أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


هذا تفريغ لمحاضرة رائعة حضرتها لشيخنا د. شادي بن محمد بن سالم آل نعمان
أحببتك ان أشارك إخواني بها وسأحاول تحميل الرابط الصوتي للمحاضرة

المراهقة العلمية
وشهوة التعقب والتخطئة والرد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

* أعمل على جمع رسالة عن (المراهقة العلمية)، وهو مصطلح أنشأته لأقرب المعنى الذي أريده.

* فالمراهقة العلمية التي أريدها هي مرحلة يمر بها طالب العلم قبل النضوج العلمي، تمامًا كالمراهقة العمرية التي يمر بها كل إنسان قبل النضوج.

* وهذه المراهقة العلمية تكاد تكون مرحلة يمر بها كل طالب علم، وإن كانت تتفاوت تفاوتا كبيرا بين كل طالب وآخر.

* وهي مرحلة لها خصائصها وصفاتها التي تميزها عن باقي المراحل العلمية التي يمر بها طالب العلم.

* والمراهقة العلمية قد تكون مرحلة تمر وتنتهي في حياة طالب العلم، وقد تلازم طالبا آخر إلى آخر حياته، كلٌّ بحسب توفيق الله أولاً ثم بحسب حصيلته المعرفية والفكرية، وأسس التعاطي مع العلوم التي يتلقاها، فمن وفقه الله في ذلك سينتقل من مرحلة المراهقة العلمية إلى مرحلة النضوج العلمي، ومن لم يوفق فستبقى المراهقة العلمية ملازمة له لا تنفك عنه.

* ومن أهم الخصائص التي يتصف بها طالب العلم في تلك المرحلة ( شهوة التعقب والتخطئة والرد).

* في هذه المرحلة تكون الحصيلة العلمية لطالب العلم حصيلة ضئيلة جدا، ولكنه يظن في قرارة نفسه أنه حوى شيئا كثيرا من العلم، بل قد يظن أنه جمع العلم كله! وهذا الأمر يولد عنده نظره استعلائية على كل ما يسمعه أو يقرؤه!
فمن خلال هذه الحصيلة العلمية الضئيلة التي يمتلكها طالب العلم هذا يبدأ يحاكم كل قول وكل فعل وكل محاضرة وكل كتاب إلى حصيلته هذه، فكل محاضرة يستمع لها إنما يستمع لها بنفسية المنتقد والمخطِّئ، فيبحث عن أخطاء وزلات هذا – الواعظ- الذي لم يطلب العلم مثله.
وكل كتاب يقرؤه يحاول أن يتلمس فيه مواضع الأخطاء والزلات ليهولها .
بل يبدأ بعضهم في تتبع زلات شيوخه وأهل الفضل عليه وأخطائهم.
ويبدأ الدخول في دوامة الردود والتعقبات فتصير شغله الشاغل الذي يسهر عليه ويستيقظ عليه.
ويصير مدمناً لمتابعة أي مادة تحمل عنوان الرد أو التخطئة أو التعقب...
فيتنكب عن طريق التحصيل العلمي، ويتنكب عن الانشغال بالتطبيق العملي للعلم الذي يتحمله.

• كثير منا لو تأمل في حياته العلمية لتذكر شيئا من ذلك مر عليه، في مرحلة ما من طلبه للعلم، وبعضنا يحمد الله أنه تجاوزها ، وكثير منا يجد نفسه غارقاً في هذه المرحلة إلى الآن.

• طالب العلم إذا انتقل من هذه المرحلة إلى مرحلة النضوج العلمي، تصير الرؤية لديه أكثر وضوحاً ، وتصير نفسيته أكثر هدوءًا، فيستوعب أنه لم يكن قد حصل شيئا يذكر من العلم، ويستوعب انه ليس ملمًّا بكل الأقوال في كل مسألة علمية، فقد يكون القول الذي كان متقرراً عنده إنما هو قول مرجوح.

• يُدرك أن كل ابن آدم خطاء، فالخطأ وارد عليه كما ورد على ذلك الداعية الذي انتقده، ووارد في مصنفاته كما ورد على ذلك الكاتب الذي انتقده، والزلل موجود عند كل أحد.

• يُدرك أن ذلك الداعية الذي انتقده يوماً هو على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، ويقدر لذلك الكاتب جهده الذي بذله في كتابه، ويعرف لذلك الطالب الذي ناقشه يومًا أنه كان ملمًّا بالمسأله أكثر منه.

• في مرحلة النضوج العلمي، يبدأ الطالب ينظر لكل عمل علمي أو دعوي من حوله بنفس متجردة، فيوازن بين الإيجابيات والسلبيات، ويضع كل ذلك في موضعه المناسب فيخرج بتقييم دقيق.

• ومن أهم ما يميز مرحلة النضوج العلمي عند طالب العلم أنه يصير أحرص على الإبداع والإنجاز والاعتكاف على ما ينفعه، فينشط في الدعوة ، أو ينشط في التعليم، أو ينشط في التحصيل ، أو ينشط في البحث والاستقراء، بعد ان كان في مراهقته العلمية منشغلا لأم رأسه بردود فلان على فلان وتعقب فلان لفلان ونقد فلان لكتاب فلان.

• ينشط لإصلاح نفسه والارتقاء بأخلاقه، ويترك تتبع عورات الناس وزلاتهم.

