أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





ذلك بعض ما عرَّف به العلماء الخشوع في اللغة وفي الشرع، ولكن حقيقته لا يتذوقها المسلم ولا يشعر بها من مجرد تعريفه ولا بمجرد قراءة ما ورد فيه من نصوص القرآن والسنة وأقوال العلماء، قراءة مجردة كما جرت به عادة غالب المسلمين، وقد يكتب في هذا الموضوع وغيره كتّابٌ لا هدف لهم من كتاباتهم فيه إلا تسجيل بحوث دراسية تؤهلهم إذا أجادوا الترتيب والتنسيق في بحوثهم على أسس منهجية، لنيل شهاد علمية في مرحلة من مراحل دراستهم.

ولكن نصوص القرآن والسنة وأقوال العلماء الصالحين الذين رزقهم الله تعالى الفقه في دينه والعمل به، حتى أصبحت قلوبهم ممتلئة بجلال الله وعظمته مطمئنة بذكره وعبادته، وجوارحهم حنيفة إلى طاعته منقادة لترك معاصيه، خاضعة لزجره ونهيه، تلك النصوص وتلك الأقوال، تؤثِّر فيمن جاهد نفسه بها فتزكى على أيدي أولئك العلماء الذين هم أهل للتعليم والتزكية لمن تتلمذ عليهم مريداً العلم والتزكية معاً؛ لأنه لا بد للمتزكي من قدوة حسنة يزكيه، وإرادة صادقة للاقتداء.

فالعلماء العاملون هم الذين يصقلون قلبه بماء أنهار هُدَى الله مما قَدْ رَان عليه من الآثام صقلاً، ويغسلون جوارحه بهدى الله من أدناس المعاصي والمنكرات غسلاً، فيقوي بذلك إيمانه، ويتواطأ على ذكر الله قلبه ولسانه، فيثبت بذلك يقينه ويتم إحسانه، فإن المعارف القلبية الربانية التي يريدها الله لعباده المؤمنين، لا تحصل بمجر حفظ النصوص وفهمها بدون مجاهدة للنفوس وإرادة قوية للتأثر بها.

والذي يساعد المؤمن المجاهد لنفسه على التحقق بصفة الخشوع، أمور كثيرة يجمعها كلها معرفة جلال الله تعالى وعظمته التي لا تتناهى، ويجليها الكتابان العظيمان:

الكتاب الأول: عالم الكون الذي فتحه الله تعالى ليقرأه كل عاقل من خلقه، لا فرق بين عالم ومتعلم وأمي؛ لأن كثيراً من عناصر هذا الكتاب تدركه الحواس، وهي منافذ للمعارف والعلوم.

الكتاب الثاني: هو كتابه المقروء الذي أوحاه تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أدَّى أمانة ربه، فبين مراده، وعلَّم عباده، وزكَّاها قياماً بوظيفته التي كلفه إياها مرسله سبحانه، ونبَّه خلقه على ما في الكتاب الأول من آيات باهرات تخضع لخالقها الأعناق، وتنحني له الهامات، وتستسلم لبراهينها العقول.

فهيا نتدبر بعضاً من آيات الكتابين لنرى تلك العظمة متجلية في كل شيء تدركه حواسنا وعقولنا، لنروي قلوبنا بما يملأها من ذكره الْمُلَيِّن لها، ونغسل أجسامنا لنطهرها من أدناس المعاصي والذنوب، لتلين وتحشع لصاحب العظمة والجلال الرب العظيم.

وليس المقصود هنا سَوق الآيات المشتملة على أسمائه وصفاته وآثارها في عظمته بالتفصيل، وإنما المقصود أن نضرب بعض الأمثلة لنعلم أن عظمته تعالى تتجلى في كل اسم من أسمائه وكل صفة من صفاته؛ لأن تفصيل ذلك يقتضي نقل غالب القرآن الكريم الذي لا تخلو صفحاته من أسمائه وصفاته وما تحققه من آثار في الكون.

والمقصود التذكير بتجلي عظمته تعالى في آثار أفعاله وآثار أسمائه وصفاته فيما يمكننا من معرفة تلك الآثار في أنفسنا وفي أرضه وسمائه.

