أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


مطلب من كتابي المبتكر المرغوب الجامع لمسائل المندوب يسر الله إتمامه.
اختلف العلماء في وقوع سنة الكفاية شرعا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها لا يمكن أن تقع شرعا.
وهذا قول القفال الشاشي في كتابه المعتمد، ونص كلامه فيه ــ كما نقله عنه الزركشي ــ: «لم نر في أصول الشرع سنة على الكفاية بحال»( )، وعلل على ذلك بما يلي( ):
التعليل الأول: أن في الكفاية فائدةً، وهي سقوط الإثم بفعل البعض عن الباقين، والسنة لا يظهر لها أثر في كونها على الكفاية؛ لأنها لا إثم في تركها حتى تسقط عمن ترك بفعل من فعل.
التعليل الثاني: أن المندوب ثواب، ولا يجوز أن يحصل له ثواب بفعل غيره من غير فعل يوجد من جهة تساويه، فالسنة إنما أمر بها استحبابا لحظ المأمور في تحصيل الثواب له، فلا يحصل له ثواب بما لا كسب له فيه.
ويزيد الشيخ المطيعي هذين التعليلين وضوحا، فيقول: «طلب الفعل طلبا جازما يجوز أن ينقسم إلى فرض عين، وهو ما توجه فيه الطلب الجازم إلى كل واحد بعينه من المكلفين أو إلى واحد بعينه منهم، وإلى فرض كفاية وهو ما توجه فيه الطلب الجازم إلى الكل ليحصل ذلك الفرض ولو من بعضهم، فإذا فعله البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود بفعل البعض ولو تركوه جميعا أثموا جميعا.
وأما طلب الفعل طلبا غير جازم فلا ينقسم إلى هذين القسمين، فإنه ليس لنا طلب فعل طلبا غير جازم يتوجه إلى الكل ليحصل ذلك المطلوب بفعل البعض، فإذا فعله سقط عن الباقين، ولو تركوه جميعا لا يسقط عنهم، بل كل ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم، فهو إنما طلبه ليحصل الثواب لفاعله فقط ولا حرج في تركه»( ).

القول الثاني: أنها لم تقع في الشرع إلا في ابتداء السلام من جمع.
وهذا قول القاضي حسين في باب الجمعة من تعليقه( )، ونسب هذا القول لأبي بكر الشاشي أيضا( )، واستُدل لهما بما يلي:
الدليل الأول: عن علي بن أبي طالب ¢ مرفوعا: «يجزئ عن الجماعة، إذا مروا، أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم»( ).
الدليل الثاني: ما أخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله ^ قال: «يسلم الراكب على الماشي، وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم»( ).
ورده الشاشي بقياس تحية السلام على تحية المسجد في أن فعل البعض لا يحصل به ثواب لمن لم يفعل.
قال الشاشي ¬: «ألا ترى أنه إذا دخل المسجد جماعة سن لهم تحية بالمسجد، ولا تسقط سنة التحية في حق بعضهم بفعل البعض»( ).


القول الثالث: أنها واقعة شرعا في ابتداء السلام وغيره.
وهذا مذهب الجمهور، من الأحناف والمالكية والشافعية.
قال القرافي المالكي: «الكفاية والأعيان كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات كالآذان والإقامة والتسليم والتشميت( ) وما يفعل بالأموات من المندوبات فهذه على الكفاية والتي على الأعيان كالوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات»( )، قال: «وأكثر الناس إنما يمثلون ذلك في الفروض الواجبة».
وقال السبكي في جمع الجوامع: «وسنة الكفاية كفرضها»، قال الزركشي: «هذا يقتضي انقسام السنة إلى كفاية وعين»( ).
وقال الشيخ بخيت المطيعي: «والحنفية يوافقون أيضا على انقسام السنة إلى عين وكفاية، ويعرفون كلا منهما بما ذكره ابن دقيق العيد والقرافي، وإن كانوا يخالفون الشافعية في بعض الأمثلة كتشميت العاطس والأضحية والوتر وصلاة العيد، ونحو ذلك مما قال الحنفية بوجوبه، وقال الشافعية والمالكية بسنيته، ولكن هذا الخلاف يرجع إلى أمر فقهي يتعلق بالفروع، مبناه اختلاف النظر فيما يقتضيه الدليل التفصيلي، وأما الحكم الأصولي المتعلق بحقيقة فرض العين وفرض الكفاية وسنة العين وسنة الكفاية، فهو متفق عليه»( ).
ومما استدل به الجمهور ــ إضافة إلى دليل القاضي حسين ــ ما يلي:
الدليل الأول: الأضحية كما ذكره النووي عن الأصحاب وعليه يحمل نص الشافعي: إذا ضحى الرجل في بيته، فقد وقع اسم الأضحية.
البحر المحيط في أصول الفقه (1/ 390)
أنه لو اشترك غيره في ثواب أضحيته وذبح عن نفسه جاز، وعليه يحمل «تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين، وقوله: اللهم صل على محمد وآل محمد» .
الدليل الثالث: التسمية عند الأكل حكاه في الروضة عن نص الشافعي، وفي حديث الأعرابي ما يقتضيه.
وقد نظم بعضهم سنن الكفاية قائلا:
أذان وتـشـمـيـت وفــعـــل بـمــيــت إذا كــان منـدوبـا ولـلأكـل بـسـمـلا
وأضحيـة مــن أهــل بـيـت تـعـددوا وبـــدء ســـلام والإقـامــة فـاعـقـلا
فذي سبعة إن جاءها البعض يكتفى ويسـقـط لــوم عــن ســـواه تـكـمـلا

قلتُ: مذهب الجمهور هو الصواب، ويزاد على أمثلتهم: صلاة التراويح أعني إظهارها كشعيرة بين الناس لا أداءها.
وما ذكره الشاشي من تعليلات لا يقتضي انعدام السنة على الكفاية في أصول الشريعة، يبين ذلك المطيعي ¬، فيقول: «لا مانع من أن يقال: إن طلب الفعل طلبا غير جازم يتوجه إلى الكل ليحصل ذلك المطلوب بفعل البعض ويحصل الثواب للفاعل فقط ويسقط عن الباقين الإساءة، ولو تركوه جميعا أساءوا جميعا .....، فيقال في ابتداء السلام: إذا قدم جماعة على آخرين فإذا بدأ بالسلام أحدهم كان هو المثاب فقط، وسقطت الإساءة عن الباقين، وإذا فعلوه جميعا أثيبوا جميعا، وإن تركوه جميعا أساءوا جميعا، وهذا كما يقال في فرض الكفاية: إن الطلب الجازم توجه إلى الكل ليحصل المطلوب بفعل البعض، ويثاب الفاعل فقط، ويسقط عن الباقين الإثم، ولو فعلوه جميعا أثيب كل واحد منهم ثواب الفرض، وإذا تركوه جميعا أثموا جميعا ......، ولذلك لم يعول المحققون على إنكار الشاشي لسنة الكفاية، ولا على ما قاله القاضي حسين من أنه ليس سنة كفاية إلا ابتداء السلام»( ).