• وكما قدمت في صدر كلمتي: قد يَمُنُّ الله على كثيرين فيتجاوزوا مرحلة المراهقة العلمية هذه، وقد يُبتلى كثيرون فتستمر معه هذه الصفة ملازمة له مهما تحمل من علوم، ومهما تدرج في طلب العلم، فتجده ينفق وقته وعمره بحثا عن الزلات والأخطاء، متعقبًا مخطئاً، ولا ينشط لإنجاز شئ إيجابي في حياته العلمية.

• أعرف أقواماً من هؤلاء لو قلت لأحدهم : ما رأيك أن تتصدى لدعوة الناس ، وإرشادهم للخير، لاعتذر لك بإنشغاله.

ثم إذا بك تجده قد تفرغ لتعقب أحد الدعاة والتفرغ لمتابعة محاضراته ودروسه بغرض بيان مخالفاته وجهالاته وإثبات أنه مجرد واعظ لا علاقة له بالعلم وأهله.

• أعرف أقوامًا حريصين كل الحرص على تعقب وتخطئة المؤلفين والمؤلفات ويبذل في ذلك وقتًا وجهدًا، فلو قلت له ما رأيك لو تصنف كتاباً في الموضوع يسدُّ خلل الكتب المنتقَدة، لوجدته يتعذر لك بضيق الوقت وضعف الهمة!!

• أعرف أقواماً حريصين على تعقب وتخطئة كل تحقيق تراثي يقع بين أيديهم ويسهر لذلك ليالي وينفق فيه عمرًا ، فإذا قلت له : لو قمت انت بتحقيق كتب التراث فتتصدى لهذا العمل العظيم حتى تسد الخلل الواقع من هؤلاء الذين أساؤوا للتراث، لتعذر لك بضعف الإمكانيات، وكثرة المشاغل، وضعف الهمة، وضيق الوقت!!

• أعرف أقوامًا يكثرون من لوم الجهات الخيرية بكثير من المؤاخذات، فلو اقترحت عليه أن يقيم هو عملاً خيريًّا خاليا من المؤاخذات ، تعذر لك بنفس الأعذار.

• ومن أخطر ما يقع فيه المصابون بشهوة التعقب والتخطئة، أنه يحاول أن يوحي لنفسه، ولمن يستمع أو يقرأ له، أنه يتعقب فلانا نصيحة لله ورسوله، ويرد على فلان انتصارًا للدين، وينتقد كتاب فلان لحماية حمى العلم، وينتقد تحقيقات فلان غيرةً على التراث!

• والأمر في حقيقته لا يعدو كونه انتصاراً للنفس والذات، ومحاولة لإقصاء الآخر وتحطيمه ليبني هو نجاحًا وشهرةً علمية أو دعوية على حساب تحطيم الآخرين وانتقاص جهودهم، وهذا أمر صار ظاهرة منتشرة بين الدعاة وطلاب العلم والمؤلفين والمحققين، هو أظهر من أن ندلل عليه.

• وهو أمر تنبه له العلامة الألباني لما قال:
(والإنسان في الواقع، يعني كل إنسان، من الشيخ وأنت نازل إلى الفريخ، ينسى حاله وينتقد غيره، وما أروع ما قاله عليه السلام في الحديث الصحيح: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه»، فصحيح أن المسلم مأمور بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وبالنظام القرآني المذكور : ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ لكن لا يجوز له أن ينتقد الناس انتقاداً من باب أن يشفي غيظ قلبه، وإنما فقط ليصلح ما هم فيه من الخطأ والانحراف).

* وأعتقد أن المناوي رحمه الله كان يعاني من هذا الصنف من الناس لما قال في مقدمة فيض القدير ناصحًا الناظر في كتابه:
• (فيا أيها الناظر : اعمل فيه بشرط الواقف، من استيفاء النظر، بعين العناية وكمال الدراية، لا يحملك احتقار مؤلفه على التعسف، ولا الحظ النفساني على أن يكون لك عن الحق تخلف، فإن عثرت منه على هفوة أو هفوات، أو صدرت فيه كبوة أو كبوات، فما أنا بالمتحاشي عن الخلل ولا بالمعصوم من الزلل...فرحم الله امرءًا لم يتعمد العنت ولا قَصَدَ قَصْدَ من إذا رأى حسنا ستره، وعيبًا أظهره ونشره، وليتأمله بعين الانصاف، لا بعين الحسد والانحراف، فمن طلب عيبًا وجَدَّ وَجَد...والكمال محال لغير ذي الجلال)

وختامًا فهذه دعوة صادقة لطالب العلم أن ينشغل بالأولى والأنفع والأصلح له، فيقبل على التأصيل العلمي ، والتطبيق الأخلاقي التربوي للعلم الذي تحمله، ويتجه لإصلاح نفسه ومجتمعه، ويترك جانب التعقب والرد لأهل العلم الربانيين الذي أنفقوا حياتهم في التأصيل العلمي وامتلكوا آلات الاجتهاد الذي يؤهل للنقد، فيفرقون بين النقد البناء والنقد الهدام، ويعرفون آداب النصح والنصيحة، ويستوعبون أحكام الردود، وقد هذبوا أنفسهم قبل ذلك كله على إخلاص النية في هذا الباب الخطير، وهذه مرحلة متأخرة ومرتقى عال لا يبلغه كل طالب.
والكلام على النقد وآدابه والرد وأحكامه له مقام آخر إنما أردت هنا أن أثير مسألة عظُم خطرها وعم بلاؤُها بين طلاب العلم.
والله الموفق والهادي.