فهو تعالى عظيمٌ في خلقه، عظيمٌ في رزقه، عظيمٌ في عزته وقوته، عظيمٌ في جبروته وقهره وعقابه، عظيمٌ في إنعامه على كافة خلقه، عظيمٌ في رحمته، عظيمٌ في كل أسمائه وصفاته وأفعاله، لا حد لعظمته سبحانه وتعالى.

إن استحضار عظمته تعالى كافٍ لجعل كل خلية في جسم الإنسان تقشعر خشية من قدرته وجبروته وتلين خشوعاً واطمئناناً إلى ذكره وودِّه ورأفته ورحمته، وتشكره على كل لحظة تتغذى فيها من إطعامه وإسقائه وجزيل نعمه، وتتمتع فيها بالأمن في حياتها من تسليط مصائبه عليها وعقوبته، فما بالك بالإنسان إذا كان مسلماً مؤمناً بالله الخالق الشاهد له بالوحدانية شهادة صدق ويقين؟

إن من يتصور خلق الكون كله لخالق واحد من الذرة التي عناها الله في القرآن والتي قد لا ترى بما اكتشفه العلماء من المكبرات، إلى عرش الله تعالى الذي وصفه بالعظمة، مع غاية الإتقان والتناسب، واتساع هذا الكون بالسماوات السبع وما فيهما وما بينهما، من أقمار ونجوم وكواكب وشموس ومجرات وملائكة وغيرها من المخلوقات.

بل يكفي أن يتأمل الإنسان ما تراه عينه المجردة من على ظهر الأرض التي بسطها الله له، من فضاء يملؤه ما زين الله به السماء الدنيا من شمس وقمر وكواكب ونجوم، وما في أرضه من سهول ووديان، وآكام ونجود، وبحار وأنهار، وصحاري وغابات، وإنسان وحيوان، وزروع وثمار، وغير ذلك مما لا يحصيه غير خالقه القهار.

وفي أنفسكم!

إن أول ما ينبغي أن يقرأه الإنسان من صفحات كتاب الله المفتوح وكتابه المقروء، هو صفحة الإنسان نفسه، ففيها من آيات الله تعالى ما يكفيه للضراعة إليه والخضوع له خضوعاً كاملاً، ويملأ قلبه بمحبته ويدعوه إلى الإكثار من ذكره وعبادته والاطمئنان إليه والسكون إلى جنابه.

لم يكن شيئا مذكوراً!

كل إنسان من آدم عليه السلام إلى آخر من يخلق الله من إنسان، لم يكن شيئاً ـ أيَّ شيء ـ بل كان عدماً، كما قال تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً (67)}. [مريم] وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1)}. [الإنسان]
وقال لنبيه زكريا عليه السلام: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)}. [مريم]

من تراب:

ثم خلق تعالى أبا البشر كلهم آدم عليه السلام من هذا التراب العجيب الذي تدوسه أقدامنا وأقدام الحيوانات في كل أنحاء الأرض وتسير عليه كل دابة في الأرض، وتنبت به الزروع والغابات وتختلط به المعادن على كثرة تنوعها، من ذهب وفضة وحديد وألماس وعقيق وياقوت وزئبق وكبريت وملح ومرمر ورخام وكحل وأحجار كريمة ونفط ومشتقاته، وإليه تعود أجسامنا بعد الموت فيكون لنا فراشاً وغطاء وتكون هناك جزأ منه، ومنه نبعث يوم القيامة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ...(67)}. [غافر]
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}. [المؤمنون]

كيف يشعر الإنسان عندما يعلم بأن أصله التراب، وهو الآن يتصرف في هذا التراب وما علا منه أو سفل تصرفاً تنشأ عنه عمارته للأرض وتنتشر حضارته فيها؟! ألا يشعر بعظمة من خلقه ومكنه من هذا التصرف والتدبير؟! ويشعر بصغر حجمه وضآلته أمام هذا الخالق العظيم فيتواضع له ويخبت خاشعاً خاضعاً مستكيناً؟!

من ماء مهين:

ثم خلق سائر البشر من ماء مهين أمشاج مختلط من زوجين - ما عدا عيسى عليه السلام - كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)}.[السجدة] وجعله تعالى يمر بأطوار في رحم أمه، وأحاطه بحفظه وعنايته، وزوده بالأعضاء الضرورية لبقاء حياته في رحم أمه وبعد خروجه منه حتى يتوفاه الله.
وقد أجمل تعالى رحلة الإنسان منذ بداية تَكَوُّنه في رحم أمه إلى أن يلقى ربه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}.[الحج]

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)}. [المؤمنون]

إن الإنسان الذي أوجده الله تعالى من العدم، وجعله يمر بهذه الأطوار التي ليس له فيها اختيار، ولا قدرة على تكوين نفسه ولا حفظها ولا جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها، إلا بما أقدره الله تعالى عليه في بعض مراحل حياته، وكما خلقه يميته ثم يبعثه ليحاسبه على ما قدَّم وأخَّر.

