" اهـ.
وقد جمع كلام ابن حجر أموراً هامة، وهي: نسبة النسخة إلى البقاعي وأنه قرأها عليه تامة وأذن له برواية الكتاب عنه، بل وجميع ما يجوز عنه روايته؛ بعد أن صدّر توقيعه بعبارات التفخيم العلية، والإعتراف بمنزلة البقاعي العلمية.
وثمة تنصيص من المؤلف على أنه كتاب مستقل؛ فقال: "جميع هذا الكتاب".
· المطلب الثاني: منزلة نسخة ابن الخيضري:
هذه النسخة – العائدة إلى مكتبة خاصة- تُعَدُّ دون سابقتها، غير أنها تميزت عما دونها بمزايا، ومنها:
1. صاحبها هو محمد بن محمد الخيضري؛ ويعرف بابن الخيضري (ت894هـ)، لازم ابن حجر أتم ملازمة وأخذ عنه جملة من تصانيفه، وهو أحد العشرة الذين ذكرهم ابن حجر في وصيته (الضوء اللامع).
2. أن النسخة منقولة عن نسخة بخط ابن حجر.
3. أن النسخة قد لقيت عناية في تصحيحها والتعليق عليها.
وعليه فإن "المقدمة" هي التسمية الثابتة على جميع النسخ وبخاصة نسختي البقاعي وابن الخيضري، وهما نسختان نفيستان وبخاصة نسخة البقاعي والتي تعددت وجوه الثقة بها، بل هي آخر نسخ الكتاب المقروءة على المؤلف - غالباً – والمأذون له بروايتها عنه.
· المبحث الرابع: تسمية الكتاب على ظهر نسخة البقاعي.
· المطلب الأول: منهج ابن حجر في تسمية كتبه على ظهورها.
لم يكن ابن حجر ممن يتكلف كتابة ذلك، بل لم يتشاغل لذلك غالباً. فبعد تأهله للتصنيف سالَ قلمه المبارك بمصنفاته النافعة، ومنها كتابه الحافل "تهذيب التهذيب" (نسخة ولي الدين) بخطه ولم يقيد على ظهرها اسم الكتاب، ثم في "تقريب التهذيب" (نسخة تيمور باشا) بخطه كذلك بقيت مغفلة العنوان حتى قيده الزبيدي (ت1205هـ) صاحب "تاج العروس" بعد ثلاثة قرون وزيادة. هذا صنيع الحافظ في كتابين حافلين بخطه؛ فكيف يقيد عنواناً على ظهر نسخة غيره، وقد جرت العادة على ألّا يزيد المؤلف عن التوقيع على نسخة التلميذ.
· المطلب الثاني: قيمة ظهر الكتاب (صفحة العنوان) عند المحدثين:
ذكر الحافظ العراقي (ت806هـ) في "ألفيته" كتابه التسميع وهي من التقييدات التوثيقية على النسخ؛ فقال:
" ويكتب اسم الشيخ بعد البسملة
والسامعين قبلها مكمَّلة
مؤرَّخاً أو جنبها بالطرة
أو آخر الجزء وإلّا ظهره".
فجعل ظهر الكتاب آخر المواضع المعتبرة للتوثيق. بل لم يعتدّ بعض الأئمة بالمرويِّ المكتوب عليه؛ فالإمام يحيى بن معين (233هـ) ينكر على أبي سلمة التبوذكي روايته حديثاً لكونه قد جاء على ظهر الكتاب؛ وذلك قوله: "لم أجده في صدر كتابك، إنما وجدته على ظهره" (فتح المغيث).


