إلى أين يريدون المضي بنا؟
أليست مفارقة أن يتحدث شيخ في لقاء إذاعي بثَّ قبل ساعات من حصول العملية الانتحارية التي ضربت الرياض، عن علاج الإرهاب ثم يهاجم طوائف ومذاهب إسلامية أخرى لأنها ليست نقية بدرجة إسلامية كافية!
كان حصاد الأيام القليلة الماضية حصادا داميا في السعودية، بلغ ذروته مع التفجيرات الهائلة التي أصابت مجمع (المحيا) السكني في وادي (لبن) غرب الرياض، وصلت بالأمور إلى نقطة غير مسبوقة، ذلك أن الهدف كان مدنيا صافيا، لا يوجد فيه ساكن واحد من اصل أمريكي خالص، إضافة إلى أن الموقع المستهدف كان قريبا جدا من مواقع حساسة في الدولة.
وترددت هذه الأسئلة: ماذا يريد هؤلاء؟! ولماذا استهدفوا هذا المكان، والى أين يريدون المضي بنا؟! أما ماذا يريدون والى أين يقودوننا؟ فبكلمة واحدة يريدون وهماً ويقودوننا إليه. إنما الجديد هو لماذا استهدفوا هذا المكان. فالمظنون أنهم استسهلوا هذا الهدف، هذا أولا، وربما أراد الارهاب الديني إيصال رسالة مفادها أنهم ما زالوا قادرين على الضرب والفعل. وهو بكل الأحوال دليل على فقدان الصبر وتخبط الرأي. لأن خطاب القاعدة دائما ما يركز على أنه يستهدف الوجود الأمريكي في السعودية وإرغام الحكومة والمجتمع السعودي على الامتثال لنموذجهم في إدارة الحياة العامة والخاصة على غرار ما كانت طالبان تدير الحياة. إلا أنهم باستهدافهم لمجمع (المحيا) السكني وسقوط عشرات الاطفال والنساء ضحايا لهذا التفجير جلهم من العرب والمسلمين، سيعكرون كثيرا من صفاء صورة القاعدة لدى من كان يتعاطف معها بشكل أو بآخر، بما
لقد كان مجمع (المحيا) السكني هدفا غير شعبي البتة. يذكرنا باستهداف خان الخليلي ومصرع الطفلة شيماء ومقتل سياح الأقصر في مصر، هذه العمليات التي جيشت الشارع المصري، وليس الحكومة فقط، ضد الجماعات الإسلامية المسلحة المصرية.
مصر تجاوزت هذا النفق، بعد ما وصل الإرهاب الديني إلى مرحلة شكل فيها خطرا وجوديا على الدولة، للدرجة التي ُطرح فيها التفاوض معهم وجهاً لوجه. لكن توقفت العاصفة، وتراجع القادة الكبار للجماعة الإسلامية عن النهج العسكري وفرّ البقية إلى المنافي.
والآن، ومع اشتداد هذه الأعمال العنيفة في الرياض ومكة والقصيم والجوف وجيزان، واستمرار المواجهات بين الإرهاب والحكومة.
تتكرر الدعوة للتفاوض مع الإرهاب الديني وتقديم تنازلات للفكر الذي يسنده حتى يطمئن ويكف عن إرهابه، وإسكات الكتاب (المستفزين) لمشاعر الشباب الذين يترجمون استفزازهم بالإرهاب، وإلغاء جميع الأنظمة التي تخالف الشريعة (حسب تفسيرهم) والتراجع عن القرارات المخالفة مثل قرار دمج رئاسة تعليم البنات بوزارة التربية والتعليم، ويجب الاستجابة فورا لهذه المطالب قبل أن يفوت الأوان!
هذه خلاصة الأفكار والمقترحات التي قدمها الدكتور سفر الحوالي أستاذ العقيدة الإسلامية في مداخلته في برنامج (بلا حدود) الذي بثته قناة الجزيرة الأسبوع الماضي. وحينما قدم هذه الشروط لإيقاف العنف أو للدقة من اجل أن يبذل مساعيه مع الشباب المنخرطين في أعمال العنف لإقناعهم بالعدول عن ذلك وتسليم أنفسهم للسلطات السعودية، سارع بإيضاح انه يفعل ذلك ليس من اجل إرضاء السلطة، إذ كيف يفعل ذلك وهي التي اعتقلته ومنعته من القاء محاضرته. إذن فهو يملك، بناء على هذا التاريخ الاعتراضي، رصيدا من المصداقية يجعل من شباب التيار الجهادي العنفي يقبل وساطته الخالية من الشوائب.
وأردف شرحه عن ماضيه وحاضره النضالي، ببيان حرمة الدم المسلم والتشديد على وجوب صيانة هذه الدماء. وهو كلام مفيد في لجم العنف وتخفيف (التكالب) الجهادي على المجتمع السعودي! لكنه جعل من كل ذلك توطئة للأهم وهو (مشروعه) الإصلاحي الذي يرى في العنف الديني والإرهاب والتفجيرات جوابا طبيعيا على واقع لا شرعي موجود.