إن هذا الإنسان الذي هذه حاله، جديرٌ به بأن يتدبر نفسه، ويتفكر في كل عضو من أعضاء جسمه ومنافعه، ويفكر كذلك فيما لو فقد تلك الأعضاء أو بعضها، كيف سيكون حاله؟ وفيما أحاطه الله به في جميع أطواره، حتى وصل إلى تلك النهاية التي يرى فيها ثمار نشاطه في دنياه، وما قدمه في زمن عمره من خير أو شر.

ترى لو فكر في ذلك بتأمل واعتبار، ألا يجعله ذلك يصبح ويمسي خاضعاً خاشعاً مخبتاً لله باطناً وظاهراً في كل أحواله لما غمره به من آلاء طيلة عمره؟!

وليفكر كل إنسان أنه خلق بدون شفتين، أو بدون لسان، أو بدون يدين، أو بدون مفاصل لفخذه وقدميه، أو مطموس العينين، أو فاقد الأذنين، أو مسدود الجهاز الإخراجي، وقس على ذلك. كيف سيعيش في هذه الدنيا؟

لقد ذكر الله تعالى الإنسان بهذه الصفحة وهي نفسه، من كتاب الله المفتوح التي تصاحبه في كل أحواله يستطيع أن يقرأها ويتأملها قارئاً وغير قارئ، عالماً وغير عالم، في النور وفي الظلام، مقيماً ومسافراً، غنياً وفقيراً، في مسجد أو مصنع، في قصر كبير أو عش صغير، في بدو أو حضر.

ذكَّر الله الإنسان بذلك تذكيراً عاماً، فقال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ(21)}. [الذاريات]
وذكَّره تذكيراً خاصاً بضرب بعض الأمثلة في هذه النفس، فقال تعالى: {(7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9)}. [البلد]

وقال عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}. [النحل]

وذكَّره بأنه قادر على إذهاب ما شاء من أعضائه أو سلب منافعه، فقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)}. [الأنعام]

ومن أعظم ما منح الله تعالى به الإنسان العقل الذي ميزه به عن الحيوانات، وجعله مناط تكليفه وسبب تشريفه، فإذا كانت أعضاء جسمه المادية تميز له المطاعم والمشارب، حارَّها وباردها وحلوها ومرَّها، وغيرها من الماديات رطبها ويابسها، وليِّنها وصلبها، وطولها وقصرها، وجميلها ودميمها، وحسن الأصوات وقبيحها، فإن العقل يميز به بين الحق والباطل، والنافع والضار، والعلم والجهل، والمصالح والمفاسد، والضال والراشد، وغير ذلك من المعاني والمعارف التي لا تدركها الحواس، وإن كانت منافذ لها.
إن تفكُّر الإنسان في هذه الصفحة الخاصة به ـ وهي قليل من كثير ـ تجعله يدرك عظمة الخالق ويشعر بالرهبة والخشية التي هي من أهم أسباب الخشوع والإخبات كما يأتي.
خصيم مبين:

ذلك هو المفروض في الإنسان ـ أي ِّ إنسان ـ أن يشعر بالرهبة والخشية فيخشع لمن خَلَقَهُ فسوَّاه وعدله، وأكرمه ونعَّمه، ولكن غالب الناس تعمى أبصارهم وتنحرف عقولهم، فلا يرون الصراط المستقيم، ولا يستقر لسان ميزان عقولهم على الحق القويم، فيسلكون مسلك عدوهم "الشيطان" وأتباعه فيؤثرون التقليد المردي على الدليل الهادي والبرهان، فإذا هذا الإنسان الضعيف الذي مرَّ بتلك الأطوار عبر السنين، ينصب من نفسه عدواً لرب العالمين، مشاقَّاً له في صف عدوه المبين: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)}.[فاطر ] ناسياً أنه خُلِقَ { مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} كما قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)}. [النحل]
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)}. [يس]