في ظهيرة يوم من أيام بيروت شديدة الحرارة وفي وقت وصلت فيه رطوبة الجو الى ذروتها وارسلت الشمس أقوى أشعتها استظليت تحت شجرة من أشجار حديقة وسط المدينة أمسح بكم ّ يدي عرق جبيني الذي كان يسيل الى عيني ّ ويحرقني بملوحته وأرطّب جسدي بالماء البارد بعد أن تفنّنت الشمس في تجفيفه ملتطقا أنفاسي بنفس أعمق ومستندا برأسي الى ساق الشجرة لعلّ جسدي ينتعش بما كان يجود به علي ّظلال الأشجار . استجدى جسدي للسكون واستسلمت عيني ّ للنوم الذي لم يكن ما يكدّره سوى صوت أبواق المركبات والتي كانت تنطلق باستمرار وبجنون ينافس جنون من يطلقها حتى اصبحت جزءا من أصوات حلم مزعج . حلم تخاله لا ينتهي من رتابة تكراره . بعد أن نال جسدي بعضا من راحته واستعاد جزءاّ من نشاطه تفتّحت عيناي بتثاقل وكأنهما تقاومان ايقاظي لهما من النوم . ببطء وبتكاسل أخذت ألتفت لاستكشف ما جدّ من حولي حتى من دون أن أرفع رأسي عن الشجرة التي كانت تسندني كالقابلة الحنون . لم تكن الحديقة خالية من مرتاديها كماكانت عند دخولي اليها أول مرة ولم تكن لتمتلئ مع هذه الرطوبة الخانقة بل كان كل ما تراه هو عبارة عن محطة استراحة لعمال المطاعم وموظفي الشركات المحيطة بالحديقة . البعض منهم كان يعتني بأموره والبعض الآخر كان يحدّق بالسواح العرب بنظرات طفيلية استعلائية وهو أمر أدركته ويدركه كل ذي كرامة بمجرد دخوله لهذا البلد . السائح العربي هنا مطلوب لكنه غير مرغوب فيه . مطلوب منه أن ينفق الدولارات ببذخ وبسفه لكنه غير مرغوب فيه بوجوده حتى أنّي تمنيت للحظة لو أنّي كنت سائحا أوروبيا حتى اعامل معاملة الأسياد . !!
شدّ انتباهي خارج سور الحديقة المشجّر صوت بكاء فتاة في سن المراهقة .
كانت برفقنها امرأة في أواخر الاربعينات من العمر بدا لي من مظهرها أنها والدتها .
كانت الفتاة تلتفت طوال الوقت بشغف وتحدّق بلا كلل في المارة حتى اذا صادفت من كانت ملامحه من بلاد الخليج تحدثت اليه هي ووالدتها وهي لا تتوقف عن البكاء .
حقيقة لم أرى في حياتها مثلها في براءة الشخصية ولا في رهافة الحس الى درجة السذاجة الطفولية وهي تعبّر بيديها وبصوتها المرتعش خلال حديثها للمارّة .
ظننت في البدء أنّ في الأمر سوء لكن لم تكن الفتاة ولا والدتها ليبدو عليهما من مظهرهما أنهما معوزتان أو أنهما تحاولان عرض المحرم على السواح العرب وخصوصا على بعض السفهاء من بلاد الخليج . بل أنهما كانتا على النقيض من ذلك فقد كانتا تلبسان أحدث الملابس الفاخرة وتستقلان سيارة باهظة الثمن وهو أمر جعل الفضول عندي يصل الى مداه حتى أني نسيت كم من الوقت مر ّ علي ّ وأنا أتابع هذا المشهد المحيّر . حاولت أن أسترق السمع لعلّي أروي ما يشبع فضولي ويبدد حيرتي لكن بعد المسافة لم يكن ليسعفني الاّ بسماع أصوات مبهمة تتقاطعها نوبات من بكاء الفتاة .
بعد وقت طويل من التحدث مع المارة أشارت الوالدة الى ابنتها الدخول الى الحديقة ربما ليستريحا قليلا بعد تلك الوقفة الطويلة في ذلك الجو الحار . لقد كانتا على مسافة أقرب بحيث أنها كانت كافية لكي أسمع حديث الأم الى ابنتها وهي تحاول افهامها أنّ ما تفعله من قلق وبكاء متواصل هو أمر غير طبيعي وأنه مضر يصحتها .
رفعت الفتاة رأسها و نظرت الى الأم نظرة عتاب مليئة بالدموع وهي تقول لها :
لقد أخبرتني طوال طفولتي أنّ والدي متوفي في كل مرة أسئلك فيه عن أبي وفي كل مرة أتسائل فيه أنّه لماذا يجب علي ّ أن اعيش بدون أب بينما أرى بقيّة البنات ينعمن بدلال آبائهمن حتى أحسست مع مرور الزمن أنّ هذا قدري أن أولد وأن أعيش يتيمة الأب محرومة من حنانه وحمايته لكنك في لحظة صدق متأخرة بينك وبين نفسك وفي لحظة تأنيب ضمير أخبرتني مؤخرا أنّ والدي حي فماذا تريديني أن أفعل ؟!
لقد أيقظتي فيني تلك الطفلة المحرومة من دلال أبيها والمحرومة أيضا من الاحساس بالامان بين يديه .
في لحظة صمت غير قصيرة لم تجد الأم مهربا من منطق جوابها سوى الادّعاء بالبحث في حقيبتها عن منديل لمسح دموع ابنتها .
أعتدلت الفتاة في جلستها وتناولت المنديل من والدتها واخذت تمسح دموعها بينما كانت تلتفت في أرجاء الحديقة حتى وقع نظرها علي ّ.
استرعت انتباه والدتها تجاهي وكأنها تريدها أن تتحدث معي . نهرتها أمها بشدة لكن الحاح الفتاة الغارق في الدموع جعل الأم ترضخ لطلبها على مضض وأشارت اليها فورا بالهدوء .
.................................................. ...... ( تكملة الجزء الأخير في الجمعة القادمة بمشيئة الله )