أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


قال شيخ الإسلام في فتاواه :

وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْأَئِمَّةُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنْ يَدَعَ الْإِمَامُ مَا هُوَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ، إذَا كَانَ فِيهِ تَأْلِيفُ الْمَأْمُومِينَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ، بِأَنْ يُسَلِّمَ فِي الشَّفْعِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةَ الْوِتْرِ، وَهُوَ يَؤُمُّ قَوْمًا لَا يَرَوْنَ إلَّا وَصْلَ الْوِتْرِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْأَفْضَلِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ بِوَصْلِ الْوِتْرِ أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ فَصْلِهِ مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لِلصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْمُخَافَتَةَ بِالْبَسْمَلَةِ أَفْضَلُ، أَوْ الْجَهْرُ بِهَا، وَكَانَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ، فَفِعْلُ الْمَفْضُولِ عِنْدَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَافَقَةِ وَالتَّأْلِيفِ الَّتِي هِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا.

وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ خِلَافَ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ بَيَانِ السُّنَّةِ وَتَعْلِيمِهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا كَانَ حَسَنًا، مِثْلَ أَنْ يَجْهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ التَّعَوُّذِ أَوْ الْبَسْمَلَةِ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَهَرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ، فَكَانَ يُكَبِّرُ وَيَقُولُ:"سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وَتَبَارَكَ اسْمُك، وَتَعَالَى جَدُّك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك".

قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ: صَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً، فَكَانَ يُكَبِّرُ ؛ ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.

وَلِهَذَا شَاعَ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ حَتَّى عَمِلَ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ.

وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةً رَاتِبَةً كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّهَا سُنَّةٌ.

وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى فِيهَا قِرَاءَةً بِحَالٍ، كَمَا قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِرَاءَةَ فِيهَا سُنَّةً، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَغَيْرِهِ.

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالصَّلَاةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، لَيْسَتْ وَاجِبَةً.

وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ فَعَلُوا هَذَا وَهَذَا، وَكَانَ كِلَا الْفِعْلَيْنِ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِقِرَاءَةٍ وَغَيْرِ قِرَاءَةٍ، كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ تَارَةً بِالْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ جَهْرٍ بِهَا، وَتَارَةً بِاسْتِفْتَاحٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ، وَتَارَةً بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَتَارَةً يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَتَارَةً تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، وَتَارَةً يَقْرَءُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِالسِّرِّ، وَتَارَةً لَا يَقْرَءُونَ، وَتَارَةً يُكَبِّرُونَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا، وَتَارَةً خَمْسًا، وَتَارَةً سَبْعًا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا، وَفِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا.

كُلُّ هَذَا ثَابِتٌ عَنْ الصَّحَابَةِ.

كَمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُرَجِّعُ فِي الْأَذَانِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُرَجِّعْ فِيهِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوتِرُ الْإِقَامَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَشْفَعُهَا، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَهَذِهِ الْأُمُورُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهَا أَرْجَحَ مِنْ الْآخَرِ، فَمَنْ فَعَلَ الْمَرْجُوحَ فَقَدْ فَعَلَ جَائِزًا.

وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُ الْمَرْجُوحِ أَرْجَحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا يَكُونُ تَرْكُ الرَّاجِحِ أَرْجَحَ أَحْيَانًا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. اهـ من مجموع فتاوى ابن تيمية