أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين البيئة والوراثة
***
يستطيع كل إنسان أن يستشعر بغموض حينا، وبوضوح أحيانا جميع تحولاته الذاتية، مهما كانت دقيقة، وبإمكانه كذلك أن يضبط إلى حد معين الأسباب القائمة وراءها أو المنتجة لها، على تنوعها واختلافها، ثم يميز بالتالي بين العوامل البيئية والعوامل الوراثية، الفاعلة في تكوين شخصيته، فهل صحـيح أن ثمة نوعين من الوراثة: إحداهما بيولوجية، منتسبة إلى علم الأحياء ( La Biologie )، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء بكيفية طبيعية مباشرة، ولا تتطلب أي جهد، والثانية اجتماعية وثيقة الصلة ورهينة بالمجتـمع ، تستدعي من الإنسان بذل الجهد العقلي المتواصل، واعتماد الوعي المركز، واستحضار الانتباه؟
إن في حياة كل فرد لحظات صحو ويقظة، محكومة بتكامل البعدين الفاعلين: البيئي والوراثي؛ وهي اللحظات التي يعيد فيها اكتشاف نفسه بموازاة مع اكتشاف العالم الخارجي، ويجد نفسه في كل مرة مضطرا إلى وضع السؤال وتمحيص الإجابة، وربما قد يصل به الأمر إلى صياغة رؤى وتصورات يتجاوز بعضها بعضا، أو صياغة وعي جديد ينفي به ما كان لديه من قناعات سابقة.
كثيرا ما يتأمل الإنسان ذاته طمعا في معرفة بعض أسرارها الخفية، لكنه قد يستغرق من أجل هذه الغاية زمنا طويلا، أو قد ينفق معظم مراحل حياته في استقراء نفسه ومحاورتها، ومع ذلك فإنه لا يظفر في النهاية إلا بالقليل من خفاياها، خاصة وأن تأمله و تفكيره يظل موزعا بين عمق ذاته وسعة العالم الخارجي، وعندما يتحول في لحظة وجيزة كل من الذات، والزمان، والمكان، والأشياء إلى بوتقة معقدة، يهيمن فيها سلطان الروح والنفس الإنسانية على كثافة المادة، فإن الإنسان المتأمل يجد نفسه أمام واقع معنوي يثير فضوله.
وفي لحظة إشراق تمتزج أحلام اليقظة بالمرئيات، وتتكاثف قوى الإدراك والوعي بالذات والعالم، وكأن الأنا في غمرة هذه الأجواء مدعوة إلى ارتقاء مراتب الخلاص من سجن المادة، حتى يتمكن جوهرها من الاتحاد بمظهرها، فتغدو خلقا ينبعث من جديد، وحياة تسوى للمرة الثانية في دنيا صاحبها.
إن الإنسان عندما يختلي بنفسه ، فيعمد إلى المبالغة في بحث وتحليل دقائقها، نراه لا يخلص في النهاية إلا إلى ما يشعره بعجزه وضعفه، وفي سياق المجاهدة النفسية، يقف الإنسان على عتبة الاختزال الذاتي، وسرعان ما يتجاوزها ليحلق في فضاء روحي يسع ذاته، ويطرد شبحها المزيف من حياته، فيرد ذاته إلى حجمها الطبيعي، الذي تنكرت له في ساعات غفلتها وتجاهلها لمقامها وماهيتها.
ثم إن مجال الاهتمام والسؤال يتسع كلما أخذت الحيرة والقلق بمجامع الإنسان، فهو يتفقد ذاته تارة، فيجدها صاحبة عمق رهيب، بخلاف إحساسه بضيق العالم الخارجي، وتارة ينظر إلى نفسه على أنها مجرد ذرة في صحراء تغص بالرمال، لكن رحابة الفضاء في الخارج تستوعبها ولا تضيق بها؛ إنها معاناة الكشف عن حقيقة الذات والعالم.
إن حب الإنسان لذاته قد يدفعه إلى اعتزال الناس، و النظر إليهم من بعيد دون مخالطتهم في معترك الحياة، لكن هذا النزوع الذي يرتد بسببه المرء إلى نفسه لمساءلتها، والدخول معها في حوار تأملى، كثيرا ما يتخذ منعطفا إيجابيا ينتفي معه الإفراط في حب الذات، وتتغير على أساسه الرؤية الفردية إلى الناس والعالم، و لاشك أن الانغلاق العارض على النفس.
ثم إن الانقطاع عن العالم الخارجي، غالبا ما يفضي بالإنسان إلى اتخاذ مواقف جديدة من خلال إعادة النظر، ونقد ومحاسبة الذات على جميع ما اقترفته من أفعال، بالإضافة إلى إدراك مواطن الخلل والفساد في السلوك الفردي، وبين الناس في الحياة الجماعية.
