أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمنالرحيم
الحمد لله والصلاةوالسلام على رسول الله ... أما بعد ،،،
فهذا كلام جميل لابن القيم يرحمه الله حول الصبر عنالمعصية ذكره في كتابه "طريق الهجرتين" نسأل الله أن يعفو عنا .
قال رحمه الله :
قاعدة الصبر عن المعصية ينشأمن أسباب عديدة
أحدها علم العبدبقبحها ورذالتها ودناءتها وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدناياوالرذائل كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره وهذا السبب يحمل العاقل على تركهاولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب
السبب الثاني الحياء من الله سبحانه فإن العبد متى علمبنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حييا استحيى من ربه أن يتعرضلمساخطه
السبب الثالث مراعاةنعمه عليك وإحسانه إليك فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد فما أذنب عبد ذنبا إلا زالتعنه نعمةمن الله بحسب ذلك الذنب فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها وإن أصر لم ترجعإليه ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها قال الله تعالى إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأعظم النعم الإيمان وذنب الزنا والسرقة وشربالخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها وقال بعض السلف أذنبت ذنبا فحرمت قيام الليلسنة وقال آخر أذنبت ذنبا فحرمت فهم القرآن وفي مثل هذا قيل
إذا كنت في نعمة فارعها... فإن المعاصي تزيل النعم
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النارالحطب عياذا بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته
السبب الرابع خوف الله وخشية عقابه وهذا إنما يثبتبتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله وهذا السبب يقوى بالعلم
واليقين ويضعف بضعفهما قال اللهتعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال بعض السلف كفى بخشية الله علماوالاغترار بالله جهلا
السببالخامس محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحب لمن يحبمطيع وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى وإنماتصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله علىترك معصيةسيده خوفه من سوطه وعقوبته وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده وفي هذا قال عمر نعمالعبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه يعني أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه منمحبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبهوجوارحه وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه وههنا لطيفة يجب التنبه لها وهيأن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه فإذاقارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة وإلا فالمحبة الخالية عنهماإنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها ويفتشالعبد قلبه فيرى نوع محبة لله ولكن لا تحمله على ترك معاصيه وسبب ذلك تجردها عنالإجلال والتعظيم فما عمر القلب شيء كالمحبةالمقترنة بإجلال الله وتعظيمه وتلك منأفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
السبب السادس شرف النفس وزكاؤهاوفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع من قدرها وتخفض منزلتهاوتحقرها وتسوي بينها وبين السفلة
السبب السابع قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرهاوالضرر الناشيء منها من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه وحزنه وألمه وانحصارهوشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه وتعريه من زينته والحيرة فيأمره وتخلي وليه وناصره عنه وتولي عدوه المبين له وتواري العلم الذي كان مستعدا لهعنه ونسيان ما كان حاصلا له أو ضعفه ولا بد ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولابد فإن الذنوب تميت القلوب ومنها ذله بعد عزه ومنها أنه يصير أسيرا في يد أعدائهبعد أن كان ملكا متصرفا يخافه أعداؤه ومنها أنه يضعف تأثيره فلا يبقى له نفوذ فيرعيته ولا في الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أمرها ولا ينفذ في غيرهم ومنها زوال أمنهوتبدله به مخافة فأخوف الناس أشدهم إساءة ومنها زوال الأنس والاستبدال به وحشةوكلما ازداد إساءة ازداد وحشة ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط ومنها زوالالطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبداله بالطرد والبعد منه ومنهاوقوعه في بئر الحسرات فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرهاإن لم يقض منها وطرا أو إلى غيرها إن قضى وطره منها وما يعجز عنه من ذلك أضعافأضعاف ما يقدر عليه وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه فيا لها نارا قدعذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ومنها فقرهبعد غناه فإنه كان غنيا بما معه من رأس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباحالكثيرة فإذا سلب رأس ماله أصبح فقيرا معدما فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخربالتوبة النصوح والجد والتشمير وإلا فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأس ماله ومنهانقصان رزقه فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه ومنها

