فوق محيط الحكمة وتحت سماء الابداع
شعر السامر... بين قيم الدين وعشق (الوطن)
لا شك أن المسلم يكون نصب عينيه هم أمته الإسلامية في المقام الأول خصوصا إن كان صاحب موقف من خلال يده أو قلمه أو لسانه، والشاعر بالذات يحمل رسالة عظيمة للدفاع عن معتقده وأمته الإسلامية، والأمير الشاعر عبد العزيز من سعود بن محمد آل سعود أحد الشعراء الذين وضعوا الهم الإسلامي أمام أعينهم، ولعل القصائد التي تنشر ما بين الفينة والأخرى لسموه على صفحات الجرائد دليل مبين لذلك، فضلا عن المضامين التي تتضمنها قصائده في كل مناسبة بدءا من عناوين القصائد حتى تضمين قيم ومبادئ وأحكام وأخلاق إسلامية من خلال النصوص الشعرية.
فعلى نطاق عناوين النصوص هناك عدد من العناوين تلمس من خلالها حرص السامر على أن تكون القصائد تحت مظلة الدين الإسلامي فضلا عن محتواها، ومنها قصيدة (أمة محمد).
ـ حيث استفتح (السامر) هذه القصيدة بقوله:
دينك ومجدك تهابه نصل الادياني
من هيبتك هاب دارك طامع فيها
والملاحظ أن أول كلمة في هذه القصيدة (دينك) والتي أراد بها أن يؤكد على أن الدين هو القاعدة الأساسية التي ينطلق منها الانسان في حياته بشكل عام، وأمة محمد بشكل خاص، فالدين حاجة إنسانية ملحة، وشاعرنا هنا يستقرئ النفس الانسانية التي لا يمكن أن تعيش بدون انتماء ديني يحقق لها الاستقرار الروحي، والدين الإسلامي دين سماوي شرف الله به هذه الأمة.
قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
ولعل أهمية الدين للمحتمع الإنساني، أنه يوفر للإنسان القاعدة الفكرية التي تستند الظواهر الكونية والإنسانية فيها إلى القوة الإلهية الخالقة القادرة والحكيمة التي ركزت الوجود في كل تفاصيله على أسس ثابتة في قوانينها، والدين هو الحالة العقدية الوجدانية التي تقيم التوازن بين الفرد والمحتمع من خلال نظام القيم والمعايير، وتؤكدها في وجدان الإنسان لتمتد إلى صعيد الواقع، فيشعر الفرد بأن عليه أن يقدم من نفسه ومن حريته شيئا للآخر في حاجاته الحيوية وفي قضاياه الخاصة والعامة، ويرى أنه يحمل مسؤولية طاقته، باعتبارها جزءا من طاقة المجتمع التي أؤتمن عليها من قبل الله، فلا بد له من أن يقدمها له، وهنا تتضح شمولية الدور الديني الفاعل في الاجتماع الانساني، لجميع نواحي الحياة في النشاط الانساني، في السياسة والاقتصاد والاجتماع من ناحية علاقة هذه العناوين بالقيم الروحية والأخلاقية والمعايير الانسانية والوظائف الاجتماعية، باعتبار أن الإيمان بالله في وعي الانسان لمسؤوليته أمامه، يمتد في حياة الانسان في علاقته بنفسه وبالآخرين في مختلف القضايا الحيوية، لذا وفق (السامر) في اختيار مفتاح قصيدة (أمة محمد).
وحينما اختزل شاعرنا كل تلك المعاني في كلمة (دين) أضاف إليها ضميرا متصلا (ك) تقديره يعود إلى خادم الحرمين الشريفين، ليؤكد الالتحام بين الدين والحاكم، ممتدا ذلك الالتحام إلى فحوى تحكيم الشريعة في بلاد الحرمين الشريفين.
وقد عطف شاعرنا كلمة (مجدك) على كلمة (دينك) بحرف العطف (و) ليؤكد على أن مجد حكام وشعب بلاد الحرمين الشريفين أخذوا من الدين قاعدة لانطلاقهم في سماء الحضارة الإسلامية الشامخة.