إن كلا من عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم يعود بأصول طباعه إلى والديه وما استقر فيهما من ميولات وسلوكات، ونقرأ في هذه العودة إثارة لمسألة الوراثة، التي حاول أكثر الأدباء، والعلماء، والمفكرين اقتفاء آثارها في ذواتهم والوقوف على معالمها ومظاهرها في أنفسهم، وما الذي كتبوه عن دقائق حياتهم وتحولاتهم إلا محاولة لتحليل ودراسة أثر الوراثة فيهم.
ثم إن الإنسان يدرك جيدا مدى تأثير العوامل البيئية والوراثية في تكوين شخصيته، فقد لا يتوصل في بداية حياته إلى فهم محدد لبعض سلوكاته وطباعه، بقدر ما لا يعي العديد من الأفعال والمواقف الصادرة عنه، والتي يتخذها في مناسبات كثيرة، ومن البديهي أن يحاول الفرد في مبتدأ حياته أن يقنع نفسه بتأويلات خاطئة لما يصدر عنه، فيسقط من حسابه تأثير الوسط الاجتماعي والبعد الوراثي، لكنه مع مرور الوقت يتدرج في الاعتراف، عن علم طبعا، بسلطة البيئة والوراثة على الشخصية الإنسانية، فتهوي كل تأويلاته الاعتباطية السابقة تباعا، لتفسح المجال للذات من جديد، كي تتمثل نفسها وتعيد قراءتها في ضوء التأثيرات البيئية و الوراثية.
بهذا التحليل تخلص الذات المسلمة إلى أنها أثر ونتيجة محدثة، لكن جذورها ضاربة في عمق القدم، وستظل هذه الذات حصيلة تاريخ معين، تضافرت معطياته وانصهرت بعض عناصره في بعض؛ إنها ثمرة عوامل كثيرة، وبناء إنساني معقد ومتشعب، أسهمت البيئة، والوراثة، والأحداث في صقله وتكوينه باستمرار، حتى انتهى إلى كائن اجتماعي، حامل لخصائص معينة، هكذا يعود الإنسان بطبيعته ومكونات شخصيته إلى أصولها الوراثية، فيتأمل كل ما دق من ميولاته، وطباعه، ونوازعه، وجميع الذي ترسب لديه دون وعي منه، والذات الساردة ترجع بجملة من خصائصها الفردية إلى الأم، باعتبارها إحدى المرجعيات الأساسية في بناء سلوكيات و معالم هوية الإنسان.
إن الإنسان يتواصل مع بني جنسه ويقيم علاقات معهم بدرجات متفاوتة من القوة، لكن صلته بالأم، وهي أقرب الناس إليه على الإطلاق قبل وبعد ولادته، أقوى وأعمق من أي علاقة اجتماعية أخرى، لأن الأم بالنسبة للفرد طرف وراثي في شخصيته، وذاكرة حية من العواطف والمشاعر، والقيم والمبادئ، تسهم في بناء جانب كبير من مسيرة حياته، وهي ذات راصدة لعمق الإنسان بامتياز، وضمير يمارس نشاطا متواصلا في كيان الفرد بصمت وفي خفاء.
ستظل الأم إذن من بين أسرار الإنسانية، التي لم تفقد ومضة واحدة من جاذبيتها، وستبقى أحد منابع قيمها السامية التي لا ينضب معينها، ولا تتلاشى معالمها في كل زمان ومكان؛ إنها عالم ثابت منذ القدم بقوة الوراثة الإنسانية وحياة رحبة للتأمل يسيح فيها الأحياء ويتمثلونها في حال حضورها وغيابها، بالقدر الذي يتألمون به لفقدانها.
وإذا كنا نعثر على لفظة "الأم" دالة في المعجم على معنى أو مفهوم مجردة، فإن الأمر يختلف عندما نتجاوز الحدود الخطية أو الصوتية، أو البناء الحرفي، ذلك أن الإنسان حينما يستحضر في حياته الخاصة لفظة "الأم" يجدها في ذهنه كائنة حية ، فهي ليست رسما خطيا مطروقا، أو فكرة متداولة فقط في الوجود البشري؛ بل إنها تلك الإنسانة التي تحيط بها، بامتياز، هالة من الذكريات الطفولية، وما عاشه المرء من علاقات وتجارب، وشهده من أماكن وأحداث.