ضعف بدنه ومنها زوال المهابةوالحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة ومنها حصول البغضة والنفرة منهفي قلوب الناس ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوضمنه ولا يعود إليه أبدا ومنها طمع عدوه فيه وظفره به فإنه إذا رآه منقادا مستجيبالما يأمره اشتد طمعه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دون مولاهالحق ومنها الطبع والرين على قلبه فإن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإنتاب منها صقل قلبه وإن أذنب ذنبا آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبهفذلك هو الران قال الله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ومنها أنهيحرم حلاوةالطاعة فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمانوالعقل والرغبة في الآخرة فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد ومنها أن تمنع قلبهمن ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة فإن القلب لا يزال مشتتا مضيعا حتى يرحلمن الدنيا وينزل في الآخرة فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كلجهة واجتمع على جمع أطرافه وقضاء جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده وما لم يترحلإلىالآخرة ويحضرها فالتعب والعناء والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة ومنهاإعراض الله وملائكته وعباده عنه فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيهأعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليهوأقبل بقلوب خلقه إليه ومنها أن الذنب يستدعي ذنبا آخر ثم يقوى أحدهما بالآخرفيستدعيان ثالثا ثم تجتمع الثلاثة فتستدعي رابعا وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط بهخطيئته قال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئةبعدها ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير
جنسها فإنه لا يجمع اللهلعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة كما قال تعالى ويوم يعرض الذينكفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فالمؤمن لا يذهبطيباته في الدنيا بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة وأما الكافر فإنه لا يؤمنبالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا ومنها علمه بأن أعماله هيزاده ووسيلته إلى دار إقامته فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دارالعصاة والجناة وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته ومنها علمه بأنعمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه فإن شاء جعلهله وإن شاء جعله عليه ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلىالله به فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها وأعمال الفجور تهوي به وتجذبهإلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين بحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلىحيث يستقر به قال الله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال تعالىإن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء فلما لم تفتحأبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنهاوأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلىالله سبحانه فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه فرحمها وأمر بكتابةاسمها في عليين ومنهاخروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله فيخرج بمعصيته منهإلى حيث يصير نهبا للصوص وقطاع الطريق فما الظن بمن خرج من حصن
حصين لا تدركه فيه آفة إلى خربةموحشة هي مأوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئا من متاعه ومنها أنهبالمعصية قد تعرض لمحق بركته وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بهاالعبد علما وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علما فخير الدنيا والآخرةبحذافيره في طاعة الله وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته وفي بعض الآثار يقولالله سبحانه وتعالى من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ومن ذ الذي عصاني فسعد بمعصيتي
السبب الثامن قصر الأمل وعلمهبسرعة انتقاله وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها أو كراكب قال في ظلشجرة ثم سار وتركها فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حملهويضره ولا ينفعه حريص على الانتقال بخير ما بحضرته فليس للعبد أنفع من قصر الأملولا أضر من التسويف وطول الأمل
السبب التاسع مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسهومنامه واجتماعه بالناس فإن قوةالداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات فإنهاتطلب لها مصرفا فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام ومن أعظم الأشياء ضررا علىالعبد بطالته وفراغه فإن النفس لا تقعد فارغة بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بمايضره ولا بد
السبب العاشر وهوالجامع لهذه الأسباب كلها ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد عن المعاصي إنماهو بحسب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبرفإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له وتحريمه لما حرم عليه وبغضه لهومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار امتنع من أن لايعمل بموجب هذا العلم ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمانالراسخ الثابت فقد غلط فإذا قوي
سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نورهفي أرجائه سرى ذل النور إلى الأعضاء وانبعث إليها فأسرعت الإجابة لداعي الإيمانوانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرحالرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته فهو كل وقت يترقب داعيه ويتأهبلموافاته والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم فصل والصبر على الطاعةينشأ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثارالجميلة ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبة فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلبكانت استجابته للطاعة بحسبه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .