أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


مشكلات المقاصد.. (ما ذكره العزّ بن عبدالسلام نموذجا)

د. لخضر بوغفور -أكاديمي جزائري
مجلة الوعي الإسلامي


جرت العادة في كثير من العلوم والمعارف أن يقف قاصدها على جملة من المشكلات التي ربّما أحدثت له نوعا من اللّبس والاضطراب فيما تلقّاه من مسلّمات هذا العلم أو ذاك، فكان حريّا بطلّاب التحقيق أن يسعوا في تجليتها وفكّ قفلها.
وعلم المقاصد خير شاهد على ما أقول، فما إن يشرع طالبه في جمع مفرداته حتّى تعرض له جملة من القضايا والمسائل تشوِّش عليه انسجام أصول هذا العلم مع فروعه، سواء تعلّق الأمر بمقاصد الشارع من خطاباته الشرعيّة أو من مدلولاتها(1).
وإذا كان قد مضى معنا طرق بعض وسائل ضبط هذا العلم من خلال الوقوف مع بعض تأصيلات ابن دقيق العيد في علاقة النصّ الشرعي بالمقصود منه، فإنّنا في هذه الورقات نؤمّ الغاية نفسها- إن شاء الله- من خلال حلّ بعض مشكلات هذا العلم التي عالجها أحد أعلامه الكبار، ألا وهو عزّالدّين بن عبدالسلام.
وهو بلا ريب أهل لتلمّس ما عنده في هذا المقام، فقد قال عنه تلميذه القرافي: «كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولها، وكان يُفتح عليه بأشياء لا توجد لغيره...»(2). وقال عنه ابن حجر بأنّه: «كان عاليَ الهمّة، بعيد الغور في فهم العلوم...»(3).
والإمام العزّ كان موضوع رسالتي في مرحلة الماجستير من خلال بحث جهوده في علم مقاصد الشريعة، إلاّ أنّني لم أعن وقتها ببحث هذا الجانب عنده على الوجه الذي خرج به هذا البحيث.
وقد قدّمت له بتوطئة ثمّ سردت في فرعين اثنين ما وقفت عليه لصيقًا بالموضوع من خلال ما ذكره العزّ ثمّ انتهيت إلى توصية البحث.


توطئة

إذا تأمّلنا في ماهية المشكلات التي سردها الإمام العزّ أمكننا تصنيفها باعتبار مصدرها إلى نوعين بارزين:
النّوع الأوّل: إشكالات صدرت عن بعض الزائغين والتزموها حتّى قدّموها على المحكمات القطعيّة التي أجمعت عليها الأمّة من جهة ما توهمّوه من معارضتها للمقاصد المرعيّة، ولربّما لبّست زندقتهم هذه على طائفة من الأمّة وأحدثت في أنفسهم شيئًا من الاضطراب في تصوّر بعض مفردات الشريعة، وخصوصا في عصرنا الحاضر بسبب فشوّ ظاهرة تقديم أوهام العقل على أنوار النّقل.
وهنا لا يعدو عمل النّاظر أن يوجّه هذه الإشكالات وينبِّه إلى مناطاتها الحقيقية بعد أن سكنت نفسه إلى زيفها وتهافتها.
النّوع الثاني: إشكالات صدرت عن الإمام نفسه حول جملة من القضايا الشرعيّة، ويمكننا تقسيم هذه القضايا إلى ما يلي:
1- قضايا محكمة، ولكن ربّما خفيت مناطاتها على النّاظر وعسُر عليه توجيهها مقاصديًّا.
2- قضايا ظنّية، ربّما عمد المخالف فيها إلى ملاحظة مقاصد الشارع في إصدار أحكام مخالفة لما بدا للنّاظر.
وهنا يدقّ عمل النّاقد البصير بمواقع التشابه والتداخل، ويشتدّ جهده في دفع الإشكال المقاصدي.
وقد يصيب الجواب السديد، وقد يُخطِئه، وقد يُسلِّم بمؤدّى الإشكال، وقد يتوقّف عن تبنِّي أيّ حكم في المسألة المنظور فيها بسبب عدم اهتدائه إلى حلّ ما عرض له وعدم تكلّفه لهذا الرأي أو ذاك، قال العزّ: «الموفّق من رأى المشكل مشكلًا، والواضح واضحًا. ومن تكلّف خلاف ذلك لم يخل من جهل أو كذب»(4). وقال أيضا: «من تكلّف أن يجعل المشكل واضحًا، فقد كلّف نفسه شططًا»(5).
وعلى ضوء موقف الإمام العزّ من هذه المشكلات جاءت تعليقاتي المختصرة على جلّ أجوبته مسترشدًا فيها بما وقفت عليه من كلام أهل العلم راميًا من خلالها تقريب جهده في هذا المقام مع زيادة البيان واستدراك بعض ما فاته التّنبيه إليه ومناقشته فيما ينازع فيه محاولًا في كلّ ذلك الوصول إلى الجواب الأقرب إلى الصواب، والله تعالى أعلم بالصواب.
الفرع الأوّل: مشكلات النّوع الأوّل
المشكل الأوّل:
نصّ المشكل:
قال الإمام: «بلغني عن بعض الزنادقة الذين أعمى الله قلوبهم أنّه قال: في الشريعة عدل وجَور. ومثّل الجَور بإيجاب الدِّية على العاقلة»(6).
ويعظم كذب هؤلاء وكفرهم من جهة أنّهم نسبوا الجور إلى الشريعة على حدّ نسبتهم العدل إليها، وإنّما هذه المسألة جعلوها مجرّد مثال.
جواب المشكل:
قال الإمام: «كيف يكون هذا جورًا؟! والأموال كلّها لله، والعباد كلّهم ملكه وطوع يديه. وقد دفع هذا المالك الأعظم والسيِّد الأعلم بمصالح عباده أموالًا إلى عباده، وشرط عليهم في أمواله أن يصرفوا بعضها في مصالحهم، وأن يصرفوا بعضها إلى فقرائهم، وبعضَها إلى أهل ضروراتهم، وأن يصرفوا بعضها إلى من أخطأ من جناتهم، جبرًا للمجني عليه، وإحسانًا إلى الجاني بإرفاقه لأجل خطئه، وصلة لرحمه، ودفعًا لما يُتوقّع من مفسدة قتل الجاني.
فمن زعم أنّ السيِّد إذا تصرّف في أمواله بما يصلح عبيده بالجهات المذكورة كان جائرًا، فإنّه أعمى البصر والبصيرة، فاسد السريرة، متظاهر بالإسلام، وليس بمسلم {...وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: 30) هل للعبد أن يجوِّر سيِّده إذا أعطاه ماله بهذه الشروط؟!
ومن ضعف الإسلام ترك هذا الزّنديق يتصرّف بين الأنام! فالمال مال الله، والعبيد عباد الله {...أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} (الأعراف: 54). ولو أعطى هذا الأحمق عبده شيئًا، وشرط عليه مثل ما شرطه الله على عباده لما عدّ نفسه جائرة مسيئة، بل عدّها عادلة محسنة. ولو قُتِل هذا الخبيث من حين سُمع منه هذا الكلام لكان ذلك إجلالا للدّين وإعزازا للإسلام»(7).

المشكل الثاني:
نصّ المشكل:
قال الإمام: «إن قيل: كيف تُقطع يدٌ ديتها خمسون من الإبل أو خمسمائة دينار بربع دينار أو بعشرة دراهم كما قال أبوحنيفة رحمه الله؟»(8).
وهو يشير في هذا الاستشكال- المبطّن بالزندقة والتشكيك في حكمة الشارع البالغة- إلى ما نُسِبَ إلى أبي العلاء المعرِّي كما نصّ عليه في كتاب آخر له، حيث قال: «كان المعرِّي مستخفًّا بالشريعة، فأنشد:
يد بخمس مئين عَسْجَدٍ(9) وُدِيت
ما بالها قُطِعت في ربع دينار؟»(10).
جواب المشكل:
قال الإمام: «قلنا: ليس الزجر عمّا أخذه، وإنّما الزجر عن تكرير ما لا يتناهى من السرقة المفوِّتة للأموال الكثيرة التي لا ضابط لها، ولو شرط الشرع في نصاب السرقة مالًا خطيرًا لضاعت أموال الفقراء الناقصة عن النصاب الخطير، وفي ذلك مفسدةٌ عامّة للفقراء»(11).
وجوابه هذا محلّ نظر، ويعترض عليه من جهة أنّه ربّما فُهِم منه عدم اعتبار الشارع بضياع أموال كثير من الفقراء التي لا تبلغ نصاب السرقة، ولهذا تعقّبه البلقيني بقوله: «يقال عليه: فما شرطه الشارع في نصاب السرقة ربع دينار مفوِّت لما دونه من أموال الفقراء، كثمن دينار ونحوه...!»(12).
والإمام نفسه نقل في موضع آخر- عقب إيراده لبيت المعرِّي- جوابًا يبدو في ميزان التحقيق أرجح وأسلم وأيسر، وهو قول القاضي عبدالوهاب المالكي:
صيانة العضو أغلاها وأرخصها
صيانة المال فافهم حكمة الباري!(13)

الفرع الثاني: مشكلات النّوع الثاني
المشكل الأوّل:
نصّ المشكل:
قال الإمام: «نصّ الشرع على أنّ شهادة الزّور وأكل مال اليتيم من الكبائر؛ فإن وقعا في مال خطير، فهذا ظاهر. وإن وقعا في مال حقير كزبيبة أو تمرة فهذا مشكل!»(14).
استشكل الإمام بهذه المسألة على ما أصّله نفسه من التلازم بين الحكم على المعصية بكونها كبيرة وبين ما يترتّب عنها من مفاسد، وأنّ الكبائر تتناقص بحسب تناقص هذه المفاسد(15).
جواب المشكل:
قال الإمام: «فيجوز أن يجعل من الكبائر فطامًا عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من الخمر من جملة الكبائر، وإن لم تتحقّق المفسدة فيه. ويجوز أن يضبط ذلك المال بنصاب السّرقة»(16).
والظاهر رجحان احتماله الأوّل من جهة موافقته لظواهر النّصوص الواردة في اعتبار هاتين الكبيرتين، ومن جهة ما نظّر به من سدّ الشارع الحكيم الطريق المفضي إلى الوقوع في المفاسد الظاهرة، قال تلميذه ابن دقيق العيد: «المفسدة لا تؤخذ مجرّدة عمّا يقترن بها من أمر آخر، فإنّه قد يقع الغلط في ذلك. ألا ترى أنّ السابق إلى الذهن أنّ مفسدة الخمر السّكر وتشويش العقل، فإن أخذنا هذا بمجرّده لزم منه أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة؛ لخلائها عن المفسدة المذكورة، لكنّها كبيرة فإنّها- وإن خلت عن المفسدة المذكورة- إلاّ أنّه يقترن بها مفسدة الإقدام والتجرؤ على شرب الكثير الموقع في المفسدة، فبهذا الاقتران تصير كبيرة»(17).

المشكل الثاني:
نصّ المشكل:
ذكر الإمام الحديث القدسي الذي قال فيه ربّ العزّة جل جلاله: «ولن يتقرّب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه»(18).
ثمّ قال: «لاشكّ أنّ هذا الحديث معمول به إذا ساوى الفرض النّفل، كما في درهم الصدقة ودرهم الزكاة، وفي حجّ الفرض وحجّ النّفل. وفي صوم الفرض وصوم النّفل، فإنّهما متساويان من كلّ وجه.
أمّا إذا تفاوتا بالقلّة والكثرة، مثل إن زكّى بخمسة دراهم وتصدّق بعشرة آلاف درهم، أو زكّى بشاة وتصدّق بعشر شياه...»(19).
جواب المشكل:
قال الإمام مجيبًا عمّا أورده في قواعده: «فيحتمل في مثل هذا أن يكون الفرض أفضل من النّفل من غير نظر إلى تفاوت المصلحتين. ويحتمل أن يخصّ الحديث بالعملين المتساويين في المصلحة كدرهم الزكاة مع درهم الصدقة، وشاة الزكاة مع شاة العقيقة، ولكنّ فيه مخالفة لظاهر الحديث.
وليس ببعيد من تفضّل الربّ سبحانه أن يأجر على أقلّ العملين المتجانسين أكثر ممّا يأجر على أكثرهما، كما فضّل أجر هذه الأمّة مع قلّة عملها على عمل اليهود والنّصارى مع كثرة عملهم(20)...»(21).
ويتجلّى من خلال هذا الجواب أنّ الإمام رغم كونه ساقه على وجه الاحتمال إلاّ أنّه مال بصورة ظاهرة إلى طرد أصل تفضيل الواجب على النّفل.
وأمّا في كتابه الأمالي فلعلّه مال إلى التزام مؤدّى هذا المشكل، حيث نقل منه الزّركشي قوله: «قال البيهقي لا يعدل شيء من السنن واجبًا أبدًا، وهو مشكل؛ لأنّ الثواب والعقاب مرتّبان على حسب المصالح والمفاسد، ولا يمكننا أن نقول ثمن درهم من الزّكاة تربو مصلحته على مصلحة ألف درهم تطوّعا، وأنّ قيام الدّهر لا يعدل ركعتي الفجر. هذا خلاف القواعد»(22).
وقد عقّب الزّركشي عليه بجملة أمور بعضها يرجِّح هذا المسلك وبعضها يرجِّح ذاك، وفيما يلي بيانها وتقريبها:
1- أراد من خلاله- فيما يبدو- الاعتراض على كلام العزّ بناء على تنظير مسألتنا بمسألة فرض العين وفرض الكفاية، حيث اشتهر مذهب جمهور العلماء في تفضيل الأوّل رغم أنّ مفسدة ترك الثاني أعظم، قال الزّركشي: «...ليست مفسدة ترك النّهوض بمهمّات شعائر الدّين أقلّ من مفسدة التارك لفرض عين، بل أكثر لما فيه من خرم نظام مصالح العباد».
2- «أنّ ما مثل به قد يُلتزم، إذ ترك التطوّع صدقة كان أو صلاة لا إثم فيه وإن كثر بخلاف الفرض وإن قلّ، فناسب تأكّده والاعتناء به بزيادة الثواب، فلا يمنع إطلاق التفضيل».
3- «في كلام أصحابنا في الفروع صور تقتضي ترجيح النّفل على الفرض. منها: أنّ إبراء المعسر أفضل من إنظاره، لحصول الغرض وزيادة، ومنها: أنّ ابتداء السلام أفضل...»(23).
وهكذا تلاحظ أنّ الأمرين الأوّل والأخير يرجّحان تقديم النّفل هنا، والأمر المتوسّط يرجِّح البقاء على ظاهر الحديث.
وكان قد أشكل عليّ- في رسالة الماجستير- الترجيح في مسألة الموازنة بين فرض العين وفرض الكفاية، واستحسنت وقتها رأي الطوفي بأنه «يمكن الجمع بين القولين، بأنّ كلا منهما أفضل من وجه»(24). ولعلّ مسألتنا من هذا الباب أيضا، فيكون الفرض أفضل باعتبار تأكّده وحرمة مخالفته، ويكون النّفل أفضل باعتبار كثرة مصالحه، ومن ثَمّ يزول الإشكال، والله تعالى أعلم بالصواب.
أو رجح الإصلاح كالأسارى
تُفدى بما ينفع النّصارى(48)
فلأن يجوز استنقاذ جميع أهل بلد ما ببذل مال رجل واحد منهم من باب أولى طردًا لأصلي تقديم مصلحة النّفس على مصلحة المال، وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

المشكل الثالث:
نصّ المشكل:
قال الإمام- في صدد تقريره لعدم قصد الشارع لمشقّة العباد-: «فإن قيل: قد روى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما مسندًا عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، يصدر النّاس بنسكين، وأصدر بنسك واحد؟ قال: «انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم، فأهلّي منه ثمّ القَينا عند كذا وكذا- قال: أظنّه قال: غدًا- ولكنّها على قدر نصبك، أو قال: قدر نفقتك(25)»(26).
جواب المشكل:
وإنّما يرد الإشكال على رواية «على قدر نصبك» من جهة ما علم من عرف الشارع من قصده إلى مصالح العباد لا إيقاعهم في الحرج بالمشاقّ التي تتعلّق أحيانًا بالأحكام الشرعيّة كما نبّه الإمام بقوله: «قلت: هذا مشكوك فيه، هل قال: «على قدر نصبك»، أو قال: «على قدر نفقتك»؟»(27) فإن كان الواقع قوله: «على قدر نفقتك»، فلاشكّ أنّ ما يُنفق في طاعة الله يفرّق بين قليله وكثيره، وإن كان الواقع قوله: «على قدر نصبك» فيجب أن يكون التقدير: على قدر تحمّل نصبك.
وقد علمنا من موارد الشرع ومصادره أنّ مطلوب الشرع إنّما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقّة مصلحة، بل الأمر بما يستلزم المشقّة بمنزلة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المرّ البشع، فإنّه ليس غرضه إلّا الشفاء.
ولو قال قائل: كان غرض الطبيب أن يوجده مشقّة ألم مرارة الدواء؛ لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح، وكذلك الوالد يقطع من ولده اليد المتآكلة حفظا لمهجته، ليس غرضه إيجاده ألم القطع، وإنّما غرضه حفظ مهجته، مع أنّه يفعل ذلك متوجّعا متألِّما لقطع يده...»(28).
ولكن حمله للحديث على مضاف محذوف تقديره التحمّل محلّ نظر، وأعتقد أنّه غير كاف في توجيهه التوجيه الصحيح، فتحمّل المرء للمشقّة قد يرافقه قصده لها وربّما لا.
وإنّما المناسب لما ذكره الإمام هو الاحتمال الأوّل الذي تنسجم على ضوئه تصرّفات الشريعة، قال سعد الشتري: «ليس المراد بالحديث النّصَب المقصود للمكلَّف، وإنما المراد النّصب الواقع في العبادة الذي لم يقصده المكلف»(29).

المشكل الرابع:
نصّ المشكل:
قال الإمام: «قد استُثْني من سقوط الوسائل بسقوط المقاصد أنّ النّاسك الذي لا شعر على رأسه مأمور بإمرار الموسى على رأسه، مع أنّ إمرار الموسى على رأسه وسيلة إلى إزالة الشعر فيما ظهر لنا»(30).
جواب المشكل:
قال الإمام: «فإن ثبت أنّ الإمرار مقصود في نفسه، لا لكونه وسيلة، كان هذا من قاعدة من أُمر بأمرين، فقدر على أحدهما وعجز عن الآخر»(31).
ولكن الواقع عدم ثبوت ما ورد في هذا الشأن سواء ما ذُكِر من آثار أو ما ادّعي من إجماع على إمرار النّاسك الأصلع الموسى على رأسه(32)، ومن ثمّ فالأصل التزام مؤدّى هذا المشكل وطرد قاعدة سقوط الوسائل بسقوط مقاصدها في هذا الفرع وما يشابهه.
قال ابن القيّم في صدد حديثه عن مسألة ختان الأقلف التي نظّر بها لمسألتنا: «الصواب أنّ هذا مكروه لا يُتَقرّب إلى الله به، ولا يُتَعبّد بمثله وتُنَزّه عنه الشريعة؛ لأنّه عبث لا فائدة فيه، وإمرار الموسى غير مقصود، بل هو وسيلة إلى فعل المقصود، فإذا سقط المقصود لم يبق للوسيلة معنى»(33).

المشكل الخامس:
نصّ المشكل:
«الرَّمل مشروع إلى يوم الدين. ومثل هذا لا يقاس عليه؛ لأنّ القياس فرع لفهم المعنى»(34).
جواب المشكل:
قال الإمام: «يجوز أن يقال: إنه " صلى الله عليه وسلم" رمل في حجّة الوداع مع زوال السبب تذكيرا لنعمة الأمن بعد الخوف لنشكر عليها، فقد أمرنا الله بذكر نعمه في غير موضع من كتابه، وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها»(35).
وتلاحظ أنّ الإمام ذكر هذا التوجيه على سبيل الاحتمال، وأمّا تلميذه ابن دقيق العيد فجزم بمعقولية هذا الحكم، وأناطه بمعنى آخر فقال: «في ذلك من الحكمة تذكُّر الوقائع الماضية للسلف الكرام، وفي طيِّ تذكِّرها مصالح دينية. إذ يتبيّن في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى، والمبادرة إليه، وبذل الأنفس في ذلك. وبهذه النّكتة يظهر لك أنّ كثيرا من الأعمال التي وقعت في الحجّ، ويقال فيها: (إنّها تعبد)، ليست كما قيل...» (36).
وإذا دلّت نصوص الشريعة على ثبات الحكم مع زوال المقصود الظاهر منه كما في مسألتنا، فلا يضرّ بعد ذلك جهلنا بالمعنى الحقيقي الذي يناط به في مستقبل الزمن.
ويندب الفقيه إلى الأناة في توجيه هذا النّوع من الأحكام في حال عدم وجود أمارات ظاهرة على التحديد، ومن ثمّ فيبدو لي أنّ موقف الإمام العزّ في احتمال ما ذكره أسلم من جزم تلميذه، والعلم عند الله تعالى.

المشكل السادس:
نصّ المشكل:
قال الإمام: «إن قيل: كيف أبحتم كفر اللسان بالإكراه حفظا للدماء، مع كونه من أعظم المفاسد، ولم تبيحوا القتل والزنا واللواط بالإكراه، مع كون مفاسدها دونه؟!
قلت: في هذا نظر، وهو مشكل»(37).
جواب المشكل:
قال الإمام: «فيمكن أن يفرّق بغلبة الإكراه على الكفر وندرته في القتل والزنا واللواط. ويمكن أن يفرّق بأنّ التصوّن عن كلمة الكفر حقّ لله وحده، والتصوّن عن الزنا والقتل واللواط حقّ لله ولعباده، فشدّد الأمر فيه.
ويمكن أن يقال: إنّ مفسدة القتل واللواط تتحقّق، ومفسدة كفر الأقوال والأعمال لا تتحقّق، لأنّ مفسدتهما هي الاستهزاء والاحتقار، والمكره غير مستهزئ ولا محتقر، إذ لا يتحقّق ذلك مع الإكراه»(38). كما أشار إلى هذه المسألة في المسائل والأجوبة، ونبّه إلى تعليل آخر لعدم جواز الزنا بالإكراه مجيبًا على ما قد يُستشكل بأنّ مفسدة قتل النّفس أعظم من مفسدة الزنا، فقال: «المسألة من باب تقديم الواجب على المندوب؛ لأنّ ترك الزنا واجب ودفع الصائل مندوب على هذا، وإن قلنا إنّه يجب فقد تعارض واجبان أحدهما مقطوع بوجوبه وهو ترك الزنا.. والآخر غير مقطوع بوجوبه وهو دفع الصائل لاختلاف الناس فيه، ودرء المفسدة المقطوع بوجوب دفعها أولى من المظنونة»(39).
لا يطّرد هذا الإشكال إلاّ بعد التسليم بهذه الأحكام، أمّا إباحة كفر اللسان بالإكراه فظاهر بآية النّحل، وأيضا انعقد الإجماع على عدم إباحة قتل معصوم بالإكراه(40).
وكذلك عدم إباحة اللّواط بالإكراه ظاهر، ولم أقف على من تسامح فيه. قال ابن القيّم: «إن قيل لو وقع مثل ذلك لرجل، وقيل له إن لم تمكّن من نفسك وإلا قتلناك، أو منع الطعام والشراب حتى يمكّن من نفسه وخاف الهلاك فهل يجوز له التمكين؟ قيل لا يجوز له ذلك ويصبر للموت، والفرق بينه وبين المرأة أنّ العار الذي يلحق المفعول به لا يمكن تلافيه وهو شرّ مما يحصل له بالقتل أو منع الطعام والشراب حتى يموت؛ فإنّ هذا فساد في نفسه وعقله وقلبه ودينه وعرضه، ونطفة اللوطي مسمومة تسري في الروح والقلب فتفسدهما فسادًا عظيمًا قلّ أن يرجى معه صلاح.
ففساد التفريق بين روحه وبدنه بالقتل دون هذه المفسدة»(41).
وأمّا حكم الإكراه على الزنا فمحلّ خلاف(42)، وعليه فلا يرد هذا الإشكال على من يجيز الإقدام على الزنا إذا أكرهته المرأة نفسها، حيث يقوى القول بالترخّص حفظا لمهجته على الأصل من تقدّم مرتبة حفظ النّفس.

المشكل السابع:
نصّ المشكل:
قال الإمام- في صدد حديثه على اختصاص الأموال الزكويّة بالحُكْم: «إن قيل: إنّما اعتبرت النُّصُب ليكون المال محتملا للمواساة، فهلاّ أوجبتم الزكاة على من يملك من الجواهر والخيل والحمير والبغال والقُرى(43) والبساتين والدّور والدكاكين ما يساوي مائة ألف دينار، لاحتمال ماله للمواساة. وكيف لا يجب على هذا الزكاة، وهي واجبة على الضعيف ذي العيال في خمس من الإبل أو في جزء من بعير في صورة الخلطة؟»(44).
جواب المشكل:
قال الإمام: «قلت: إن اشتملت قراه وبساتينه على الأموال الزكويّة من النّخل والكرم والزرع كانت زكاتها مجزية عن زكاة رقابها، وإن لم يكن فيها مال زكوي، فإنّ ثمار بساتينها تُباع بالنّقود في الغالب، وكذلك تؤجّر أراضيها بالنّقود في الغالب، فإن بقيت نقودها حتى حال عليها الحول، قامت زكاة النقود مقام زكاة رقابها. وإن اتّجر بنقودها قامت زكاة التجارة مقام زكاة النقد.
وكذلك القول في اتّجار الدور والدكاكين...»(45).
ويردّ بهذا الجواب السديد على بعض أهل العلم الذين ربّما توسّعوا في ملاحظة معنى المواساة حتّى استحدثوا أموالًا زكوية جديدة لا تشهد لها الشريعة في نصوصها ولا في قياساتها المعتبرة.

المشكل الثامن:
نصّ المشكل:
قال الإمام: «قواعد الشريعة مبنية على أنّ المفسدتين إذا تعارضتا دفعت العظمى بارتكاب الدنيا، وإذا تعارضت مصلحتان حصِّلت العليا منهما بتفويت الدنيا. ويُشكل على ذلك أنّ الأمّة أجمعت على أنّ العدوّ لو نزل على بلد وخاف أهله من استئصال العدوّ لهم وسألوه أن يعطوه مال فلان أو امرأته ويرحل عنهم أنّ ذلك حرام عليهم مع أنّ المفسدة الواحدة أخفّ من مفسدة الجميع. فهذا مشكل»(46).
جواب المشكل:
قال الإمام: «الجواب عنه أنّ مصالح الشرع ومفاسده منها ما عُلِم كسائر الأحكام المعلّلة، ومنها ما لم يعلم كالتعبّدات فهذا مما لم يعلم مفسدته. ويجب أن يعتقد أنّ المفسدة التي قُدِّمت على الاستئصال غير مفسدة مال فلان وزوجته عملا بعادة الله عز وجل في شرائعه. نعم لو كان هذا الحكم ثبت بالاجتهاد كان مشكلا لأنّ الاجتهاد يعتمد المفاسد المعلومة دون المجهولة»(47).
لا يطّرد هذا الإشكال إلاّ بعد التسليم بهذا الحكم، وأنا أشكّ جدًّا في ثبوت هذا الإجماع فيما يتعلّق ببذل المال مقابل الحفاظ على مهج كافّة أهل البلد، ولم أقف على من وافق الإمام على نقله هذا. ويبدو لي عدم صحّته؛ لأنّه يسوغ للأمّة في نظير هذا الحكم فداء أسيرها بالمال الكثير الذي يتقوّى به العدوّ على غيِّه تقديما لمصلحة استنقاذ فرد منها، كما قال سيدي عبدالله العلوي في صدد تمثيله للذرائع الملغاة إجماعا:
أو رجح الإصلاح كالأسارى
تُفدى بما ينفع النّصارى(48)
فلأن يجوز استنقاذ جميع أهل بلد ما ببذل مال رجل واحد منهم من باب أولى طردًا لأصلي تقديم مصلحة النّفس على مصلحة المال، وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