وعلى المستوى الخارجي، تطالب هذه المبادرة، الدولة بالكف عن التحالفات التي لا تخدم المسلمين (المسلمين أم الجماعات الإسلامية!) وإعادة بناء العلاقات السياسية طبقا لمعايير الجماعات الإسلامية، ولتلافي الضغوط التي تنجم عن إلغاء المعاهدات السياسية والعلاقات مع الغرب وأمريكا فيجب بناء تحالف مع (الدعاة والعلماء) وهذا كفيل بإلغاء ضرر الاصطدام بالعالم!
ما تريد هذه المداخلة قوله هو أن (طلبنة) الحياة السعودية هو الثمن المطلوب لإعادة الهدوء والاستقرار إلى سابق عهده، وان أعمال العنف الديني، وان كانت لا ُتقرُّ، مبررة ومفهومة بسبب عدم الاستجابة لمطالب الإسلاميين في رؤيتهم لنمط الحياة الواجب اتباعه.
والحق أن وعود الحوالي لا تملك رصيدا واقعيا فالرجل لايمثل مرجعية لدى التيار القاعدي، ولم يكن مؤيدا للذهاب إلى أفغانستان أساساً، وردّ على عبد الله عزام، عرّاب الجهاد الأفغاني إبان المرحلة الافغانية. إن المرجع الحقيقي للتيار الجهادي القاعدي في السعودية، والعالم الإسلامي عموما يمثله (الشيخ أبو عبد الله) أي أسامة بن لادن كما يفضل أتباعه مناداته، وبضعة أسماء أخرى منهم من قضى نحبه ومنهم من يقبع في السجن.
فعلى أي رصيد تستند هذه المبادرة؟
هناك ما يقلق أكثر! لنتأمل في الثمن المطلوب لإنجاح هذه المبادرة: التحكم في صناعة القرار، ربما نقبل ذلك إذا كانوا شركاء لا مستبدين، وتصبح صناعة القرار عملية تشاركية مع كل الفاعلين من المواطنين، وعلى قدم المساواة مع بقية السعوديين، فليسوا كلهم يلبسون نفس العباءة التي يرتديها الصحوي، إلا إذا أرادوا إلباسهم إياها قسرا، أو يصبحون هم لا شرعيين أيضا، ولا حق لهم في هذه المائدة، وهذا بالضبط ما يطرحه بعض الصحويين هذه الأيام حينما يطالبون بإخراس الكتاب الذين يستفزونهم. إنها أبشع صور الاستبداد الديني السياسي، وهو أمرُّ وأشنع من الاستبداد السياسي المجرد.
لقد استغل مطلقو هذه المبادرة أجواء القلق والضيق، فأرادوا تمرير مطالبهم الدائمة في صبغ المجتمع السعودي بصبغتهم، والمطالبة بالمزيد من الكعكة، ثم الهيمنة على السياسية الخارجية والداخلية والمضي بها قدما إلى جنان المثاليات وجنونها، وهو استغلال (مستفز) حقا!
وليتنا نعرف بأي صفة يملي أصحاب هذه المبادرة شروطهم على المجتمع السعودي، وهل السعوديون يشعرون بقلة إسلامهم حتى يأتي من يكثره لهم، ويعيد راية الهدى إلى سواعدهم؟!
ولو استجبنا، لا سمح الله، لهذه المطالب، فهل لهم أن يقدموا لنا نموذجا مغريا بالاقتداء حتى نسارع إلى الدخول في جنتهم غير نموذج السودان وإيران والراحلة طالبان؟!
السعوديون هم أكثر الناس اهتماما بالدين في العالم، بل ربما يوجد الكثير ممن يشتكي من مبالغتهم في ذلك. فهم فليسوا بحاجة إلى من يطالبهم بالمزيد منه، ربما تكمن مشكلة السعوديين في شيء آخر وراء مطالب الإسلاميين المسيّسين، إنهم بحاجة للتنمية الشاملة والإصلاح المتنوع في الاقتصاد والسياسة، والإصلاح الاجتماعي، بحاجة لمن يخبرهم كيف يصلحون أمر دنياهم، لا إلى من يبشر ويلقي المواعظ في اكبر بلد حاضن للإسلام وفي مجتمع أكثر ما يردد أفراده من سؤال في كل حين: هذا حلال أم حرام يا شيخ؟
إن مطلقي هذه المبادرة يستثمرون القلق لصالح تحقيق رؤيتهم، التي لو قالوها في ظروف أخرى لما كان لنا من اعتراض على حقهم في قولها، مهما بلغت أقوالهم من غرابة ولاعلمية.
لكن أن يتم الحديث عن شروط لإنهاء الإرهاب، أو حتى المساعدة في إنهائه، بهذه الطريقة في هذا الظرف وبهذا الوقت، يجعلنا نقول: لقد أخطأتم التوقيت أيها السادة