كما اختار كلمة (هيبتك) في الشطرين الأول والثاني، والهيبة هي الخط الدفاعي الأول في وجه الأعداء، فإذا تجلت الهيبة وعظم شأنها، فهذا دليل على عظم أهلها، وعندما تهون الهيبة فهذا دليل على هوان أهلها.
يقول الشاعر:
(من يهن يسهل الهوان عليه... ما لجرح بميت إيلام)
لذا كان تركيز شاعرنا على مسألة الهيبة، والتغني بها في فاتحة القصيدة لتكون رمز الإباء لهذه الحقبة المستمدة هيبتها من حكام بلده وشعبها الأبي.
وتأتي قصيدة (الدنيا) لتتوج اهتمام السامر بهذا الهم عندما بدأ هذه القصيدة بالبيت التالي:
بهجة الدنيا وزخرفها يزول
افهموا ياهل الدرايه والعقول
جعل شاعرنا حرف الروي (القافية) حرف اللام، وردفه حرف الواو، وكأن بيت الشعر يدفعه القلب إلى مخرج حرف الواو، ومن ثم يتلقفه مخرج اللام ليجهر به إلى فضاء الإبداع.
فإن فاتحة البيت الأول كانت العكس تماما، فكأنما بيت الشعر يأتي من خارج الفم عندما هبط على مخرج حرف الباء ليتلقفه مخرج الهاء داخل الجوف، لتتكون بذلك معادلة اجتمعت فيها الأضداد في صورة بلاغية رائعة.
(ضدان لما استجمعا حسنا *** والضد يظهر حسنه الضد)
ونقف قليلا في ربيع (بهجة الدنيا وزخرفها).. فالبهجة والزخرف اجتمعتا معا تلون سماء الدنيا وتزين جوانبها وتبعث فيها الأنس والفرحة، وهذه الجملة كانت بوابة مزخرفة بغاية الإنسان ومراده في هذه الدنيا، من سعادة ورغد عيش، ولكن لم تكن هذه الجملة إلا بوابة على شمس حقيقة تبعث الانتباه والإصغاء لما بعدها، في أن كل ذلك إلى زوال لا محالة، ولكن تلك رسالة إلى من كان لديه دراية بالأمور، وفي نفس الوقت لديه العقل الذي يميز به ويمكنه من الفهم.
* ويأتي هم الوطن في المرحلة الثانية بعد الهم الديني، حيث تناول السامر هذا الهم بشيء من الوعي المنطلق من المبدأ الديني، حيث يعتبر من أكثر الشعراء الذين كتبوا للوطن المتمثل في مليكه وأرضه وشعبه، ففي قصيدة (صفوة ملوك المسلمين) يقول السامر في فاتحة أبياته:
صفوة ملوك المسلمين
من كون آدم والسلام
مجده رياض الصالحين
الشاهد البيت الحرام
وهنا يذكرنا السامر بحقيقة رغم أنها واضحة وجلية، يذكرنا بشرف عظيم ليس من السهولة الوصول إليه أو الحصول عليه حين يذكر مناقب خادم الحرمين الشريفين.. ودعونا نتناول البيت من ناحية فنية ولغوية.
بدأ السامر الشطر الأول بكلمة معبرة ورنانة (صفوة)، ومن ثم أخذ يبني قصرا زينه بكلمات من العسجد، فأتى بكلمة (ملوك) و(المسلمين) و(مجد) و(رياض الصالحين) و(البيت الحرام) لتكون لبنات وأساس، وأتى بشواهد حقيقية لتبين مصداقية كلامه، فالبيت الحرام أصدق دليل، وأعظم عمل أنجزته اليد البشرية.
وهنا وظف السامر عامل التشويق بحرفية الشاعر المثقف الواعي والمتمكن من أدواته الفنية واللغوية، فالقارئ طوال قراءته للبيت الأول والثاني ينتابه حالة من حب الاستطلاع لمعرفة من هي تلك القامة التي تتوافر بها كل تلك الأوصاف العظيمة.