أما الطرف الوراثي الثاني في شخصية الإنسان فهو "الأب"، الذي يتكامل مع الطرف الوراثي الأول: "الأم" على مستوى درجة التأثير في تكوين جانب مهم من ذاتية الفرد، فكل إنسان يمارس قراءة دقيقة لذاته، يستطيع أن يميز بين ما ورثه عن أمه من طباع وخصال، وما ورثه عن أبيه من سلوك ومزاج.
ثم إن الإنسان يستشعر في النهاية حلول والديه فيه، ويعتقد أنه ليس سوى امتداد لحياتهما، وكائن اجتماعي جديد له ذات واحدة متكاملة، أو مركبة في المقام الأول مما ورثه عن والديه من صفات وخصائص متعددة ومتضاربة، لكنها تبقى من أصل إنساني مزدوج، أما الذات التي تتلقى الموروثات، فهي أحادية في الظاهر، ومتعددة في الباطن والجوهر.
إن جميع المظاهر الوراثية التي وقفنا عليها في أدب السيرة الذاتية، تندرج ضمن الوراثة الفطرية البيولوجية والنفسية، التي يتأثر بمفعولها الإنسان، قبل وبعد ولادته ثم طوال حياته، لكن ثمة وراثة أخرى مكتسبة، تقوم على التقليد والمحاكاة بالدرجة الأولى، وخاصة في الأطوار المتقدمة من عمر الإنسان.
إن الوراثة المكتسبة أساسا في عهد الطفولة، وهي وراثة اجتماعية عقدية، والتي تتشكل من مجموع التعاليم، والسلوكات، والتقاليد، والمعتقدات السائدة داخل البيت، والمتلقاة بين الوالدين ووسط الأهل والأسرة، وفي المجتمع عموما، هي وراثة مكملة للوراثة البيولوجية والنفسية، الفاعلة في تكوين شخصية الفرد.
وإن كان الإنسان لا يستطيع أن يؤثر في ما ورثه عن أبويه على المستوى البيولوجي والنفسي، أو يغير شيئا منه، فإن بإمكانه أن يفعل ذلك إلى حد الثورة والرفض، عندما يتعلق الأمر بالوراثة الاجتماعية، ثم إن حياة الإنسان وشخصيته وحدة فردية مقيدة ومتأثرة بعنصرين اثنين:
أولها: العنصر الوراثي ، وهو الذي بإمكاننا أن نوجزه في وراثة جنسية جسمانية أو بيولوجية، كما أسلفنا، وهي وراثة ذات صفة مزدوجة، متمثلة من جهة في وراثة خِلقية، لا تؤثر إلا في الصفات الجسمانية ولا علاقة لها بالميزات العقلية، التي هي نتيجة لتأثير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، والبيئة الجغرافية، والعادات والتقاليد، والمعتقد الديني، ومتجسدة من جهة ثانية في وراثة نفسية لها تأثير مباشر على تكوين خلق الفرد وطبعه ومزاجه.
ثانيها: العنصر البيئي، الذي يتغير باستمرار وإن طال مقام الإنسان في بيئة محددة، بخلاف العنصر الوراثي البيولوجي الذي هو أصل ثابت في الحياة البشرية، وهو عنصر لا تأثير للمكونات البيئية عليه، لكنه يسهم بقسط وافر في بناء و نماء شخصية الفرد، بحكم أن الكائن العاقل يتواصل ويتأثر بما ومن حوله، ويتفاعل مع كل ما يجري في وسطه الاجتماعي، فهو مظهر من مظاهر الجماعة الإنسانية، التي نشأ فيها واكتسب منها جملة الخصائص التي تسمها .
تتأرجح الذات المسلمة في البلاد الأجنبية بين البيئة العربية الإسلامية والبيئة الغربية؛ إنها تجد نفسها أمام خيارين: إما الانفتاح على الوسط الجديد عليها بكل حمولته وتأثيراته، أو الإعراض عنه واعتزاله إلى حد القطيعة، لكن الفصول المثيرة لهذه التجربة تدخل منعطفا حاسما عندما تحاول الذات الفردية الوقوف على أرضية توفيقية، تجمع بين انفتاح سليم على العالم الغربي المغاير، ومحافظة واعية ودقيقة على الشخصية الإسلامية.
ثم إن الفرد المسلم الذي يخوض هذا النمط من التجارب، الذي يتصل أساسا بمسالة الهوية والانتماء، حامل للتناقض والاختلاف الماثل في العالم الخارجي بين القيم والمبادئ العربية الإسلامية والموروثات الغربية، إذ أن الإنسان يعيش صراعا ذاتيا من أجل تحقيق سلام داخلي، ثم الخروج من عمق التجربة بتجاوز تلك الازدواجية العاصفة بوحدة الكيان البشري، خاصة وأن التأزم الفردي يبلغ ذروته القصوى نتيجة استسلام الذات لممارسات فعلية شاذة، يتم تبعا لها، بوعي أم بغير وعي، إخضاع ما هو أصيل في الهوية والشخصية العربية الإسلامية لمعايير دخيلة وغريبة.