· المطلب الثالث: "هدى الساري لمقدمة فتح الباري" على ظهر نسخة البقاعي؛ في ميزان "الفيلولوجيا" :
جاء على ظهر نسخة البقاعي النص الأوحد المنسوب إلى خط الحافظ ابن حجر في تسمية الكتاب بــــ "هُدَى الساري"، وقد أحيط العنوان بجملة من التقييدات من بينها تملك وتوقيف وابتياع مؤرخ سنة (887هـ) وهو أقدم تلك التقييدات. وبالنظر إلى تاريخ الابتياع مقارنة بتوقيع ابن حجر على النسخة سنة (852هـ) سنجد فراغاً تاريخياً (خمسة وعشرين عاماً) منه سنتان بين وفاة صاحب النسخة (البقاعي) وبيع وريثه لها سنة (887هـ). بالإضافة إلى ذلك لم يقيد على تلك النسخة ما يوثق التسمية بـــــ "هُدَى الساري"، وهي المخالفة لما بداخل الكتاب المقروء على المؤلف، مع ضعفها توثيقاً - عند مقارنتها بالمواضع الأخرى على النسخة- . إنّ خلو النص المذكور من التوثيق، مع مخالفته لما في النسخة بل والنسخ الصحيحة الأخرى، ولما أحال به تلاميذ المؤلف إليه، وما تحمّلوه عنه بالقراءة عليه؛ لَيُثيرُ شكاً علمياً حول سلامة الخط من التزوير؛ فهذا علي بن محمد الأحدب (ت370هـ) "كان يكتب على خط كل واحد، فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه" (الكامل لابن الاثير) ،وأبو عبدالله الديناري الكاتب(ق4) "كان يزوِّر لحسن خطه ... تزويراً لا يكاد يفطن له"، وإبراهيم بن أحمد الزرعي (ت741هـ) "كان له قدرة على مجاراة الخطوط ومناسباتها ويحمل إليه الناس الكتب ليكتب أسماءها... " (الوافي بالوفيات).
وهذه النماذج وغيرها قد تكون دافعاً للدكتور المشوخي؛ ليسطر أكثر من أربعمائة صفحة في كتابه النافع "أنماط التوثيق في المخطوط العربي في القرن التاسع الهجري".

· الخاتمة:
وبعد؛ فهذه أهم نتائج البحث، وهي:
1. أنّ الحافظ ابن حجر سمَّى كتابه "المقدمة"، فإذا أضافها قال: "مقدمة فتح الباري" أو "مقدمة شرح البخاري".
2. أنّ تلاميذه متفقون في إحالاتهم إلى "المقدمة" المعرَّفة بــــ "أل" أو بالإضافة؛ كشيخهم ابن حجر. وكذا عند أدائهم ما تحمّلوه، والمحدثون يعتنون بالأداء عناية خاصة، وقد قال شيخهم ابن حجر: " تنبيه: القراءة على الشيخ أحد وجوه التحمل عند الجمهور" (شرح النخبة).
3. أنّ من سمَّى الكتاب منهم بـــــ "هدى الساري" إنما سمّاه في معرض التعريف فحسب، وهو محل توسع في العبارة فيذكرون ما عندهم لغرض الإفادة، وهم في هذا متفاوتون؛ فالسخاوي والسيوطي سمّياه مبنياً على مالم يسمّ فاعله، وزاد ابن فهد فنسب التسمية إلى ابن حجر. وقد خالف من هم أولى منه في الحافظ ابن حجر؛ فهم – أي :مع البقاعي، وابن الخيضري- بلديوه الملازمون له ملازمة شديدة مع اختصاصهم به وقد عايشوا آثاره في حياته وبعد وفاته، بخلاف ابن فهد والذي أخذ عن ابن حجر في رحلته إلى مكة.
4. أنّ السخاوي في كتابه "الجواهر والدرر" ذكر مصنفات شيخه فبلغت مائتين وثلاثة وسبعين مصنفاً من بينها عشرة مصنفات- منها "المقدمة" – قال فيها: "المسمّاة". وقد تتبعت صنيعه ذلك فوجدته يطلقها على الكتب التي صدَّرها بذكر موضوعها قبل تسميتها باسم شائع؛ وإن لم يكن من تسمية شيخه.
5. أنّ هذه التسمية لم تثبت عن ابن حجر؛ فضلاً عن أن يكون عنوان نسخة البقاعي بخطه، ولو كان كذلك لكان صاحبها (البقاعي) بها حفيّاً في كتبه وعند ترجمة شيخه في "عنوان الزمان" ولم يفعل! بل كلّما ذكر الكتاب سمّاه "المقدمة".
6. أن تسمية الكتاب بــــ "هدى الساري" هي تسمية قديمة بعد المؤلف؛ فذكرها ابن فهد (ت871هـ)، والسخاوي قبل سنة (871ه) – سنة فراغه من "الضوء اللامع"-.
7. أنّ تسمية "المقدمة" بــــــ "هدى الساري" تعد من أبرز نماذج نسبة النصوص إلى غير أصحابها، والتي منها "تبويب صحيح مسلم" والخلاف فيه قديم مشتهر؛ فنسب إلى أعيان العلماء كأبي نعيم والقرطبي والنووي وغيرهم، وإلى عموم الشُّرَّاح والمختصرين (عبقرية الإمام مسلم، الردود والتعقبات)، بل جزم الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي(ت826ه) بأنها من صنع النُّسَّاخ (الإطراف).
8. التنبيه إلى قدم تزوير خطوط العلماء.
والله أعلم.
كتبه:
محمد بن حميد العوفي

الملفات المرفقة تأصيل.pdf‏ (416.2 كيلوبايت)