ـ وفي قصيدة: (يا فهدنا) تتجلى قدرة السامر على مناقشته وارتباطه بأمور الوطن:
يا ملكنا مجدك الحب من شعب الوفا
يا فهدنا يا فهد مجدنا عال المقام
شعبك اللي بالولا.. والوفا الوافي صفا
بالمحبة علقوا بك على الهامة وسام
يستهل السامر باقته الشعرية بياء نداء قرنها بكلمة غالية على قلوب (السعودية) ليجدد الولاء لقائد المسيرة السعودية ويشير إلى أن مجده أرقى الأمجاد بحب شعبه الوفي والمخلص.
وشاعرنا حينما يوجه الخطاب يبتعد عن الأنا بل يؤكد في خطابه على (نا) الجمع، وكأن كل منا حاضر في هذا الخطاب الراقي.
والكلمات (ملكنا ـ فهدنا ـ مجدنا) شواهد صادقة على ذلك.
وكرمز للمحبة التي يكنها الشعب السعودي لقائدهم يقدم الشعب هدية متواضعة مطرزة بالإخلاص ومرصعة بالتضحية تحمل بين طياتها (الوفاء) من الشعب لمليكها الحبيب.
والهدية كما قيل في المثل العربي: (الهدية على مقدار مهديها).
وكما قال الشاعر:
(هدية المرء تنبئ عن مروءته... إن الهدايا على مقدار مهديها)
ويؤكد السامر على أن ذلك الوفاء زرعه الملك بيديه الكريمتين في نفوسنا وسقاه من عذب آرائه وأفكاره وتطلعاته، وجدير به أن يجنيه.
كما أن السامر كان يضمن في كل قصيد له جرعات ثمينة من الحكمة المنطلقة كذلك من القاعدة الدينية.
ففي قصيدة (عادات وسلوم) ضرب السامر أروع الأمثلة في ذلك.
فأول بيت يفتتح به شاعرنا رائعته يقول:
من يطلب العليا فلا يرخص السوم
المجد ما هو قسم نفس بخيله
يقول النقاد إن أحكم بيت ما بدأه صاحبه بـ (من) و(من) هنا أداة شرط لا بد أن يتسنى لها جواب شرط يحقق المعادلة اللغوية والمنطقية.. فالمجد ليس من السهولة بمكان الوصول له.. لذا فمن شد رحله لطلب المعالي فلا بد أن يدفع ثمن ذلك من وقت وتضحية وحب للآخرين.. وقد قال الشاعر في ذلك:
وما نيل المطالب بالتمني... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
فالطريق المفروش بالرياحين لا يقود إلى المجد.. كما قال (لافونتين).
وقد زرع شاعرنا أسلوب التضاد في الشطر الثاني بين (المجد) و(البخل) لتتضح الصورة وتنجلي في ثوبها المطرز بالإبداع فبضدها تتبين الأشياء.
فالمجد هو نقيض منطقي للبخل.. كما يتناسبا تناسبا عكسيا مع بعضهما.
والكرم صورة من صور المجد يقول تعالى في محكم تتريله: (يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم).
ويقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: (السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس).
ولعل الشاعر الذي ناقش ذلك في قوله:
يجود بالنفس إن ضمن البخيل بها... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان محقا فيما ذهب إليه.
كما أن البخل في مقياس العرف مذموم قلبا وقالبا.. والله سبحانه وتعالى يقول عنه:
(وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى).
ويقول صلى الله عليه وسلم عن البخيل:
(لا يدخل الجنة خب ولا منان بخيل).
ويقول الحسن بن علي رضي الله عنه:
(من ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه).
ولعل شاعر العرضة الجنوبية الذي ربما قرأ هذه الرائعة قد شغف بمحتواها عندما قال:
المدح ما فاده ذليل ولا جابه
ولا شراه اللي تكاسل ويتمنى
وهنا أقف إعجابا بما سطره الشاعر الأمير عبد العزيز بن سعود بن محمد آل سعود (السامر) في جميع أضرب الشعر وخاصة الإسلامي والوطني وما تطرق له في بحر الحكمة.
إلا أن هناك أضربا تميز فيها السامر كضرب الغزل والوصف والرثاء وغيرها من الأضرب التي سنتناولها في مواضيع أخرى إن شاء الله.