إن التأثير الذي تمارسه البيئة المعقدة على الذات الإنسانية، ليس هو نفس التأثير الذي تمارسه البيئة البسيطة، باعتبار أن احتكاك الإنسان بنمط بيئي معين يؤدي إلى إنتاج قناعات، ومواقف، ورؤى معينة، تتحكم فيها جميعا الخاصية التي يتسم بها الوسط الجغرافي، الذي يعمل بكيفية مباشرة على تكوين الشخصية وبنائها من الداخل، حتى إن الذات تكاد تطمئن إلى البيئة الريفية البسيطة، وهي راغبة في آن واحد عن البيئة الحضرية المعقدة، لاعتقادها بأن ثمة علاقة انسجام وتناسب بين بساطة البيئة الريفية والإسلام، بخلاف ما بين تعقيدات البيئة الحضرية والإسلام من تنافر.
فهل من الممكن أن تكون البيئة الريفية عاملا مساعدا على الاقتراب أكثر من العقيدة الإسلامية؟ في حين تكون البيئة الحضرية عاملا معاكسا ، يحول دون البقاء قريبا من الإسلام؟
لا شك أن الإنسان عندما ينتقل إلى البيئة الريفية، فيعمد إلى مقارنتها وتقويم تأثيرها مع البيئة المدنية، فإنه يجد في هدوء الأولى وصفائها راحة للعقل والروح، ويستمد من بساطتها وجاذبيتها توازنا واستقرارا في الرؤية إلى ذاته وإلى الجماعة الإنسانية، وإلى العالم ثم يستوحي من فضائها ومعالمها الجغرافية ما يكفي لتذكيره بحقيقته وقدره، ومدى قوته وعجزه، وأما البيئة الحضرية فتفتقر إلى حيوية، وتلقائية، وبساطة البيئة الريفية، إذ ليس لها نفس العمق، والإيحاء، والتوازن، وهي خصائص تتناقض مع ما تنطوي عليه البيئة المدنية من اضطراب، وزيف، وتعقيدات تدفع بروح الإنسان إلى النفور، وتكدر نفسه وتعبث بها.
إن لجملة الأمور والوقائع والملاحظات الدقيقة والمركزة، التي يصادفها الإنسان في مسيرته الحياتية، بالغ الأثر في تطوير و صقل شخصيته، ومن العوامل المساعدة كثيرا على التحول النفسي والفكري، تلك المعاينة والمعايشة المزدوجة لبيئتين متناقضتين، يؤدي فيها مبدأ المقارنة دورا كبيرا، ويكفي أن يكون هذا المبدأ قائما بين بيئة عربية إسلامية وبيئة أجنبية حتى تستشعر الذات وتدرك بجلاء درجة التباين الكبيرة بين الوسطين الاجتماعيين، بناء على معطيات محددة، يتصدر قائمتها كل من الجهل المتفشي في الوسط العربي الإسلامي، والعلم المتنامي والمتطور في الوسط الاجتماعي الأجنبي.
هذا لا يعني أن تحول الأنا العربية المسلمة، على مستوى الوعي والإدراك الإنساني والحضاري، رهين بمبدأ المقارنة في حد ذاتها، بين نمطين من البيئة أو ضربين من الوسط الاجتماعي؛ بل إن التحول والتغيير على مستوى الوعي بالنسبة للذات العربية المسلمة موقوف على مدى استفادة هذه الذات من مؤهلاتها وقدراتها الذاتية والموضوعية، من خلال توظيفها المناسب في سبيل الارتقاء.
إن تحقيق أي تحول على هذا المستوى من الأهمية ، هو غاية رهينة بمدى قوة الرغبة الفردية والجماعية في تجاوز أسباب وعلل الجمود الحضاري، ثم على درجة الاستعداد لترميم وبناء مقومات الشخصية العربية الإسلامية؛ هذه الشخصية التي تمتلك بفضل الإسلام قوة تغيير وتجديد هائلة، نابعة من جوهر الإنسان المسلم وغير مكتسبة من خارج ذاته، ولكن قوة التغيير تزداد عندما يتم توجيهها وتسخيرها باعتبار مختلف التجارب الإنسانية، فردية كانت أم جماعية، لتغدو في النهاية قوة فاعلة ومحركة.
د.أبو شامة المغربي