الهوامش

(1) مضى الكلام على هذين النّوعين في تمهيد بحثي السابق، والذي عنونت له: «تقريب تأصيلات ابن دقيق العيد حول علاقة النصّ الشرعي بالمقصود منه من خلال شرحه على عمدة الأحكام».
(2) الفروق 2/157.
(3) رفع الإصر عن قضاة مصر 2/351.
(4) القواعد الكبرى 2/400.
(5) المصدر نفسه 2/44.
(6) المصدر نفسه 1/39. وللاستزادة في الجواب عن هذا الإشكال انظر كلام ابن القيّم في إعلام الموقّعين 3/217-220.
(7) القواعد الكبرى 1/39. وللاستزادة في الجواب عن هذا الإشكال انظر كلام ابن القيّم في إعلام الموقّعين 3/217-220.
(8) مسائل وأجوبة في علوم متعدّدة لـ194/أ.
(9) العَسْجَد: الذهب، ويطلق أيضا على الجوهر كلّه كالدّر والياقوت، وعلى البعير الضخم، والمراد هنا المعنى الأوّل. انظر: القاموس المحيط 1/311.
(10) المسائل والأجوبة لـ194/أ.
(11) القواعد الكبرى 1/291.3
(12) الفوائد الجسام على قواعد ابن عبدالسلام ص354.
(13) انظر: المسائل والأجوبة لـ194/أ.
(14) القواعد الكبرى 1/30.
(15) انظر نصّ كلامه في المصدر السابق 1/29، 78.
(16) المصدر نفسه 1/30.
(17) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4/441.
(18) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم: 6502، ص1247.
(19) القواعد الكبرى 1/44.
(20) دليله قول النبيّ " صلى الله عليه وسلم" : مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النّهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثمّ قال: من يعمل لي من نصف النّهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النّصارى، ثمّ قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنّصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملًا وأقلّ عطاء؟ قال: هل نقصتكم من حقِّكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء. أخرجه البخاري في صحيحه، رقم: 2268، ص422.
(21) المصدر نفسه 1/44.
(22) البحر المحيط 1/294.
(23) انظر نصّ كلامه كاملا في المصدر نفسه 1/294-295.
(24) شرح مختصر الروضة 2/410.
(25) صحيح البخاري، رقم: 1787، ص353، وصحيح مسلم- واللفظ له- رقم: 1211 (126)، ص479.
(26) القواعد الكبرى 1/52.
(27) انظر: فتح الباري 3/611.
(28) القواعد الكبرى (مع اختصار) 1/52-53. وانظر ما ذكره ابن تيمية في هذا المقام في مجموع فتاويه 25/281.
(29) شرح القواعد الفقهيّة ص54.
(30) القواعد الكبرى 1/169.
(31) انظر تفصيل ذلك في رسالتي عن مقاصد الشريعة عند الإمام العزّ عند حديثي عن قاعدة سقوط الوسائل بسقوط المقاصد.
(32) القواعد الكبرى 1/169.
(33) تحفة المودود بأحكام المولود ص176.
(34) القواعد الكبرى 2/9.
(35) المصدر السابق 2/9. وأشار إلى هذه الحكمة أيضا في المسائل والأجوبة لـ163/ب.
(36) إحكام الأحكام 3/529.
(37) المسائل والأجوبة لـ182/ب- ل183/أ.
(38) القواعد الكبرى 2/269.
(39) المسائل والأجوبة لـ182/ب- ل183/أ.
(40) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3/160، جامع العلوم والحكم 2/371.
(41) الطرق الحكمية 1/80.
(42) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3/160، جامع العلوم والحكم 2/372، الموافقات 2/512.
(43) من استعمالاتها في اللغة أنّها تُطلق على المساكن والأبنية والضِّياع. كما في لسان العرب 12/93.
ويبدو أنّه مراد الإمام في عبارته هذه.
(44) القواعد الكبرى 2/293.
(45) المصدر السابق 2/293.
(46) المسائل والأجوبة لـ189/ب.
(47) المصدر نفسه لـ189/ب.
(48) انظر: مراقي السعود مع شرحه نشر البنود ص260